كانت نهاية العام 1991 هي نهاية الإمبراطورية السوفيتية، التي صارت أثرا بعد عين، بعد أن عمّرت ثلاثة أرباع القرن صبغت خلالها ثلاثة أرباع الأرض بلونها الأحمر، ثم انهارت بسرعة غير متوقعة، وحينها ساد اعتقاد في الأوساط السياسية أن الحرب الباردة قد انتهت، وأن نظاما دوليا جديدا "أحادي القطبية" قد بدأ بالتشكل لأول مرة في التاريخ، وأن روسيا التي ورثت الاتحاد ألسوفيتيتي لم تعد قطبا في هذا النظام ولا حتى دولة مؤثرة فيه، فإلى أي مدى كان هذا الاعتقاد صحيحا ؟!
إذا كان صحيحا أن الاتحاد السوفيتي بحزبه وأيديولوجيته وسياسته وقياداته قد صار جزء من التاريخ، فإن هذا لا يعني بالضرورة أن روسيا ليست جزء من الحاضر، فثمّة حقائق موضوعية ومعطيات جيوسياسة لا تنال منها تغيرات الزمن وطبائعه المتقلبة، فعلى سبيل المثال ورثت روسيا عن سابقتها دولة تعتبر الأكبر في العالم بمساحة هائلة تقدر ب 17 مليون كلم2، وقوة بشرية تعدادها نحو 150 مليون إنسان، وورثت أيضا الجيش الأحمر، وهو من أقوى جيوش العالم، لديه أكبر مخزون من الأسلحة النووية والذي يقدر بحوالي 16000 رأس نووي، ولديها ثاني أكبر مخزون عالمي من الصواريخ البالستية، وتحتل المركز الأول في تصدير الأسلحة لأكثر من 80 دولة بما يشكل 30 % من تجارة السلاح العالمية، وفي مجال الفضاء ما زالت تحتفظ بمكانتها الريادية، ولديها رواد مقيمون في محطة الفضاء الدولية، فضلا عن أقمارها الإصطناعية التي تجوب فضاء الكرة الأرضية في مجالات التجسس والأبحاث العلمية، كما تُعدّ روسيا من أكبر الدول المنتجة للنفط الخام، والغاز الطبيعي، إضافة إلى مركزها المحفوظ كعضو دائم في مجلس الأمن لديه حق الفيتو. وهذه المعطيات وغيرها كانت من أهم مقومات ودعائم قوة الاتحاد السوفييتي.
ولكن امتلاك هذه العناصر ليس كل شيء، وإذا كانت تؤهلها أن تكون دولة عظمى فإنها ليست كذلك – على الأقل في الفترة التي عقبت الانهيار - ومن الواضح أن روسيا لم تعد قطبا موازيا للولايات المتحدة، ولديها من المشاكل الداخلية والأزمات الاقتصادية ما يمنعها من ممارسة الدور المتوقع منها على الساحة الدولية. فعندما جاء غورباتشوف للحكم ووجد البيروقراطية والترهل تنخران في مفاصل الدولة، تبنى سياسة الغلاسنوسنت بدايةً لكشف مظاهر ضعفها أمام العالم، ثم سياسة البيروسترويكا لاحقا، التي اعتقد الناس حينها أنها ترمي للهدم تمهيدا لإعادة البناء، وتبين أخيرا أنها ترمي للهدم تمهيدا للتفكيك، حينئذ بدأت عوامل التفكك والانهيار تطفو على السطح، وقد خرجت الأمور عن سيطرته، أو بمعنى أدق عن سيطرة اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفييتي، حتى انتهى الأمر بالانهيار المريع والسريع للاتحاد، وتفككه إلى سابق عهده أي كما كان قبل الثورة البلشفية.
الحقبة الروسية الأولى
ما زاد من تعقيد الموقف الروسي في بداية الأمر هو تسلم الرجل المريض والمدمن على الكحول "يلتسين" دفة الحكم، الذي وصل مستوى ضعف الدولة في عهده أن مبعوثه لمؤتمر مدريد "مايتنخ" لم يكن يملك تكاليف الإقامة في فنادق المدينة، الأمر الذي تكفلت به الخارجية الأمريكية. والذي كان من أبرز إنجازاته قصف مقر الدوما وإجهاض محاولات استعادة الدور السوفييتي العتيد، وقيامه بما أسماه إصلاحات جذرية في الاقتصاد الروسي، من ضمنها الاستيلاء على مدخرات الناس في بنوك الدولة، وقيامه بعملية خصخصة ضخمة لم يعرف التاريخ لها مثيلا، جرى خلالها بيع الشركات والمؤسسات الحكومية الضخمة بأسعار بخسة من بينها شركات التعدين والصناعات الثقيلة والخفيفة والشركات النفطية. ثم فتح البلاد أمام البضائع الأجنبية ليخنق الصناعة الوطنية التي لم تستطع الصمود أمامها، وعلى إثر ذلك ظهرت شريحة طفيلية من الأغنياء فاحشي الثراء، وطبقة واسعة من الفقراء المحرومين الذين كانوا يموتون بردا وجوعا في الطرقات ومحطات المترو، وانتشرت الرشوة وعم الفساد بشكل لم يكن يعرف من قبل. وانتهى الأمر بأزمة اقتصادية خانقة وتدهور سعر صرف الروبل أمام الدولار وأفلست عشرات البنوك والمؤسسات المالية الضخمة، وفقد الناس مدخراتهم من جديد واضطر يلتسين إلى تعيين السياسي المخضرم "بريماكوف" وزير الخارجية في الحقبة السوفييتية رئيسا للوزراء، الذي استطاع خلال فترة وجيزة إعادة التوازن إلى الحياة الاقتصادية، وبدأ محاولات مستميتة لإعادة روسيا إلى مكانتها القيادية في الساحة الدولية، وبدأ الموقف الروسي حينئذ يتميز عن الموقف الأمريكي لأول مرة منذ سنوات عديدة.
لم تفلح جهود بريماكوف في مكافحة الفساد والانفلات الأمني، حيث بدأت المافيات تشن ضده حملات إعلامية لتشويه صورته، حتى قام يلتسين بإقالته عن منصبه، لتعود البلاد مرة ثانية في مواجهة أزماتها السياسية والاقتصادية، والتي تزامنت مع تحرك الانفصاليون في القفقاز من جديد، الأمر الذي دعا "يلتسين" إلى تعيين فلاديمير بوتين رئيسا للوزراء .
بوتين ضابط استخبارات سابق. وهو على عكس سلفه المريض، رياضي حائز على الحزام الأسود في التايكواندو، ولديه طموح قومي بإعادة أمجاد روسيا القيصرية وبناء الإمبراطورية الروسية الثالثة، استلم جهاز الأمن الروسي بعد ولاية يلتسين الثانية واستطاع بروية وهدوء إعادة تنظيمه، وقد أبدى حكمة فائقة خلال عمله كرئيس للوزراء، فلم يصطدم مع مراكز القوى المسيطرة على رأس المال والإعلام، وقام بجهد ملحوظ لمنع انتشار الحرب الانفصالية في القفقاز إلى جمهوريات ومقاطعات أخرى.
وقد ورث دولة منهكة تواجه حروبا انفصالية، وأزمات اقتصادية حادة، ومراكز قوة مالية وإعلامية تشيع الفساد في أنحاء البلاد، ومنذ بداية حكمه أخذ موقفا حاسما من الإرهاب الداخلي في حرب الشيشان، ثم قام بتحديث الجيش الذي بدأ ولأول مرة بتنفيذ مناورات عسكرية في البحر والبر والجو، واستطاع خلال فترة قصيرة استعادة جمهورية الشيشان إلى أحضان الدولة، ثم نجح بوتين في استعادة سيطرة الدولة على القناة الفيدرالية الأولى للتلفزيون. ثم بدأ بحملة واسعة ضد المتهربين من الضرائب، تلتها خطوة إصلاح السلطة التنفيذية والتي على أساسها تم تقسم البلاد إلى مقاطعات، يتم تعيين حكامها بترشيح من رئيس الدولة بهدف دعم وحدة أراضي روسيا، وإبعاد خطر النـزعات الانفصالية عنها. وفي إشارة إلى توجهاته الطموحة أصدر بوتين مرسوماً بتبني لحن النشيد الوطني للاتحاد السوفييتي السابق لحناً للنشيد الوطني لروسيا.
والآن بعد استتب الأمر للثنائي المتناغم بوتين رئيس الوزراء وميدفيديف رئيس الدولة، ينتظر الروس الذين منحوهما ثقتهم أن يعملا على تنفيذ وعودهما بوضع البلاد على سكة تحديث مقوماتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، مركّزين على الجوانب المتعلقة بالتعليم وقطاع التكنولوجيا الحديثة، والصحة والسياحة ومواجهة الفقر ومكافحة الفساد الإداري والمالي، بينما هما يطمحان لاستعادة روسيا كقوة عظمى، ولاعب أساسي في الساحة الدولية، وقطبا هاما من أقطاب النظام الدولي الآخذ بالتشكل، خاصة بعد ظهور علامات تراجع القوة الأمريكية.
الحرب الباردة من جديد
عناصر القوة الروسية التي أشرنا لها كانت مغيبة في عهد يلتسين، ولم تكن تحتاج لاستنهاضها إلا لرجل بمواصفات بوتين، والذي بفضل رؤيته ومثابرته تمكنت روسيا من تجاوز أزماتها الداخلية، وإعادة هيكلة البيت الداخلي سياسياً واقتصادياً، ومن تطوير سياستها الخارجية بشكل يصعب تجاهله، إذ أصبحت مؤهلة للمشاركة في اللعبة السياسية الدولية بكفاءة وفاعلية، وتستطيع أن تلعب دورا كبيرا في أمن واستقرار الشرق الأوسط، في الوقت الذي يشهد فيه العالم تغيرات في الاصطفافات السياسية والاقتصادية، وانتهاءً تدريجياً لمرحلة القطب الواحد، متمثلاً بفشلٍ ذريع للسياسات الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط، وحروبها الكارثية في كلّ من العراق وأفغانستان، وتدخلاتها السافرة في الشؤون الداخلية لبقية دول المنطقة .
ومن هذه النقطة، تراقب روسيا بل وتعمل من تحت الطاولة وفوقها على استمرار إخفاق المشروع الأميركي الأحادي في العالم وفي الشرق الأوسط خصوصاً، وهي حين عارضت الحرب على العراق كانت تدرك تماماً أن المستنقع العراقي لن يكون أسهل من المستنقع الأفغاني الذي وقع فيه الاتحاد السوفييتي، وكما كلف السوفييت مادياً ومعنوياً وكان من بين عوامل نهايتهم، تدرك روسيا تماماً أن الإخفاق الأمريكي في العراق وأفغانستان سيدق مسمارا في نعش القطبية الأمريكية الأحادية، وسيخلف فراغاً سياسياً وعالمياً في خارطة النظام العالمي الجديد، سيتيح المجال أمامها للعودة مرة ثانية إلى الساحة الدولية والشرق أوسطية.
وقد برزت مظاهر عودة الحرب الباردة بين روسيا والولايات المتحدة في السنوات الأخيرة، عبرت عنها وجسدتها بعض الأحداث والنقاط الساخنة على امتداد العالم، وفي الشرق الأوسط، هي تعكس تناقضات أساسية بين التوجهات الروسية والسياسة الأمريكية. أولها موضوع نشر شبكة الصواريخ الأميركية في دول أوروبا الشرقية - التي انضمت إلى حلف الناتو - الأمر الذي يعني أن تكون كل روسيا تحت رحمة هذه الصواريخ. وبالتالي في متناول يد القوة العسكرية الأميركية المتمركزة هناك. ويعني أيضا تكريس عملية تحوّل هذه الدول من التبعية لموسكو إلى التبعية لواشنطن، وبالتالي من العداء للولايات المتحدة إلى العداء للاتحاد الروسي. وهذا ما تجد روسيا صعوبة في تقبله.
نقطة الصدام الثانية هي البلقان. فالولايات المتحدة تدعم استقلال كوسوفو عن الاتحاد اليوغسلافي السابق، والتي لا تزال حتى اليوم جزءاً من صربيا رغم أن أكثر سكانها يختلفون عن الصرب اثنياً ودينياً. والتحالف الصربي الروسي يملي على الكرملين موقفاً رافضاً لاستقلال كوسوفو. ذلك أن إقرار الفصل بين صربيا وكوسوفو على قاعدة التمايز الديني والعنصري، يشكل مبرراً لإقرار انفصال الشيشان أيضا عن الاتحاد الروسي، وهو ما يرفضه الكرملين بشدة.
الأمر الثالث هو انتشار القواعد العسكرية الأميركية في دول وسط آسيا التي استقلّت عن الاتحاد السوفيتي، وخاصة في كازاخستان وتركمانستان وأذربيجان، وهي الدول المشتركة مع روسيا وإيران في بحر قزوين الغني بالنفط والغاز. وهذا يعني مزاحمة أمريكا لروسيا على منطقة تعتبرها تاريخيا تابعة لها، وعلى ثرواتها ومصادر الطاقة فيها، والأهم من هذا تطويقها لروسيا من كل الجهات بقواعد عسكرية أمريكية وبدولٍ تدور في فلكها، وهذا يشكل تهديدا لأمنها القومي.
وربما لهذه الأسباب أخفقت قمة قزوين للدول المتشاطئة حوض بحر قزوين (روسيا وإيران وكازاخستان وأذربيجان وتركمانيا) في التقدم في قضية تحديد الوضع القانوني للبحر، وتقسيم الجرف والقاع وسطح ماء البحر إلى قواطع تابعة للدول المطلة عليه . فرغم مرور سنوات طويلة على المباحثات المشتركة بين هذه الدول للاتفاق على طريقة تقاسم هذه الثروة الضخمة من الطاقة، فان دولا عديدة منها اختارت تحويل مجرى خطوط نفطها وغازها بحيث تتجنب المرور عبر الأراضي الروسية، وذلك لتعطيل أي دور سياسي روسي في توظيف مرور هذه الأنابيب عبر أراضيها. وهذا ما تراقبه روسيا بقلق شديد، كما أن ربط هذه الدول (وكلها دول إسلامية) بالولايات المتحدة وبمعسكرها السياسي العسكري، يعني توسيع الفجوة السياسية والثقافية بين روسيا وهذه الدول التي كانت تابعة لها يوما ما. لا بل إن إقامة القواعد والمنشآت العسكرية الأميركية في هذه الدول، يضع روسيا بين فكي كماشة عسكرية أميركية. من الشرق (آسيا الوسطى) ومن الغرب (أوروبا الشرقية). وهاتان المنطقتان كانتا جزءاً من الاتحاد السوفييتي السابق، وكانتا جناحي حماية قلب ذلك الاتحاد.
النقطة الرابعة وربما الأهم هي الشرق الأوسط، بلمفاتها الساخنة التي تشهد تبايناً واضحا في المواقف بين روسيا والمجتمع الدولي، خاصة في ملفات إيران والعراق ولبنان وفلسطين. ويظهر ذلك جليا من خلال دعمها وتسليحها لسوريا، وعلاقتها غير المباشرة بحزب الله، واستقبالها لقيادات حماس، ودعمها الواضح للسلطة الفلسطينية، ودعوتها لعقد مؤتمر دولي للسلام في موسكو، وموقفها الداعم والحامي لإيران في مسعاها لدخول النادي النووي.
النقطة الخامسة تقع على خاصرة روسيا الجنوبية، وقد اشتعلت هذه النقطة عام 2008 بعد أن شنت جورجيا حربا على أوسيتيا الجنوبية، مما دفع بالروس للاعتراف باستقلال أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا, الأمر الذي عرّضها لموجة من الانتقادات الخارجية، وبشكل خاص من قبل دول الغرب وأمريكا تحديدا. التي حذرتها من عزلة على الساحة الدولية, وفي هذه المواجهة زودت إسرائيل جورجيا بالأسلحة ودعمتها بالعسكريين الإسرائيليين, ونشير إلى أن التقارب المميز بين إسرائيل وجورجيا طبيعي جداً نظراً لوجود جالية من اليهود الجورجيين في إسرائيل تزيد عن 100 ألف يهودي. وقد هددت روسيا بأنها سترد على مساعدة إسرائيل لجورجيا بموافقتها على بيع صواريخ (إسكندر) لسورية، وبتوطيد التعاون في المجال العسكري التقني معها, وقد امتدت الأزمة الجورجية للساحة الدولية، خاصة بعد أن تم ضم كل من جورجيا وأوكرانيا إلى حلف الناتو، مما دعا روسيا للرد بتزويدها لإيران بالأسلحة ودعمها لها في ملفها النووي، وكذلك دعمها لسوريا وفنـزويلا.
ولم تكتف روسيا بهذه الإجراءات فقامت بطلعات جوية تدريبية لقاذفاتها الإستراتيجية في منطقة بحر الكاريبي وأرسلت سفنها استعداداً لمناورات بحرية مشتركة مع القوات البحرية الفنـزويلية. وفي هذه المناورات والتحركات الروسية التي تجري في منطقة المصالح الأمريكية تحد واضح لواشنطن .
وعلى صعيد آخر، تعاني العلاقات البريطانية ـ الروسية انتكاسة حادة. وقد أعادت هذه الانتكاسة إلى الأذهان شكل العلاقات بين الدولتين خلال الحرب الباردة. والسبب المباشر للأزمة بين البلدين، هو اغتيال ضابط سابق في المخابرات الروسية في لندن. مما دعا لندن لتحميل مسؤوليتها المباشرة لموسكو، والمطالبة بتسليمها المتهم بتنفيذ الاغتيال، وهو ضابط في المخابرات الروسية لمحاكمته أمام القضاء البريطاني. ومن جهتها نفت موسكو التهمة عن نفسها وعن عميلها، ورفضت الاستجابة لطلب تسليمه ومحاكمته. ولكن الأمر لم يبق محصورا في نطاقه القضائي بل امتد إلى النطاق الدبلوماسي، حيث جرى تبادل لطرد الدبلوماسيين، ومن ثم إلى النطاق السياسي حيث جرى توقيف التعاون الأمني بين البلدين .
السياسة الروسية في الشرق الأوسط
لا يمكن الحديث عن الدور الروسي في منطقة الشرق الأوسط، دون النظر إلى تاريخية هذا الدور، خاصة في ظل الحقبة السوفييتية، كمدخل لقراءة الدور الراهن أو لفهم مدى إمكانية إعادة تفعيله. فقد ارتبطت بعض دول المنطقة بعلاقات إستراتيجية مع السوفييت، وهي الآن في طور تعميق هذه العلاقات مع وريثتها الروسية، من خلال متابعة المواثيق والمعاهدات المبرمة الإتحاد السوفييتي، مع الأخذ بعين الاعتبار اختفاء الطابع الأيديولوجي الذي كان ينطلق منه النظام السوفييتي السابق. وهذه العلاقات الروسية مع دول المنطقة لا تزال تحتفظ بمبرراتها وأسبابها، خاصّة أن روسيا ما زالت تمسك بأكثر من ورقة من أوراق اللعبة السياسية، من خلال علاقاتها المتميزة والتاريخية مع الجزائر وسورية وإيران ولبنان وفلسطين.
وقد اتضحت الأهداف والمعالم المستقبلية للسياسة الروسية الراهنة، مع الإعلان عن خطة إستراتيجية في العام 2008 عرفت بخطة بوتين، والتي تهدف إلى إخراج روسيا من تحت ركام البيروسترويكا التي وصفها البعض بسكرة الموت، وما أعقبها من حالة ضعف وترهل، لتلعب دورا إقليمياً ودولياً فاعلا يتناسب مع حجمها وإمكاناتها.
وتنطلق السياسة الروسية الجديدة من رؤيتها لأهمية القيمة الجغرافية والإستراتيجية لمنطقة الشرق الأوسط، باعتبارها تحتل مكان الصدارة في سلم الاهتمامات العالمية، وأنه لا يمكن لأي نظام عالمي أن يتشكل بعيداً عن تلك المنطقة الإستراتيجية، لما تمثله من قلب للعالم، فيها يتقرر مراكز التوازنات والقوى. ولكونها تمثل منصة ارتكاز ورافعة سياسية لأي دور محتمل لأي قوة أمريكية كانت أم روسية أم أوروبية. وتعتقد روسيا أن إمكاناتها وإرثها السياسي وتوجهاتها الحالية تؤهلها لحجز مكان بارز في خارطة تشكل العالم الجديد.
وهكذا أصبح بالإمكان الحديث عن بيروسترويكا بوتين، أو روسيا الجديدة، بعد أن أدركت حجم خسائرها الناجمة عن إهمال هذه المنطقة، وشروعها بالبحث عن مصالحها المفقودة أو المتراجعة، وخصوصاً في الشرق الأوسط، ومحاولتها إنهاء مقولة ‘’أوراق اللعبة كلها في يد واشنطن’’ التي روج لها البعض.
وقبل الدخول إلى قلب الشرق الأوسط الملتهب، كان عليها الولوج عبر سورية البوابة الشمالية للشرق العربي، ومفتاح الاستقرار فيه، وعبر تركيا الجسر الواصل بين الشرق والغرب، وعبر إيران البوابة الشرقية للمنطقة العربية، وهذه المنطقة التي تجسدها ثلاث دوائر جغرافية متجاورة، تزداد أهميتها مع الوجود الأمريكي في قلبها وأطرفها (العراق وأفغانستان) دون أن نغفل وجود إسرائيل. وفي هذا الصدد تنطلق روسيا في توجهاتها السياسية في المنطقة من معايير ومحددات معينة، أهمها وجود جالية روسية كبيرة ومؤثرة في إسرائيل.
المعلقة السياسية لوكالة نوفوستي الروسية "ماريانا بيلينكايا" تعتبر أن سياسة موسكو الراهنة لا تعدو عن كونها وسيطا لبقا بين أطراف متنازعة، وأن غايتها ليست المواجهة مع أي طرف من أطراف الصراع، وإنما تحقيق الاستقرار هناك، وهي – حسب ماريانا – سياسة تختلف تماما عما يدور في خُلد دول المنطقة وعما تريده من روسيا. وتضيف "ماريانا" أن روسيا لم تول منطقة الشرق الأوسط الاهتمام الكافي في حقبة التسعينيات، بحكم الظروف التي كانت تمر بها آنذاك، ولم تلتفت كثيرا للنـزاع العربي الإسرائيلي، بل كانت سياسة روسيا الخارجية موجهة للغرب عمليا، هذا بالرغم من أنها أصبحت عشية انهيار الاتحاد السوفيتي إلى جانب الولايات المتحدة راعيا للعملية السلمية التي انطلقت في مدريد. إلا أن رعايتها للتسوية كانت أشبه بمحاولة للحفاظ على مكانتها على الساحة الدولية. وكانت إعادة روسيا علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل عام 1991 القضية الملموسة الوحيدة في سياستها في الشرق الأوسط في تلك الفترة.
وإذا كانت موسكو في بداية التسعينيات تؤدى هذا الدور شكليا، فإن دورها الآن يتجاوز هذا بكثير. وبدءً من العام 2000 أخذ الوضع يتغير. فقد أعادت روسيا بالتدريج الحوار مع العالم العربي، وبدء الدفء يدب في جسد علاقاتها الاقتصادية مع الشرق الأوسط بعد أن كادت تفقدها، كما أقامت صلات جديدة.
وقد زار الرئيس بوتين مناطق السلطة الفلسطينية عام 2005 ومرة ثانية زارها الرئيس ديميديف العام 2011، وفي المرتين كان في استقبالهما الرئيس محمود عباس الذي أقام لهما مراسم رسمية تتطابق تماما مع المراسم التي تجري بين الدول، وكان هذا مؤشرا على سياسة روسيا الداعمة لإقامة دولة فلسطينية على حدود الرابع من حزيران وفق قرارات الشرعية الدولية، وهي نفس السياسة السوفييتية السابقة وامتدادا لها، وفي العام 2006 زار بوتين كلاً من المغرب والجزائر، وقد اكتسبت زيارة الجزائر أهمية خاصة، ليس في نطاق تطوير العلاقات الثنائية بين البلدين وحسب، بل في نطاق تطوير العلاقات الاقتصادية نظرا لأن حصة البلدين تصل إلى ما يقارب 40 % من مجمل الاستيراد الأوروبي من الغاز، وكان لهذه الزيارة صدى قوي على المستوى العالمي، لأنها تعرضت لمسألة حيوية تهم العالم بأسره وخاصة أوروبا وهي الطاقة، وخصوصاً مع التوجهات الراهنة لإنشاء تكتل روسي جزائري لصناعة الغاز، يكون نواة للتكتل الغازي العالمي على غرار أوبك العالمية، ولأنها من ناحية ثانية عوضت الخسارة الروسية المتمثلة بفقدان روسيا شريكها الاقتصادي الهام الوحيد تقريبا في المنطقة أيام الحقبة السوفييتية، وهو العراق الذي بات في القبضة الأمريكية نفطا وأرضا ومجالا حيويا، وبهذا تكون روسيا قد عادت للمنطقة من جديد.
وبعد أن سقط المبرر الأيديولوجي المعيق لنشوء أي علاقة بين الاتحاد السوفييتي ودول الخليج العربي، بدأت روسيا بتعزيز علاقاتها مع هذه الدول، وبالأخص مع المملكة العربية السعودية، ويدور الحديث الآن عن حوار سياسي بينهما، لتطوير علاقات اقتصادية تجارية لم تكن ممكنة أبدا في العهد السوفيتي. أما الإمارات العربية المتحدة ذات التوجه الليبرالي فتنظر إليها روسيا على أنها تمثل ظاهرة فريدة على خريطة العالم العربي وخريطة العالم عموماً، وتسعى لتطوير علاقتها معها، كونها مركزاً نفطياً كبيراً ومركزاً تجارياً عالمياً، ولأنها تضم حالياً أكبر جالية روسية في منطقة الخليج.
أما مصر التي أخرجت الخبراء السوفييت وتخلت عن علاقاتها التاريخية معهم في مستهل عهد السادات، فقد أخذت تنشأ علاقات طيبة بينها وبين روسيا، كما تحسنت العلاقات الروسية مع الأردن، وتجدد الحوار مع سوريا عام 2005. بالرغم أن العلاقات الروسية مع القاهرة ودمشق وعمان لم تنقطع خلال عقد التسعينيات، ولكنها ظلت فاترة، ولم تبرم أي عقود جدية في مجال التجارة والاقتصاد، ولم تكن هناك أي تعاون فعلي في الميدان السياسي. ولكن في عهد بوتين حدث انعطاف واضح في العلاقات الروسية مع دول المنطقة. ومع ذلك تعمل روسيا بحذر في هذه المنطقة المليئة بالألغام السياسية، وتحاول أن لا تخسر أحدا من الأطراف، فهي غير مستعدة لأن ترضي إيران إذا كان ذلك يجلب استعداء دول مجلس التعاون لها. كذلك هي غير مستعدة لإرضاء سورية إلى حد إقلاق مصر ومجموعة الدول العربية الأخرى.
ومن الجدير بالذكر أن السياسة الروسية الجديدة في المنطقة وفي العالم بشكل عام لا تعتمد على توظيف المال، خلافا لسياسة الولايات المتحدة التي تخصص أموالا طائلة في مشاريع سياسية وعسكرية خارج أراضيها. وربما كانت بلدان رابطة الدول المستقلة ودول البلطيق استثناءً من هذه السياسة، باعتبارها تمثل الفضاء السوفيتي السابق، كما أن روسيا لا تقدم منحا ومساعدات مادية للدول الأخرى. ومعظم المساعدات الروسية تنحصر بصورة أساسية إما على شكل إلغاء القروض السوفيتية القديمة، وإما في استثمارات في مشاريع اقتصادية. ولكن حجم الاستثمارات الروسية في بلدان الشرق الأوسط يبقى في الغالب أقل بكثير من استثمارات الدول الصناعية الأخرى. وكذلك تمتنع روسيا عن تمويل أية مشاريع سياسية خارج أراضيها، وهذا يقلل بشكل ملموس من إمكانية تأثيرها السياسي في الخارج. كما بدأن روسيا بإيلاء البعد الإعلامي الاهتمام الذي يستحقه، وافتتحت محطة فضائية روسية ناطقة بالعربية (روسيا اليوم)، ومن ناحية أخرى فإن روسيا بالرغم من كونها راعية لعملية السلام وعضوا في الرباعية الدولية إلا أنها لا تستطيع حاليا الإدعاء بأنها ساعدت بشكل كبير ومؤثر على تحقيق تقدم في التسوية السلمية في الشرق الأوسط، أو في حل المسألة الإيرانية وغيرها من مشاكل المنطقة .
ولكن طموحها السياسي ورغبتها دخول المنطقة ولعب دور فاعل فيها يتطلب منها الحفاظ على علاقات الاتحاد السوفييتي القديمة مع النخبة السياسية في الشرق الأوسط، من مختلف التيارات السياسية وليس فقط مع الشيوعيين، بل وحتى مع الإسلاميين، لذلك فقد أبقت روسيا على مدرسة الدبلوماسية الشرقأوسطية كما أسس لها السوفييت. وهي في الوقت الذي تسعى لتحسين علاقاتها مع الدول العربية والإسلامية فإنها تحتفظ بعلاقات وطيدة مع إسرائيل، ليس بسبب وجود الجالية الروسية الكبيرة في إسرائيل بل من منطلق فهمها السياسي لمعادلات النظام الدولي.
وفي هذا الصدد فإن روسيا بدأت بالتحلي بالحذر وإتباع سياسات أكثر براغماتية، سيما وأنها تخلت عن الاعتبارات الأيديولوجية التي كانت منطلق السياسات السوفييتية سابقا، وأخذت تسترشد بمصالحها أولاً، فروسيا اليوم ليست هي الاتحاد السوفييتي السابق الذي كان يعطي من دون مقابل، لمجرد الصداقة أو الدعاية الأيديولوجية. وروسيا الآن ليست على عداء مع أميركا ولا مع إسرائيل، بل لها معهما مصالح كثيرة متبادلة وربما تكون أكثر من مصالحها مع العرب، وبالتالي فالمبادرات الآن مطلوبة من قبل العرب وليس من قبل روسيا، وربما تكون السعودية بالتحديد قد استوعبت هذا الواقع الجديد قبل غيرها وبادرت بتطوير علاقاتها بروسيا وأصبحت هذه العلاقات الآن مصدر قلق كبير لدى واشنطن.
فإذا كان العرب يعانون من الهيمنة الأمريكية، ومستاءون من الانحياز الأمريكي لصالح إسرائيل، ويبحثون عمن يخفف عنهم عبء الضغوط والمساومات والمناورات الأميركية والإسرائيلية، فإن أمامهم الآن فرصة تاريخية لخلق توازن للقوى في المنطقة يمكن أن يغير من موازين القوى، وما هو مطلوب منهم بالتحديد دعم الدور الروسي وتعميق علاقاتها معها، على الأقل باعتبار أن روسيا قريبة جغرافيا وتاريخيا من العرب، ويهمها أمن واستقرار المنطقة، ولديهما مصلحة مشتركة في تقليص النفوذ الأميركي في المنطقة ومنع تزايد هيمنتها.
روسيا ومستقبل النظام الدولي
صحيح أن الحرب الباردة بين قطبي النظام الدولي السابق قد انتهت بهزيمة المعسكر الاشتراكي وانهيار سور برلين، وأن الحرب الباردة الجديدة ليست بقوة وتأثير سابقتها، ولكنها تبقى مؤشرا على سمات وملامح المرحلة المقبلة، والتي يمكن وصفها بأنها نتاجا لمسار العقدين الأخيرين، حيث برزت خلالهما عدة تغييرات هامة وجذرية تركت أثرا كبيرا على الخارطة السياسية العالمية، من أهمها أن القوة الاقتصادية بدأت تحل تدريجيا محل القوة العسكرية، كما برزت خلالهما كتل سياسية اقتصادية جديدة سيكون لها دورا كبيرا في تقليص وربما إنهاء هيمنة الولايات المتحدة على النظام العالمي، أهمها الاتحاد الأوروبي وروسيا ودول شرق آسيا وخاصة الصين واليابان، إلى جانب دول أخرى ستغدو في عداد القوى العظمى عما قريب، ومن أهمها الهند والبرازيل.
الكاتب الفلسطيني "أحمد عزم" يعتبر أن العام 2008 يشكل منعطفا في هذا المسار، حيث أخذ شكل النظام الدولي فيه طوراً غير مسبوق تاريخياً، ويضيف في مقالته في صحيفة الاتحاد أنه يمكن القول أن اللحظة الأميركية، أي لحظة الأحادية القطبية، التي بدأت مطلع التسعينيات، انتهت أو أوشكت على الانتهاء في هذا العام، بسبب تدني قدرة وفاعلية العسكرية الأميركية أولا، وثانيا بسبب الأزمة المالية والاقتصادية الأميركية. وبسبب نمو القوى الدولية الجديدة التي أشرنا إليها، والتي تعمل على تقلّيص قدرات الولايات المتحدة في السياسة الدولية.
ويؤكد "عزم" أن هذا كله لم يُنتج حتى الآن نظاماً متعدد الأقطاب بشكله الكلاسيكي الذي كان موجوداً قبل وبعد الحرب العالمية الثانية، حيث كان يسود التنافس والصراع، إذْ حلت ظاهرة التكاملية في العلاقات الدولية محل الصراع، فالعالم بفعل العولمة والتجارة الحرة يعيش حالة تجعل خسارة أحد الأقطاب الدولية خسارة للقطب الآخر، على عكس الوضع السابق حيث خسارة طرف تمثل كسباً للآخر، وذلك لأن الاقتصاد العالمي بات مترابطا ومتشابكا بشكل غير عادي.
كذلك فإنّ الدول الكبرى إمّا غير راغبة أو غير قادرة على ممارسة دور بديل أو منافس للدور الأمريكي، ونتيجة لهذه المعطيات سيعيش العالم مرحلة تحولت فيها الولايات المتحدة من كونها الدولة العظمى، والقطب الأوحد، إلى الدولة رقم واحد في العالم، بمعنى أنّها لم تعد في وضع مريح بالقدر الذي كانت عليه سابقاً، وباتت تحتاج موافقة ومساعدة دول أخرى (إقليمية وعالمية) لتتدخل في أي منطقة بالعالم، ولكنها مع ذلك لا زالت الدولة الوحيدة في العالم التي لها مصالح ونشاط ودور فاعل اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً في كل إقليم في العالم، أو على الأقل أكثر وبمراحل من أي دولة أخرى، وهناك فجوة كبيرة بين عناصر قوتها وبين من يليها من القوى . وبالتالي أمام روسيا الكثير لتفعله لتستعيد مكانتها وتعيد أمجاد السوفيات أو القياصرة، لا يهم، المهم عليها إنهاء التفرد الأمريكي في العالم.
الهوامش
إذا كان صحيحا أن الاتحاد السوفيتي بحزبه وأيديولوجيته وسياسته وقياداته قد صار جزء من التاريخ، فإن هذا لا يعني بالضرورة أن روسيا ليست جزء من الحاضر، فثمّة حقائق موضوعية ومعطيات جيوسياسة لا تنال منها تغيرات الزمن وطبائعه المتقلبة، فعلى سبيل المثال ورثت روسيا عن سابقتها دولة تعتبر الأكبر في العالم بمساحة هائلة تقدر ب 17 مليون كلم2، وقوة بشرية تعدادها نحو 150 مليون إنسان، وورثت أيضا الجيش الأحمر، وهو من أقوى جيوش العالم، لديه أكبر مخزون من الأسلحة النووية والذي يقدر بحوالي 16000 رأس نووي، ولديها ثاني أكبر مخزون عالمي من الصواريخ البالستية، وتحتل المركز الأول في تصدير الأسلحة لأكثر من 80 دولة بما يشكل 30 % من تجارة السلاح العالمية، وفي مجال الفضاء ما زالت تحتفظ بمكانتها الريادية، ولديها رواد مقيمون في محطة الفضاء الدولية، فضلا عن أقمارها الإصطناعية التي تجوب فضاء الكرة الأرضية في مجالات التجسس والأبحاث العلمية، كما تُعدّ روسيا من أكبر الدول المنتجة للنفط الخام، والغاز الطبيعي، إضافة إلى مركزها المحفوظ كعضو دائم في مجلس الأمن لديه حق الفيتو. وهذه المعطيات وغيرها كانت من أهم مقومات ودعائم قوة الاتحاد السوفييتي.
ولكن امتلاك هذه العناصر ليس كل شيء، وإذا كانت تؤهلها أن تكون دولة عظمى فإنها ليست كذلك – على الأقل في الفترة التي عقبت الانهيار - ومن الواضح أن روسيا لم تعد قطبا موازيا للولايات المتحدة، ولديها من المشاكل الداخلية والأزمات الاقتصادية ما يمنعها من ممارسة الدور المتوقع منها على الساحة الدولية. فعندما جاء غورباتشوف للحكم ووجد البيروقراطية والترهل تنخران في مفاصل الدولة، تبنى سياسة الغلاسنوسنت بدايةً لكشف مظاهر ضعفها أمام العالم، ثم سياسة البيروسترويكا لاحقا، التي اعتقد الناس حينها أنها ترمي للهدم تمهيدا لإعادة البناء، وتبين أخيرا أنها ترمي للهدم تمهيدا للتفكيك، حينئذ بدأت عوامل التفكك والانهيار تطفو على السطح، وقد خرجت الأمور عن سيطرته، أو بمعنى أدق عن سيطرة اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفييتي، حتى انتهى الأمر بالانهيار المريع والسريع للاتحاد، وتفككه إلى سابق عهده أي كما كان قبل الثورة البلشفية.
الحقبة الروسية الأولى
ما زاد من تعقيد الموقف الروسي في بداية الأمر هو تسلم الرجل المريض والمدمن على الكحول "يلتسين" دفة الحكم، الذي وصل مستوى ضعف الدولة في عهده أن مبعوثه لمؤتمر مدريد "مايتنخ" لم يكن يملك تكاليف الإقامة في فنادق المدينة، الأمر الذي تكفلت به الخارجية الأمريكية. والذي كان من أبرز إنجازاته قصف مقر الدوما وإجهاض محاولات استعادة الدور السوفييتي العتيد، وقيامه بما أسماه إصلاحات جذرية في الاقتصاد الروسي، من ضمنها الاستيلاء على مدخرات الناس في بنوك الدولة، وقيامه بعملية خصخصة ضخمة لم يعرف التاريخ لها مثيلا، جرى خلالها بيع الشركات والمؤسسات الحكومية الضخمة بأسعار بخسة من بينها شركات التعدين والصناعات الثقيلة والخفيفة والشركات النفطية. ثم فتح البلاد أمام البضائع الأجنبية ليخنق الصناعة الوطنية التي لم تستطع الصمود أمامها، وعلى إثر ذلك ظهرت شريحة طفيلية من الأغنياء فاحشي الثراء، وطبقة واسعة من الفقراء المحرومين الذين كانوا يموتون بردا وجوعا في الطرقات ومحطات المترو، وانتشرت الرشوة وعم الفساد بشكل لم يكن يعرف من قبل. وانتهى الأمر بأزمة اقتصادية خانقة وتدهور سعر صرف الروبل أمام الدولار وأفلست عشرات البنوك والمؤسسات المالية الضخمة، وفقد الناس مدخراتهم من جديد واضطر يلتسين إلى تعيين السياسي المخضرم "بريماكوف" وزير الخارجية في الحقبة السوفييتية رئيسا للوزراء، الذي استطاع خلال فترة وجيزة إعادة التوازن إلى الحياة الاقتصادية، وبدأ محاولات مستميتة لإعادة روسيا إلى مكانتها القيادية في الساحة الدولية، وبدأ الموقف الروسي حينئذ يتميز عن الموقف الأمريكي لأول مرة منذ سنوات عديدة.
لم تفلح جهود بريماكوف في مكافحة الفساد والانفلات الأمني، حيث بدأت المافيات تشن ضده حملات إعلامية لتشويه صورته، حتى قام يلتسين بإقالته عن منصبه، لتعود البلاد مرة ثانية في مواجهة أزماتها السياسية والاقتصادية، والتي تزامنت مع تحرك الانفصاليون في القفقاز من جديد، الأمر الذي دعا "يلتسين" إلى تعيين فلاديمير بوتين رئيسا للوزراء .
بوتين ضابط استخبارات سابق. وهو على عكس سلفه المريض، رياضي حائز على الحزام الأسود في التايكواندو، ولديه طموح قومي بإعادة أمجاد روسيا القيصرية وبناء الإمبراطورية الروسية الثالثة، استلم جهاز الأمن الروسي بعد ولاية يلتسين الثانية واستطاع بروية وهدوء إعادة تنظيمه، وقد أبدى حكمة فائقة خلال عمله كرئيس للوزراء، فلم يصطدم مع مراكز القوى المسيطرة على رأس المال والإعلام، وقام بجهد ملحوظ لمنع انتشار الحرب الانفصالية في القفقاز إلى جمهوريات ومقاطعات أخرى.
وقد ورث دولة منهكة تواجه حروبا انفصالية، وأزمات اقتصادية حادة، ومراكز قوة مالية وإعلامية تشيع الفساد في أنحاء البلاد، ومنذ بداية حكمه أخذ موقفا حاسما من الإرهاب الداخلي في حرب الشيشان، ثم قام بتحديث الجيش الذي بدأ ولأول مرة بتنفيذ مناورات عسكرية في البحر والبر والجو، واستطاع خلال فترة قصيرة استعادة جمهورية الشيشان إلى أحضان الدولة، ثم نجح بوتين في استعادة سيطرة الدولة على القناة الفيدرالية الأولى للتلفزيون. ثم بدأ بحملة واسعة ضد المتهربين من الضرائب، تلتها خطوة إصلاح السلطة التنفيذية والتي على أساسها تم تقسم البلاد إلى مقاطعات، يتم تعيين حكامها بترشيح من رئيس الدولة بهدف دعم وحدة أراضي روسيا، وإبعاد خطر النـزعات الانفصالية عنها. وفي إشارة إلى توجهاته الطموحة أصدر بوتين مرسوماً بتبني لحن النشيد الوطني للاتحاد السوفييتي السابق لحناً للنشيد الوطني لروسيا.
والآن بعد استتب الأمر للثنائي المتناغم بوتين رئيس الوزراء وميدفيديف رئيس الدولة، ينتظر الروس الذين منحوهما ثقتهم أن يعملا على تنفيذ وعودهما بوضع البلاد على سكة تحديث مقوماتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، مركّزين على الجوانب المتعلقة بالتعليم وقطاع التكنولوجيا الحديثة، والصحة والسياحة ومواجهة الفقر ومكافحة الفساد الإداري والمالي، بينما هما يطمحان لاستعادة روسيا كقوة عظمى، ولاعب أساسي في الساحة الدولية، وقطبا هاما من أقطاب النظام الدولي الآخذ بالتشكل، خاصة بعد ظهور علامات تراجع القوة الأمريكية.
الحرب الباردة من جديد
عناصر القوة الروسية التي أشرنا لها كانت مغيبة في عهد يلتسين، ولم تكن تحتاج لاستنهاضها إلا لرجل بمواصفات بوتين، والذي بفضل رؤيته ومثابرته تمكنت روسيا من تجاوز أزماتها الداخلية، وإعادة هيكلة البيت الداخلي سياسياً واقتصادياً، ومن تطوير سياستها الخارجية بشكل يصعب تجاهله، إذ أصبحت مؤهلة للمشاركة في اللعبة السياسية الدولية بكفاءة وفاعلية، وتستطيع أن تلعب دورا كبيرا في أمن واستقرار الشرق الأوسط، في الوقت الذي يشهد فيه العالم تغيرات في الاصطفافات السياسية والاقتصادية، وانتهاءً تدريجياً لمرحلة القطب الواحد، متمثلاً بفشلٍ ذريع للسياسات الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط، وحروبها الكارثية في كلّ من العراق وأفغانستان، وتدخلاتها السافرة في الشؤون الداخلية لبقية دول المنطقة .
ومن هذه النقطة، تراقب روسيا بل وتعمل من تحت الطاولة وفوقها على استمرار إخفاق المشروع الأميركي الأحادي في العالم وفي الشرق الأوسط خصوصاً، وهي حين عارضت الحرب على العراق كانت تدرك تماماً أن المستنقع العراقي لن يكون أسهل من المستنقع الأفغاني الذي وقع فيه الاتحاد السوفييتي، وكما كلف السوفييت مادياً ومعنوياً وكان من بين عوامل نهايتهم، تدرك روسيا تماماً أن الإخفاق الأمريكي في العراق وأفغانستان سيدق مسمارا في نعش القطبية الأمريكية الأحادية، وسيخلف فراغاً سياسياً وعالمياً في خارطة النظام العالمي الجديد، سيتيح المجال أمامها للعودة مرة ثانية إلى الساحة الدولية والشرق أوسطية.
وقد برزت مظاهر عودة الحرب الباردة بين روسيا والولايات المتحدة في السنوات الأخيرة، عبرت عنها وجسدتها بعض الأحداث والنقاط الساخنة على امتداد العالم، وفي الشرق الأوسط، هي تعكس تناقضات أساسية بين التوجهات الروسية والسياسة الأمريكية. أولها موضوع نشر شبكة الصواريخ الأميركية في دول أوروبا الشرقية - التي انضمت إلى حلف الناتو - الأمر الذي يعني أن تكون كل روسيا تحت رحمة هذه الصواريخ. وبالتالي في متناول يد القوة العسكرية الأميركية المتمركزة هناك. ويعني أيضا تكريس عملية تحوّل هذه الدول من التبعية لموسكو إلى التبعية لواشنطن، وبالتالي من العداء للولايات المتحدة إلى العداء للاتحاد الروسي. وهذا ما تجد روسيا صعوبة في تقبله.
نقطة الصدام الثانية هي البلقان. فالولايات المتحدة تدعم استقلال كوسوفو عن الاتحاد اليوغسلافي السابق، والتي لا تزال حتى اليوم جزءاً من صربيا رغم أن أكثر سكانها يختلفون عن الصرب اثنياً ودينياً. والتحالف الصربي الروسي يملي على الكرملين موقفاً رافضاً لاستقلال كوسوفو. ذلك أن إقرار الفصل بين صربيا وكوسوفو على قاعدة التمايز الديني والعنصري، يشكل مبرراً لإقرار انفصال الشيشان أيضا عن الاتحاد الروسي، وهو ما يرفضه الكرملين بشدة.
الأمر الثالث هو انتشار القواعد العسكرية الأميركية في دول وسط آسيا التي استقلّت عن الاتحاد السوفيتي، وخاصة في كازاخستان وتركمانستان وأذربيجان، وهي الدول المشتركة مع روسيا وإيران في بحر قزوين الغني بالنفط والغاز. وهذا يعني مزاحمة أمريكا لروسيا على منطقة تعتبرها تاريخيا تابعة لها، وعلى ثرواتها ومصادر الطاقة فيها، والأهم من هذا تطويقها لروسيا من كل الجهات بقواعد عسكرية أمريكية وبدولٍ تدور في فلكها، وهذا يشكل تهديدا لأمنها القومي.
وربما لهذه الأسباب أخفقت قمة قزوين للدول المتشاطئة حوض بحر قزوين (روسيا وإيران وكازاخستان وأذربيجان وتركمانيا) في التقدم في قضية تحديد الوضع القانوني للبحر، وتقسيم الجرف والقاع وسطح ماء البحر إلى قواطع تابعة للدول المطلة عليه . فرغم مرور سنوات طويلة على المباحثات المشتركة بين هذه الدول للاتفاق على طريقة تقاسم هذه الثروة الضخمة من الطاقة، فان دولا عديدة منها اختارت تحويل مجرى خطوط نفطها وغازها بحيث تتجنب المرور عبر الأراضي الروسية، وذلك لتعطيل أي دور سياسي روسي في توظيف مرور هذه الأنابيب عبر أراضيها. وهذا ما تراقبه روسيا بقلق شديد، كما أن ربط هذه الدول (وكلها دول إسلامية) بالولايات المتحدة وبمعسكرها السياسي العسكري، يعني توسيع الفجوة السياسية والثقافية بين روسيا وهذه الدول التي كانت تابعة لها يوما ما. لا بل إن إقامة القواعد والمنشآت العسكرية الأميركية في هذه الدول، يضع روسيا بين فكي كماشة عسكرية أميركية. من الشرق (آسيا الوسطى) ومن الغرب (أوروبا الشرقية). وهاتان المنطقتان كانتا جزءاً من الاتحاد السوفييتي السابق، وكانتا جناحي حماية قلب ذلك الاتحاد.
النقطة الرابعة وربما الأهم هي الشرق الأوسط، بلمفاتها الساخنة التي تشهد تبايناً واضحا في المواقف بين روسيا والمجتمع الدولي، خاصة في ملفات إيران والعراق ولبنان وفلسطين. ويظهر ذلك جليا من خلال دعمها وتسليحها لسوريا، وعلاقتها غير المباشرة بحزب الله، واستقبالها لقيادات حماس، ودعمها الواضح للسلطة الفلسطينية، ودعوتها لعقد مؤتمر دولي للسلام في موسكو، وموقفها الداعم والحامي لإيران في مسعاها لدخول النادي النووي.
النقطة الخامسة تقع على خاصرة روسيا الجنوبية، وقد اشتعلت هذه النقطة عام 2008 بعد أن شنت جورجيا حربا على أوسيتيا الجنوبية، مما دفع بالروس للاعتراف باستقلال أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا, الأمر الذي عرّضها لموجة من الانتقادات الخارجية، وبشكل خاص من قبل دول الغرب وأمريكا تحديدا. التي حذرتها من عزلة على الساحة الدولية, وفي هذه المواجهة زودت إسرائيل جورجيا بالأسلحة ودعمتها بالعسكريين الإسرائيليين, ونشير إلى أن التقارب المميز بين إسرائيل وجورجيا طبيعي جداً نظراً لوجود جالية من اليهود الجورجيين في إسرائيل تزيد عن 100 ألف يهودي. وقد هددت روسيا بأنها سترد على مساعدة إسرائيل لجورجيا بموافقتها على بيع صواريخ (إسكندر) لسورية، وبتوطيد التعاون في المجال العسكري التقني معها, وقد امتدت الأزمة الجورجية للساحة الدولية، خاصة بعد أن تم ضم كل من جورجيا وأوكرانيا إلى حلف الناتو، مما دعا روسيا للرد بتزويدها لإيران بالأسلحة ودعمها لها في ملفها النووي، وكذلك دعمها لسوريا وفنـزويلا.
ولم تكتف روسيا بهذه الإجراءات فقامت بطلعات جوية تدريبية لقاذفاتها الإستراتيجية في منطقة بحر الكاريبي وأرسلت سفنها استعداداً لمناورات بحرية مشتركة مع القوات البحرية الفنـزويلية. وفي هذه المناورات والتحركات الروسية التي تجري في منطقة المصالح الأمريكية تحد واضح لواشنطن .
وعلى صعيد آخر، تعاني العلاقات البريطانية ـ الروسية انتكاسة حادة. وقد أعادت هذه الانتكاسة إلى الأذهان شكل العلاقات بين الدولتين خلال الحرب الباردة. والسبب المباشر للأزمة بين البلدين، هو اغتيال ضابط سابق في المخابرات الروسية في لندن. مما دعا لندن لتحميل مسؤوليتها المباشرة لموسكو، والمطالبة بتسليمها المتهم بتنفيذ الاغتيال، وهو ضابط في المخابرات الروسية لمحاكمته أمام القضاء البريطاني. ومن جهتها نفت موسكو التهمة عن نفسها وعن عميلها، ورفضت الاستجابة لطلب تسليمه ومحاكمته. ولكن الأمر لم يبق محصورا في نطاقه القضائي بل امتد إلى النطاق الدبلوماسي، حيث جرى تبادل لطرد الدبلوماسيين، ومن ثم إلى النطاق السياسي حيث جرى توقيف التعاون الأمني بين البلدين .
السياسة الروسية في الشرق الأوسط
لا يمكن الحديث عن الدور الروسي في منطقة الشرق الأوسط، دون النظر إلى تاريخية هذا الدور، خاصة في ظل الحقبة السوفييتية، كمدخل لقراءة الدور الراهن أو لفهم مدى إمكانية إعادة تفعيله. فقد ارتبطت بعض دول المنطقة بعلاقات إستراتيجية مع السوفييت، وهي الآن في طور تعميق هذه العلاقات مع وريثتها الروسية، من خلال متابعة المواثيق والمعاهدات المبرمة الإتحاد السوفييتي، مع الأخذ بعين الاعتبار اختفاء الطابع الأيديولوجي الذي كان ينطلق منه النظام السوفييتي السابق. وهذه العلاقات الروسية مع دول المنطقة لا تزال تحتفظ بمبرراتها وأسبابها، خاصّة أن روسيا ما زالت تمسك بأكثر من ورقة من أوراق اللعبة السياسية، من خلال علاقاتها المتميزة والتاريخية مع الجزائر وسورية وإيران ولبنان وفلسطين.
وقد اتضحت الأهداف والمعالم المستقبلية للسياسة الروسية الراهنة، مع الإعلان عن خطة إستراتيجية في العام 2008 عرفت بخطة بوتين، والتي تهدف إلى إخراج روسيا من تحت ركام البيروسترويكا التي وصفها البعض بسكرة الموت، وما أعقبها من حالة ضعف وترهل، لتلعب دورا إقليمياً ودولياً فاعلا يتناسب مع حجمها وإمكاناتها.
وتنطلق السياسة الروسية الجديدة من رؤيتها لأهمية القيمة الجغرافية والإستراتيجية لمنطقة الشرق الأوسط، باعتبارها تحتل مكان الصدارة في سلم الاهتمامات العالمية، وأنه لا يمكن لأي نظام عالمي أن يتشكل بعيداً عن تلك المنطقة الإستراتيجية، لما تمثله من قلب للعالم، فيها يتقرر مراكز التوازنات والقوى. ولكونها تمثل منصة ارتكاز ورافعة سياسية لأي دور محتمل لأي قوة أمريكية كانت أم روسية أم أوروبية. وتعتقد روسيا أن إمكاناتها وإرثها السياسي وتوجهاتها الحالية تؤهلها لحجز مكان بارز في خارطة تشكل العالم الجديد.
وهكذا أصبح بالإمكان الحديث عن بيروسترويكا بوتين، أو روسيا الجديدة، بعد أن أدركت حجم خسائرها الناجمة عن إهمال هذه المنطقة، وشروعها بالبحث عن مصالحها المفقودة أو المتراجعة، وخصوصاً في الشرق الأوسط، ومحاولتها إنهاء مقولة ‘’أوراق اللعبة كلها في يد واشنطن’’ التي روج لها البعض.
وقبل الدخول إلى قلب الشرق الأوسط الملتهب، كان عليها الولوج عبر سورية البوابة الشمالية للشرق العربي، ومفتاح الاستقرار فيه، وعبر تركيا الجسر الواصل بين الشرق والغرب، وعبر إيران البوابة الشرقية للمنطقة العربية، وهذه المنطقة التي تجسدها ثلاث دوائر جغرافية متجاورة، تزداد أهميتها مع الوجود الأمريكي في قلبها وأطرفها (العراق وأفغانستان) دون أن نغفل وجود إسرائيل. وفي هذا الصدد تنطلق روسيا في توجهاتها السياسية في المنطقة من معايير ومحددات معينة، أهمها وجود جالية روسية كبيرة ومؤثرة في إسرائيل.
المعلقة السياسية لوكالة نوفوستي الروسية "ماريانا بيلينكايا" تعتبر أن سياسة موسكو الراهنة لا تعدو عن كونها وسيطا لبقا بين أطراف متنازعة، وأن غايتها ليست المواجهة مع أي طرف من أطراف الصراع، وإنما تحقيق الاستقرار هناك، وهي – حسب ماريانا – سياسة تختلف تماما عما يدور في خُلد دول المنطقة وعما تريده من روسيا. وتضيف "ماريانا" أن روسيا لم تول منطقة الشرق الأوسط الاهتمام الكافي في حقبة التسعينيات، بحكم الظروف التي كانت تمر بها آنذاك، ولم تلتفت كثيرا للنـزاع العربي الإسرائيلي، بل كانت سياسة روسيا الخارجية موجهة للغرب عمليا، هذا بالرغم من أنها أصبحت عشية انهيار الاتحاد السوفيتي إلى جانب الولايات المتحدة راعيا للعملية السلمية التي انطلقت في مدريد. إلا أن رعايتها للتسوية كانت أشبه بمحاولة للحفاظ على مكانتها على الساحة الدولية. وكانت إعادة روسيا علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل عام 1991 القضية الملموسة الوحيدة في سياستها في الشرق الأوسط في تلك الفترة.
وإذا كانت موسكو في بداية التسعينيات تؤدى هذا الدور شكليا، فإن دورها الآن يتجاوز هذا بكثير. وبدءً من العام 2000 أخذ الوضع يتغير. فقد أعادت روسيا بالتدريج الحوار مع العالم العربي، وبدء الدفء يدب في جسد علاقاتها الاقتصادية مع الشرق الأوسط بعد أن كادت تفقدها، كما أقامت صلات جديدة.
وقد زار الرئيس بوتين مناطق السلطة الفلسطينية عام 2005 ومرة ثانية زارها الرئيس ديميديف العام 2011، وفي المرتين كان في استقبالهما الرئيس محمود عباس الذي أقام لهما مراسم رسمية تتطابق تماما مع المراسم التي تجري بين الدول، وكان هذا مؤشرا على سياسة روسيا الداعمة لإقامة دولة فلسطينية على حدود الرابع من حزيران وفق قرارات الشرعية الدولية، وهي نفس السياسة السوفييتية السابقة وامتدادا لها، وفي العام 2006 زار بوتين كلاً من المغرب والجزائر، وقد اكتسبت زيارة الجزائر أهمية خاصة، ليس في نطاق تطوير العلاقات الثنائية بين البلدين وحسب، بل في نطاق تطوير العلاقات الاقتصادية نظرا لأن حصة البلدين تصل إلى ما يقارب 40 % من مجمل الاستيراد الأوروبي من الغاز، وكان لهذه الزيارة صدى قوي على المستوى العالمي، لأنها تعرضت لمسألة حيوية تهم العالم بأسره وخاصة أوروبا وهي الطاقة، وخصوصاً مع التوجهات الراهنة لإنشاء تكتل روسي جزائري لصناعة الغاز، يكون نواة للتكتل الغازي العالمي على غرار أوبك العالمية، ولأنها من ناحية ثانية عوضت الخسارة الروسية المتمثلة بفقدان روسيا شريكها الاقتصادي الهام الوحيد تقريبا في المنطقة أيام الحقبة السوفييتية، وهو العراق الذي بات في القبضة الأمريكية نفطا وأرضا ومجالا حيويا، وبهذا تكون روسيا قد عادت للمنطقة من جديد.
وبعد أن سقط المبرر الأيديولوجي المعيق لنشوء أي علاقة بين الاتحاد السوفييتي ودول الخليج العربي، بدأت روسيا بتعزيز علاقاتها مع هذه الدول، وبالأخص مع المملكة العربية السعودية، ويدور الحديث الآن عن حوار سياسي بينهما، لتطوير علاقات اقتصادية تجارية لم تكن ممكنة أبدا في العهد السوفيتي. أما الإمارات العربية المتحدة ذات التوجه الليبرالي فتنظر إليها روسيا على أنها تمثل ظاهرة فريدة على خريطة العالم العربي وخريطة العالم عموماً، وتسعى لتطوير علاقتها معها، كونها مركزاً نفطياً كبيراً ومركزاً تجارياً عالمياً، ولأنها تضم حالياً أكبر جالية روسية في منطقة الخليج.
أما مصر التي أخرجت الخبراء السوفييت وتخلت عن علاقاتها التاريخية معهم في مستهل عهد السادات، فقد أخذت تنشأ علاقات طيبة بينها وبين روسيا، كما تحسنت العلاقات الروسية مع الأردن، وتجدد الحوار مع سوريا عام 2005. بالرغم أن العلاقات الروسية مع القاهرة ودمشق وعمان لم تنقطع خلال عقد التسعينيات، ولكنها ظلت فاترة، ولم تبرم أي عقود جدية في مجال التجارة والاقتصاد، ولم تكن هناك أي تعاون فعلي في الميدان السياسي. ولكن في عهد بوتين حدث انعطاف واضح في العلاقات الروسية مع دول المنطقة. ومع ذلك تعمل روسيا بحذر في هذه المنطقة المليئة بالألغام السياسية، وتحاول أن لا تخسر أحدا من الأطراف، فهي غير مستعدة لأن ترضي إيران إذا كان ذلك يجلب استعداء دول مجلس التعاون لها. كذلك هي غير مستعدة لإرضاء سورية إلى حد إقلاق مصر ومجموعة الدول العربية الأخرى.
ومن الجدير بالذكر أن السياسة الروسية الجديدة في المنطقة وفي العالم بشكل عام لا تعتمد على توظيف المال، خلافا لسياسة الولايات المتحدة التي تخصص أموالا طائلة في مشاريع سياسية وعسكرية خارج أراضيها. وربما كانت بلدان رابطة الدول المستقلة ودول البلطيق استثناءً من هذه السياسة، باعتبارها تمثل الفضاء السوفيتي السابق، كما أن روسيا لا تقدم منحا ومساعدات مادية للدول الأخرى. ومعظم المساعدات الروسية تنحصر بصورة أساسية إما على شكل إلغاء القروض السوفيتية القديمة، وإما في استثمارات في مشاريع اقتصادية. ولكن حجم الاستثمارات الروسية في بلدان الشرق الأوسط يبقى في الغالب أقل بكثير من استثمارات الدول الصناعية الأخرى. وكذلك تمتنع روسيا عن تمويل أية مشاريع سياسية خارج أراضيها، وهذا يقلل بشكل ملموس من إمكانية تأثيرها السياسي في الخارج. كما بدأن روسيا بإيلاء البعد الإعلامي الاهتمام الذي يستحقه، وافتتحت محطة فضائية روسية ناطقة بالعربية (روسيا اليوم)، ومن ناحية أخرى فإن روسيا بالرغم من كونها راعية لعملية السلام وعضوا في الرباعية الدولية إلا أنها لا تستطيع حاليا الإدعاء بأنها ساعدت بشكل كبير ومؤثر على تحقيق تقدم في التسوية السلمية في الشرق الأوسط، أو في حل المسألة الإيرانية وغيرها من مشاكل المنطقة .
ولكن طموحها السياسي ورغبتها دخول المنطقة ولعب دور فاعل فيها يتطلب منها الحفاظ على علاقات الاتحاد السوفييتي القديمة مع النخبة السياسية في الشرق الأوسط، من مختلف التيارات السياسية وليس فقط مع الشيوعيين، بل وحتى مع الإسلاميين، لذلك فقد أبقت روسيا على مدرسة الدبلوماسية الشرقأوسطية كما أسس لها السوفييت. وهي في الوقت الذي تسعى لتحسين علاقاتها مع الدول العربية والإسلامية فإنها تحتفظ بعلاقات وطيدة مع إسرائيل، ليس بسبب وجود الجالية الروسية الكبيرة في إسرائيل بل من منطلق فهمها السياسي لمعادلات النظام الدولي.
وفي هذا الصدد فإن روسيا بدأت بالتحلي بالحذر وإتباع سياسات أكثر براغماتية، سيما وأنها تخلت عن الاعتبارات الأيديولوجية التي كانت منطلق السياسات السوفييتية سابقا، وأخذت تسترشد بمصالحها أولاً، فروسيا اليوم ليست هي الاتحاد السوفييتي السابق الذي كان يعطي من دون مقابل، لمجرد الصداقة أو الدعاية الأيديولوجية. وروسيا الآن ليست على عداء مع أميركا ولا مع إسرائيل، بل لها معهما مصالح كثيرة متبادلة وربما تكون أكثر من مصالحها مع العرب، وبالتالي فالمبادرات الآن مطلوبة من قبل العرب وليس من قبل روسيا، وربما تكون السعودية بالتحديد قد استوعبت هذا الواقع الجديد قبل غيرها وبادرت بتطوير علاقاتها بروسيا وأصبحت هذه العلاقات الآن مصدر قلق كبير لدى واشنطن.
فإذا كان العرب يعانون من الهيمنة الأمريكية، ومستاءون من الانحياز الأمريكي لصالح إسرائيل، ويبحثون عمن يخفف عنهم عبء الضغوط والمساومات والمناورات الأميركية والإسرائيلية، فإن أمامهم الآن فرصة تاريخية لخلق توازن للقوى في المنطقة يمكن أن يغير من موازين القوى، وما هو مطلوب منهم بالتحديد دعم الدور الروسي وتعميق علاقاتها معها، على الأقل باعتبار أن روسيا قريبة جغرافيا وتاريخيا من العرب، ويهمها أمن واستقرار المنطقة، ولديهما مصلحة مشتركة في تقليص النفوذ الأميركي في المنطقة ومنع تزايد هيمنتها.
روسيا ومستقبل النظام الدولي
صحيح أن الحرب الباردة بين قطبي النظام الدولي السابق قد انتهت بهزيمة المعسكر الاشتراكي وانهيار سور برلين، وأن الحرب الباردة الجديدة ليست بقوة وتأثير سابقتها، ولكنها تبقى مؤشرا على سمات وملامح المرحلة المقبلة، والتي يمكن وصفها بأنها نتاجا لمسار العقدين الأخيرين، حيث برزت خلالهما عدة تغييرات هامة وجذرية تركت أثرا كبيرا على الخارطة السياسية العالمية، من أهمها أن القوة الاقتصادية بدأت تحل تدريجيا محل القوة العسكرية، كما برزت خلالهما كتل سياسية اقتصادية جديدة سيكون لها دورا كبيرا في تقليص وربما إنهاء هيمنة الولايات المتحدة على النظام العالمي، أهمها الاتحاد الأوروبي وروسيا ودول شرق آسيا وخاصة الصين واليابان، إلى جانب دول أخرى ستغدو في عداد القوى العظمى عما قريب، ومن أهمها الهند والبرازيل.
الكاتب الفلسطيني "أحمد عزم" يعتبر أن العام 2008 يشكل منعطفا في هذا المسار، حيث أخذ شكل النظام الدولي فيه طوراً غير مسبوق تاريخياً، ويضيف في مقالته في صحيفة الاتحاد أنه يمكن القول أن اللحظة الأميركية، أي لحظة الأحادية القطبية، التي بدأت مطلع التسعينيات، انتهت أو أوشكت على الانتهاء في هذا العام، بسبب تدني قدرة وفاعلية العسكرية الأميركية أولا، وثانيا بسبب الأزمة المالية والاقتصادية الأميركية. وبسبب نمو القوى الدولية الجديدة التي أشرنا إليها، والتي تعمل على تقلّيص قدرات الولايات المتحدة في السياسة الدولية.
ويؤكد "عزم" أن هذا كله لم يُنتج حتى الآن نظاماً متعدد الأقطاب بشكله الكلاسيكي الذي كان موجوداً قبل وبعد الحرب العالمية الثانية، حيث كان يسود التنافس والصراع، إذْ حلت ظاهرة التكاملية في العلاقات الدولية محل الصراع، فالعالم بفعل العولمة والتجارة الحرة يعيش حالة تجعل خسارة أحد الأقطاب الدولية خسارة للقطب الآخر، على عكس الوضع السابق حيث خسارة طرف تمثل كسباً للآخر، وذلك لأن الاقتصاد العالمي بات مترابطا ومتشابكا بشكل غير عادي.
كذلك فإنّ الدول الكبرى إمّا غير راغبة أو غير قادرة على ممارسة دور بديل أو منافس للدور الأمريكي، ونتيجة لهذه المعطيات سيعيش العالم مرحلة تحولت فيها الولايات المتحدة من كونها الدولة العظمى، والقطب الأوحد، إلى الدولة رقم واحد في العالم، بمعنى أنّها لم تعد في وضع مريح بالقدر الذي كانت عليه سابقاً، وباتت تحتاج موافقة ومساعدة دول أخرى (إقليمية وعالمية) لتتدخل في أي منطقة بالعالم، ولكنها مع ذلك لا زالت الدولة الوحيدة في العالم التي لها مصالح ونشاط ودور فاعل اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً في كل إقليم في العالم، أو على الأقل أكثر وبمراحل من أي دولة أخرى، وهناك فجوة كبيرة بين عناصر قوتها وبين من يليها من القوى . وبالتالي أمام روسيا الكثير لتفعله لتستعيد مكانتها وتعيد أمجاد السوفيات أو القياصرة، لا يهم، المهم عليها إنهاء التفرد الأمريكي في العالم.
الهوامش
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق