يسود اعتقاد بين كثير من المراقبين أن ما يجري في المنطقة العربية من ثورات شعبية إنما هو بتخطيط من دوائر غربية تقف على رأسها الولايات المتحدة، مستندين في هذا التحليل إلى ما يسمى بنظرية الفوضى الخلاقة التي طرحتها بعض التيارات المؤثرة في الخارجية الأمريكية، وإلى وجود العديد من الأمور الغريبة والأسئلة المريبة التي لم تتم الإجابة عليها بعد. وهو تحليل ينطلق أساسا من نظرية المؤامرة.
ونظرية المؤامرة التي هيمنت على العقلية العربية منذ زمن طويل، تربط دوما بين الأحداث التي تقع وبين مؤامرة خارجية أعدت في الغرف المغلقة،
وأصحاب هذه النظرية يؤمنون بوجود قوى قادرة على التخطيط والتنفيذ والتحكم بالنتائج بما يحقق مصالحها، ولكن هذه النظرية أثبتت عجزها عن تفسير كثير من الأحداث والمنعطفات التاريخية الكبرى، لأنها نظرية غيبية سلبية لا ترتكز على أسس موضوعية، وتنطلق من الإحساس بالهوان والإقرار بالهزيمة وتؤسس مدرسة العجز الذاتي، فهذه العقلية تصور العدو على أنه عملاق مخيف قادر على كل شيء ولا نملك إزاءه إلا الرضوخ والتسليم.
ولكن هذا لا يعني أن التاريخ يخلو من المؤامرات، وأن الآخرين لا يخططون ولا يرسمون إستراتيجيات بعيدة الأمد، فمن المؤكد أن مراكز صنع القرار خاصة في الولايات المتحدة لديها مخططات إستراتيجية وبدائل عديدة لحماية مصالحها وتأمين تفوقها لعقود قادمة، ومن ضمن هذه الإستراتيجيات "نظرية الفوضى الخلاقة".
وتقوم هذه النظرية باختصار على أيديولوجيا أمريكية نابعة من مدرستين: الأولى صاغها فرانسيس فوكوياما بعنوان “نهاية التاريخ” ويقسم فيها العالم ما بين عالم تاريخي غارق في الاضطرابات والحروب، وهو العالم الذي لم يلتحق بالنموذج الديمقراطي الأميركي. وعالم آخر ما بعد التاريخي، وهو الديمقراطي الليبرالي وفق الطريقة الأمريكية. ويرى أن عوامل القومية والدين والبنية الاجتماعية أهم معوقات الديمقراطية.
المدرسة الثانية صاغها الأمريكي "صموئيل هنتنغتون" وتقوم على مبدأ صراع الحضارات، معتبراً أن النـزاعات والانقسامات في العالم سيكون مصدرها حضارياً وثقافياً. ورغم تناقض المدرستين، إلا أنهما تتفقان على ضرورة بناء نظام عالمي جديد تقوده الولايات المتحدة، إضافة إلى معاداة الحضارة الإسلامية باعتبارها نقيضاً ثقافياً وقيمياً للحضارة الغربية.
وتعتمد نظرية “الفوضى الخلاقة” في الأساس على ما أسماه هنتجتون” بـ”فجوة الاستقرار” وهي الفجوة التي يشعر بها المواطن بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون، فتنعكس بضيقها أو اتساعها على الاستقرار بشكل أو بآخر. فاتساعها يولد إحباطاً ونقمة في أوساط المجتمع، مما يعمل على زعزعة الاستقرار السياسي، لاسيما إذا ما انعدمت الحرية الاجتماعية والاقتصادية، وافتقدت مؤسسات النظام القابلية والقدرة على التكييف الايجابي، لأنه سيكون من الصعب عليها الاستجابة لأي مطالب شعبية، إلا بالمزيد من الفوضى التي ستقود في نهاية الأمر، إلى استبدال قواعد اللعبة واللاعبين.
وهنالك نظرية دول القلب ودول الثقب، التي طورها أحد أهم المحاضرين في “وزارة الدفاع الأمريكية” وهو البروفيسور “توماس بارنيت” فقد قسّم العالم إلى من هم في القلب أو المركز “أمريكا وحلفائها” وصنف دول العالم الأخرى تحت مسمى دول “الفجوة” أو “الثقب” ودول الثقب هذه هي الدول المصابة بالحكم الاستبدادي، والأمراض والفقر، والحروب الأهلية، والنـزاعات المزمنة، وهذه الدول تصبح بمثابة مزارع لتفريخ الجيل القادم من الإرهابيين. وبالتالي فإن على دول القلب ردع أسوأ صادرات دول الثقب، والعمل على انكماش الثقب من داخل الثقب ذاته. ويرى بارنيت أن تلك الفوضى البناءة ستصل إلى الدرجة التي يصبح فيها من الضروري تدخل قوة خارجية للسيطرة على الوضع وإعادة بنائه من الداخل، على نحو يعجل من انكماش الثقوب، وليس مجرد احتوائها من الخارج، منتهيًا بتخويل الولايات المتحدة القيام بالتدخل بقوله:”ونحن الدولة الوحيدة التي يمكنها ذلك”.
ولا تهدف نظرية الفوضى الخلاقة إلى إزالة الدولة إزالة تامة، بل أن هدفها ثنائيا هو الهدم والبناء. حيث يرتكز المشروع على منظومة من الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الشاملة لكل دول المنطقة وفقًا لإستراتيجية جديدة تقوم على أساس الهدم ثم إعادة البناء. بمعنى أن المطلوب هنا هو إعادة تأهيل الدولة على نحو يخدم مصالح أمريكية إستراتيجية، وليس الهدف هو إزالة الدولة عن بكرة أبيها، وهنا غاية أمريكا هي بسط سيطرتها بنفسها لا عبر وسيط تقليدي .
ويتم تطبيق هذه النظرية على أي دولة تريد وفق مخطط يتم بإطلاق الصراع الأيديولوجي، وصراع العصبيات في داخلها، وضرب استقرارها الأمني، وخلخلة وضعها الاقتصادي، وأخيرا التعبئة والتحريض الإعلامي. وأنصار هذه النظرية يعتقدون بأن خلق حالة من الفوضى وعدم الاستقرار؛ سوف يؤدي حتماً إلى بناء نظام سياسي جديد، يوفر الأمن والازدهار الاقتصادي. وهو ما يشبه العلاج بالصدمة الكهربائية. غير أن ثمة أهدافاً متوارية تهدف الولايات المتحدة إلى تحقيقها بتلك الفوضى.
ولكن مجرد الكشف عن هذه المخططات لا يعني أنها ستنفذ حرفيا، وإذا كانت في طور التنفيذ فهذا لا يعني أنها ستنجح، فوجود مؤامرة ما لا يعني أنها قدر مكتوب على الأمة وليس أمامها إلا الانتظار والقبول. وبالعودة إلى الثورات الشعبية العربية وربطها بهذه المؤامرات، وطرح أسئلة من نوع: ما هي طبيعة علاقة الجيوش العربية (التونسية والمصرية وغيرها) بوزارة الدفاع الأمريكية ؟ وما هي الصلة بين شباب الفيسبوك والدوائر الغربية ؟ وما قيل عن وجبات الكنتاكي ووائل غنيم ؟ والدور الغريب وغير المتوقع من الجيوش العربية التي لم تمارس دورها الوظيفي المعهود في حماية الأنظمة، التي هي أساسا من ركائز المشروع الأمريكي في المنطقة ؟؟ وهي أسئلة محيرة وتحتاج إجابات، ليس لأنها تفتح شهية أصحاب نظرية المؤامرة ونظرية الفوضى الخلاقة وتطلق العنان لخيالاتهم ليشبعونا تحليلا، بل لأنها أسئلة مشروعة، والإجابة عليها تمكننا من فهم الأحداث على نحو صحيح.
إن الحديث عن الثورات بوصفها صنيعة الفيسبوك، وأنها تأتي في سياق مخططات أمريكية تهدف إلى إعادة رسم الخارطة الجيوسياسية على نحو جديد يخدم المصلحة الأمريكية أساسا، هو تقليل من شأن هذه الثورات، وهو تعدي على تضحياتها، واستخفاف بإرادة الشعوب، وقبل كل هذا هو فهم مغلوط لمنطق التاريخ، وتفسير مشوه ومنقوص للحقبة التاريخية بأكملها.
صحيح أن هذه الثورات الشعبية أتت في زمن العولمة وكانت إحدى تعبيراتها الواضحة، ولكنها جاءت بفعل إرادة شعبية صادقة كانت أهدفها تنحصر في إسقاط الأنظمة التي ضربها العفن ونخرها سوس الفساد وبانت فضائحها على نحو مستفز، ولأن هذه الأنظمة جلبت لشعوبها الخراب والفقر والبطالة، وحرمتها من أبسط حقوقها وجعلت البلدان العربية في قاع السلم الحضاري بين شعوب الأرض، ومن ناحية ثانية فإن نضوج عوامل الثورة الذاتية والموضوعية جاء بعد تراكم طويل، وأن لهذه الثورات إرهاصاتها ومقدماتها التاريخية ولم تكن قطعا فجائيا مع مراحل تاريخية سابقة، بل جاءت تتويجا لمسار نضالي وشعبي له عناوينه الواضحة وحيثياته المعروفة. ولا يعني وجود تقاطعات معينة في بين أهداف الشعوب العربية ومخططات الدوائر الغربية أنها تطبيق لهذه المخططات، والتاريخ مليء بالأمثلة التي كانت تلتقي فيها مصالح وأهداف جهات متناقضة ومعادية لبعضها البعض دون أن يعني ذلك أنها مؤامرة بالمعنى الحرفي للكلمة.
واستنادا لما سبق، ولفهم الموقف الأمريكي من الثورات العربية، لا بد من التأكيد على أن دوافع أمريكا في انحيازها لخيار الشعوب، ورغبتها في تبني الديمقراطية، وتخليها عن حلفائها التقليديين، هي انكشاف عمالة الحكام وفسادهم وفضائحهم ورغبة الشعوب بالتغيير، في وقت تنامت فيه قوة الحركات الشعبية التي تطالب بالإطاحة بهذه الحكومات الفاسدة، وبالتالي فإن أمريكا ستسعى لدخول المنطقة من بوابة أخرى هي بوابة الشعوب والديمقراطية. خاصة وأنها باتت تخشى من تنامي وتعمق حالة الكراهية والسخط لدى الجمهور الإسلامي والعربي ضدها. وأن الأنظمة العربية بعد سقوط العراق لم تعد تهدد أمن أمريكا، وأن التهديدات الحقيقية تكمن وتتسع من داخل الدول ذاتها، بفعل العلاقة غير السوية بين النظام والشعب.
ولكن هذا لا يعني الاطمئنان على مصير الثورات، سيما وأنها بلا قيادة واضحة ومعظم قياداتها الشبابية بلا خبرة كافية، وحيث أن نظرية الفوضى الخلاقة تعتمد في أسلوبها على خلق تيارات فكرية متعددة ضمن إطار الديمقراطية، ومنها فكرة الإسلام المعتدل ،الذي يوافق أفكار الغرب ولا يتصادم معها، وما يبدو جلياً أن الولايات المتحدة أصبحت لا تخشى ظهور الحركات الإسلامية بل تحاول استغلالها. ولديها استعداد لقبول فكرة وصول حزب إسلامي معتدل للحكم عبر الانتخابات، وفي هذا الصدد يرى البعض أن أمريكا تريد أن تجعل من الحركات الإسلامية المعتدلة حصان طروادة، وهؤلاء يعتقدون أن الحركات الإسلامية أقوى من غيرها في التعاطي مع الشعوب الإسلامية، وأنها تسعى للسلطة.
ولكن أمريكا وغيرها لا تمتلك مفاتيح المستقبل، وليس بمقدورها التحكم بنتائج كل شيء، وليس كل ما يجري على الأرض إنما يجري بعلمها وموافقتها، ومع ذلك عندما تجري أحداثا معينة بمستوى ما يجري في المنطقة العربية، فإنها سرعان ما ستحاول ركوب الموجة والاستفادة من هذه التغييرات، أو تحويلها بما يخدم مصالحها، وليس هناك أي ضمانة لنجاحها في ذلك، ومثال ذلك الأبرز هو التحولات الديمقراطية في البلدان العربية.
البلدان الإسلامية حسب النظرة الأمريكية تمتاز بالأنظمة السياسية المغلقة, وهي ذات كثافة سكانية عالية، وتنعدم فيها الحريات وتتفشى فيها البطالة والأمية, وبالتالي ستكون تربة خصبة لخروج المتطرفين, إذاً فيجب تقديم المساعدة الأمريكية اللازمة، وسماع شكوى الشعوب، وبناء الديمقراطية من الداخل للحيلولة دون تكاثر الإرهابيين، كم أن أمريكا من خلال مدخل الديمقراطية ستعمل على تحقيق مكاسب اقتصادية على المدى الطويل. وتعتقد أمريكا أيضا أن وجود أنظمة ديمقراطية في البلدان العربية سيخفض من حدة الصراع العربي الإسرائيلي، وربما سيمنع نشوب حروب ضد إسرائيل في المستقبل، لأنها تعتقد أن الديمقراطيات لا تقاتل بعضها، وأن الشعوب الحرة إذا ما أتيح لها مجال الاختيار ستختار السلام بدلا من الحروب، ولكن هذه النظريات تبقى موضع جدل ولا يمكن إثبات صحتها. وربما تكون أمريكا قد تسرعت في تبني هذا الخيار، أو أنها كانت مجبرة على التعاطي معه، خاصة وأن إعلامها يصدح بها ليل نهار، وأنها بحجة بناء الديمقراطية شنت حروبها على أفغانستان والعراق وغيرها، وبالتالي سيكون من الصعب عليها تبرير أي موقف معادي للديمقراطية.
باعتقادي أن الديمقراطية الحقيقية التي تنشدها الشعوب العربية ستعمل على تصويب المسار التاريخي للأمة العربية بعد أن كان يتجه بعكس مسار الحضارة الإنسانية، وستعمل على إطلاق المبادرات والطاقات التي ظلت مدفونة تحت رماد القمع والاستبداد، وستخلق البيئة والمناخ الصحي الذي في ظله ستعبر الشعوب عن إرادتها الحرة وعن قناعاتها الراسخة، وستصنع في فضائه مستقبل هذه الأمة بسواعد أبنائها وبشغفها للحرية، وتوقها للخلاص من كل أشكال الهيمنة والاستبداد.
ونظرية المؤامرة التي هيمنت على العقلية العربية منذ زمن طويل، تربط دوما بين الأحداث التي تقع وبين مؤامرة خارجية أعدت في الغرف المغلقة،
وأصحاب هذه النظرية يؤمنون بوجود قوى قادرة على التخطيط والتنفيذ والتحكم بالنتائج بما يحقق مصالحها، ولكن هذه النظرية أثبتت عجزها عن تفسير كثير من الأحداث والمنعطفات التاريخية الكبرى، لأنها نظرية غيبية سلبية لا ترتكز على أسس موضوعية، وتنطلق من الإحساس بالهوان والإقرار بالهزيمة وتؤسس مدرسة العجز الذاتي، فهذه العقلية تصور العدو على أنه عملاق مخيف قادر على كل شيء ولا نملك إزاءه إلا الرضوخ والتسليم.
ولكن هذا لا يعني أن التاريخ يخلو من المؤامرات، وأن الآخرين لا يخططون ولا يرسمون إستراتيجيات بعيدة الأمد، فمن المؤكد أن مراكز صنع القرار خاصة في الولايات المتحدة لديها مخططات إستراتيجية وبدائل عديدة لحماية مصالحها وتأمين تفوقها لعقود قادمة، ومن ضمن هذه الإستراتيجيات "نظرية الفوضى الخلاقة".
وتقوم هذه النظرية باختصار على أيديولوجيا أمريكية نابعة من مدرستين: الأولى صاغها فرانسيس فوكوياما بعنوان “نهاية التاريخ” ويقسم فيها العالم ما بين عالم تاريخي غارق في الاضطرابات والحروب، وهو العالم الذي لم يلتحق بالنموذج الديمقراطي الأميركي. وعالم آخر ما بعد التاريخي، وهو الديمقراطي الليبرالي وفق الطريقة الأمريكية. ويرى أن عوامل القومية والدين والبنية الاجتماعية أهم معوقات الديمقراطية.
المدرسة الثانية صاغها الأمريكي "صموئيل هنتنغتون" وتقوم على مبدأ صراع الحضارات، معتبراً أن النـزاعات والانقسامات في العالم سيكون مصدرها حضارياً وثقافياً. ورغم تناقض المدرستين، إلا أنهما تتفقان على ضرورة بناء نظام عالمي جديد تقوده الولايات المتحدة، إضافة إلى معاداة الحضارة الإسلامية باعتبارها نقيضاً ثقافياً وقيمياً للحضارة الغربية.
وتعتمد نظرية “الفوضى الخلاقة” في الأساس على ما أسماه هنتجتون” بـ”فجوة الاستقرار” وهي الفجوة التي يشعر بها المواطن بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون، فتنعكس بضيقها أو اتساعها على الاستقرار بشكل أو بآخر. فاتساعها يولد إحباطاً ونقمة في أوساط المجتمع، مما يعمل على زعزعة الاستقرار السياسي، لاسيما إذا ما انعدمت الحرية الاجتماعية والاقتصادية، وافتقدت مؤسسات النظام القابلية والقدرة على التكييف الايجابي، لأنه سيكون من الصعب عليها الاستجابة لأي مطالب شعبية، إلا بالمزيد من الفوضى التي ستقود في نهاية الأمر، إلى استبدال قواعد اللعبة واللاعبين.
وهنالك نظرية دول القلب ودول الثقب، التي طورها أحد أهم المحاضرين في “وزارة الدفاع الأمريكية” وهو البروفيسور “توماس بارنيت” فقد قسّم العالم إلى من هم في القلب أو المركز “أمريكا وحلفائها” وصنف دول العالم الأخرى تحت مسمى دول “الفجوة” أو “الثقب” ودول الثقب هذه هي الدول المصابة بالحكم الاستبدادي، والأمراض والفقر، والحروب الأهلية، والنـزاعات المزمنة، وهذه الدول تصبح بمثابة مزارع لتفريخ الجيل القادم من الإرهابيين. وبالتالي فإن على دول القلب ردع أسوأ صادرات دول الثقب، والعمل على انكماش الثقب من داخل الثقب ذاته. ويرى بارنيت أن تلك الفوضى البناءة ستصل إلى الدرجة التي يصبح فيها من الضروري تدخل قوة خارجية للسيطرة على الوضع وإعادة بنائه من الداخل، على نحو يعجل من انكماش الثقوب، وليس مجرد احتوائها من الخارج، منتهيًا بتخويل الولايات المتحدة القيام بالتدخل بقوله:”ونحن الدولة الوحيدة التي يمكنها ذلك”.
ولا تهدف نظرية الفوضى الخلاقة إلى إزالة الدولة إزالة تامة، بل أن هدفها ثنائيا هو الهدم والبناء. حيث يرتكز المشروع على منظومة من الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الشاملة لكل دول المنطقة وفقًا لإستراتيجية جديدة تقوم على أساس الهدم ثم إعادة البناء. بمعنى أن المطلوب هنا هو إعادة تأهيل الدولة على نحو يخدم مصالح أمريكية إستراتيجية، وليس الهدف هو إزالة الدولة عن بكرة أبيها، وهنا غاية أمريكا هي بسط سيطرتها بنفسها لا عبر وسيط تقليدي .
ويتم تطبيق هذه النظرية على أي دولة تريد وفق مخطط يتم بإطلاق الصراع الأيديولوجي، وصراع العصبيات في داخلها، وضرب استقرارها الأمني، وخلخلة وضعها الاقتصادي، وأخيرا التعبئة والتحريض الإعلامي. وأنصار هذه النظرية يعتقدون بأن خلق حالة من الفوضى وعدم الاستقرار؛ سوف يؤدي حتماً إلى بناء نظام سياسي جديد، يوفر الأمن والازدهار الاقتصادي. وهو ما يشبه العلاج بالصدمة الكهربائية. غير أن ثمة أهدافاً متوارية تهدف الولايات المتحدة إلى تحقيقها بتلك الفوضى.
ولكن مجرد الكشف عن هذه المخططات لا يعني أنها ستنفذ حرفيا، وإذا كانت في طور التنفيذ فهذا لا يعني أنها ستنجح، فوجود مؤامرة ما لا يعني أنها قدر مكتوب على الأمة وليس أمامها إلا الانتظار والقبول. وبالعودة إلى الثورات الشعبية العربية وربطها بهذه المؤامرات، وطرح أسئلة من نوع: ما هي طبيعة علاقة الجيوش العربية (التونسية والمصرية وغيرها) بوزارة الدفاع الأمريكية ؟ وما هي الصلة بين شباب الفيسبوك والدوائر الغربية ؟ وما قيل عن وجبات الكنتاكي ووائل غنيم ؟ والدور الغريب وغير المتوقع من الجيوش العربية التي لم تمارس دورها الوظيفي المعهود في حماية الأنظمة، التي هي أساسا من ركائز المشروع الأمريكي في المنطقة ؟؟ وهي أسئلة محيرة وتحتاج إجابات، ليس لأنها تفتح شهية أصحاب نظرية المؤامرة ونظرية الفوضى الخلاقة وتطلق العنان لخيالاتهم ليشبعونا تحليلا، بل لأنها أسئلة مشروعة، والإجابة عليها تمكننا من فهم الأحداث على نحو صحيح.
إن الحديث عن الثورات بوصفها صنيعة الفيسبوك، وأنها تأتي في سياق مخططات أمريكية تهدف إلى إعادة رسم الخارطة الجيوسياسية على نحو جديد يخدم المصلحة الأمريكية أساسا، هو تقليل من شأن هذه الثورات، وهو تعدي على تضحياتها، واستخفاف بإرادة الشعوب، وقبل كل هذا هو فهم مغلوط لمنطق التاريخ، وتفسير مشوه ومنقوص للحقبة التاريخية بأكملها.
صحيح أن هذه الثورات الشعبية أتت في زمن العولمة وكانت إحدى تعبيراتها الواضحة، ولكنها جاءت بفعل إرادة شعبية صادقة كانت أهدفها تنحصر في إسقاط الأنظمة التي ضربها العفن ونخرها سوس الفساد وبانت فضائحها على نحو مستفز، ولأن هذه الأنظمة جلبت لشعوبها الخراب والفقر والبطالة، وحرمتها من أبسط حقوقها وجعلت البلدان العربية في قاع السلم الحضاري بين شعوب الأرض، ومن ناحية ثانية فإن نضوج عوامل الثورة الذاتية والموضوعية جاء بعد تراكم طويل، وأن لهذه الثورات إرهاصاتها ومقدماتها التاريخية ولم تكن قطعا فجائيا مع مراحل تاريخية سابقة، بل جاءت تتويجا لمسار نضالي وشعبي له عناوينه الواضحة وحيثياته المعروفة. ولا يعني وجود تقاطعات معينة في بين أهداف الشعوب العربية ومخططات الدوائر الغربية أنها تطبيق لهذه المخططات، والتاريخ مليء بالأمثلة التي كانت تلتقي فيها مصالح وأهداف جهات متناقضة ومعادية لبعضها البعض دون أن يعني ذلك أنها مؤامرة بالمعنى الحرفي للكلمة.
واستنادا لما سبق، ولفهم الموقف الأمريكي من الثورات العربية، لا بد من التأكيد على أن دوافع أمريكا في انحيازها لخيار الشعوب، ورغبتها في تبني الديمقراطية، وتخليها عن حلفائها التقليديين، هي انكشاف عمالة الحكام وفسادهم وفضائحهم ورغبة الشعوب بالتغيير، في وقت تنامت فيه قوة الحركات الشعبية التي تطالب بالإطاحة بهذه الحكومات الفاسدة، وبالتالي فإن أمريكا ستسعى لدخول المنطقة من بوابة أخرى هي بوابة الشعوب والديمقراطية. خاصة وأنها باتت تخشى من تنامي وتعمق حالة الكراهية والسخط لدى الجمهور الإسلامي والعربي ضدها. وأن الأنظمة العربية بعد سقوط العراق لم تعد تهدد أمن أمريكا، وأن التهديدات الحقيقية تكمن وتتسع من داخل الدول ذاتها، بفعل العلاقة غير السوية بين النظام والشعب.
ولكن هذا لا يعني الاطمئنان على مصير الثورات، سيما وأنها بلا قيادة واضحة ومعظم قياداتها الشبابية بلا خبرة كافية، وحيث أن نظرية الفوضى الخلاقة تعتمد في أسلوبها على خلق تيارات فكرية متعددة ضمن إطار الديمقراطية، ومنها فكرة الإسلام المعتدل ،الذي يوافق أفكار الغرب ولا يتصادم معها، وما يبدو جلياً أن الولايات المتحدة أصبحت لا تخشى ظهور الحركات الإسلامية بل تحاول استغلالها. ولديها استعداد لقبول فكرة وصول حزب إسلامي معتدل للحكم عبر الانتخابات، وفي هذا الصدد يرى البعض أن أمريكا تريد أن تجعل من الحركات الإسلامية المعتدلة حصان طروادة، وهؤلاء يعتقدون أن الحركات الإسلامية أقوى من غيرها في التعاطي مع الشعوب الإسلامية، وأنها تسعى للسلطة.
ولكن أمريكا وغيرها لا تمتلك مفاتيح المستقبل، وليس بمقدورها التحكم بنتائج كل شيء، وليس كل ما يجري على الأرض إنما يجري بعلمها وموافقتها، ومع ذلك عندما تجري أحداثا معينة بمستوى ما يجري في المنطقة العربية، فإنها سرعان ما ستحاول ركوب الموجة والاستفادة من هذه التغييرات، أو تحويلها بما يخدم مصالحها، وليس هناك أي ضمانة لنجاحها في ذلك، ومثال ذلك الأبرز هو التحولات الديمقراطية في البلدان العربية.
البلدان الإسلامية حسب النظرة الأمريكية تمتاز بالأنظمة السياسية المغلقة, وهي ذات كثافة سكانية عالية، وتنعدم فيها الحريات وتتفشى فيها البطالة والأمية, وبالتالي ستكون تربة خصبة لخروج المتطرفين, إذاً فيجب تقديم المساعدة الأمريكية اللازمة، وسماع شكوى الشعوب، وبناء الديمقراطية من الداخل للحيلولة دون تكاثر الإرهابيين، كم أن أمريكا من خلال مدخل الديمقراطية ستعمل على تحقيق مكاسب اقتصادية على المدى الطويل. وتعتقد أمريكا أيضا أن وجود أنظمة ديمقراطية في البلدان العربية سيخفض من حدة الصراع العربي الإسرائيلي، وربما سيمنع نشوب حروب ضد إسرائيل في المستقبل، لأنها تعتقد أن الديمقراطيات لا تقاتل بعضها، وأن الشعوب الحرة إذا ما أتيح لها مجال الاختيار ستختار السلام بدلا من الحروب، ولكن هذه النظريات تبقى موضع جدل ولا يمكن إثبات صحتها. وربما تكون أمريكا قد تسرعت في تبني هذا الخيار، أو أنها كانت مجبرة على التعاطي معه، خاصة وأن إعلامها يصدح بها ليل نهار، وأنها بحجة بناء الديمقراطية شنت حروبها على أفغانستان والعراق وغيرها، وبالتالي سيكون من الصعب عليها تبرير أي موقف معادي للديمقراطية.
باعتقادي أن الديمقراطية الحقيقية التي تنشدها الشعوب العربية ستعمل على تصويب المسار التاريخي للأمة العربية بعد أن كان يتجه بعكس مسار الحضارة الإنسانية، وستعمل على إطلاق المبادرات والطاقات التي ظلت مدفونة تحت رماد القمع والاستبداد، وستخلق البيئة والمناخ الصحي الذي في ظله ستعبر الشعوب عن إرادتها الحرة وعن قناعاتها الراسخة، وستصنع في فضائه مستقبل هذه الأمة بسواعد أبنائها وبشغفها للحرية، وتوقها للخلاص من كل أشكال الهيمنة والاستبداد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق