عندما نكتب عن غزة، يتوجب علينا أولاً أن نغادر أجسادنا، ثم ننظر إليها من بعيد .. فغزة تسكن فينا، ومن الصعب أن نراها بوضوح من المسافة صفر. عندما نكتب عن غزة، يجب أن لا نمدح أو نُدين، فقط نطرح السؤال ونحن على يقين بأن الإجابة عبارة عن سؤال آخر، ستتناسل منه أسئلة لا حصر لها ولا عَد، فغزة لغزٌ كبير .. هي مدينة انبثقت من الأساطير، وتاريخها عصيٌّ على الفهم، هي نخلة نبتت في واحة المستحيل، وما زالت تورق منذ آلاف السنين، وُلدت بسيطة، فقيل إنها هدية البحر للصيادين، نمت في حضن البحر وعلى خاصرته، ولكنها ظلت حرة. عاشت فقيرة، فقيل إنها ستظل متعبة للأبد، قلبها أبيض كالثلج، ولكن قلوب أعداءها كالفحم، هي شديدة الوضوح، ولكن علاقتها بالزمان ظلّت معقدة،
هي طيبة جدا، ولكن محيطها قاسيا، هي رحيمة ولكن الآخرين لم يرحموها أبدا، بما فيهم أبناؤها .. كبرت غزة لوحدها، بينما كان أبناؤها يتناسلون في كل مكان، عاشت بإحساس غريب لم تعهده بقية المدن، داست رمالَها سنابكُ خيول الغزاة مرّات ومرات، وكانت دائما تمتصهم ثم تلفظهم، فيتركوها للريح والصحراء، جَرحَت كبرياء الإسكندر، وبهدلت نابليون، سلاحها التقليدي هو الرفض، والتكاثر. لم تتمكن إسرائيل من بلعها، فتمنى رابين لو أن البحر يبتلعها .. لكن البحر صديقها، والصحراء جارتها الطيبة، لذلك ستبقى غزة رغم أنف الجميع، مدينة تستحق الحب لا الشفقة، لأنها كما وصفها الشاعر خالد جمعة: "مدينة تستحق الفخر والاعتزاز، ببساطة لأنه لا توجد مدينة أخرى كان يمكن لها أن تتلقى هذا الكم من الضربات على مدى ثلاثة آلاف عام، وما زالت تملك القدرة على الحياة والغضب والقتال".
غزة، عاشت خمس سنوات تختلف عن كل سنينها السابقة، في كل شيء تقريبا. ولأن عشقنا لها طاغي، من الصعب أن نكتب عنها بحيادية تتجاهل نبض القلب، ولا يمكن أن نصوّرها بنمطية التوصيف البارد، ولأننا نحب أهلها جميعهم، سنحتار من نصدّق: من يصف جحيمها، أم من يتغنى بجنّتها .. في صيف 2007 اتصلت بصديق غزاوي، فقال لي: مرَّ عليَّ أربعون صيفا لم أرى غزة بمثل هذا الحزن، أحسُّ بأن الأشجار كئيبة، وأن موج البحر هي دموعه الحزينة، قلت له ربما أنك تعكس حالتك النفسية على ما حولك، قال ربما. وقال أيضا: بالأمس كان آلاف الناس عند الشاطئ، لم أرى هذا الحشد من المصطافين من قبل - حتى في أيام العز - قلت ربما جاؤوا يعبّرون عن فرحهم ببعض الأمن الذي تحقق لهم أخيرا، قال: أكثرهم أتى البحر ماشيا، لأنه لا يملك أجرة المواصلات، أتوا ليبكوا البحر، ويبثون له أوجاعهم. قلت له: غزة اعتادت أن تعصر من الحزن فرحها، وأن تلد الأمل .. وتنتظر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق