كل من يقترب من محاولة فهم نظام الكون وآليات عمله، وكيف نشأت الحياة، وما هو دور الإنسان الوظيفي في هذا النظام .. وكل من يطرح على نفسه هذا النمط من الأسئلة الوجودية، سيجد نفسه مباشرة أمام مدرستين مختلفتين تقريبا في كل شيء، الأولى تفسر الحياة وتفهم نظام الكون استنادا إلى الفهم المادي والتاريخي المجرد، بينما الثانية تنطلق من الإيمان بما جاء في الأديان حول الخلق، ودعّمته بالبراهين العقلية والنقلية، وما اعتبرته أدلة علمية لا تقبل الشك.
ولو كان للباحث خيار أن ينهل ما يشاء من المدرستين دون أن يعرض نفسه لخطر التكفير أو اتهامه بالجهل، لما كانت هناك مشكلة، ولكنه سيصدم بسيل عارم من الاتهامات المتبادلة التي تصل حد تسخيف الآخر ونعته بأبشع الأوصاف!
وسيجد نفسه في خضم معركة فكرية بين أعداء يضمرون لبعضهم الحقد والكره ! والغريب أن كل طرف يدّعي أن نظريته تدعمها الاكتشافات التاريخية والتجارب العلمية. وهذا يذكّرنا بالصراع الدموي الذي جرى بين التيارات المتصارعة، سواء في صدر الإسلام والمراحل اللاحقة له، أو في تاريخ عصور الظلام في أوروبا، حين كان يستند كل طرف على الكتاب المقدس، وأحيانا على نفس الآية ليثبت صحة رأيه !
بعد قيام الوحدة الأوروبية أرادت بعض دول الاتحاد أن توحد تاريخ صراعها، خاصة حقبة الحربين العالميتين الأولى والثانية، وأن تتفق على رواية واحدة تدرسها للأجيال، ولكنها أخفقت تماما في ذلك، واضطرت لإلغاء المشروع، فكل دولة أرادت فرض رؤيتها الأحادية من منطلقها الذاتي. فشلت رغم أن معظم الأحداث موثقة بالصور، وكثير من أشخاصها ما زال ينبض بالحياة !
ومن المؤكد أن العلماء سيواجهون نفس المصير إذا ما قرروا تأريخ مسيرة تطور الكون بسنواته المليارية !! وسيواجهون عراقيل مانعة وصعوبات لا حصر لها. وتكمن الصعوبة في ذلك، لأن الكون موغل في قِدمه، وفسيح في حدوده إلى حد الخرافة، وأحدث المسبارات وأكثرها تعقيدا لا تصوّر لنا إلا جزء يسير جدا من هذا الكون المترامي الأطراف، وعندما يتخطى العلماء حاجز المليارات من سنين الضوء يكون حديثهم في نطاق التكهنات والفرضيات، وحتى عندما يتحدثون عن تاريخ الأرض - والتي هي تحت أقدامهم - فإنهم سيواجهون صعوبات جمة وحقيقية، فما هو متوفر عن تلك الأزمان الغابرة من أحفوريات ومستحثات شحيح إلى حد الندرة، وبالكاد يعطي معلومات غامضة وأحيانا متضاربة، وهي دلائل تقترح أسئلة أكثر مما تقدم إجابات.
والإنسان ومنذ أن تنطح للإجابة على هذه التساؤلات كان ومازال ينطلق من غروره الذي زيّن له بأنه مركز الكون، وأن كل تلك المليارات من السنين من تاريخ الكون لم يكن لها إلا مهمة وحيدة، هي إنجابنا: نحن والحاضر الذي نحياه الآن، وأن مسيرة تاريخ الأرض الطويلة قد وصلت إلى خاتمتها، وأدركت غايتها بإيجاد الإنسان !!
وإذا تواضعنا قليلا وتجاوزنا آلاف المليارات من سنين الأرض قبل وجود الإنسان، وانطلقنا من لحظة وجود أول كائن بشري قبل عدة ملايين من السنين، فإن هذا سيعني أن الإنسان الأول الذي عاش في ظروف قاسية ومعادية لسنوات طويلة ولم يهنأ خلالها بلحظة راحة، كان مطلوبا منه أن يتحمل كل هذه المعاناة والعذاب ليحمل الأمانة بكل صبر، وينقل جيناتنا في أصلابه جيلا بعد جيل، حتى ننعم نحن أصحاب الحضارة الحالية بترف طرح هذه التساؤلات، وننظر إلى معاناة أولئك البشر بشفقة مصطنعة، كما لو أنها ضرب من الرفق بالحيوان.
وتاريخنا العلمي الحالي يقدم لنا سلسلة من النظريات التي حاولت فهم نظام الكون، بدأت منذ عهد بطليموس، وتواصلت عبر علماء المسلمين الذين ترجموا ما وصلهم من فلسفات يونانية وأضافوا عليها، ثم وصلت إلى نيوتن ومن بعده أينشتاين، وصولا إلى النظريات الذرية الحديثة. وما زال العلماء يبحثون عن نظرية شمولية متكاملة للكون؛ تفسر وجوده وتجمع ما بين ما هو متناهي في الصغر وما هو متناهي في العظمة في معادلة واحدة، بحيث تحتوي على ربط متين بين كل القوى المعروفة في الطبيعة، وتكون قادرة على التنبؤ بكل مشاهدة بدقة متناهية، ومن المتوقع أن يواصل العلماء بحوثهم إلي ما لانهاية، وأن يطرحوا ما لا يُعد من نظريات، قبل أن يتمكنوا من حل اللغز الأعظم: لغز الكون والحياة.
العديد من هذه النظريات، وخاصة في البدايات كانت تعتمد علي الحدس والحكمة وعلم الكلام، وكانت إجمالاً تتصف بالعمومية فيما بدى لها بأنه منطقي. وكانت أدوات المعرفة المتاحة وسبلها المتبعة تخلط أحيانا ما بين الفيزياء والأساطير، وبين المثيولوجيا والميتافيزيقا؛ وبين الكيمياء والخيمياء؛ وبين علم الفلك والتنجيم، وبين الباراسيكولوجي وتقمص الأرواح وتلبيس الشياطين، وبين ما عجز العلم عن تفسيره والسحر والقوى الماورائية. وهذا ليس بغريب، فالقياسات الدقيقة لم تكن متوفرة في تلك الأزمنة القديمة. فالنظام الرياضي العشري مثلا الذي جاء عن طريق الهندوس يرجع تاريخه لعام ٧٠٠ م. وإشارات الزائد والناقص في الرياضيات والجبر ظهرت في القرن الخامس عشر الميلادي مع علماء المسلمين، أما الساعات الدقيقة التي تحسب الوقت بأجزاء ضئيلة من الثانية، والموازين التي تقيس أجزاء بالبليون من الغرام، والأجهزة التي تفحص كل شيء مهما بلغت دقته أو بعُدت مسافته فلم تظهر إلا في العصر الحديث.
وفي القرون الثلاثة الأخيرة جرت اختراقات جوهرية في فضاء العلم، شهدت العديد من أهم الاكتشافات والاختراعات والنظريات العلمية والفلسفية، قلبت كل شيء رأسا على عقب، وفتحت آفاق لم تكن البشرية تتصور حتى وجودها، فخلال هذه الحقبة التي تعتبر الأهم في تاريخ وجود الإنسان على الأرض من الناحية العلمية، صاغ نيوتن قوانين الجاذبية، وجاء دارون بنظرية النشوء والارتقاء، واكتشف باستور وجود الميكروبات، واستدل مندل على علم الوراثة، واخترع أديسون المصباح الكهربائي، وطرح أينشتاين نظريته النسبية، وتمكن كل من واتسون وكريك من التعرف على جبلة الحياة الأساسية DNA في أواسط القرن العشرين، ثم أكد كل من بزنياس وولسون على نظرية نظرية الانفجار العظيم بعد ذلك بعقد ونصف، وفي أواخر التسعينات أطلق العلماء تلسكوب هابل الذي اكتشف عوالم تفوق بكثير ما كان يظنه أينشتاين كل الكون.
وعندما بدأ العلماء بصياغة نظرياتهم لفهم نظام الكون وكيفية نشأته، وجدوا أنفسهم ينقسمون إلى قسمين: التطوريون والخلقيون، وكانت قضية وجود خالق للكون هي الفيصل بينهما: يزعم "التطوريون" أن الكون جاء من العدم، وأن الحياة انبثقت من المادة، وأن الشيء ممكن أن يُخلق من اللاشيء. خلافا لما يؤمن به "الخلقيون"، ويدّعون أن الكون في الواقع لا يحتاج إلي خالق ليخلقه ! وأنه بالإمكان خلق نظام دقيق ومعقد من خلال العشوائية والبساطة !
المؤمنون يردون عليهم ببساطة أن لكل شيء سبب، ولكل ظاهرة مادية لابد أن يكون لها بداية، وهذه البداية حتما ستحتاج لقوة خارقة لتوجدها، فما من شيء يأتي من العدم. ولكن عند هذه النقطة بالتحديد يثور السؤال الكبير: من أوجد الخالق ؟! الجواب: أن الله سبحانه خالق الكون قائم بذاته ولا يحتاج لمن يخلقه، فهو خارج مجرى الزمن ولا تنطبق عليه قوانين الفيزياء والطبيعة.
وحتى اليوم لا أحد يعلم على وجه التحديد متى وُلد هذا الكون، ولكن العلماء متفقون أنه بدأ بانفجار عظيم، ويقدمون شرحا بالتفصيل الممل عمّا حدث خلال الدقائق الثلاثة الأولى من هذا الانفجار، ويؤكدون أنه لم يجري بمحض الصدفة، وعند هذه النقطة يؤكد العلماء الخلقيون أن انفجاراً بهذا الحجم كان يمكن أن يخلِّف وراءه دماراً رهيباً يؤدي إلى تبعثر للمادَّة في كلِّ مكانٍ على غير هدى، أو أن تتفوق مضادات المادة على المادة فينتهي كل شيء عند لحظة الولادة. ولكنَّ هذا الانفجار أدَّى إلى إبداع نظامٍ كونيٍّ بتصميمٌ دقيقٌ محكم، تنضبط فيه الكتل والأحجام والمسافات، وتنتظم فيه الحركة على الوتيرة نفسها من أدقِّ دقائقه إلى أكبر وحداته، على الرغم من تعاظم أبعاده، وكثرة أجرامه.
ويضيف هؤلاء بأن الكون بكل ما فيه من مادَّة وطاقة ومكان وزمان وُجد في وقتٍ واحد، وكانت له بدايةٌ محدَّدة. وبالتالي لابدَّ أنَّ موجوداً على الدوام كان سابقاً لوجود هذا الكون، وهو الذي أوجده؛ لأنَّه ببساطةٍ شديدة إذا لم يوجد أيُّ شيءٍ قبل ذلك، فلا شيء يمكن أن يوجد بعده، وأنه ليس هناك ما يدعو للافتراض أنَّ المادَّة والطاقة كانتا موجودتين قبل الانفجار العظيم، وأنَّه حدث بينهما تفاعلٌ فجائيّ، لأنه من الصعب أن نميز تلك اللحظة عن غيرها من اللحظات في الأزليَّة، والأبسط من ذلك هو أن نفترض خَلْقاً من العدم، أي إبداع الإرادة الإلهيَّة للكون من العدم. وأنها هي صاحبة القرار بحدوث هذا الانفجار الرهيب. لأنَّ العدم بذاته لا يخلق وجودا، ولا يَنتُج عنه إلا العدم، وما دام للكون بداية، فلا مفرَّ من القول بوجود موجودٍ سابقٍ على وجود هذا الكون وبدايته، وأنَّه كان موجوداً على الدوام، أي أنه أزلي وليس له بداية، وهو يسمو على المادة، لأنه غير ماديٍّ، وهو موجودٌ دائما وأبدا.
ويؤكد العلماء الخلقيون أن انتظام الكون على هذا النحو الدقيق الذي انتظمت به المجرَّات والنجوم والكواكب دون أدنى خللٍ يُذكَر، لا يمكن أن يكون مجرد مصادفة، فإذا كان احتمال أن يسحب شخصٌ ما عشـرة كرات مرقمة من 1 ~ 10 بالترتيب وبمحض الصدفة، هو احتمال 1 بالمليون، فإن احتمال انتظام الكون بالصدفة يؤول إلى الصفر. وهذا ما يدعم بأن إرادة إلهية عليا هي التي كانت وما زالت تتحكم بدقة بنظام الكون، وتسيّره نحو غايته المنشودة.
وبغض النظر عن صعوبة تحديد نقطة البداية، فنحن لا نعلم شيئا عما كان موجودا قبلها. وإذا وُجد شيء مادي قبلها فأن تأثيره على نظام الكون الحالي هو لاشيء. وإذا كانت هذه المسألة تمثل فجوة يحاول الماديون استغلالها لنفي إمكانية وجود خالق، فإنه من الخطأ النظر إلى هذه الفجوة على أنها أعجوبة يكمن إعجازها في حتمية وجود خالق، مثلها مثل الفجوات الكثيرة في نظام الكون التي ما زال العلم عاجزا عن تفسيرها، ذلك لأن تحميل الخالق سبحانه مسؤولية سد هذه الفجوات وبطريقة بلاغية، يعني أن كل فجوة يملؤها العلم بتفسيره المادي ستؤدي إلى تقدم العلم على حساب فكرة وجود خالق. فما كان يراه المؤمنون من ظواهر مادية عبارة عن معجزات تؤكد عظمة الخالق ستتساقط معجزة تلو أخرى أمام الاكتشافات العلمية التي تبرهن في كل مرة خضوعها لقانون الطبيعة.
وفي هذا المجال يقول العالم هويمارفون ديتفورت صاحب كتاب تاريخ النشوء أن الطريقة السطحية التي لجأ إليها اللاهوتيون في إثبات وجود الخالق عن طريق المعجزات كانت تؤدي إلى خلق انطباع وكأن العلم قد جاء ليطرد فكره الإله من العالم، ويحمّل مسؤولية تولّد هذا الانطباع لرجال الدين الذين لجئوا في محاججتهم للماديين لأسلوب حشر الخالق في كل فجوة يعجز العلم عن تفسيرها، وبالتالي كانت المساحة التي تحتلها فكرة وجود خالق تضيق شيئا فشيئا أمام ضربات العلم التي لا تتوقف.
الخالق سبحانه لا يحتاج إلى معجزات لإثبات وجوده، والمشكلة مرة ثانية هي غرور البشر الذي يربط كل شيء بوعيه وإدراكه، ويطالب الخالق أن يُظهر قدراته ويبرهن عليها، ويتساءل عن الحكمة في خلق كون بهذا الاتساع مع عدم وجود كائنات تعي هذا الخلق وتدرك قيمة هذا الإعجاز، سيّما وأن الجزء الأعظم من الكون غير مكتشف، وحتى ما هو مكتشف فتدركه فقط فئة قليلة جدا من الناس، وكأنهم يطالبون الخالق هنا أن يريهم حدود الكون مثلاً .. وهذا يشبه أن نطالب عالم رياضيات أن يبرهن على عبقريته أمام صف من تلاميذ الروضة، أو أن يعزف بيتهوفن سيمفونيته أمام حشد من الضفادع !! الحقيقة أن الخالق لا يتأثر بالمستوى الذي بلغته علوم الإنسان، ولا يجوز أن نسقط أسلوبنا بالتفكير عليه ونطالبه بما نطالب بعضنا البعض.
يزعم الماديون بأن كل ما في الكون من مجرات وأجرام ونجوم قد نشأت من لحظة الانفجار العظيم، وأن هذا الكون قد انتظم من تلقاء نفسه، وسار بقوانين مادية صارمة، آخذاً في صيرورته مسارا تطوريا تصاعديا إجباريا، وينفون عنه صفة الغائية، بل ويروحون إلى ما هو أكثر من ذلك، فيدّعون أنه نظام عبثي في مساراته، وأنه رغم دقته الظاهرة في تكوينه إلا أن إصطدامات رهيبة تجري بين أجزائه تؤدي إلى فوضى عبثية في أركانه القصية البعيدة عن إدراكنا، وفي المقابل فإن الخلقيون يؤكدون بقناعة لا ريب فيها أن الله وحده هو من أوجد هذا الكون، وقد خلقه دفعة واحدة، وأودع فيه نظامه الدقيق الذي لا يسمح بأية صدامات، وهو المتحكم في مساراته، والمهيمن على خياراته.
ومقابل هذه الأطروحتين المتناقضتين تقدم عدد من العلماء بحل توفيقي، ومنهم العالم الفرنسي ديكارت الذي قال بأن الله هو من وضع القوانين الطبيعية للكون في البداية، وأنها كانت القوانين الوحيدة الممكنة الحدوث، أي لا يمكن استبدالها بغيرها، لأنها حتمية وتعكس الطبيعة الجوهرية لله، وأضاف بأنه لا يهم ما هي ترتيبات المادة في بدايات الكون، لأنه في جميع الأحوال سيتطور في نهاية المطاف إلى كون مطابق تماما لكوننا الحالي بسبب حتمية هذه القوانين، وأكمل أنه "حالما سيّر اللهُ الكونَ بقوانين مادية في بداياته، فإنه تركه يعمل بعد ذلك لوحده كليا دون أن يتدخل فيه"، تماما مثل صانع الساعة الذي تركها تعمل لوحدها بعد أن جمّع أجزاءها وفق آلية محكمة لتعمل بموجب قوانين ثابتة ومعروفة.
وبعد ذلك ثار السؤال مرة ثانية: إذا كانت الطبيعة مقيدة بقوانين مادية، فما هو أصل هذه القوانين ؟ ومن أوجدها ؟! أجاب كل من نيوتن وكيبلر وجاليليو، بأن القوانين هي موضوعة من قبل الله. وأعطوا تعريفا لله بأنه "تجسيد لقوانين الطبيعة". وأن هذه القوانين هي انعكاس رياضي لواقع خارجي متواجد بصورة منفصلة عن من يشاهدها، أي ليس لها علاقة مباشرة مع المشاهد.
وإذا تجاوزنا مسألة الخلق من عدمه، وبعد الخروج من دوامة الأسئلة العويصة التي لا تخلو أحيانا من الخبث، ودون حسم للخلاف، سنجد أنه - مع كل هذا اللغط - أن العلوم الإنسانية، ومهما كان مستوى تقدمها، وإن كانت ما تزال فتية، إلا أنها قدّمت لنا بالفعل معلومات على غاية الأهمية حول تلك النقطة القابعة في ضباب الماضي السحيق، والتي عندها تطورت ذرة الهيدروجين لتلد 92 عنصرا تتألف منها كل الكائنات المادية في ربوع الكون، وأعطتنا معلومات دقيقة عن اللحظة التي انتقلت بها المادة من الحالة اللا حية إلى الحالة الحية.
وحتى نفهم نظام الكون بمستوي أعمق وأشمل، نحتاج أن نعرف كيف يعمل هذا الكون ؟ دون الحاجة للوصول إلى آخر أرجاءه، إذْ يمكن قياس حرارة الفرن دون أن ندس أيدينا داخله مثلاً، كما أن جميع العلماء بلا منازع يقرون اليوم بوجود الإليكترون، مع عدم قدرتهم على رؤيته. وحتى الكواركس الذي لم يروه أيضا فهو يقدم نموذج رائع لتفسير خواص البروتون والنيوترون داخل نواة الذرة. ولا يشترط لفهم نظام الكون أن يكون ذلك من خلال نظرية واحدة شاملة، فحتى الآن لا يوجد نموذج رياضي واحد أو نظرية معينة باستطاعتها أن تشرح كل شيء عن الكون. رغم وجود مجموعة متداخلة من النظريات التي يمكن الاعتداد بها، ولكن كل نظرية من هذه النظريات تشرح ظاهرة معينة في مجال معين، وعندما تتداخل المجالات، فجميع النظريات المعنية لن تتفق فيما بينها، ولكن يمكن أن نقول عنها أنها جزء من نفس النظرية. ومع ذلك لا توجد نظرية بحد ذاتها تستطيع منفردة أن تعطينا تفسيرا لكل الظواهر في الكون، وأن تشرح كل قوى الطبيعة والجزيئات التي تشعر بهذه القوى، والإطار العام من المكان والزمان التي تحتويها٠
هذه الحالة لا تحقق حلم الفيزيائيين الكبير بالحصول على نظرية واحدة موحدة وشاملة. لأن هذا بحد ذاته يعتبر من المستحيل، وذلك لأن الكون نفسه غير متجانس في جميع أجزائه، و قوانينه تختلف حسب مستوياته أو حجمه. ولكن ذلك لا يعني أن كل تلك المحاولات كانت بدون فائدة، وأن أينشتاين قد أفنى آخر سنوات عمره دون طائل، بل ممكن النظر إلى تلك المحاولات على أنها عبارة عن أجزاء داخلة ضمن النظرية الكلية الشاملة التي يسعى لها الباحثون. فكل معادلة أو نظرية تكمل الأخرى ضمن نفس المفهوم، وبجمعها ممكن أن نحصل على صورة عامة عن الكون.
العالم الشهير ستيفن هوكنغ في كتابه الأخير "التصميم العظيم" والذي اشترك فيه عالم الفيزياء المعروف ليونارد ملوديناو، ونُشر في العام 2010، يقول أن الكون ممكن فهمه، ذلك لأن ظواهره لها وتيرة مكرره محكومة بالقوانين الطبيعية مهما بدت لنا مختلفة عن بعضها البعض من مستوى لآخر. وعلى هذا الأساس ممكن أن نعمل للكون نموذج واحد جامع. أو بمعنى آخر تصرف الكون يمكن أن يوضع بصيغة نماذج بالإمكان فهم أبجدياتها. ولكن جميع هذه النماذج تظل قاصرة، ما لم تكن شاملة في نموذج واحد يشملها جميعا.
بدأ بطليموس شرح نظام الكون باعتقاده بأن الأرض كروية الشكل، وأنها ثابتة لا تتحرك، ومستقرة في مركز الكون. واليوم تجاوز العلم هذا المفهوم، وحسب هوكنغ فإن أول قانون طبيعي لشرح ظواهر طبيعية يُنسب لليوناني الوثني فيتاغورس (٥٨٠~٤٩٠ ق. م)، بينما اعتبر أن ديكارت هو أول شخص قام بصياغة فكرة القوانين الطبيعة بحزم وصراحة كما نفهمها اليوم. فديكارت كان يعتقد أن جميع الظواهر الطبيعية يجب أن تُفسر بصورة كتل متحركة، تتحكم فيها ثلاثة قوى - مستبقا بذلك القوانين التي صاغها نيوتن بخصوص الحركة لاحقا - ومصراً علي أن هذه القوانين الطبيعية عليها أن تكون قابلة للتطبيق في كل الأماكن وفي جميع الأزمنة بدون استثناء. كما بيّن بوضوح أن رضوخ هذه الأجسام المتحركة لهذه القوانين لا تعني أنها تمتلك أدمغة، كما كان يعتقد كيبلر .
ويجادل هوكنغ، بإن الطبيعة لا تفرض نتائج حتمية لأية عملية أو اختبار، حتى في أبسط الأوضاع. بل تسمح باحتمالات عديدة، أي أن كل حالة لها عدة احتمالات للحدوث، وبناء على ما تقدم فإن الفيزياء الكمية قد تبدو وكأنها تؤكد فكرة أن الطبيعة تخضع لقوانين ثابتة، ولكن ستيفن هوكنغ يقول أن هذا غير صحيح. بل الأصح أن الطبيعة "تقودنا إلى الموافقة على صورة جديدة من الوجودية: فبمعرفة وضع نظام معين بوقت معين، تعمل قوانين الطبيعة علي إيجاد احتمالات مستقبلية وماضوية، فالاحتمالات في الفيزياء الذرية تعكس العشوائية الابتدائية في تصرف الطبيعة، ومع أن البعض لا يستسيغ هذه الفكرة، كما يقول هوكنغ، "فالعلماء عليهم أن يقبلوا بالتجارب التي تتفق مع الاختبارات، وليست تلك التي تتفق مع بديهياتهم".
ستظل قضية نشأة الكون وطبيعة نظامه موضع جدل صاخب، ولكن عند الحديث عن بدايات الحياة على الأرض، قد تبدو الأمور أسهل، رغم حدية التناقص بين التطورين والخلقيين في تحديد نقطة البداية وسيرورة التطور، إلا أن السؤال المركزي سيثور من جديد: من الذي أوجد الخلية الأولى ؟ ومن أودع فيها قانون التطور والتكاثر والتنوع ؟
يقول هوكنغ: أنه في خط تطور البشرية الحديث والذي بدأ مع "الهوموسابيان" قبل حوالي 200.000 سنة من الآن، وبسبب الجهل بقوانين الطبيعة كان الإنسان على الدوام يخترع الآلهة لتتحكم في كل أوجه حياته، وترسم له طريق الخير والشر، وكيفية التعامل مع الأمور الحياتية، وخصوصا العلاقات البشرية الاجتماعية والسيكولوجية التي بدت ولازالت تبدو غامضة له. ويبدو أن آثار تلك المفاهيم الطوطمية ما زالت موجود بشكل أو بآخر في الأديان السماوية، وتجد تعبيراتها المختلفة في أطروحات رجال الدين.
لا يهمنا هنا الربط بين الظواهر الطبيعية العديدة التي كانت تهدد الإنسان، وبين تعدد الآلهة لدى التجمعات البشرية البدائية، وحتى عند الحضارات القديمة، وفهم بذور الطوطمية في تلك المراحل السحيقة من الزمن، والتي تجد تفسيراتها في خوف الإنسان من تلك الظواهر وجهله لأسبابها، وبالتالي ربطها بقوى ما ورائية خارقة كان يلتمس رضاها بالقرابين، إنما نسعى لفهم مبررات تخوف المؤمنين بمختلف دياناتهم من التفسيرات التي يقترحها العلم، والتي تخلو من التفسيرات الغيبية، ولا تربط الظواهر المادية – بما فيها نشأة الحياة نفسها – بقوى ميتافيزيقية متحكمة في كل شيء.
فعندما تقدم دارون بنظريته الشهيرة في النشوء وارتقاء ثارت في وجهه الكنيسة، لأن نظريته تتعارض مع الكتاب المقدس الذي يصر أن تاريخ البشرية على الأرض لا يتجاوز عمره ستة آلاف سنة، وأن تطور الكائنات عن بعضها يتعارض مع فكرة أن الله سبحانه خلق جميع الكائنات بشكلها الحالي دفعة واحدة.
وبينما يصر التطوريون أن أصل الإنسان يعود إلى نحو ستة ملايين سنة، وأن جميع الكائنات تتشارك في سلف واحد، عبارة عن خلية بدائية تخلقت في ظروف معقدة قبل مليارات السنين، وتطورت وتناسلت منها كافة أشكال الحياة دون أن تنسب ذلك لخالق أبدعها وصوّرها. وللخروج من هذه المعضلة اقترح بعض المتدينين المتنورين – إذا جاز التعبير – نفس الحل الذي اقترحه نيوتن وكيبلر وغاليليو من قبلهم حول نشأة الكون، فقالوا أن أصل الحياة يعود لخلية حية خلقها الله سبحانه وأودع فيها قانون التطور، ويقترح بعض المفكرين الإسلاميين حلا توافقيا لحلقة دارون المفقودة في مسلسل نشأة وتطور الإنسان، فيقول مثلا المفكر السوري د. محمد شحرور: أن الله سبحانه اصطفى آدم من بين المجموعات البشرية التي كانت تسكن الأرض - وتعيث فيها فسادا وتسفك الدماء – ليكون خليفته، فنفخ فيه من روحه، ومنحه العقل المفكر ووهبه ميزة الكلام وعلمه الأسماء كلها، وأتاح له الفرصة ليتكاثر وينجب من ذريته الإنسان الحديث.
وللوصول للحقيقة المجردة، سنجد أنفسنا مرة ثانية غارقين في دوامة الأسئلة المعقدة، وأمام تيارين متناقضين يسعى كل منهما لإثبات وجهة نظره بالأدلة العلمية مع تسخيف وجهة النظر المقابلة، وبأسلوب يخلو أحيانا من احترام ذكاء الباحث، فلا يكفي أن نقول أن العالم الفلاني قال كذا، دون أن نعرف من هو هذا العالم، ودون أن تتاح لنا إمكانية التأكد من صحة أبحاثه، ولا يكفي كوْن العالم الفلاني أجنبي أو أنه من جامعة معروفة أن قوله هو الحق الذي لا يأتيه الباطل من خلفه ولا من أمامه، فكثير من الباحثين يعملون لصالح شركات ربحية تموّل أبحاثهم بهدف تأكيد مسألة معينة ستعود عليهم بالربح، وبعض الباحثين يتلقون رشاوى من مؤسسات دينية للوصول إلى نتائج معينة، وبعضهم يطوّع أدواته وأبحاثه لتأكيد قناعة معينة راسخة في ذهنه ويعتبرها من البديهيات، وكثير من الأبحاث تفتقر للمنهج العلمي، وكثير من الأسماء الواردة في المقالات والدراسات هي وهمية ولا أصل لها، وكثير من المقولات نُسبت زورا لأصحابها، أو اقتبست بطريقة مجتزأة.
الوصول للحقيقة العلمية يتطلب طرح المقدس جانبا، والتخلي عن كل البديهيات والمسلّمات والآراء المسبقة والأحكام الأخلاقية والوصفات الجاهزة. الحقيقة المجردة تتطلب منا أن نأتيها حفاة، مجردين من الموروثات التي سكنتنا طويلا، لنرتدي ثوب العلم، ونستخدم أدواته الصارمة والحازمة دون أن نعبأ بالنتائج.
فهل لدينا الشجاعة الكافية لنفعل ذلك ؟!
ولو كان للباحث خيار أن ينهل ما يشاء من المدرستين دون أن يعرض نفسه لخطر التكفير أو اتهامه بالجهل، لما كانت هناك مشكلة، ولكنه سيصدم بسيل عارم من الاتهامات المتبادلة التي تصل حد تسخيف الآخر ونعته بأبشع الأوصاف!
وسيجد نفسه في خضم معركة فكرية بين أعداء يضمرون لبعضهم الحقد والكره ! والغريب أن كل طرف يدّعي أن نظريته تدعمها الاكتشافات التاريخية والتجارب العلمية. وهذا يذكّرنا بالصراع الدموي الذي جرى بين التيارات المتصارعة، سواء في صدر الإسلام والمراحل اللاحقة له، أو في تاريخ عصور الظلام في أوروبا، حين كان يستند كل طرف على الكتاب المقدس، وأحيانا على نفس الآية ليثبت صحة رأيه !
بعد قيام الوحدة الأوروبية أرادت بعض دول الاتحاد أن توحد تاريخ صراعها، خاصة حقبة الحربين العالميتين الأولى والثانية، وأن تتفق على رواية واحدة تدرسها للأجيال، ولكنها أخفقت تماما في ذلك، واضطرت لإلغاء المشروع، فكل دولة أرادت فرض رؤيتها الأحادية من منطلقها الذاتي. فشلت رغم أن معظم الأحداث موثقة بالصور، وكثير من أشخاصها ما زال ينبض بالحياة !
ومن المؤكد أن العلماء سيواجهون نفس المصير إذا ما قرروا تأريخ مسيرة تطور الكون بسنواته المليارية !! وسيواجهون عراقيل مانعة وصعوبات لا حصر لها. وتكمن الصعوبة في ذلك، لأن الكون موغل في قِدمه، وفسيح في حدوده إلى حد الخرافة، وأحدث المسبارات وأكثرها تعقيدا لا تصوّر لنا إلا جزء يسير جدا من هذا الكون المترامي الأطراف، وعندما يتخطى العلماء حاجز المليارات من سنين الضوء يكون حديثهم في نطاق التكهنات والفرضيات، وحتى عندما يتحدثون عن تاريخ الأرض - والتي هي تحت أقدامهم - فإنهم سيواجهون صعوبات جمة وحقيقية، فما هو متوفر عن تلك الأزمان الغابرة من أحفوريات ومستحثات شحيح إلى حد الندرة، وبالكاد يعطي معلومات غامضة وأحيانا متضاربة، وهي دلائل تقترح أسئلة أكثر مما تقدم إجابات.
والإنسان ومنذ أن تنطح للإجابة على هذه التساؤلات كان ومازال ينطلق من غروره الذي زيّن له بأنه مركز الكون، وأن كل تلك المليارات من السنين من تاريخ الكون لم يكن لها إلا مهمة وحيدة، هي إنجابنا: نحن والحاضر الذي نحياه الآن، وأن مسيرة تاريخ الأرض الطويلة قد وصلت إلى خاتمتها، وأدركت غايتها بإيجاد الإنسان !!
وإذا تواضعنا قليلا وتجاوزنا آلاف المليارات من سنين الأرض قبل وجود الإنسان، وانطلقنا من لحظة وجود أول كائن بشري قبل عدة ملايين من السنين، فإن هذا سيعني أن الإنسان الأول الذي عاش في ظروف قاسية ومعادية لسنوات طويلة ولم يهنأ خلالها بلحظة راحة، كان مطلوبا منه أن يتحمل كل هذه المعاناة والعذاب ليحمل الأمانة بكل صبر، وينقل جيناتنا في أصلابه جيلا بعد جيل، حتى ننعم نحن أصحاب الحضارة الحالية بترف طرح هذه التساؤلات، وننظر إلى معاناة أولئك البشر بشفقة مصطنعة، كما لو أنها ضرب من الرفق بالحيوان.
وتاريخنا العلمي الحالي يقدم لنا سلسلة من النظريات التي حاولت فهم نظام الكون، بدأت منذ عهد بطليموس، وتواصلت عبر علماء المسلمين الذين ترجموا ما وصلهم من فلسفات يونانية وأضافوا عليها، ثم وصلت إلى نيوتن ومن بعده أينشتاين، وصولا إلى النظريات الذرية الحديثة. وما زال العلماء يبحثون عن نظرية شمولية متكاملة للكون؛ تفسر وجوده وتجمع ما بين ما هو متناهي في الصغر وما هو متناهي في العظمة في معادلة واحدة، بحيث تحتوي على ربط متين بين كل القوى المعروفة في الطبيعة، وتكون قادرة على التنبؤ بكل مشاهدة بدقة متناهية، ومن المتوقع أن يواصل العلماء بحوثهم إلي ما لانهاية، وأن يطرحوا ما لا يُعد من نظريات، قبل أن يتمكنوا من حل اللغز الأعظم: لغز الكون والحياة.
العديد من هذه النظريات، وخاصة في البدايات كانت تعتمد علي الحدس والحكمة وعلم الكلام، وكانت إجمالاً تتصف بالعمومية فيما بدى لها بأنه منطقي. وكانت أدوات المعرفة المتاحة وسبلها المتبعة تخلط أحيانا ما بين الفيزياء والأساطير، وبين المثيولوجيا والميتافيزيقا؛ وبين الكيمياء والخيمياء؛ وبين علم الفلك والتنجيم، وبين الباراسيكولوجي وتقمص الأرواح وتلبيس الشياطين، وبين ما عجز العلم عن تفسيره والسحر والقوى الماورائية. وهذا ليس بغريب، فالقياسات الدقيقة لم تكن متوفرة في تلك الأزمنة القديمة. فالنظام الرياضي العشري مثلا الذي جاء عن طريق الهندوس يرجع تاريخه لعام ٧٠٠ م. وإشارات الزائد والناقص في الرياضيات والجبر ظهرت في القرن الخامس عشر الميلادي مع علماء المسلمين، أما الساعات الدقيقة التي تحسب الوقت بأجزاء ضئيلة من الثانية، والموازين التي تقيس أجزاء بالبليون من الغرام، والأجهزة التي تفحص كل شيء مهما بلغت دقته أو بعُدت مسافته فلم تظهر إلا في العصر الحديث.
وفي القرون الثلاثة الأخيرة جرت اختراقات جوهرية في فضاء العلم، شهدت العديد من أهم الاكتشافات والاختراعات والنظريات العلمية والفلسفية، قلبت كل شيء رأسا على عقب، وفتحت آفاق لم تكن البشرية تتصور حتى وجودها، فخلال هذه الحقبة التي تعتبر الأهم في تاريخ وجود الإنسان على الأرض من الناحية العلمية، صاغ نيوتن قوانين الجاذبية، وجاء دارون بنظرية النشوء والارتقاء، واكتشف باستور وجود الميكروبات، واستدل مندل على علم الوراثة، واخترع أديسون المصباح الكهربائي، وطرح أينشتاين نظريته النسبية، وتمكن كل من واتسون وكريك من التعرف على جبلة الحياة الأساسية DNA في أواسط القرن العشرين، ثم أكد كل من بزنياس وولسون على نظرية نظرية الانفجار العظيم بعد ذلك بعقد ونصف، وفي أواخر التسعينات أطلق العلماء تلسكوب هابل الذي اكتشف عوالم تفوق بكثير ما كان يظنه أينشتاين كل الكون.
وعندما بدأ العلماء بصياغة نظرياتهم لفهم نظام الكون وكيفية نشأته، وجدوا أنفسهم ينقسمون إلى قسمين: التطوريون والخلقيون، وكانت قضية وجود خالق للكون هي الفيصل بينهما: يزعم "التطوريون" أن الكون جاء من العدم، وأن الحياة انبثقت من المادة، وأن الشيء ممكن أن يُخلق من اللاشيء. خلافا لما يؤمن به "الخلقيون"، ويدّعون أن الكون في الواقع لا يحتاج إلي خالق ليخلقه ! وأنه بالإمكان خلق نظام دقيق ومعقد من خلال العشوائية والبساطة !
المؤمنون يردون عليهم ببساطة أن لكل شيء سبب، ولكل ظاهرة مادية لابد أن يكون لها بداية، وهذه البداية حتما ستحتاج لقوة خارقة لتوجدها، فما من شيء يأتي من العدم. ولكن عند هذه النقطة بالتحديد يثور السؤال الكبير: من أوجد الخالق ؟! الجواب: أن الله سبحانه خالق الكون قائم بذاته ولا يحتاج لمن يخلقه، فهو خارج مجرى الزمن ولا تنطبق عليه قوانين الفيزياء والطبيعة.
وحتى اليوم لا أحد يعلم على وجه التحديد متى وُلد هذا الكون، ولكن العلماء متفقون أنه بدأ بانفجار عظيم، ويقدمون شرحا بالتفصيل الممل عمّا حدث خلال الدقائق الثلاثة الأولى من هذا الانفجار، ويؤكدون أنه لم يجري بمحض الصدفة، وعند هذه النقطة يؤكد العلماء الخلقيون أن انفجاراً بهذا الحجم كان يمكن أن يخلِّف وراءه دماراً رهيباً يؤدي إلى تبعثر للمادَّة في كلِّ مكانٍ على غير هدى، أو أن تتفوق مضادات المادة على المادة فينتهي كل شيء عند لحظة الولادة. ولكنَّ هذا الانفجار أدَّى إلى إبداع نظامٍ كونيٍّ بتصميمٌ دقيقٌ محكم، تنضبط فيه الكتل والأحجام والمسافات، وتنتظم فيه الحركة على الوتيرة نفسها من أدقِّ دقائقه إلى أكبر وحداته، على الرغم من تعاظم أبعاده، وكثرة أجرامه.
ويضيف هؤلاء بأن الكون بكل ما فيه من مادَّة وطاقة ومكان وزمان وُجد في وقتٍ واحد، وكانت له بدايةٌ محدَّدة. وبالتالي لابدَّ أنَّ موجوداً على الدوام كان سابقاً لوجود هذا الكون، وهو الذي أوجده؛ لأنَّه ببساطةٍ شديدة إذا لم يوجد أيُّ شيءٍ قبل ذلك، فلا شيء يمكن أن يوجد بعده، وأنه ليس هناك ما يدعو للافتراض أنَّ المادَّة والطاقة كانتا موجودتين قبل الانفجار العظيم، وأنَّه حدث بينهما تفاعلٌ فجائيّ، لأنه من الصعب أن نميز تلك اللحظة عن غيرها من اللحظات في الأزليَّة، والأبسط من ذلك هو أن نفترض خَلْقاً من العدم، أي إبداع الإرادة الإلهيَّة للكون من العدم. وأنها هي صاحبة القرار بحدوث هذا الانفجار الرهيب. لأنَّ العدم بذاته لا يخلق وجودا، ولا يَنتُج عنه إلا العدم، وما دام للكون بداية، فلا مفرَّ من القول بوجود موجودٍ سابقٍ على وجود هذا الكون وبدايته، وأنَّه كان موجوداً على الدوام، أي أنه أزلي وليس له بداية، وهو يسمو على المادة، لأنه غير ماديٍّ، وهو موجودٌ دائما وأبدا.
ويؤكد العلماء الخلقيون أن انتظام الكون على هذا النحو الدقيق الذي انتظمت به المجرَّات والنجوم والكواكب دون أدنى خللٍ يُذكَر، لا يمكن أن يكون مجرد مصادفة، فإذا كان احتمال أن يسحب شخصٌ ما عشـرة كرات مرقمة من 1 ~ 10 بالترتيب وبمحض الصدفة، هو احتمال 1 بالمليون، فإن احتمال انتظام الكون بالصدفة يؤول إلى الصفر. وهذا ما يدعم بأن إرادة إلهية عليا هي التي كانت وما زالت تتحكم بدقة بنظام الكون، وتسيّره نحو غايته المنشودة.
وبغض النظر عن صعوبة تحديد نقطة البداية، فنحن لا نعلم شيئا عما كان موجودا قبلها. وإذا وُجد شيء مادي قبلها فأن تأثيره على نظام الكون الحالي هو لاشيء. وإذا كانت هذه المسألة تمثل فجوة يحاول الماديون استغلالها لنفي إمكانية وجود خالق، فإنه من الخطأ النظر إلى هذه الفجوة على أنها أعجوبة يكمن إعجازها في حتمية وجود خالق، مثلها مثل الفجوات الكثيرة في نظام الكون التي ما زال العلم عاجزا عن تفسيرها، ذلك لأن تحميل الخالق سبحانه مسؤولية سد هذه الفجوات وبطريقة بلاغية، يعني أن كل فجوة يملؤها العلم بتفسيره المادي ستؤدي إلى تقدم العلم على حساب فكرة وجود خالق. فما كان يراه المؤمنون من ظواهر مادية عبارة عن معجزات تؤكد عظمة الخالق ستتساقط معجزة تلو أخرى أمام الاكتشافات العلمية التي تبرهن في كل مرة خضوعها لقانون الطبيعة.
وفي هذا المجال يقول العالم هويمارفون ديتفورت صاحب كتاب تاريخ النشوء أن الطريقة السطحية التي لجأ إليها اللاهوتيون في إثبات وجود الخالق عن طريق المعجزات كانت تؤدي إلى خلق انطباع وكأن العلم قد جاء ليطرد فكره الإله من العالم، ويحمّل مسؤولية تولّد هذا الانطباع لرجال الدين الذين لجئوا في محاججتهم للماديين لأسلوب حشر الخالق في كل فجوة يعجز العلم عن تفسيرها، وبالتالي كانت المساحة التي تحتلها فكرة وجود خالق تضيق شيئا فشيئا أمام ضربات العلم التي لا تتوقف.
الخالق سبحانه لا يحتاج إلى معجزات لإثبات وجوده، والمشكلة مرة ثانية هي غرور البشر الذي يربط كل شيء بوعيه وإدراكه، ويطالب الخالق أن يُظهر قدراته ويبرهن عليها، ويتساءل عن الحكمة في خلق كون بهذا الاتساع مع عدم وجود كائنات تعي هذا الخلق وتدرك قيمة هذا الإعجاز، سيّما وأن الجزء الأعظم من الكون غير مكتشف، وحتى ما هو مكتشف فتدركه فقط فئة قليلة جدا من الناس، وكأنهم يطالبون الخالق هنا أن يريهم حدود الكون مثلاً .. وهذا يشبه أن نطالب عالم رياضيات أن يبرهن على عبقريته أمام صف من تلاميذ الروضة، أو أن يعزف بيتهوفن سيمفونيته أمام حشد من الضفادع !! الحقيقة أن الخالق لا يتأثر بالمستوى الذي بلغته علوم الإنسان، ولا يجوز أن نسقط أسلوبنا بالتفكير عليه ونطالبه بما نطالب بعضنا البعض.
يزعم الماديون بأن كل ما في الكون من مجرات وأجرام ونجوم قد نشأت من لحظة الانفجار العظيم، وأن هذا الكون قد انتظم من تلقاء نفسه، وسار بقوانين مادية صارمة، آخذاً في صيرورته مسارا تطوريا تصاعديا إجباريا، وينفون عنه صفة الغائية، بل ويروحون إلى ما هو أكثر من ذلك، فيدّعون أنه نظام عبثي في مساراته، وأنه رغم دقته الظاهرة في تكوينه إلا أن إصطدامات رهيبة تجري بين أجزائه تؤدي إلى فوضى عبثية في أركانه القصية البعيدة عن إدراكنا، وفي المقابل فإن الخلقيون يؤكدون بقناعة لا ريب فيها أن الله وحده هو من أوجد هذا الكون، وقد خلقه دفعة واحدة، وأودع فيه نظامه الدقيق الذي لا يسمح بأية صدامات، وهو المتحكم في مساراته، والمهيمن على خياراته.
ومقابل هذه الأطروحتين المتناقضتين تقدم عدد من العلماء بحل توفيقي، ومنهم العالم الفرنسي ديكارت الذي قال بأن الله هو من وضع القوانين الطبيعية للكون في البداية، وأنها كانت القوانين الوحيدة الممكنة الحدوث، أي لا يمكن استبدالها بغيرها، لأنها حتمية وتعكس الطبيعة الجوهرية لله، وأضاف بأنه لا يهم ما هي ترتيبات المادة في بدايات الكون، لأنه في جميع الأحوال سيتطور في نهاية المطاف إلى كون مطابق تماما لكوننا الحالي بسبب حتمية هذه القوانين، وأكمل أنه "حالما سيّر اللهُ الكونَ بقوانين مادية في بداياته، فإنه تركه يعمل بعد ذلك لوحده كليا دون أن يتدخل فيه"، تماما مثل صانع الساعة الذي تركها تعمل لوحدها بعد أن جمّع أجزاءها وفق آلية محكمة لتعمل بموجب قوانين ثابتة ومعروفة.
وبعد ذلك ثار السؤال مرة ثانية: إذا كانت الطبيعة مقيدة بقوانين مادية، فما هو أصل هذه القوانين ؟ ومن أوجدها ؟! أجاب كل من نيوتن وكيبلر وجاليليو، بأن القوانين هي موضوعة من قبل الله. وأعطوا تعريفا لله بأنه "تجسيد لقوانين الطبيعة". وأن هذه القوانين هي انعكاس رياضي لواقع خارجي متواجد بصورة منفصلة عن من يشاهدها، أي ليس لها علاقة مباشرة مع المشاهد.
وإذا تجاوزنا مسألة الخلق من عدمه، وبعد الخروج من دوامة الأسئلة العويصة التي لا تخلو أحيانا من الخبث، ودون حسم للخلاف، سنجد أنه - مع كل هذا اللغط - أن العلوم الإنسانية، ومهما كان مستوى تقدمها، وإن كانت ما تزال فتية، إلا أنها قدّمت لنا بالفعل معلومات على غاية الأهمية حول تلك النقطة القابعة في ضباب الماضي السحيق، والتي عندها تطورت ذرة الهيدروجين لتلد 92 عنصرا تتألف منها كل الكائنات المادية في ربوع الكون، وأعطتنا معلومات دقيقة عن اللحظة التي انتقلت بها المادة من الحالة اللا حية إلى الحالة الحية.
وحتى نفهم نظام الكون بمستوي أعمق وأشمل، نحتاج أن نعرف كيف يعمل هذا الكون ؟ دون الحاجة للوصول إلى آخر أرجاءه، إذْ يمكن قياس حرارة الفرن دون أن ندس أيدينا داخله مثلاً، كما أن جميع العلماء بلا منازع يقرون اليوم بوجود الإليكترون، مع عدم قدرتهم على رؤيته. وحتى الكواركس الذي لم يروه أيضا فهو يقدم نموذج رائع لتفسير خواص البروتون والنيوترون داخل نواة الذرة. ولا يشترط لفهم نظام الكون أن يكون ذلك من خلال نظرية واحدة شاملة، فحتى الآن لا يوجد نموذج رياضي واحد أو نظرية معينة باستطاعتها أن تشرح كل شيء عن الكون. رغم وجود مجموعة متداخلة من النظريات التي يمكن الاعتداد بها، ولكن كل نظرية من هذه النظريات تشرح ظاهرة معينة في مجال معين، وعندما تتداخل المجالات، فجميع النظريات المعنية لن تتفق فيما بينها، ولكن يمكن أن نقول عنها أنها جزء من نفس النظرية. ومع ذلك لا توجد نظرية بحد ذاتها تستطيع منفردة أن تعطينا تفسيرا لكل الظواهر في الكون، وأن تشرح كل قوى الطبيعة والجزيئات التي تشعر بهذه القوى، والإطار العام من المكان والزمان التي تحتويها٠
هذه الحالة لا تحقق حلم الفيزيائيين الكبير بالحصول على نظرية واحدة موحدة وشاملة. لأن هذا بحد ذاته يعتبر من المستحيل، وذلك لأن الكون نفسه غير متجانس في جميع أجزائه، و قوانينه تختلف حسب مستوياته أو حجمه. ولكن ذلك لا يعني أن كل تلك المحاولات كانت بدون فائدة، وأن أينشتاين قد أفنى آخر سنوات عمره دون طائل، بل ممكن النظر إلى تلك المحاولات على أنها عبارة عن أجزاء داخلة ضمن النظرية الكلية الشاملة التي يسعى لها الباحثون. فكل معادلة أو نظرية تكمل الأخرى ضمن نفس المفهوم، وبجمعها ممكن أن نحصل على صورة عامة عن الكون.
العالم الشهير ستيفن هوكنغ في كتابه الأخير "التصميم العظيم" والذي اشترك فيه عالم الفيزياء المعروف ليونارد ملوديناو، ونُشر في العام 2010، يقول أن الكون ممكن فهمه، ذلك لأن ظواهره لها وتيرة مكرره محكومة بالقوانين الطبيعية مهما بدت لنا مختلفة عن بعضها البعض من مستوى لآخر. وعلى هذا الأساس ممكن أن نعمل للكون نموذج واحد جامع. أو بمعنى آخر تصرف الكون يمكن أن يوضع بصيغة نماذج بالإمكان فهم أبجدياتها. ولكن جميع هذه النماذج تظل قاصرة، ما لم تكن شاملة في نموذج واحد يشملها جميعا.
بدأ بطليموس شرح نظام الكون باعتقاده بأن الأرض كروية الشكل، وأنها ثابتة لا تتحرك، ومستقرة في مركز الكون. واليوم تجاوز العلم هذا المفهوم، وحسب هوكنغ فإن أول قانون طبيعي لشرح ظواهر طبيعية يُنسب لليوناني الوثني فيتاغورس (٥٨٠~٤٩٠ ق. م)، بينما اعتبر أن ديكارت هو أول شخص قام بصياغة فكرة القوانين الطبيعة بحزم وصراحة كما نفهمها اليوم. فديكارت كان يعتقد أن جميع الظواهر الطبيعية يجب أن تُفسر بصورة كتل متحركة، تتحكم فيها ثلاثة قوى - مستبقا بذلك القوانين التي صاغها نيوتن بخصوص الحركة لاحقا - ومصراً علي أن هذه القوانين الطبيعية عليها أن تكون قابلة للتطبيق في كل الأماكن وفي جميع الأزمنة بدون استثناء. كما بيّن بوضوح أن رضوخ هذه الأجسام المتحركة لهذه القوانين لا تعني أنها تمتلك أدمغة، كما كان يعتقد كيبلر .
ويجادل هوكنغ، بإن الطبيعة لا تفرض نتائج حتمية لأية عملية أو اختبار، حتى في أبسط الأوضاع. بل تسمح باحتمالات عديدة، أي أن كل حالة لها عدة احتمالات للحدوث، وبناء على ما تقدم فإن الفيزياء الكمية قد تبدو وكأنها تؤكد فكرة أن الطبيعة تخضع لقوانين ثابتة، ولكن ستيفن هوكنغ يقول أن هذا غير صحيح. بل الأصح أن الطبيعة "تقودنا إلى الموافقة على صورة جديدة من الوجودية: فبمعرفة وضع نظام معين بوقت معين، تعمل قوانين الطبيعة علي إيجاد احتمالات مستقبلية وماضوية، فالاحتمالات في الفيزياء الذرية تعكس العشوائية الابتدائية في تصرف الطبيعة، ومع أن البعض لا يستسيغ هذه الفكرة، كما يقول هوكنغ، "فالعلماء عليهم أن يقبلوا بالتجارب التي تتفق مع الاختبارات، وليست تلك التي تتفق مع بديهياتهم".
ستظل قضية نشأة الكون وطبيعة نظامه موضع جدل صاخب، ولكن عند الحديث عن بدايات الحياة على الأرض، قد تبدو الأمور أسهل، رغم حدية التناقص بين التطورين والخلقيين في تحديد نقطة البداية وسيرورة التطور، إلا أن السؤال المركزي سيثور من جديد: من الذي أوجد الخلية الأولى ؟ ومن أودع فيها قانون التطور والتكاثر والتنوع ؟
يقول هوكنغ: أنه في خط تطور البشرية الحديث والذي بدأ مع "الهوموسابيان" قبل حوالي 200.000 سنة من الآن، وبسبب الجهل بقوانين الطبيعة كان الإنسان على الدوام يخترع الآلهة لتتحكم في كل أوجه حياته، وترسم له طريق الخير والشر، وكيفية التعامل مع الأمور الحياتية، وخصوصا العلاقات البشرية الاجتماعية والسيكولوجية التي بدت ولازالت تبدو غامضة له. ويبدو أن آثار تلك المفاهيم الطوطمية ما زالت موجود بشكل أو بآخر في الأديان السماوية، وتجد تعبيراتها المختلفة في أطروحات رجال الدين.
لا يهمنا هنا الربط بين الظواهر الطبيعية العديدة التي كانت تهدد الإنسان، وبين تعدد الآلهة لدى التجمعات البشرية البدائية، وحتى عند الحضارات القديمة، وفهم بذور الطوطمية في تلك المراحل السحيقة من الزمن، والتي تجد تفسيراتها في خوف الإنسان من تلك الظواهر وجهله لأسبابها، وبالتالي ربطها بقوى ما ورائية خارقة كان يلتمس رضاها بالقرابين، إنما نسعى لفهم مبررات تخوف المؤمنين بمختلف دياناتهم من التفسيرات التي يقترحها العلم، والتي تخلو من التفسيرات الغيبية، ولا تربط الظواهر المادية – بما فيها نشأة الحياة نفسها – بقوى ميتافيزيقية متحكمة في كل شيء.
فعندما تقدم دارون بنظريته الشهيرة في النشوء وارتقاء ثارت في وجهه الكنيسة، لأن نظريته تتعارض مع الكتاب المقدس الذي يصر أن تاريخ البشرية على الأرض لا يتجاوز عمره ستة آلاف سنة، وأن تطور الكائنات عن بعضها يتعارض مع فكرة أن الله سبحانه خلق جميع الكائنات بشكلها الحالي دفعة واحدة.
وبينما يصر التطوريون أن أصل الإنسان يعود إلى نحو ستة ملايين سنة، وأن جميع الكائنات تتشارك في سلف واحد، عبارة عن خلية بدائية تخلقت في ظروف معقدة قبل مليارات السنين، وتطورت وتناسلت منها كافة أشكال الحياة دون أن تنسب ذلك لخالق أبدعها وصوّرها. وللخروج من هذه المعضلة اقترح بعض المتدينين المتنورين – إذا جاز التعبير – نفس الحل الذي اقترحه نيوتن وكيبلر وغاليليو من قبلهم حول نشأة الكون، فقالوا أن أصل الحياة يعود لخلية حية خلقها الله سبحانه وأودع فيها قانون التطور، ويقترح بعض المفكرين الإسلاميين حلا توافقيا لحلقة دارون المفقودة في مسلسل نشأة وتطور الإنسان، فيقول مثلا المفكر السوري د. محمد شحرور: أن الله سبحانه اصطفى آدم من بين المجموعات البشرية التي كانت تسكن الأرض - وتعيث فيها فسادا وتسفك الدماء – ليكون خليفته، فنفخ فيه من روحه، ومنحه العقل المفكر ووهبه ميزة الكلام وعلمه الأسماء كلها، وأتاح له الفرصة ليتكاثر وينجب من ذريته الإنسان الحديث.
وللوصول للحقيقة المجردة، سنجد أنفسنا مرة ثانية غارقين في دوامة الأسئلة المعقدة، وأمام تيارين متناقضين يسعى كل منهما لإثبات وجهة نظره بالأدلة العلمية مع تسخيف وجهة النظر المقابلة، وبأسلوب يخلو أحيانا من احترام ذكاء الباحث، فلا يكفي أن نقول أن العالم الفلاني قال كذا، دون أن نعرف من هو هذا العالم، ودون أن تتاح لنا إمكانية التأكد من صحة أبحاثه، ولا يكفي كوْن العالم الفلاني أجنبي أو أنه من جامعة معروفة أن قوله هو الحق الذي لا يأتيه الباطل من خلفه ولا من أمامه، فكثير من الباحثين يعملون لصالح شركات ربحية تموّل أبحاثهم بهدف تأكيد مسألة معينة ستعود عليهم بالربح، وبعض الباحثين يتلقون رشاوى من مؤسسات دينية للوصول إلى نتائج معينة، وبعضهم يطوّع أدواته وأبحاثه لتأكيد قناعة معينة راسخة في ذهنه ويعتبرها من البديهيات، وكثير من الأبحاث تفتقر للمنهج العلمي، وكثير من الأسماء الواردة في المقالات والدراسات هي وهمية ولا أصل لها، وكثير من المقولات نُسبت زورا لأصحابها، أو اقتبست بطريقة مجتزأة.
الوصول للحقيقة العلمية يتطلب طرح المقدس جانبا، والتخلي عن كل البديهيات والمسلّمات والآراء المسبقة والأحكام الأخلاقية والوصفات الجاهزة. الحقيقة المجردة تتطلب منا أن نأتيها حفاة، مجردين من الموروثات التي سكنتنا طويلا، لنرتدي ثوب العلم، ونستخدم أدواته الصارمة والحازمة دون أن نعبأ بالنتائج.
فهل لدينا الشجاعة الكافية لنفعل ذلك ؟!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق