تختلف الإدارة الأمريكية الحالية عن سابقاتها بأنها بدأت بالاهتمام بقضايا الشرق الأوسط في وقت مبكر، الأمر الذي يعكس وعيا أمريكيا جديدا ومختلفا، هذه المرة تمثله عقلية "أوباما" وما استخلصه من عبر من طريقة الإدارات السابقة في تعاطيها مع الشأن الفلسطيني، وقناعته بأن حل الصراع وفق حل الدولتين، يسهم في تخفيف العداء العربي الإسلامي للولايات المتحدة، وفي حماية أرواح الجنود الأميركيين المنتشرين في المنطقة. وبالتالي فإن المفاوضات وما سيليها من نتائج وصولا إلى إعلان الدولة الفلسطينية، ستخدم مصلحة أمريكا بشكل خاص.
مثل هذه القناعات كانت قد تولدت عند الإدارة السابقة في عهد "بوش"، ولكن تركيبة الإدارة آنذاك وأولوياتها وطبيعة المرحلة لم تكن لتسمح بنضوج مثل هذا الحل، وعندما جاء "أوباما" دشن عهده بالخطاب الشهير في القاهرة الموجه إلى العالم الإسلامي، وأعلن عن رغبته ببدء عهد جديد من العلاقات تقوم على الاحترام والشراكة، ثم سعت إدارته ومنذ البداية إلى استئناف المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين على أمل التوصل إلى اتفاق نهائي خلال عامين، غير أنها اصطدمت بتطرف حكومة "نتنياهو" وتعنتها، خاصة فيما يتعلق بتجميد الاستيطان ومرجعية المفاوضات وهدفها النهائي.
كان من المفترض – استنادا للمصلحة الأمريكية بالدرجة الأولى – أن تضغط أمريكا بكل ثقلها على إسرائيل لحملها على قبول الحل الدولي للصراع وتنفيذه، ولكن إدارة "أوباما" وعلى ما يبدو اصطدمت بجملة من المعطيات السياسية التي لم تشجعها على ممارسة مثل هذا الضغط، وأهم هذه المعطيات هو ضعف الموقف العربي الرسمي، وعدم استخدام العرب لغة المصالح مع أمريكا أو مع العالم بشكل عام، ثم هنالك الانقسام الفلسطيني، يقابل ذلك كله موقف إسرائيلي متعنت مدعوم من اللوبي الصهيوني، في المحصلة رضخت الإدارة الأمريكية للموقف الإسرائيلي، وتبنت موقفها الداعي لتجميد الاستيطان بدلاً من وقفه كليا، ثم قبلت بالتجميد الجزئي، ووافقت كحل وسط على حل يتمثل بالمفاوضات غير المباشرة على أمل الانتقال بأسرع وقت ممكن إلى المفاوضات المباشرة.
في مستهل العام الماضي 2010 وتحت الضغط الأمريكي وافقت السلطة الفلسطينية وعلى مضض على التفاوض غير المباشر مع إسرائيل، بالرغم من قناعتها باستحالة التوصل إلى أي اتفاق مع تلك الحكومة الإسرائيلية، إلا أنها أرادت من خلال ذلك إثبات أن المشكلة عند إسرائيل، وأنها هي من تقف عائقاً أمام التوصل إلى اتفاق سلام نهائي. وبالتالي فإن السلطة كانت تأمل أن يؤدي موقفها هذا إلى دفع الولايات المتحدة إلى طرح خطتها للسلام وبقوة بعد أن يتضح لها حقيقة الموقف الإسرائيلي، أو على الأقل عدم استخدامها حق النقض عند توجه الجانب العربي إلى مجلس الأمن للحصول على الموافقة على إعلان دولة فلسطينية.
وما شجع السلطة الفلسطينية على الموافقة آنذاك، إعلان حكومة "نتنياهو" عن قرارها تجميد مؤقت للاستيطان لمدّة عشرة أشهر. تبعه تجديد التفويض العربي للسلطة الفلسطينية أثناء قمة طرابلس لخوض المفاوضات، ولكن وبعد مدة من انطلاق المفاوضات ومع حلول شهر أيلول/سبتمبر، موعد انتهاء المهلة الممنوحة من الجامعة العربية لتقييم جدوى الاستمرار بالمفاوضات، وموعد انتهاء مهلة التجميد المؤقت للاستيطان عبّرت القيادة الفلسطينية عن خيبتها من النتائج المتواضعة لها والتي وصفتها بأنها صفر كبير.
في أيلول الماضي وبسبب السياسة الأمريكية المنحازة وصلت المنطقة إلى مأزق سياسي خسرت فيه جميع الأطراف، ولكن المأزق الكبير سيكون في أيلول القادم، وسيكون من العيار الثقيل. ومن المتوقع أن الجميع سيدفع فيه الثمن، أمريكا ستدفع ثمن فشلها بمزيد من أعمال العنف وتهيئة المسرح لحروب جديدة قد تخرج عن سيطرتها، إسرائيل قد تجد نفسها في مواجهة انتفاضة ثالثة، أو ظهور قيادات أكثر راديكالية، وتعميق عزلتها السياسية وتعاظم حملات الإدانة الدولية ضدها، أما الثمن الأكبر فسيدفعه كالعادة الفلسطينيون لأنهم الطرف الأضعف في المعادلة.
وكما هو محتم فإنه في غضون شهرين سنكون على موعد مع استحقاق سبتمبر. السلطة الوطنية تعد العدة لانتزاع اعتراف عالمي بالدولة الفلسطينية، والحصول على عضوية كاملة في هيئة الأمم المتحدة، ومن أجل ذلك بدأت منذ فترة بحشد تأييد عالمي لهذه الخطوة، وفي المقابل أعربت الولايات المتحدة عن معارضتها لهذه الخطوة، وهددت باستخدام حق النقض إذا ما طُرحت القضية في مجلس الأمن، وإسرائيل من جهتها قلقة جدا، وقد بدأت بالتهديد بوقف تحويل إيرادات الضرائب الفلسطينية، وتشديد الحصار على السلطة، وقف تسهيلات التحرك لقيادات السلطة. وفي قلب هذا المشهد المعقد والمفتوح على كل الاحتمالات، يحبس الشعب الفلسطيني أنفاسه، ويراقب بحذر ومعه بقية العالم ما ستؤول إليه الأمور.
فالسلطة الفلسطينية ليست في أفضل حالاتها، والعالم العربي وبسبب الثورات الشعبية يعيش حالة مخاض عسيرة، ويشهد مرحلة انتقالية دقيقة، تجعل من قدرته على التأثير أقل مما يتطلبه حسم هذه المعركة الدبلوماسية لصالح الحق الفلسطيني، وفي الجهة المقابلة تواصل إسرائيل سياسة التجاهل للشرعية الدولية، والاستخفاف بالمجتمع الدولي، رغم سمعتها السيئة وتعرضها لموجات من النقد وتحميلها مسؤولية تعثر العملية السلمية، إلا أنها تتقوى بالدعم الأمريكي، وعدم ارتقاء الموقف الأوروبي لمستوى الحدث، وعلى ضوء ذلك فإن التكهن بنتائج الأمور ما زال مبكرا رغم وضوح بعض المعطيات.
وللهروب إلى الأمام من هذا المأزق فإن أمريكا وإسرائيل ستضغطان بكل قوة على الجانب الفلسطيني لعدم التوجه إلى الأمم المتحدة، وعوضا عن ذلك ستطلبان من السلطة الدخول في مفاوضات مباشرة، تريد إسرائيل من خلالها التهرب من استحقاقات أيلول، واستكمال مخططها بتهويد القدس والاستيلاء على الأرض الفلسطينية بدون ضغوط من أحد، وربما أيضا، تريدها غطاء لحرب جديدة على لبنان، أو على غزة لإفشال المصالحة.
إصرار الجانب الأميركي على استخدام الفيتو في مواجهة أي اعتراف بالدولة الفلسطينية، يصعب وصفه بما هو أقل من موقف غريب ومستهجن، لأنه يتناقض مع الرؤية الأمريكية ذاتها، ولأنه تعبير عن السقوط المريع في خانة الانحياز السافر لإسرائيل، أما إصرارها على المفاوضات المباشرة، فما هو إلا تعبير عن رغبة جدية بالانسحاب من ملف المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، لأنها غير قادرة على دفع إسرائيل للموافقة على ما يطلبه الفلسطينيون، حيث لم تتمكن إدارة "أوباما" من الحصول على أي جواب من إسرائيل له قيمة بالنسبة للسلطة. ولأن أميركا لا تريد الاستمرار بلعب دور شاهد الزور بلا ثمن، خاصة وأن المفاوضات غير المباشرة انتهت بالفشل، وبالتالي فإن استمرارها سيفقد إدارة أوباما الكثير من رأسمالها السياسي بينما المفاوضات المباشرة، تتيح لها النأي بنفسها عن الفشل وتحميل مسؤوليته لأطراف الصراع أنفسهم، ومن ناحية ثانية فإن إدارة "أوباما" أصبحت تدفع ثمناً داخلياً بسبب السياسة التي أعلنتها في بداية عهدها، وبما أن الإدارة الديمقراطية مقبلة على انتخابات "رئاسية" فهي لا تريد تأليب جماعات الضغط المؤيدة لإسرائيل عليها.
فلسطينيا: قد يؤدي التمسك بالحق الفلسطيني في انتزاع اعتراف عالمي بالدولة إلى تشديد الحصار على السلطة وربما تخفيض حجم المساعدات وابتزازها بها، ومع ذلك فمن الواضح أن الرئيس محمود عباس، متمسك في حقه في الحصول على دولة في أيلول القادم، ومتشدد في رفضه الذهاب إلى المفاوضات المباشرة إلا بعد أن تقدم إسرائيل أجوبة صريحة على أسئلته المباشرة. كما جاء في بيان المجلس الثوري الذي أشار أن القيادة الفلسطينية تصر على إقرار مرجعية للمفاوضات تتمثل بقبول إسرائيل مبدأ الدولتين على حدود 1967 ووقف كل النشاطات الاستيطانية وبما يشمل القدس، وذلك للدخول إلى المفاوضات المباشرة برعاية دولية وضمن سقف زمني محدد، وبعيداً عن الحدود الانتقالية والدولة ذات الحدود المؤقتة. ولكن السؤال إلى أي مدى تستطيع القيادة الفلسطينية التمسك بموقفها هذا ؟!
التنازل عن استحقاق أيلول والذهاب للمفاوضات المباشرة بدون الاتفاق على تحديد الأهداف النهائية منها، سيضع السلطة في موقف حرج أمام شعبها قد يخسرها شعبيتها وشرعيتها، أما الإصرار على التوجه للأمم المتحدة وعدم الموافقة على استئناف المفاوضات بدون بلورة إستراتيجية جديدة وبديلة فإنه سيضع السلطة أمام تحديات دولية خطيرة، وإذا لم يستند الموقف الفلسطيني إلى سند عربي فاعل ومؤثر فإن المأزق الفلسطيني سيتعمق، وسيكون الفلسطينيون في موقف انحسار الخيارات وربما فقدانها، وربما يمكن ذلك إسرائيل من استيعاب التغير في الموقف الأميركي وحرفه لصالحها، بدلا من تقويته وتحويله إلى سياسة مختلفة تضغط على إسرائيل، وبالتالي على القيادة الفلسطينية بلورة إستراتيجية هجوم جديدة، تبدأ برفض المفاوضات بشكلها المطروح، ورفع سقف المطالب الفلسطينية ثانيا، وفي هذا تقوية لموقفها يمكنها من الخروج من نفق المفاوضات العبثية للوصول إلى مفاوضات جدية تلزم خلالها إسرائيل بتنفيذ الاستحقاقات المطلوبة منها، وفي هذا الإطار فان الإستراتيجية الفلسطينية يجب أن تُبنى بداية على إتمام المصالحة الداخلية، ثم دعم وإسناد المقاومة الشعبية، وتوسيع المشاركة العامة في فعالياتها، وعربيا مطلوب بلورة موقف سياسي واضح والتزام حقيقي بتقديم الدعم السياسي والمادي للشعب الفلسطيني والسلطة الوطنية الفلسطينية وفقاً لقرارات القمة العربية، وتفعيل المقاطعة العربية، أما دوليا فيجب المطالبة بعقد مؤتمر دولي لتحديد أسس عملية السلام وفقاً لقرارات الشرعية الدولية. ومن ثم التوجه إلى مجلس الأمن الدولي للمطالبة بالاعتراف بحدود الدولة الفلسطينية. وعلى القيادة الفلسطينية يجب أن تأخذ بالحسبان أن الإدارة الأميركية الحالية مختلفة عن السابقة، رغم عدم قدرتها حتى الآن على بلورة سياسة متوازنة، وأن انسحاب إدارة "أوباما" من عملية السلام سيكون مؤشرا خطيرا معناه الفعلي هو إقرار أميركي بأن عملية السلام قد وصلت إلى نهايتها. ولكن بعد أن يكون الجميع قد وقع في المأزق.
مثل هذه القناعات كانت قد تولدت عند الإدارة السابقة في عهد "بوش"، ولكن تركيبة الإدارة آنذاك وأولوياتها وطبيعة المرحلة لم تكن لتسمح بنضوج مثل هذا الحل، وعندما جاء "أوباما" دشن عهده بالخطاب الشهير في القاهرة الموجه إلى العالم الإسلامي، وأعلن عن رغبته ببدء عهد جديد من العلاقات تقوم على الاحترام والشراكة، ثم سعت إدارته ومنذ البداية إلى استئناف المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين على أمل التوصل إلى اتفاق نهائي خلال عامين، غير أنها اصطدمت بتطرف حكومة "نتنياهو" وتعنتها، خاصة فيما يتعلق بتجميد الاستيطان ومرجعية المفاوضات وهدفها النهائي.
كان من المفترض – استنادا للمصلحة الأمريكية بالدرجة الأولى – أن تضغط أمريكا بكل ثقلها على إسرائيل لحملها على قبول الحل الدولي للصراع وتنفيذه، ولكن إدارة "أوباما" وعلى ما يبدو اصطدمت بجملة من المعطيات السياسية التي لم تشجعها على ممارسة مثل هذا الضغط، وأهم هذه المعطيات هو ضعف الموقف العربي الرسمي، وعدم استخدام العرب لغة المصالح مع أمريكا أو مع العالم بشكل عام، ثم هنالك الانقسام الفلسطيني، يقابل ذلك كله موقف إسرائيلي متعنت مدعوم من اللوبي الصهيوني، في المحصلة رضخت الإدارة الأمريكية للموقف الإسرائيلي، وتبنت موقفها الداعي لتجميد الاستيطان بدلاً من وقفه كليا، ثم قبلت بالتجميد الجزئي، ووافقت كحل وسط على حل يتمثل بالمفاوضات غير المباشرة على أمل الانتقال بأسرع وقت ممكن إلى المفاوضات المباشرة.
في مستهل العام الماضي 2010 وتحت الضغط الأمريكي وافقت السلطة الفلسطينية وعلى مضض على التفاوض غير المباشر مع إسرائيل، بالرغم من قناعتها باستحالة التوصل إلى أي اتفاق مع تلك الحكومة الإسرائيلية، إلا أنها أرادت من خلال ذلك إثبات أن المشكلة عند إسرائيل، وأنها هي من تقف عائقاً أمام التوصل إلى اتفاق سلام نهائي. وبالتالي فإن السلطة كانت تأمل أن يؤدي موقفها هذا إلى دفع الولايات المتحدة إلى طرح خطتها للسلام وبقوة بعد أن يتضح لها حقيقة الموقف الإسرائيلي، أو على الأقل عدم استخدامها حق النقض عند توجه الجانب العربي إلى مجلس الأمن للحصول على الموافقة على إعلان دولة فلسطينية.
وما شجع السلطة الفلسطينية على الموافقة آنذاك، إعلان حكومة "نتنياهو" عن قرارها تجميد مؤقت للاستيطان لمدّة عشرة أشهر. تبعه تجديد التفويض العربي للسلطة الفلسطينية أثناء قمة طرابلس لخوض المفاوضات، ولكن وبعد مدة من انطلاق المفاوضات ومع حلول شهر أيلول/سبتمبر، موعد انتهاء المهلة الممنوحة من الجامعة العربية لتقييم جدوى الاستمرار بالمفاوضات، وموعد انتهاء مهلة التجميد المؤقت للاستيطان عبّرت القيادة الفلسطينية عن خيبتها من النتائج المتواضعة لها والتي وصفتها بأنها صفر كبير.
في أيلول الماضي وبسبب السياسة الأمريكية المنحازة وصلت المنطقة إلى مأزق سياسي خسرت فيه جميع الأطراف، ولكن المأزق الكبير سيكون في أيلول القادم، وسيكون من العيار الثقيل. ومن المتوقع أن الجميع سيدفع فيه الثمن، أمريكا ستدفع ثمن فشلها بمزيد من أعمال العنف وتهيئة المسرح لحروب جديدة قد تخرج عن سيطرتها، إسرائيل قد تجد نفسها في مواجهة انتفاضة ثالثة، أو ظهور قيادات أكثر راديكالية، وتعميق عزلتها السياسية وتعاظم حملات الإدانة الدولية ضدها، أما الثمن الأكبر فسيدفعه كالعادة الفلسطينيون لأنهم الطرف الأضعف في المعادلة.
وكما هو محتم فإنه في غضون شهرين سنكون على موعد مع استحقاق سبتمبر. السلطة الوطنية تعد العدة لانتزاع اعتراف عالمي بالدولة الفلسطينية، والحصول على عضوية كاملة في هيئة الأمم المتحدة، ومن أجل ذلك بدأت منذ فترة بحشد تأييد عالمي لهذه الخطوة، وفي المقابل أعربت الولايات المتحدة عن معارضتها لهذه الخطوة، وهددت باستخدام حق النقض إذا ما طُرحت القضية في مجلس الأمن، وإسرائيل من جهتها قلقة جدا، وقد بدأت بالتهديد بوقف تحويل إيرادات الضرائب الفلسطينية، وتشديد الحصار على السلطة، وقف تسهيلات التحرك لقيادات السلطة. وفي قلب هذا المشهد المعقد والمفتوح على كل الاحتمالات، يحبس الشعب الفلسطيني أنفاسه، ويراقب بحذر ومعه بقية العالم ما ستؤول إليه الأمور.
فالسلطة الفلسطينية ليست في أفضل حالاتها، والعالم العربي وبسبب الثورات الشعبية يعيش حالة مخاض عسيرة، ويشهد مرحلة انتقالية دقيقة، تجعل من قدرته على التأثير أقل مما يتطلبه حسم هذه المعركة الدبلوماسية لصالح الحق الفلسطيني، وفي الجهة المقابلة تواصل إسرائيل سياسة التجاهل للشرعية الدولية، والاستخفاف بالمجتمع الدولي، رغم سمعتها السيئة وتعرضها لموجات من النقد وتحميلها مسؤولية تعثر العملية السلمية، إلا أنها تتقوى بالدعم الأمريكي، وعدم ارتقاء الموقف الأوروبي لمستوى الحدث، وعلى ضوء ذلك فإن التكهن بنتائج الأمور ما زال مبكرا رغم وضوح بعض المعطيات.
وللهروب إلى الأمام من هذا المأزق فإن أمريكا وإسرائيل ستضغطان بكل قوة على الجانب الفلسطيني لعدم التوجه إلى الأمم المتحدة، وعوضا عن ذلك ستطلبان من السلطة الدخول في مفاوضات مباشرة، تريد إسرائيل من خلالها التهرب من استحقاقات أيلول، واستكمال مخططها بتهويد القدس والاستيلاء على الأرض الفلسطينية بدون ضغوط من أحد، وربما أيضا، تريدها غطاء لحرب جديدة على لبنان، أو على غزة لإفشال المصالحة.
إصرار الجانب الأميركي على استخدام الفيتو في مواجهة أي اعتراف بالدولة الفلسطينية، يصعب وصفه بما هو أقل من موقف غريب ومستهجن، لأنه يتناقض مع الرؤية الأمريكية ذاتها، ولأنه تعبير عن السقوط المريع في خانة الانحياز السافر لإسرائيل، أما إصرارها على المفاوضات المباشرة، فما هو إلا تعبير عن رغبة جدية بالانسحاب من ملف المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، لأنها غير قادرة على دفع إسرائيل للموافقة على ما يطلبه الفلسطينيون، حيث لم تتمكن إدارة "أوباما" من الحصول على أي جواب من إسرائيل له قيمة بالنسبة للسلطة. ولأن أميركا لا تريد الاستمرار بلعب دور شاهد الزور بلا ثمن، خاصة وأن المفاوضات غير المباشرة انتهت بالفشل، وبالتالي فإن استمرارها سيفقد إدارة أوباما الكثير من رأسمالها السياسي بينما المفاوضات المباشرة، تتيح لها النأي بنفسها عن الفشل وتحميل مسؤوليته لأطراف الصراع أنفسهم، ومن ناحية ثانية فإن إدارة "أوباما" أصبحت تدفع ثمناً داخلياً بسبب السياسة التي أعلنتها في بداية عهدها، وبما أن الإدارة الديمقراطية مقبلة على انتخابات "رئاسية" فهي لا تريد تأليب جماعات الضغط المؤيدة لإسرائيل عليها.
فلسطينيا: قد يؤدي التمسك بالحق الفلسطيني في انتزاع اعتراف عالمي بالدولة إلى تشديد الحصار على السلطة وربما تخفيض حجم المساعدات وابتزازها بها، ومع ذلك فمن الواضح أن الرئيس محمود عباس، متمسك في حقه في الحصول على دولة في أيلول القادم، ومتشدد في رفضه الذهاب إلى المفاوضات المباشرة إلا بعد أن تقدم إسرائيل أجوبة صريحة على أسئلته المباشرة. كما جاء في بيان المجلس الثوري الذي أشار أن القيادة الفلسطينية تصر على إقرار مرجعية للمفاوضات تتمثل بقبول إسرائيل مبدأ الدولتين على حدود 1967 ووقف كل النشاطات الاستيطانية وبما يشمل القدس، وذلك للدخول إلى المفاوضات المباشرة برعاية دولية وضمن سقف زمني محدد، وبعيداً عن الحدود الانتقالية والدولة ذات الحدود المؤقتة. ولكن السؤال إلى أي مدى تستطيع القيادة الفلسطينية التمسك بموقفها هذا ؟!
التنازل عن استحقاق أيلول والذهاب للمفاوضات المباشرة بدون الاتفاق على تحديد الأهداف النهائية منها، سيضع السلطة في موقف حرج أمام شعبها قد يخسرها شعبيتها وشرعيتها، أما الإصرار على التوجه للأمم المتحدة وعدم الموافقة على استئناف المفاوضات بدون بلورة إستراتيجية جديدة وبديلة فإنه سيضع السلطة أمام تحديات دولية خطيرة، وإذا لم يستند الموقف الفلسطيني إلى سند عربي فاعل ومؤثر فإن المأزق الفلسطيني سيتعمق، وسيكون الفلسطينيون في موقف انحسار الخيارات وربما فقدانها، وربما يمكن ذلك إسرائيل من استيعاب التغير في الموقف الأميركي وحرفه لصالحها، بدلا من تقويته وتحويله إلى سياسة مختلفة تضغط على إسرائيل، وبالتالي على القيادة الفلسطينية بلورة إستراتيجية هجوم جديدة، تبدأ برفض المفاوضات بشكلها المطروح، ورفع سقف المطالب الفلسطينية ثانيا، وفي هذا تقوية لموقفها يمكنها من الخروج من نفق المفاوضات العبثية للوصول إلى مفاوضات جدية تلزم خلالها إسرائيل بتنفيذ الاستحقاقات المطلوبة منها، وفي هذا الإطار فان الإستراتيجية الفلسطينية يجب أن تُبنى بداية على إتمام المصالحة الداخلية، ثم دعم وإسناد المقاومة الشعبية، وتوسيع المشاركة العامة في فعالياتها، وعربيا مطلوب بلورة موقف سياسي واضح والتزام حقيقي بتقديم الدعم السياسي والمادي للشعب الفلسطيني والسلطة الوطنية الفلسطينية وفقاً لقرارات القمة العربية، وتفعيل المقاطعة العربية، أما دوليا فيجب المطالبة بعقد مؤتمر دولي لتحديد أسس عملية السلام وفقاً لقرارات الشرعية الدولية. ومن ثم التوجه إلى مجلس الأمن الدولي للمطالبة بالاعتراف بحدود الدولة الفلسطينية. وعلى القيادة الفلسطينية يجب أن تأخذ بالحسبان أن الإدارة الأميركية الحالية مختلفة عن السابقة، رغم عدم قدرتها حتى الآن على بلورة سياسة متوازنة، وأن انسحاب إدارة "أوباما" من عملية السلام سيكون مؤشرا خطيرا معناه الفعلي هو إقرار أميركي بأن عملية السلام قد وصلت إلى نهايتها. ولكن بعد أن يكون الجميع قد وقع في المأزق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق