العنف ظاهرة اجتماعية قديمة، ارتبطت بوجود الإنسان، وتبلورت خلال مسيرة تطوره، وبالرغم أنه لم يخلو أي مجتمع من العنف. إلا أن المجتمعات الإنسانية تختلف فيما بينها عند نقطة أساسيّة، هي مدى إدانتها للعنف، أو قبولها به وتبريرها إيّاه، كما تختلف في الأشكال التي يتّخذها هذا العنف، فالعنف يكون أشد عندما يُمارس باسم مبدأ رمزيّ يعتبره المجتمع أسمى وأهم من ممارِس العنف ومن ضحيّته معا، أي عندما يتم تبرير العنف تحت ذرائع رمزيّة تأخذ صفة القداسة أحيانا، وتكون عادة مستمدّة من الدّين أو من الأيديولوجية أو من القيم والتّقاليد. وأيضا عندما يفرض العنفُ نفسه على الجميع، في لحظة انهيار كلية لقيم المجتمع وسلطة القانون الذي يحكمه، كما يحدث مثلا في الحروب الأهلية.
والعنف مشكلة متعددة الأبعاد والأوجه، وتتداخل فيها العوامل النفسية والبيولوجية والاجتماعية، ويأتي نتيجة تفاعل جدلي بين سياقات وظروف اجتماعية واقتصادية وسياسية تؤدي إلى بروزه، وللعنف أشكال ودرجات، تبدأ من الإهمال والمعاملة الخشنة، وتنتهي بالقتل أو بالضرر المادي والجسدي، وما بينهما من ألم معنوي، وجرح للمشاعر، أو الإهانة النفسية، أو التدخل في الحرية الشخصية، وغيرها من أشكال الإيذاء، كالتهديد والمساومة والابتزاز والشتم والضرب.
يرى فرويد أن العنف سلوك غريزي، يقوم على نشاط عدائي متجه نحو الآخر للسيطرة عليه، و هو محدد بسبب قوى كامنة داخل الفرد، يكون وراءه عوامل نفسية قد لا يفهمها حتى من يمارس العنف. بينما ترى المدرسة السلوكية العنف بأنه مجموعة من الاستجابات المتعلقة بالبيئة، إذْ يمكن أن يشب الأطفال بميول عدائية بحسب التربية، وينمو هذا السلوك لدى الفرد عن طريق التعزيز. أما المدرسة المعرفية فترى أن العنف له علاقة قوية بما يحمله الأفراد من قيم ومعتقدات يتصرفون بموجبها.
ومن أكثر أنواع العنف شيوعا، العنف الأسري، أي تلك الأنماط السلوكية العدوانية الناتجة من وجود علاقات غير متكافئة في إطار نظام تقسيم العمل بين المرأة والرجل داخل الأسرة، وما يترتب على ذلك من تحديد لأدوار ومكانة كل فرد من أفراد الأسرة، وفقاً لما يمليه النظام الاقتصادي والاجتماعي السائد في المجتمع، وهو ما يعرف بالمجتمع البطريركي. ولا يقتصر العنف الأسري عند ضرب وإهانة الزوجة والأطفال، بل هو كل ما يتمتع به الرجل في المجتمعات الأبوية من مكانة وسلطة، وفرض لنفوذه على كل أفراد الأسرة.
وبالنسبة لاضطهاد المرأة، يعتبر البعض أنها مسألة أبعد من مجرد استقواء الرجال على النساء، ويرون أنه يعود إلى طبيعة النفس البشرية التي تميل إلى استسهال الظلم كلما تمكنت منه، أي تسلط القوي على الضعيف، وطالما أن المجتمعات القديمة كانت تقوم على قوة العضلات، في الوقت الذي ستكون فيه المرأة كجنس أضعف من الرجل فسيولوجيا، فإنه سيكون موقف كل النظم الذكورية منها واحدا، وهو موقف الاستبداد والاستغلال.
وقد سبق اضطهاد المرأة كل أشكال الاضطهاد الأخرى، فقد كان مقدمة ضرورية لتثبيت نظام الإقطاع، من أجل تأسيس ثقافة مجتمعية جديدة قوامها النظرة السلبية تجاه المرأة، أي أن اضطهاد المرأة كان ضروريا لاضطهاد المجتمع بأسره، ومن ثم قمعه وإخضاعه لخدمة السلطة، وسلاحا تشهره ذهنية التحريم والقائمين عليها في وجه حركات التنوير والتغيير والثورة على الظلم. وقد احتاجت السلطة والفئات المسيطرة إلى إطار أيديولوجي وقيمي تستند إليه، ويمكّنها من المضي قدما في مظالمها واستغلالها، وتوظفه لخدمة سياساتها، ويجعل من سلوكها أمرا عاديا ومقبولا من قبل المجتمع، أي بالاتكاء على الطرف الأضعف وهي المرأة، وجعلها شماعة لأخطاء الرجل، ومبررا لسلوكه القائم على التعسف والقهر. وللأسف فإن هذه الأفكار والمعتقدات الخاطئة تجاه المرأة ما زالت قائمة، وبل وتحافظ على قوتها، وهي إن تغيرت على مر الزمن وبصور مختلفة، لكنها بقيت متأصلة في عاداتنا وتقاليدنا، واجتهاداتنا الدينية المتطرفة.
ويعتبر العنف ضد المرأة خرقا لحقوق الإنسان، لأنه يلغي حق المرأة بالمساواة والكرامة، والإحساس بالأمان، والشعور بتقدير الذات، وحقها بالتمتع بالحريات الأساسية. ويعد العنف ضد النساء مشكلة عالمية، إذ لا زالت نسبة كبيرة من النساء حتى في الدول المتقدمة، يتعرضن للضرب من أزواجهن, هذا بالإضافة إلى العنف السلبي الأكثر انتشارا، والمتمثل في الإهمال وعدم الاكتراث والتحقير والإلغاء والقهر والاستبداد من قبل الزوج أو الأب أو الأخ.
وهذا العنف السلبي يسبب الكثير من الأذى والآثار النفسية والجسمية، والاضطرابات السلوكية عند المرأة. فضلا عن آثاره المدمرة على تنشئة الأطفال، لأن الطفل عندما يرى أمه أو أخته تُضرب ينكمش على نفسه من شدة الخوف، ومع تكرار هذه الحالة تظهر عليه انعكاسات سلبية نفسية وجسدية، كالخوف من أي شيء، واضطرابات القلق، وفقدان الثقة بالنفس، مما يجعله أكثر عرضة للمخاوف والاكتئاب، والإصابة بالاضطرابات المعرفية واضطرابات النمو والسلوك. ومن الآثار الاجتماعية للعنف، الطلاق الذي يؤدي إلى التفكك الأسري وتشرد الأبناء وتسربهم من المدارس.
وممارسة العنف الأسري لا تنحصر في الطبقات الشعبية، بل نجدها عند النخب المثقفة، وهؤلاء رغم إيمانهم الظاهري بقضايا المرأة والحريات الشخصية، إلا أنهم يمارسون ازدواجية في الشخصية، أي ازدواجية الحب والكراهية، واختلاط الميول العدائية مع ميول التسامح والتفهم.
ويتصف المجتمع العربي عموما بأنه مجتمع ذكوري، تكثر فيه العلاقات العدائية ذات العنف الجسدي والنفسي، وتكون فيه المرأة والطفل وسيلة للرجل للتنفيس والتفريغ لمشاعر الإحباط والكبت وحب السيطرة، ذلك لأن نظام العائلة في المجتمع العربي يعتبر نسخة عن نظام المجتمع في كل مؤسساته، أي أنه نظام هرمي، يقوم على السلطة والعنف، ويحتل الأب فيه مركز القيادة، ويحتل الطفل المركز الأدنى، ويستمد الأب سلطاته من خلال تفوقه الجسدي وقوته الاقتصادية بحكم أنه هو المعيل، وقوة المجتمع والقانون اللذان يجيزان له تسلطه وتفرده بالأسرة.
وبالنسبة لاضطهاد الأطفال، فإن المجتمع العربي يتسم بأنه من بين أكثر المجتمعات قسوة على الأطفال، ويعود ذلك في الأساس لكونه يفصل فصلا تاما بين عالم الصغار وعالم الكبار، ولا يعير أهمية خاصة بالطفولة، ولا يعترف بوجود شخصية خاصة بالطفل، وبالتالي فإن علاقاته بالأطفال تتسم بالتعالي وعدم التفهم، وهذا يعود إلى أن علاقة الآباء بالأبناء في السابق كانت على هذا المنوال القائم على السلطة والعنف، وفي هذه الحالة فإن المجتمع يعتمد على الأسرة لتحقيق هدفه الأساسي والمتمثل في جعل الجيل الجديد صورة عن الجيل السابق، متواصلا مع قيمه وثقافته مهما كانت متخلفة، وذلك بالاعتماد على النظام التربوي القائم على إخضاع الفرد. والنتيجة المتوقعة من هذه العملية الاخضاعية خسارة الطفولة، أي خسارة المجتمع لإمكانية التطور والتقدم. لأن الأجيال تكرر نفسها وطبعا باستخدام العنف.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق