بعد أن ورثنا حصتنا من تاريخ وجغرافية هذا الكون، وفرحنا بها لزمن طويل، اكتشفنا متأخرين أن هذه الحصة بالغة الضئالة والتواضع إلى حد الشفقة، وأنها لا تتجاوز حبة رمل في شواطئ البحار والمحيطات على كواكب مليار مجرة .. وأنَّ كل عمر البشرية ليس أكثر من ومضةٍ خاطفة من عمر الكون المنبثق بكل غموض من الأزل، والسائر بكل جنون إلى ما لا نهاية .. كونٌ ممتد ومتسع بما يفوق الخيال .. ليس فيه شمال ولا جنوب .. تختلط فيه الأزمان .. يتداخل فيه الماضي مع المستقبل، والمكان مع الزمان .. فضاءٌ يلفه ظلام دامس، وبرودة أشد من الزمهرير .. ما يلبث قليلا حتى يستحيل إلى نجم متفجر بالجحيم .. وقوده الانفجارات النووية، أو ثقباً أسود يبتلع كل ما يحيط به من كواكب ومجرات، حتى شعاع الضوء لا ينفذ منه .. تترامى أطرافه وتتباعد .. ويسافر بنا بعيدا بعيداً متجاوزا حدود الإدراك ..
منذ زمن سحيق موغل في القدم .. وعند أحد أطراف هذا الكون .. وفي ركن قصي مجهول منه .. وُلد كوكبنا .. وفي ربع الساعة الأخيرة من يومه الطويل بدأت تنبثق من ثناياه أشكالٌ بدائية للحياة، ما لبثت حتى تعقدت وتطورت وتشكلت، وملأت الآفاق بما لا يُعد ولا يحصى من أنواع وأجناس وأصناف .. كان آخرها وأرقاها وأعقلها بنو البشر، الكائنات الوحيدة التي انعزلت عن الطبيعة، بعد أن تعايشت معها طويلا وراقبتها وتفوقت عليها.
كان المناخ مجافياً، والمكان قفراً، والأرضُ يباب .. ومع ذلك انتصب الإنسانُ على قدميه وملأ المكان، وتشكلت حول دماغه قشرة مكنته من التفكير والتبصر، وداخل حنجرته نمت أحبالٌ صوتية تولدت منها اللغات .. منذ ذلك الحين وهو سائر في رحلته السرمدية في البحث عن معنى لوجوده، وعن جدوى للحياة.
شظف العيش وقسوة الحياة لم تمنعان الإنسان عن التأمل والتفكير .. في ذاته ومحيطه، وما ورائهما .. بل أن هذا ما دعاه لذلك، فالعقل البشرى لا يبدأ بالتفكير من تلقاء ذاته دون محفزات، فهو يفكر ويُبدع من خلال أوامر نفسية مختبئة في الأعماق، تبحث عن الراحة وتتوسل البعد عن أسباب الألم .. تسعى لتأمين الحاجات، والنجاة من الأخطار، وهذا بالضبط ما يدفع ماكينات العقل للتفكير، والمحاولة المستمرة لتقديم إبداعات وحِيَل ومناورات في إطار تفاعل الإنسان مع بيئته.
مشكلة الإنسان الأزلية أنه امتلك الوعي الذي جعله منفصلا عن الطبيعة، بعد أن كان جزءً منها ينعم فيها بالسكينة والأمان، فاجتاحته الأسئلة تباعاً، واقتحمت سكونه الزائف لتنهيه وللأبد، فما كان منه إلا أن حمل أسئلته واقتحم بها المدى، وشرعها أمام مرآته وأمام الكائنات، ليهدئ نفسه الملتاعة، ويعيد لها توازنها، حتى لو كان ذلك في واحة من الخرافة والأوهام. لتتصاعد الأنا الداخلية في نفسه المضطربة، رافضةً لفكرة الفناء والتبدد، أو العبث واللاجدوى من وجوده، مستعيضا عنها بوهم الخلود، وأنه سيد الكائنات ومحور الكون، وليبدأ رحلته الشاقة والمضنية في تنظيم حياته وفرض سيادته على محيطه.
في خضم معترك الحياة وبسبب زخمها المتزايد، توقف الإنسان عن التفكير في جدوى وجوده، أو ضَعُفَ لديه هذا الاتجاه لصالح البحث عن أنماط الحياة نفسها، والغرق في تفاصيلها الكثيرة، إما بسبب صعوبة السؤال، أو الخوف من الإجابة، أو لكسل ذهني كان يدعوه على الدوام إلى الراحة والدعة، ولكن هذا كله لا يمنعنا من إعادة طرح السؤال: هل لوجود الإنسان معنى وقيمة، تختلف في جوهرها عن أي وجود حياتي آخر ؟
إحدى الإجابات تزعم أن الفرق بين الإنسان وغيره من الكائنات أنه واعٍ لوجوده ومدرك له خلافا لبقية الخلق، فالسمكة مثلا تولد وتعيس وتموت دون أن تعي أنها سمكة. بينما الإنسان لم يكف عن الفلسفة لحظة واحدة.
إجابة أخرى تزعم أن حياة الإنسان سلسلة متصلة من الحاجة والإشباع، تبدأ لحظة ولادته وتنتهي بموته ليتبدد حينها كل شيء، وما بين الولادة والموت صراعٌ دائم مع الطبيعة، وبحثٌ لا يتوقف عن إشباع الحاجات، وحتى لو كانت هذه الحاجات أفكارا معقدة وأحلاما رومانسية وعقائد دينية فهي لن تخرج عن حدود البحث عن الحاجة. أو الرغبة المرصودة في إشباع الحاجات الثانوية، كالحاجة إلى إثبات الذات، أو الإحساس بالقيمة، أو خدمة أيديولوجيا معينة، لكنها في نهاية المطاف بموت صاحبها تذوب وتختفي وتتبخر معها كل الذكريات والصور، ولا يعود لها وجود وتتحول إلى شكل آخر في دورة الطبيعة، كحاسوب معطل تحول إلى منضدة طعام.
إجابة أخرى تقر بأن الإنسان يموت ويتحلل، ولكن الأفكار لا تموت أبداً، بل تنمو وتتطور وتتناقلها الأجيال. ولكن السؤال المعلق: ماذا يستفيد الميت من الأفكار، وهل الأفكار وجدت لخدمة الإنسان أم العكس ؟ فكما أن نظريات الاقتصاد الحديثة لا تفيد من عاشوا مرحلة البداوة والرعي على سبيل المثال، فإن الأفكار المعاصرة قد تشكل قيدا وعبئا على المستقبل. أي أن السؤال المطروح هو هل جدوى وجود الإنسان في خدمته للأفكار والعقائد ؟؟ أم أنه اخترع هذه الأفكار ليعطي لوجوده جدوى ؟!
بدلا من البحث عن جدوى الوجود وفهم مغزى الحياة من خلال الغرق داخل دائرة الحياة نفسها، لنعيد طرح السؤال من خارج الدائرة: ما الجدوى من هذه الحلقات المتصلة من الحاجة والسعي لإشباعها ثم الانتهاء بالموت ؟ ماذا بعد كل هذه الحلقات العبثية بين الجوع والشبع والألم والمتعة والراحة والشقاء ؟ ما الغاية من هذه الحياة؟!
تزعم إجابة أخرى أن الإنسان طوال رحلة بحثه عن إجابة وهو يتوجس خيفة من اللحظة القادمة، لأنها دوما تحمل في أحشاءها المجهول. ويرفض أن تكون قوانين المادة غير الواعية هي المتحكمة في مصائره ووعيه .. بينما هي - كما تزعم - تتحكم في كل لحظة قادمة لأنها تحمل معطياتها المادية وقانونها الخاص الذي لا يقبل الخطأ، ولا يقوم على الاحتمالات.
ويزعم آخرون أن قصة الإنسان على الأرض عبارة عن مسرحية عبثية، رغم كل ما يُطرح من رؤى وإسقاطات كثيرة على واقعها، إلا أنها تدهشنا بعدها أن هذا الواقع ليس أكثر من مجرد فانتازيا .ولكن الإنسان بوعيه وبعقله الباطن ظل رافضا لفكرة العبثية واللاجدوى، لأنها تحط من قيمته وتحطم كبريائه وتجرده من أحلامه .. لأنها تشعره أنه ليس أكثر من نقطة جرت في نهر .. أو فراشة حطت على ظهر فيل .. ومن أجل ذلك ولتفادي هذا الوقوع المدوي، صاغ كل نظرياته عن الحياة وقيمتها وأهدافها .. وكان لزاما عليه أن يؤمن بكل هذا .
الدين هو حظ كل فرد من الجغرافيا ونصيبه من التاريخ .. هو نتاج وجوده - وبلا إرادة منه - في بيئة حاضنة تُصدِّر له مشاعر وأحاسيس معينة مُفعمة بالعاطفة وتدعوه للانتماء له، قبل أن تلقى عليه مفرداته الإيمانية .هذه البيئة قادرة على منحه قسطا وافرا من الإحساس بالأمان، وتأمين حاجته من المأثورات التي تجيب على أي سؤال قد يستفزه، وتزويده قدرا من العاطفة لتغرس فيه حب المكان وتبجيله .. وتتجلى أهميتها في قدرتها المدهشة على ابتكار "المقدس"، الذي ما أن يتم قبوله ويجد له مكانا في القلب حتى يبدأ بنقل كل حمولته من الفلسفة إلى العقل، والتي معها تتسلل كل أنواع الخرافة. وعندها يكون الفرد على أتم الاستعداد لتلقي مجموعة هائلة من الغيبيات عن طريق التلقين والوراثة، فيتعامل معها كبديهيات ومسلمات، لا تحتاج أي تفكير .
وكل فرد فينا - حتى لو كان عالما - في عقله مساحة معينة من الخرافة والأوهام، ذلك لأننا نلنا حظا ً وافرا ً من التلقين والرضاعة العاطفية، جعلتنا نجد ذواتنا ونستشعر أماننا من خلال الارتباط بكل ما اختبرته طفولتنا من أوهام، تمنحنا سلاما ً وسكينة ً نرغب بشدة أن نستحضرها في كل مرة من حيث لا ندري، فالانتماء والوراثة هما حجر الزاوية الذي تتأسس عليه المنظومة الإيمانية.
الأديان قدمت الإجابة الأسهل والأبسط على سؤال جدوى الحياة، الأديان السماوية أجمعت على أن الغاية من خلق الإنسان وإسكانه الأرض هو عبادة الله سبحانه، { وما خلقت الإنس والجن إلا ليعبدون} ولذلك سيجد المؤمن في الدين واحة الأمان والطمأنينة، وهناك ستهدأ نفسه الملتاعة الخائفة، وسيرتاح عقله القلق، وسيكف عن البحث والتقصي، فلم يعد من حاجة للسؤال. ولكن الإنسان قبل نزول هذه الآية الكريمة بآلاف السنين، وبعد أن عرفها بآلاف السنين ما زال يعيش ويحيا كما لو أنه لم يسمع بها، فهو منغمس في تفاصيل حياته ودنياه، وماضٍ في الغوص في ثناياها، مستلذا بنعيمها، أو مكتويا بآلامها ومعاناتها. ورغم وجودها ما زال يحاول حل لغز الحياة، ويطرح على نفسه ذات الأسئلة: لماذا جئنا ؟ وإلى أين نحن ماضون ؟
في سياق بحثه عن الإجابة، تحايل الإنسان على نفسه بطرق شتى، تعاطى مع الأفكار كما لو أنها حقائق، ارتمى في أحضان الجماعة ليقنع نفسه أنه ليس الوحيد الذي يردد ما يقال، سلم عقله على عتبة المقدس ليدخله بدونه، ناور قليلا ثم استسلم للمأثور والغيبي، لعله يجد هناك الأمان النفسي ويحقق السلام الداخلي. أو ليقنع نفسه أن لوجوده معنى عظيم وغاية أعظم.
لا شك أن الإيمان يمنح اليقين، وأن اليقين يمنح السكينة، وهذا مبتغى الإنسان وغايته، فلماذا نعقّد ما يمكن تبسيطه ؟! وإذا كان الإيمان حالة متخيلة، وشعور وجداني يحقق منفعة مادية للإنسان، فإن هذا لا ينتقص من قيمته شيء، خاصة إذا اقترن هذا الإيمان بالحب، وتخلص من أدران الانتماء العصبوي والطائفي، واتجه كليا نحو غايته الإنسانية بكل سموها ورفعتها.
فإلى جانب الإيمان يأتي الحب بكل قيمه وتجلياته السامية، ليعطيان معنى للحياة، وحتى لو كانا عبارة عن حاجة مادية أخرى تتطلبها النفس الإنسانية، وليسا مجرد مشاعر محلقة وأفكار معلقة بالفضاء .. فهما يلبيان هذه الحاجات بأرقى الأشكال، ويمنحان الإحساس بالمتعة والفرح والتأمل. ويحققان ما يصبوا إليه الإنسان من أمان وصفاء داخلي، فهما معا منفعة وجدت غايتها، حتى لو كانت إجابتهما على السؤال ضربا من الأوهام.
الحب لوحده أو مقترنا بالإيمان يقدم دعوة حقيقية وواعية للإنسان لأن يعيش مشروع تواجده الإنساني على هذا الكوكب، وليُخرج الحياة من عدميتها ويمنح للوجود معنى وجدوى .وليس هذا وحسب فبالحب نخلق عالمنا الجديد، ونجعل له قيمة، ونجعل لحياتنا غاية، وأنها ليست مجرد لحظة عابرة في تاريخ الكون .
منذ زمن سحيق موغل في القدم .. وعند أحد أطراف هذا الكون .. وفي ركن قصي مجهول منه .. وُلد كوكبنا .. وفي ربع الساعة الأخيرة من يومه الطويل بدأت تنبثق من ثناياه أشكالٌ بدائية للحياة، ما لبثت حتى تعقدت وتطورت وتشكلت، وملأت الآفاق بما لا يُعد ولا يحصى من أنواع وأجناس وأصناف .. كان آخرها وأرقاها وأعقلها بنو البشر، الكائنات الوحيدة التي انعزلت عن الطبيعة، بعد أن تعايشت معها طويلا وراقبتها وتفوقت عليها.
كان المناخ مجافياً، والمكان قفراً، والأرضُ يباب .. ومع ذلك انتصب الإنسانُ على قدميه وملأ المكان، وتشكلت حول دماغه قشرة مكنته من التفكير والتبصر، وداخل حنجرته نمت أحبالٌ صوتية تولدت منها اللغات .. منذ ذلك الحين وهو سائر في رحلته السرمدية في البحث عن معنى لوجوده، وعن جدوى للحياة.
شظف العيش وقسوة الحياة لم تمنعان الإنسان عن التأمل والتفكير .. في ذاته ومحيطه، وما ورائهما .. بل أن هذا ما دعاه لذلك، فالعقل البشرى لا يبدأ بالتفكير من تلقاء ذاته دون محفزات، فهو يفكر ويُبدع من خلال أوامر نفسية مختبئة في الأعماق، تبحث عن الراحة وتتوسل البعد عن أسباب الألم .. تسعى لتأمين الحاجات، والنجاة من الأخطار، وهذا بالضبط ما يدفع ماكينات العقل للتفكير، والمحاولة المستمرة لتقديم إبداعات وحِيَل ومناورات في إطار تفاعل الإنسان مع بيئته.
مشكلة الإنسان الأزلية أنه امتلك الوعي الذي جعله منفصلا عن الطبيعة، بعد أن كان جزءً منها ينعم فيها بالسكينة والأمان، فاجتاحته الأسئلة تباعاً، واقتحمت سكونه الزائف لتنهيه وللأبد، فما كان منه إلا أن حمل أسئلته واقتحم بها المدى، وشرعها أمام مرآته وأمام الكائنات، ليهدئ نفسه الملتاعة، ويعيد لها توازنها، حتى لو كان ذلك في واحة من الخرافة والأوهام. لتتصاعد الأنا الداخلية في نفسه المضطربة، رافضةً لفكرة الفناء والتبدد، أو العبث واللاجدوى من وجوده، مستعيضا عنها بوهم الخلود، وأنه سيد الكائنات ومحور الكون، وليبدأ رحلته الشاقة والمضنية في تنظيم حياته وفرض سيادته على محيطه.
في خضم معترك الحياة وبسبب زخمها المتزايد، توقف الإنسان عن التفكير في جدوى وجوده، أو ضَعُفَ لديه هذا الاتجاه لصالح البحث عن أنماط الحياة نفسها، والغرق في تفاصيلها الكثيرة، إما بسبب صعوبة السؤال، أو الخوف من الإجابة، أو لكسل ذهني كان يدعوه على الدوام إلى الراحة والدعة، ولكن هذا كله لا يمنعنا من إعادة طرح السؤال: هل لوجود الإنسان معنى وقيمة، تختلف في جوهرها عن أي وجود حياتي آخر ؟
إحدى الإجابات تزعم أن الفرق بين الإنسان وغيره من الكائنات أنه واعٍ لوجوده ومدرك له خلافا لبقية الخلق، فالسمكة مثلا تولد وتعيس وتموت دون أن تعي أنها سمكة. بينما الإنسان لم يكف عن الفلسفة لحظة واحدة.
إجابة أخرى تزعم أن حياة الإنسان سلسلة متصلة من الحاجة والإشباع، تبدأ لحظة ولادته وتنتهي بموته ليتبدد حينها كل شيء، وما بين الولادة والموت صراعٌ دائم مع الطبيعة، وبحثٌ لا يتوقف عن إشباع الحاجات، وحتى لو كانت هذه الحاجات أفكارا معقدة وأحلاما رومانسية وعقائد دينية فهي لن تخرج عن حدود البحث عن الحاجة. أو الرغبة المرصودة في إشباع الحاجات الثانوية، كالحاجة إلى إثبات الذات، أو الإحساس بالقيمة، أو خدمة أيديولوجيا معينة، لكنها في نهاية المطاف بموت صاحبها تذوب وتختفي وتتبخر معها كل الذكريات والصور، ولا يعود لها وجود وتتحول إلى شكل آخر في دورة الطبيعة، كحاسوب معطل تحول إلى منضدة طعام.
إجابة أخرى تقر بأن الإنسان يموت ويتحلل، ولكن الأفكار لا تموت أبداً، بل تنمو وتتطور وتتناقلها الأجيال. ولكن السؤال المعلق: ماذا يستفيد الميت من الأفكار، وهل الأفكار وجدت لخدمة الإنسان أم العكس ؟ فكما أن نظريات الاقتصاد الحديثة لا تفيد من عاشوا مرحلة البداوة والرعي على سبيل المثال، فإن الأفكار المعاصرة قد تشكل قيدا وعبئا على المستقبل. أي أن السؤال المطروح هو هل جدوى وجود الإنسان في خدمته للأفكار والعقائد ؟؟ أم أنه اخترع هذه الأفكار ليعطي لوجوده جدوى ؟!
بدلا من البحث عن جدوى الوجود وفهم مغزى الحياة من خلال الغرق داخل دائرة الحياة نفسها، لنعيد طرح السؤال من خارج الدائرة: ما الجدوى من هذه الحلقات المتصلة من الحاجة والسعي لإشباعها ثم الانتهاء بالموت ؟ ماذا بعد كل هذه الحلقات العبثية بين الجوع والشبع والألم والمتعة والراحة والشقاء ؟ ما الغاية من هذه الحياة؟!
تزعم إجابة أخرى أن الإنسان طوال رحلة بحثه عن إجابة وهو يتوجس خيفة من اللحظة القادمة، لأنها دوما تحمل في أحشاءها المجهول. ويرفض أن تكون قوانين المادة غير الواعية هي المتحكمة في مصائره ووعيه .. بينما هي - كما تزعم - تتحكم في كل لحظة قادمة لأنها تحمل معطياتها المادية وقانونها الخاص الذي لا يقبل الخطأ، ولا يقوم على الاحتمالات.
ويزعم آخرون أن قصة الإنسان على الأرض عبارة عن مسرحية عبثية، رغم كل ما يُطرح من رؤى وإسقاطات كثيرة على واقعها، إلا أنها تدهشنا بعدها أن هذا الواقع ليس أكثر من مجرد فانتازيا .ولكن الإنسان بوعيه وبعقله الباطن ظل رافضا لفكرة العبثية واللاجدوى، لأنها تحط من قيمته وتحطم كبريائه وتجرده من أحلامه .. لأنها تشعره أنه ليس أكثر من نقطة جرت في نهر .. أو فراشة حطت على ظهر فيل .. ومن أجل ذلك ولتفادي هذا الوقوع المدوي، صاغ كل نظرياته عن الحياة وقيمتها وأهدافها .. وكان لزاما عليه أن يؤمن بكل هذا .
الدين هو حظ كل فرد من الجغرافيا ونصيبه من التاريخ .. هو نتاج وجوده - وبلا إرادة منه - في بيئة حاضنة تُصدِّر له مشاعر وأحاسيس معينة مُفعمة بالعاطفة وتدعوه للانتماء له، قبل أن تلقى عليه مفرداته الإيمانية .هذه البيئة قادرة على منحه قسطا وافرا من الإحساس بالأمان، وتأمين حاجته من المأثورات التي تجيب على أي سؤال قد يستفزه، وتزويده قدرا من العاطفة لتغرس فيه حب المكان وتبجيله .. وتتجلى أهميتها في قدرتها المدهشة على ابتكار "المقدس"، الذي ما أن يتم قبوله ويجد له مكانا في القلب حتى يبدأ بنقل كل حمولته من الفلسفة إلى العقل، والتي معها تتسلل كل أنواع الخرافة. وعندها يكون الفرد على أتم الاستعداد لتلقي مجموعة هائلة من الغيبيات عن طريق التلقين والوراثة، فيتعامل معها كبديهيات ومسلمات، لا تحتاج أي تفكير .
وكل فرد فينا - حتى لو كان عالما - في عقله مساحة معينة من الخرافة والأوهام، ذلك لأننا نلنا حظا ً وافرا ً من التلقين والرضاعة العاطفية، جعلتنا نجد ذواتنا ونستشعر أماننا من خلال الارتباط بكل ما اختبرته طفولتنا من أوهام، تمنحنا سلاما ً وسكينة ً نرغب بشدة أن نستحضرها في كل مرة من حيث لا ندري، فالانتماء والوراثة هما حجر الزاوية الذي تتأسس عليه المنظومة الإيمانية.
الأديان قدمت الإجابة الأسهل والأبسط على سؤال جدوى الحياة، الأديان السماوية أجمعت على أن الغاية من خلق الإنسان وإسكانه الأرض هو عبادة الله سبحانه، { وما خلقت الإنس والجن إلا ليعبدون} ولذلك سيجد المؤمن في الدين واحة الأمان والطمأنينة، وهناك ستهدأ نفسه الملتاعة الخائفة، وسيرتاح عقله القلق، وسيكف عن البحث والتقصي، فلم يعد من حاجة للسؤال. ولكن الإنسان قبل نزول هذه الآية الكريمة بآلاف السنين، وبعد أن عرفها بآلاف السنين ما زال يعيش ويحيا كما لو أنه لم يسمع بها، فهو منغمس في تفاصيل حياته ودنياه، وماضٍ في الغوص في ثناياها، مستلذا بنعيمها، أو مكتويا بآلامها ومعاناتها. ورغم وجودها ما زال يحاول حل لغز الحياة، ويطرح على نفسه ذات الأسئلة: لماذا جئنا ؟ وإلى أين نحن ماضون ؟
في سياق بحثه عن الإجابة، تحايل الإنسان على نفسه بطرق شتى، تعاطى مع الأفكار كما لو أنها حقائق، ارتمى في أحضان الجماعة ليقنع نفسه أنه ليس الوحيد الذي يردد ما يقال، سلم عقله على عتبة المقدس ليدخله بدونه، ناور قليلا ثم استسلم للمأثور والغيبي، لعله يجد هناك الأمان النفسي ويحقق السلام الداخلي. أو ليقنع نفسه أن لوجوده معنى عظيم وغاية أعظم.
لا شك أن الإيمان يمنح اليقين، وأن اليقين يمنح السكينة، وهذا مبتغى الإنسان وغايته، فلماذا نعقّد ما يمكن تبسيطه ؟! وإذا كان الإيمان حالة متخيلة، وشعور وجداني يحقق منفعة مادية للإنسان، فإن هذا لا ينتقص من قيمته شيء، خاصة إذا اقترن هذا الإيمان بالحب، وتخلص من أدران الانتماء العصبوي والطائفي، واتجه كليا نحو غايته الإنسانية بكل سموها ورفعتها.
فإلى جانب الإيمان يأتي الحب بكل قيمه وتجلياته السامية، ليعطيان معنى للحياة، وحتى لو كانا عبارة عن حاجة مادية أخرى تتطلبها النفس الإنسانية، وليسا مجرد مشاعر محلقة وأفكار معلقة بالفضاء .. فهما يلبيان هذه الحاجات بأرقى الأشكال، ويمنحان الإحساس بالمتعة والفرح والتأمل. ويحققان ما يصبوا إليه الإنسان من أمان وصفاء داخلي، فهما معا منفعة وجدت غايتها، حتى لو كانت إجابتهما على السؤال ضربا من الأوهام.
الحب لوحده أو مقترنا بالإيمان يقدم دعوة حقيقية وواعية للإنسان لأن يعيش مشروع تواجده الإنساني على هذا الكوكب، وليُخرج الحياة من عدميتها ويمنح للوجود معنى وجدوى .وليس هذا وحسب فبالحب نخلق عالمنا الجديد، ونجعل له قيمة، ونجعل لحياتنا غاية، وأنها ليست مجرد لحظة عابرة في تاريخ الكون .
رائع جدا ... تساؤلات مشروعة وغوص في عمق الشعور الإنساني ... التواجد الإنساني والحب والقيم ... رائع للغاية قد كتبت فأبدعت كعادتك
ردحذف