تمهيـد
في ندوة خاصة عُقدت في الجمعية الإفريقية في القاهرة، لخص نائب الأمين العام للحركة الشعبية لتحرير السودان "ياسر عرمان" مشكلة السودان بأنها تكمن في عدم وجود مشروع وطني سوداني، يستوعب التنوع الهائل الموجود في البلاد. وكان "عرمان" متفائلا في طرحه، إذ اعتبر أن السودان بأكمله سيكون على موعد مع حياة جديدة، وبالتالي يجب الاهتمام بقضايا ما بعد الانفصال لأنها الأهم الآن، وإن انفصال الجنوب ليس نهاية التاريخ، فالقبائل الحدودية ستعيش معاً، لأن تلك القبائل كانت متعايشة منذ آلاف السنيين، قبل قيام الدولة السودانية وبعدها.
هل كان لدى "عرمان" مبررات لتفاؤله ؟ وهل من الصحيح أن نقلل من شأن الانفصال،
كما لو أنه خبر عن النشرة الجوية ؟! وهل فعلا السودان مقبل على مرحلة جديدة عنوانها السلام والأمن والتنمية ؟! فإذا كان هذا ما نتمناه لشعب السودان، فإننا سنُخضع إمكانية تحقيق هذه الأمنية للبحث والتمحيص، في محاولة لاستشراف المستقبل، وتلمس آفاقه في هذا البلد المنكوب بالمجاعات والحروب.
السودان بموقعه وبثرواته يحتل مكانة إستراتيجية فريدة، حدوده السياسية هي حدود العروبة في قلب القارة السمراء، وإمكاناته هي إمكانات الأمة جمعاء، قوته هي قوتها وضعفه هو ضعفها، هو مجرى النيل، وفيه أخصب أراضي العالم، هو معقد الآمال ومشروع المستقبل، وقد أراد له الأعداء أن يظل مشغولا بالمجاعات والحروب الأهلية ومشاريع الانفصال، حتى لا تقوم له قائمة، ويعاني السودان شأنه شأن كثير من الدول الإفريقية من مشاكل متفاقمة لا حصر لها ولا عـد، وهي ليست بجديدة عليه، فبعضها له جذور تاريخية تمتد لقرن من الزمان أو أكثر، وبعضها ناجم عن سياسات فاشلة مارستها النخب الحاكمة منذ استقلال السودان، أبرز هذه المشاكل الفقر، رغم ثرواته الطبيعية، والجوع رغم أن السودان يعتبر سلة الغذاء العربي، والجفاف والتصحر، رغم أنه يمتلك ثروة مائية ضخمة، والأمية رغم انتشار الأحزاب فيه أكثر من أي بلد عربي آخر، والتخلف، وهذا ليس بغريب في بلد مبتلى بالصراعات والحروب الأهلية، ويعاني السودان من تدخل دول الجوار وعددها تسعة، ومن ضعف المركزية بسبب اتساع مساحته التي تعتبر العاشرة عالميا، وتقدر بمليونين ونصف كيلو متر مربع، وبالتالي سيضم الكثير من المناطق النائية والمهمشة، التي ربما تشمل عموم السودان.
على الصعيد السياسي يعاني من حروب ونزعات الانفصال في الجنوب والشرق، ومن الحروب الداخلية وأبرزها ما يدور في إقليم دارفور، فضلا عن وجود مذكرة جلب بحق الرئيس عمر البشير إلى محكمة الجنيات الدولية بتهمة ارتكابه جرائم حرب في دارفور. وأخيرا - وربما الأهم – أضيف إلى مشاكل السودان انفصال ثلثه عنه، تمهيدا لقيام جمهورية السودان الجنوبي.
انفصال السودان .. مؤامرة خارجية أم استحقاق داخلي ؟!
في غمرة الأحداث الساخنة التي اجتاحت المنطقة العربية في ربيع ديمقراطيتها، وبينما كانت الشعوب العربية منهمكة في ثوراتها، والعالم بأسره يتابع تطوراتها ساعة بساعة، كان جنوب السودان مشغولا بشأن آخر، إذ قبيل تفجر ثورة تونس – باكورة الثورات العربية – جرى فيه استفتاء تاريخي برعاية دولية، تقرر على إثره مصير جنوب السودان، الذي اختار بأغلبية ساحقة تجاوزت نسبة ال 98 % الانفصال عن الدولة الأم، ولو جرى هذا الحدث في توقيت آخر، لكان له شأن مختلف، ولحظي بتغطية إعلامية وتفاعل شعبي كبيرين، ولكنه تم في غفلة من الأمة، وانساب بكل خفة دون أن يحس به أحد !!
بكى شمال السودان على جنوبه، وفرح الجنوبيون لوعود طالما حلموا بها، وفي المحصلة خسر الجميع دولة هائلة مترامية الأطراف، لم يُحسن من حَكَمها الاستفادة من خيراتها وإمكاناتها، بعض الناس رأوا ضرورة أن ينـزاح الجنوب "المتخلف" عن صدر السودان، لينعم شماله وجنوبه بالهدوء لأول مرة منذ عقود، وكأن الجنوب دولة أخرى تشكل عالة وعبأ على السودان ! أما الشعار الذي طرح في انتخابات نيسان 2010 (لا تعطوا أصواتكم لمن لا ينفذ شرع الله) فكان يلخص حالة من التطرف لا تتناسب إطلاقا مع طبيعة الشعب السوداني الأكثر طيبة وتسامحا وتصالحا مع طبيعته الإنسانية التي لا يتمتع بها أي شعب آخر. لكن المفارقة المُرّة أن شعب السودان بشماله وجنوبه سيتحسّر مرة أخرى على أيام فاتت، وفرص ضاعت، ولأنه لم يستطع خلالها فعل شيء لهذا اليوم المنتظر وغير المفاجئ.
هل اختار الجنوبيون الانفصال، أم جرى استدراجهم ليكونوا ضحايا مؤامرة عالمية ؟! مهما كانت الإجابة فإن نتائج الاستفتاء قد أكدت على ميلاد دولة جديدة طابعها الغالب أفريقي، ولا وجود فيها للطابع العربي، وعلى الأغلب لن تكون جزءً من المنظومة العربية أو عضوا في جامعة الدول العربية، ويرجح البعض أنها ستكون أداة لمناكفة العرب في كل شيء، بما في ذلك حدود أمنهم القومي .
البعض اعتبر ما حدث كارثة قومية، ونكبة جديدة، وجرح آخر غائر سيضاف إلى جروح الجسد العربي النازف أصلاً منذ اغتصاب فلسطين. بينما اعتبر آخرون ما جرى شأن داخلي، وممارسة طبيعية لشعب مغلوب، اختار حريته ومستقبله بعيدا عن سياط البشير وجلاوزته، اختار أن يكون له دولة مستقلة بعد أن عانى كثيرا من التهميش والإهمال، وبعد أن فشلت مشاريع الكونفدرالية واللامركزية، وتبين للجنوبيين أن الضم والاحتواء سيكون على حسابهم، لأنهم سيعامَلون كمواطنين من الدرجة الثانية على أقل تقدير. اختاروا تقرير مصيرهم بأنفسهم بعد أن آمنوا بتميز هويتهم وقدرتهم على الحياة بعيدا عن وصاية الأب - الذي لم يكن حنونا عليهم - خاصة بعد أن حاول البشير فرض أحكام الشريعة عليهم دون مراعاة لخصوصياتهم الدينية والإثنية، وبعد أن أنهكتهم الحروب واستنـزفت قدراتهم وشبابهم، وأبقتهم في قاع التخلف البشري، مجتمعا
رعويا بدائيا كأنهم خارج حسابات الزمن.
إذا كنا سننحاز إلى نظرية المؤامرة، فذلك لأن ملامحها على السودان كانت واضحة منذ البداية، حين تم إدراجه في دائرة الأهداف الاستعمارية، بغرض السيطرة على ثرواته المائية والنفطية والغذائية، والتحكم في مجرى النيل.
ولا شك أن هناك أطراف خارجية كثيرة تآمرت على السودان، وسعت لتقسيمه: أمريكا، وبعض الدول الأوروبية، وإسرائيل، وكثير من دول الجوار وأهمها أوغندا، كلٌ له حساباته ومصالحه، وقد ظهرت أدلة متزايدة تؤكد أن المطالبة بالانفصال كانت تأتي في سياق مخطط أميركي إسرائيلي، يهدف إلى إتباع تكتيك مختلف في الحرب على المنطقة العربية، أي بتقسيم الدول العربية وتجزئتها، بدلا من خوض الحروب التقليدية معها، بحيث يسهل على أمريكا التحكم بتلك الدول ونهب ثرواتها، ويسهل على إسرائيل فرض هيمنتها عليها. وفي السودان كان الهدف الأميركي واضحا: السيطرة على مواقع إستراتيجية جديدة في القارة الإفريقية، واستغلال مواردها الطبيعية، وتحديداً النفط - محور المطامع الأميركية - حيث تشير تقارير إلى سعي أميركا إلى رفع نسبة استيرادها من النفط من مصادر أخرى 50 % بحلول عام 2015، ضمن خطط لتخفيف الطلب على النفط العربي، وخاصة أن الاحتياطي الإجمالي للنفط السوداني يصل إلى ثلاثة مليارات برميل، وأن القسم الأعظم من آبار البترول السودانية تقع في الجنوب والشرق، وهو ما يفسر الارتباط الأميركي بهذه المناطق، وإثارتها للقلاقل والتدخلات هناك .
ويعتبر ملف التعاون العسكري الأهم في الدور الأميركي في السودان الجنوبي، فقد منحت الخارجية الأميركية شركة (دين كورب) عقداً قيمته المبدئية 40 مليون دولار لتأهيل جيش جنوب السودان، ليلعب دور أكبر في المنطقة كما حدث في العراق وأفغانستان، كما حصلت شركة "بلاك ووتر" سيئة الصيت، بعد أن غيرت اسمها إلى XE على تعاقدات حكومية لتدريب جيش جنوب السودان، وتوفير الحماية الأمنية لمسؤولي حكومة الجنوب بعقد قيمته 100 مليون دولار، مع حق الانتفاع بـ50% من مناجم حديد وذهب في الجنوب .. ولم يقف الأمر عند شراء شركات الخدمات الأمنية، فقد كشفت تقارير عن قيام العديد من رجال الأعمال الأميركيين بشراء مساحات كبيرة من الأراضي في جنوب السودان بدعوى الاستثمار.
أما إسرائيل والتي تعتبر اللاعب الأكبر، فقد أشار وزير الأمن الإسرائيلي، "آفي ديختر" بمحاضرة نشرها معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي، إلى أن لدى إسرائيل موقفا استراتيجيا ثابتا تجاه السودان، يهدف إلى حرمانه من أن يصبح دولة مهمة بالمنطقة، وكانت "جولدا مائير" قد أكدت بعد نكسة حزيران، أن تقويض الأوضاع بالسودان والعراق يقتضي استغلال النعرات العرقية فيهما. إن استهداف وحدة البلدين، من وجهة نظرها، سيجعل العمق الاستراتيجي لدول المواجهة العربية مكشوفا، في أية حرب مع إسرائيل. وفي هذا الاتجاه، عملت إسرائيل على اكتساب مواقع في إثيوبيا وأوغندا وكينيا وزائير، بهدفين مركبين: الأول الانطلاق من هذه المناطق لعزل الجنوب السوداني ودارفور عن المركز، والثاني، التسلل لبقية القارة الأفريقية.
ولا شك أن موطئ القدم الذي تسعى له الدوائر المعادية في دولة السودان الجنوبي يعني التحكم في مجرى النيل، وبالتالي وقوع مصر والسودان في القبضة المتحكمة فيه، وهي على الأكثر أمريكا وإسرائيل، وهذا يعني تهديد أمنهما القومي في عصب الحياة وشريانها الأهم، بكل ما يعنيه من مياه للشرب والري والصناعة والطاقة الكهربائية.
أما أوغندا التي شكلت جسرا للوصول الإسرائيلي إلى جنوب السودان، فقد حاولت إرضاء واشنطن في مسعاها لأن تكون الشرطي الأمريكي في منطقة شرق ووسط أفريقيا، من خلال بوابة السودان، ومن ناحية ثانية رأت في انفصال جنوب السودان تحقيقا لمصلحة خاصة بها، حيث أرادت منها دولة موالية لها في كافة التوجهات، بالإضافة إلى مساعدتها في القضاء على حركة "جيش الرب" المناوئة لها، وهى الحركة الموجودة على الحدود السودانية الأوغندية من جهة الجنوب، ومن ناحية أخرى فقد استضافت "عنتيبى" اجتماعا لبعض دول حوض النيل انتهى بالتوقيع على "اتفاق إطار" يعدل من الحقوق التاريخية لمصر والسودان في مياه النيل، ولكنه فشل بسبب رفض الكونغو وبوروندى التوقيع عليه.
ومع هذا، فإن كشف خيوط المؤامرة لا يعفي النظام والنخب المسيطرة في السودان من مسؤوليتهما التاريخية والقومية، بالفشل في الحفاظ على وحدة أراضي السودان، ولا يعني أيضا أن الأسباب الموضوعية الداخلية التي أدت للانفصال ليست أسبابا كافية، ولم يكن للنظام دورا أساسيا في تفاقمها، فمن المؤكد أن النظام أخفق في معالجتها، وبالتالي فتح المجال للتدخلات الأجنبية لتفعل أفاعيلها في السودان.
أصل الحـكاية
في التاريخ القريب يبلغ عمر الأزمة حتى الآن قرابة النصف قرن، عندما أطلقت شرارة التمرد الجنوبي الأول قبيل الاستقلال بعام واحد، لتعيد إلى الأذهان تجربة سلخ الباكستان عن الهند عشية استقلالها، وسلخ تايوان عن الصين أيضا في نفس عام استقلالها، أما في التاريخ البعيد .. فإن عمر الأزمة يزيد عن القرن. وطوال تاريخ السودان الحديث كانت الدعوة إلى فصل الجنوب عن الشمال تتردد من حين لآخر.
قبل أن يلفظ القرن التاسع عشر آخر زفرة منه، دخل السودان عهد الاستعمار البريطاني. وبعد أن سكتت مدافع الحرب العالمية الأولى بسنتين تبنت الإدارة البريطانية سياسة فصل الجنوب عن الشمال. ومن ضمن إجراءاتها لتنفيذ هذا المخطط، أنها منعت انتشار اللغة العربية والدين الإسلامي بين أهل الجنوب، ومنعت دخول الشماليين إليهم.
وطوال ربع القرن التالي، ظلت هذه السياسة موضع تطبيق حازم. ولكن بدون نتيجة. ومع نهاية الحرب العالمية الثانية كانت الإدارة البريطانية قد توصلت إلى قناعة مفادها أنه لا مستقبل للجنوب إذا انفصل عن الشمال، وبالتالي كان أمامها أحد ثلاثة خيارات: إما دمج الجنوب مع الشمال بدولة واحدة. أو دمج الجنوب مع أوغندا وكينيا. أو دمج أجزاء منه مع الشمال والأجزاء الأخرى مع بلدان شرق إفريقيا المجاورة. ولكنها اختارت أخيرا الخيار الأول، بعد أن رفضت الإدارات الاستعمارية البريطانية في تلك البلدان ضم جنوب السودان إليها، خشية أن يشكل عبئاً اقتصاديا وإدارياً ثقيلا عليها، من فرط تخلف أهله.
وطالما أن بريطانيا كانت مقتنعة بأن جنوب السودان لا يملك المقومات الأساسية اللازمة لإنشاء دولة مستقلة ذات سيادة. لماذا أسقطت من حساباتها خيار قيام دولة مستقلة للجنوب ؟ وعلى ما يبدو أنها من خلال هذا الفهم اختارت سياسة أخرى وجدت أنه لا مناص منها وهي بناء سودان موحد، وكان هذا ابتداء من عام 1947.
ورغم تطبيق هذه السياسة طوال عهد الإدارة الاستعمارية البريطانية، إلا أنه سرعان ما اشتعلت شرارة أول تمرد جنوبي في عام 1955 ضد الشمال. ولكنها كانت محدودة، حيث فر قادتها وكوادرها، عبر الحدود إلى أوغندا وكينيا، لتشكيل نواة لتنظيم مسلح اكتمل بناؤه خلال بضع سنين. وفي عام 1958 وبعد تولي إبراهيم عبود للسلطة قامت حكومته العسكرية بإتباع سياسة التذويب بالقوة مع الجنوبيين، وأدي ذلك إلى مطالبة الأحزاب الجنوبية باستقلال الجنوب، كما تم تشكيل حركة أنانيا التي بدأت عملياتها العسكرية في عام 1963.
وفي العام 1965 انعقد في الخرطوم مؤتمر المائدة المستديرة لإحلال السلام، جمع بين القيادات الجنوبية وقيادات الأحزاب الشمالية. وانتهى إلى فشل تحت إصرار الطرفين على مطالبهم، وهكذا تجددت الحرب على أرض الجنوب بين قوات التمرد المسلح والجيش الرسمي، وتواصلت على مدى سبع سنوات أخرى، لكنها توقفت بعد أن توصل الجانبان، عبر وساطة إمبراطور إثيوبيا "هيلاسلاسي"، إلى اتفاق سلام في عام 1972 في أديس أبابا. لم تشمل تلك الاتفاقية مطلب الانفصال، ونصت فقط على منح الجنوب نظام حكم ذاتي محدود. لكن حالة السلام والوئام لم تدم سوى عقد ونيف، حيث اندلعت حركة تمرد جديدة، إيذانا بمولد «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة "جون جارانغ" .
ففي العام 1983 أصدر الرئيس "النميري" عدة قرارات أطاحت باتفاق أديس أبابا، منها تقسيم المنطقة إلى ثلاثة أقاليم، ونقل الكتيبة (105) إلى الشمال وإتهام قائدها بالفساد، كما تم إرسال قوات لإخضاعها، فأدي ذلك إلى هروبها إلى الأدغال الاستوائية لتصبح فيما بعد نواة لجيش الرب، فكلفت الحكومة العقيد "جون قرنق" بتأديب الكتيبة، إلا إنه أعلن انضمامه إلى المتمردين، مؤسسًا بذلك الحركة الشعبية لتحرير السودان، وأعلن إن هدف الحركة هو "تأسيس سودان علماني جديد" قائم على المساواة والعدالة الاجتماعية داخل سودان موحد، وقام برفع شعارات يسارية، فحصل علي دعم من إثيوبيا وكينيا.
وبعد الإطاحة بنظام النميري عام 1985 بقيادة الجنرال سوار الذهب، بدا في الأفق بوادر أمل في التوصل إلى اتفاق مع الحركة، ولكنه لم يحصل، وبعد انقلاب يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، تبنت الحكومة العسكرية شعار "الجهاد الإسلامي" ضد القوى الجنوبية، الأمر الذي أدى إلى اشتعال الحرب بقوة أكبر.
الولادة القيصرية لسودان جديد
كان "جون جارانغ" يقول "قبل كل شيء علينا أن نفكر أننا سودانيين في سودان واحد"، بيد أن ما آلت إليه الأمور قبل وبعد موته الغامض يشير إلى اتجاه مختلف تماما، إذ أن السودانيون كانوا قد أهملوا من قبل حديث السياسي الجنوبي "بنجامين لكى" الذي قال "إن الجنوب إذا ما ظُلم يوم ما، فإنه قادر على فعل التغيير"، واليوم من الواضح أن الجنوب سائر في هذا الاتجاه.
بعد خمس سنوات من اكتشاف البترول في الجنوب السوداني عام 1978، اندلعت الحرب الأهلية هناك مرة ثانية، بين القوات الحكومية والحركة الشعبية لتحرير السودان، والتي استمرت أكثر من عشرين عاما، أكلت الأخضر واليابس وأهلكت الحرث والنسل، مما دعا الأسرة الدولية لمضاعفة جهودها للتوصل إلى تسوية، إلى أن تم ذلك بتوقيع اتفاق إطار يسمي "بروتوكول ماشاكوس" وذلك في تموز من عام 2005 والذي أعطى للجنوب حكم ذاتي لفترة انتقالية مدتها 6 سنوات، وحق تقرير المصير وفرصة للجنوبيين لتفكير في الانفصال،. ثم وقعت الحكومة والحركة الشعبية لتحرير السودان اتفاقية السلام الشامل في نيفاشا، والذي نصت بنوده على: حق تقرير المصير للجنوب عام 2011. هذه الاتفاقية وضعت حدا للحرب، وبموجبها عيّن الرئيس السوداني "عمر البشير" الدكتور "جون جارانج" نائبا أول لرئيس الجمهورية، وحينها وضع "عمر البشير" ونائبه جارانغ أياديهما معا بعد أداء اليمين الدستورية تعبيرا عن بدء مرحلة جديدة من التضامن والتلاحم وسط تصفيق وهتافات الحاضرين. وتعهدا معا على العمل لإحلال السلام في جميع أنحاء السودان. كما وعدا بتقديم نموذج جديد لحكم البلاد خلال الفترة الجديدة. وأن يكون الدستور الانتقالي الجديد - الذي يمنح جنوب السودان قدراً أكبر من الحكم الذاتي - وسيلة للشفافية في الحكم .
ولكن مقتل "جون جارانج" ومعه ستة من كبار العسكريين الجنوبيين بعد أقل من 3 أسابيع من توليه منصبه الجديد، جاء ليثير زوبعة من الأسئلة المحيرة حول ظروف مقتله، فهل غدر البشير بنائبه، كما فعل من قبل مع الترابي الذي أودعه السجن ؟ أم أن مقتله كان على خلفية صراع داخلي في صفوف الحركة الشعبية لتحرير السودان ؟!!
ظن البعض أنه بموت "جارانغ" ستنتهي الحركة الشعبية، بيد أن خليفته "سلفاكير" أثبت لهم عكس ذلك، وهذا انجاز يحسب له، حيث استطاع أن يوحد الحركة الشعبية في أحرج أوقاتها. وعليه فإن «الحركة الشعبية» الجنوبية بقيادته هي التي سيؤول إليها أمر حكم الدولة المستقلة الوليدة. وإذا أخذنا في الاعتبار الطبيعة القبلية لساحة الصراع السياسي في الإقليم الجنوبي، سنفهم طبيعة وأسباب الصراع هناك، حيث تدور حرب جنوبية - جنوبية حول السلطة. أوقعت خلال عام واحد نحو 2500 قتيل. هذا لأن «الحركة الشعبية» مستأثرة بالسلطة وتريد الاحتفاظ بها، وهي عمليا لا تمثل سوى قبيلة واحدة، الأمر الذي لا تقبل به القبائل الأخرى، مما دعاها إلى تشكيل ميليشيات مسلحة تقاتل جيش «الحركة». وهذه بلا شك نذر سيئة لدولة تنتظر الاستقلال.
مخاطر وتحديات تنتظر الدولة الجديدة
تعادل مساحة السودان الجنوبي مساحة فرنسا، أي بحدود 600.000 كم مربع تقريبًا. وتعداد سكانه نحو سبعة ملايين إنسان، أكثرهم من أتباع الديانات الأفريقية التقليدية والوثنيون، ويشكل المسيحيين نحو 15% والمسلمين حوالي 10% من السكان. ويتكون جنوب السودان من القبائل الأفريقية النيلية والحامية والبانتوية. ويعتقد أن أكبر جماعة عرقية هي الدينكا تليها النوير، ثم الشلك. ويتكلم السكان هناك عدة لغات. لغة التعليم والحكومة والأعمال هي الإنجليزية، وهي اللغة الرسمية لجنوب السودان منذ عام 1928، وأيضا يتكلمون اللغة العربية بلهجة جنوبية تعرف باسم عربية جوبا، إلى جانب عدد من اللغات الأفريقية المحلية .
قد يساعدنا فهم هذه المعطيات على فهم طبيعة المجتمع هناك، ونوع التحديات والمخاطر التي تواجهه، كمدخل لاستشراف مستقبل الدولة الوليدة، وتحليل اتجاهاتها وطبيعة علاقاتها المحتملة مع دول الجوار. فاللاعبون في هذه الدولة الوليدة كُثر، والأهداف أكثر، وفي المقابل العرب تائهون، ولم يحددوا بعد طريقة مثلى للتعاطي مع موضوع الانفصال، وربما مصر وليبيا وحدهما من حدد موقفا معينا منها .
ويرى المراقبون بعض المؤشرات السلبية التي تعطي فكرة عن ملامح المرحلة المقبلة لهذه الدولة الوليدة، ويبدون خشيتهم من تردي الأوضاع الأمنية هناك، وتزايد التدخلات الخارجية وخاصة الأميركية والإسرائيلية، واحتمال ظهور أفغانستان جديدة، إذا ما علمنا أن الوجود الأميركي سيدعم القبيلة الحاكمة في جنوب السودان ضد القبائل الأخرى، وما يزيد من احتمالات الخطر أن المنطقة تضم نسيجاً إثنياً متعددا يتكون من عشرات القبائل المتصارعة .
وبسبب هشاشة البنية السياسية في دولة الجنوب، وغياب مؤسسات المجتمع المدني، وضعف العمل الحزبي والمؤسسات الحديثة، فإن هذا سيعلي من شأن النفوذ القبلي، ويفاقم من الانفلات الأمني، وبالتالي ستجد الحركة الشعبية نفسها مرغمة على بناء نظام ديكتاتوري حتى تفرض النظام وتوفر الحد الأدنى من الأمن.
وهناك مخاطر وقوع حرب بين الشمال والجنوب بسبب التناقضات الكثيرة بين الإقليمين، وعدم الاتفاق على حل قضايا ما بعد الانفصال كالجنسية والعملة والمؤسسات، المدمجة، ومن سيتكفل بديون السودان الخارجية المقدرة ب 34 مليار دولار، وأيضا حقول النفط وإنتاجه .. وأهمها ربما قضية ترسيم الحدود في منطقة أبيي الغنية بالنفط، وهي مشكلة تشبه إلى حد كبير مشكلة كركوك في شمال العراق. وفي كلتا الحالتين، اعتبرت الحكومة المركزية هذه المدن امتدادا طبيعيا للوطن الأم، وفي الحالتين أيضا وقفت الولايات المتحدة ضد رغبات شعوب المنطقة. وفرضت القسمة الطائفية والإثنية عليها، وذلك يعني أن الحكومة السودانية ستحشر بين خيارين: إما أن تسلم بكافة المطالب الجنوبية، بما في ذلك التنازل عن مدينة أبيي، أو الاستعداد لجولة أخرى من العنف مع إبقاء العقوبات "الدولية . مما ينذر بحدوث حركات هجرة بينية بين الإقليمين، كالتي حدثت بين الهند وباكستان إبان التقسيم، حين تم التقسيم على أساس ديني كرس العداء بين الشعبين ونفخ فيه روح الطائفية.
وستواجه دولة الجنوب مشكلات البدء بالبناء المطلوب منها على كافة المستويات، في ظل نقص الكادر وضعف التمويل وضعف البنية التحتية، واستمرار نشاط عسكرة الحياة مما يصعب إعادة تأهيل البلد للعودة للحياة المدنية. وهذا بالطبع يستدعي الاستعانة بالخارج، وليس هنالك خارج مستعد للدعم بدون مقابل، ودون أن يحقق له هذا الدعم مصالح اقتصادية وسياسية وبشروط مجحفة لا سبيل لتفاديها، خاصة في حال البناء من الصفر، وهذا يشكل أكبر خطر على استقلال البلد وسيادته، وإذا علمنا أن دولة الجنوب دولة مغلقة لا منفذ لديها إلى البحر، ما يعني أن بترولها سيمر حتما عبر دولة الشمال إلى بورسودان. وبالتالي فإن دولة الجنوب ستخضع للإبتزاز لتسويق بترولها مما يجعل استقلالها شكلياً، ويمكّن دولة الشمال من إضعافها اقتصاديا .
السودان الجديد .. خسائر ومخاوف
بسبب غياب الديمقراطية ونرجسية الحاكم بأمر الله، واستفراده بتسيير دفة الحكم، والتحكم في كل مفاصل الدولة، دون سياسة واضحة، ودون مشاركة القوى والفعاليات الشعبية، برؤية ضيقة تحكمها عقلية مستبدة، انتشرت في عموم البلاد القلاقل والاضطرابات، وأخفقت الحكومة في الاستفادة من ثروات البلاد، وتعطلت كل مشاريع التنمية، وأُغلق الأفق السياسي، وغرق السودان في بحر لجي من الظلمات والحروب الأهلية ونزعات الانفصال. وفي النتيجة رضخ النظام للضغوطات الدولية، وقَبِل بالتقسيم على وهم أن نقاء دولة الشمال الديني بأغلبيتها المسلمة سوف يمكن البشير من فرض دولته الدينية بسهولة ويسر، والأهم من هذا أنه توهم أيضا أن اعترافه بنتائج الاستفتاء ستبعد عنه شبح المحكمة الدولية.
لقد أراد النظام السوداني من خلال الانفصال تكريس الدولة الدينية لتشكل غطاء لرأس المال الطفيلي من تشديد قبضته على السلطة، ومن نهب موارد الدولة، متوهماً أن فشله في فرض سطوته على الجنوب أسبابها دينية وعرقية، متناسيا أن الأزمة بالأصل هي اقتصادية واجتماعية وسياسية، تغطت برداء التمايز العرقي والديني، وهو التمايز الذي عمقته دولة البشير الدينية، والدلالة على ذلك الأزمة في دارفور، وانتفاضات أبناء الشمال والغرب ضد الاستبداد، وهي مرشحة للتصاعد رغم أن النقاء الديني والعرقي في هذه الأقاليم. فمن المعروف أن جميع سكان دارفور على سبيل المثال هم من المسلمين السنة ويتكلمون العربية، ورغم ذلك تعرضت لمذابح وأعمال تهجير عنيفة.
لقد خسر السودان بعد التقسيم ميزة الكيان الواحد، الذي كان من المفترض أن يجعل السودان كله الأقوى والأغنى بين دول المنطقة، وخسر بالتالي فرصة التماسك بوزن إقليمي ودولي أكبر، وهذه خسارة مضاعفة في زمن التكتلات الاقتصادية الباحثة عن كيانات أكبر تمكنها من مواجهة الأزمات الاقتصادية والسياسية الدولية المعقدة. وطالما أن الانفصال تم على أساس افتراض تباين وتناقض مستعصٍ على الحل، فإن هذا سيمنع من وجود أي شكل من أشكال التعاون أو التكامل بين البلدين.
وحرم الانفصال دولة الشمال من عمقها الأفريقي، وقطع الصلة المباشرة بينها وبين دول حوض النيل، ومن ناحية أخرى أغلق الطريق أمام أي تواصل حضاري يسمح للطرفين ببناء تواصل إنساني مفيد ومؤثر على المستوى الإنساني، وأخطر ما في الموضوع أن انفصال الجنوب سيشجع جميع المجموعات المهمشة بالبلاد – وما أكثرها - على المطالبة بحقها في تقرير مصيرها، وذلك لأن استمرار الطريقة العقيمة في التعاطي مع المشكلات وحصرها في إطارها الأمني وتبرير الفشل بالمؤامرات الخارجية، لن يسمح بمعالجة مشكلات تلك المناطق بإشراكها إشراكاً حقيقياً وفاعلاً في السلطة، أو القيام بتنمية حقيقية تنتشلها من قاع التخلف التي تنعم فيها.
وحول تأثير الانفصال على الأوضاع القانونية في حوض النيل، تخشى دول الحوض أن يتبرأ جنوب السودان من الاتفاقيات الدولية السابقة، والتي قسَّمت الحصص التاريخية بينها، كاتفاقيات 1929 و 1959 وفي هذا سابقة خطيرة في التبرؤ من مبدأ التوارث التاريخي للمعاهدات الدولية . من الممكن أن تقدم عليها حكومة الجنوب، خاصة مع الدعم الأمريكي الواضح، والإسرائيلي الخفي، وما يعزز هذه القناعة تصريحات قادة الدولة الجنوبية عن نيتهم بفتح البوابة الجنوبية لإسرائيل، لتكثيف تسللها للعمق الأفريقي. سيما وأن الوجود العسكري والأمني الأجنبي (الأمريكي والإسرائيلي والأثيوبي والأوغندي) سيمنع أي من الدول العربية المتضررة من التدخل العسكري، خصوصا مصر والسودان باعتبار أنهما المتضرر الأكبر .
وتخشى الأنظمة العربية أن يكون السودان قد افتتح عصراً آخر من أدوات الانفصال والتجزئة، لأن التجربة ستكون قاسية إذا امتدت وأحسن استغلالها خارجياً . فإذا شكلت محاكمة البشير مدخلاً للتقسيم، فإن محكمة قتلة الحريري في لبنان قد تكون مدخلاً لأوضاع ربما مشابهة .
خاتمـة سـريعة
أخفق النظام السوداني في التعامل مع الأزمة منذ بداياتها، وتصرف في ذلك كما تتصرف باقي الدول العربية مع مواطنيها خاصة إذا كانوا يشكلون أقليات أو مجموعات متمايزة طائفيا وإثنيا، فجميع تجارب الدول العربية تقدم أمثلة سلبية ومخزية في هذا الشأن، تنطلق من النظرة الأمنية الأحادية للأزمة، وتتعامل معها بطريقة عقيمة، ولا ترى أي أفق إستراتيجي مستقبلي، وتنتظر المشكلة حتى تتفاقم وتبدأ الشعوب بالتحرك والاحتجاج، والدول الأجنبية بالتدخل وفرض العقوبات. ويكون حينها قد فات الأوان.
كذلك أخفقت الدول العربية، سواء على مستوى دول الجوار المتأثرة مباشرة بأزمات السودان، أم على مستوى الجامعة العربية، في تقديم أي عون حقيقي للسودان، أو طرح مبادرات عملية تجنبه ما تعرض إليه أخيرا، وترك العرب السودان وحيدا يواجه أزماته بطريقته العدمية، ومن المؤسف أن أي من دول المنطقة قد استفاد من الدرس.
تقسيم السودان صار أمرا مقضيا، ومن حقائق السياسة الراهنة التي لا يمكن تجاهلها، أو العودة بها إلى الوراء، وعلى شعب السودان – شماله وجنوبه – أن يبدأ ببناء سودان جديد برؤية جديدة، وليس أمامه خيار آخر، سوى انتظار مشاريع انفصال جديدة، والبقاء يراوح مكانه في دوائر القمع والاستبداد والتخلف.
حدود السودان بين شماله وجنوبه أطول حدود فى إفريقيا، وتبلغ 1636 كيلومتر، هذه الحدود لن تحميها القوات المدججة بالسلاح ، بل يحميها السلام والتعايش بين قبائلها، ويحميها تحويل مناطق التماس من حقول ألغام ومناطق حرب إلى حدائق للسلام والازدهار، وعلى الجميع أن يتركوا الماضي خلفهم، وأن يعملوا معا، لرؤية السودان الجديد وأن يتطلعوا نحو المستقبل.
14 نيسان 2011
في ندوة خاصة عُقدت في الجمعية الإفريقية في القاهرة، لخص نائب الأمين العام للحركة الشعبية لتحرير السودان "ياسر عرمان" مشكلة السودان بأنها تكمن في عدم وجود مشروع وطني سوداني، يستوعب التنوع الهائل الموجود في البلاد. وكان "عرمان" متفائلا في طرحه، إذ اعتبر أن السودان بأكمله سيكون على موعد مع حياة جديدة، وبالتالي يجب الاهتمام بقضايا ما بعد الانفصال لأنها الأهم الآن، وإن انفصال الجنوب ليس نهاية التاريخ، فالقبائل الحدودية ستعيش معاً، لأن تلك القبائل كانت متعايشة منذ آلاف السنيين، قبل قيام الدولة السودانية وبعدها.
هل كان لدى "عرمان" مبررات لتفاؤله ؟ وهل من الصحيح أن نقلل من شأن الانفصال،
كما لو أنه خبر عن النشرة الجوية ؟! وهل فعلا السودان مقبل على مرحلة جديدة عنوانها السلام والأمن والتنمية ؟! فإذا كان هذا ما نتمناه لشعب السودان، فإننا سنُخضع إمكانية تحقيق هذه الأمنية للبحث والتمحيص، في محاولة لاستشراف المستقبل، وتلمس آفاقه في هذا البلد المنكوب بالمجاعات والحروب.
السودان بموقعه وبثرواته يحتل مكانة إستراتيجية فريدة، حدوده السياسية هي حدود العروبة في قلب القارة السمراء، وإمكاناته هي إمكانات الأمة جمعاء، قوته هي قوتها وضعفه هو ضعفها، هو مجرى النيل، وفيه أخصب أراضي العالم، هو معقد الآمال ومشروع المستقبل، وقد أراد له الأعداء أن يظل مشغولا بالمجاعات والحروب الأهلية ومشاريع الانفصال، حتى لا تقوم له قائمة، ويعاني السودان شأنه شأن كثير من الدول الإفريقية من مشاكل متفاقمة لا حصر لها ولا عـد، وهي ليست بجديدة عليه، فبعضها له جذور تاريخية تمتد لقرن من الزمان أو أكثر، وبعضها ناجم عن سياسات فاشلة مارستها النخب الحاكمة منذ استقلال السودان، أبرز هذه المشاكل الفقر، رغم ثرواته الطبيعية، والجوع رغم أن السودان يعتبر سلة الغذاء العربي، والجفاف والتصحر، رغم أنه يمتلك ثروة مائية ضخمة، والأمية رغم انتشار الأحزاب فيه أكثر من أي بلد عربي آخر، والتخلف، وهذا ليس بغريب في بلد مبتلى بالصراعات والحروب الأهلية، ويعاني السودان من تدخل دول الجوار وعددها تسعة، ومن ضعف المركزية بسبب اتساع مساحته التي تعتبر العاشرة عالميا، وتقدر بمليونين ونصف كيلو متر مربع، وبالتالي سيضم الكثير من المناطق النائية والمهمشة، التي ربما تشمل عموم السودان.
على الصعيد السياسي يعاني من حروب ونزعات الانفصال في الجنوب والشرق، ومن الحروب الداخلية وأبرزها ما يدور في إقليم دارفور، فضلا عن وجود مذكرة جلب بحق الرئيس عمر البشير إلى محكمة الجنيات الدولية بتهمة ارتكابه جرائم حرب في دارفور. وأخيرا - وربما الأهم – أضيف إلى مشاكل السودان انفصال ثلثه عنه، تمهيدا لقيام جمهورية السودان الجنوبي.
انفصال السودان .. مؤامرة خارجية أم استحقاق داخلي ؟!
في غمرة الأحداث الساخنة التي اجتاحت المنطقة العربية في ربيع ديمقراطيتها، وبينما كانت الشعوب العربية منهمكة في ثوراتها، والعالم بأسره يتابع تطوراتها ساعة بساعة، كان جنوب السودان مشغولا بشأن آخر، إذ قبيل تفجر ثورة تونس – باكورة الثورات العربية – جرى فيه استفتاء تاريخي برعاية دولية، تقرر على إثره مصير جنوب السودان، الذي اختار بأغلبية ساحقة تجاوزت نسبة ال 98 % الانفصال عن الدولة الأم، ولو جرى هذا الحدث في توقيت آخر، لكان له شأن مختلف، ولحظي بتغطية إعلامية وتفاعل شعبي كبيرين، ولكنه تم في غفلة من الأمة، وانساب بكل خفة دون أن يحس به أحد !!
بكى شمال السودان على جنوبه، وفرح الجنوبيون لوعود طالما حلموا بها، وفي المحصلة خسر الجميع دولة هائلة مترامية الأطراف، لم يُحسن من حَكَمها الاستفادة من خيراتها وإمكاناتها، بعض الناس رأوا ضرورة أن ينـزاح الجنوب "المتخلف" عن صدر السودان، لينعم شماله وجنوبه بالهدوء لأول مرة منذ عقود، وكأن الجنوب دولة أخرى تشكل عالة وعبأ على السودان ! أما الشعار الذي طرح في انتخابات نيسان 2010 (لا تعطوا أصواتكم لمن لا ينفذ شرع الله) فكان يلخص حالة من التطرف لا تتناسب إطلاقا مع طبيعة الشعب السوداني الأكثر طيبة وتسامحا وتصالحا مع طبيعته الإنسانية التي لا يتمتع بها أي شعب آخر. لكن المفارقة المُرّة أن شعب السودان بشماله وجنوبه سيتحسّر مرة أخرى على أيام فاتت، وفرص ضاعت، ولأنه لم يستطع خلالها فعل شيء لهذا اليوم المنتظر وغير المفاجئ.
هل اختار الجنوبيون الانفصال، أم جرى استدراجهم ليكونوا ضحايا مؤامرة عالمية ؟! مهما كانت الإجابة فإن نتائج الاستفتاء قد أكدت على ميلاد دولة جديدة طابعها الغالب أفريقي، ولا وجود فيها للطابع العربي، وعلى الأغلب لن تكون جزءً من المنظومة العربية أو عضوا في جامعة الدول العربية، ويرجح البعض أنها ستكون أداة لمناكفة العرب في كل شيء، بما في ذلك حدود أمنهم القومي .
البعض اعتبر ما حدث كارثة قومية، ونكبة جديدة، وجرح آخر غائر سيضاف إلى جروح الجسد العربي النازف أصلاً منذ اغتصاب فلسطين. بينما اعتبر آخرون ما جرى شأن داخلي، وممارسة طبيعية لشعب مغلوب، اختار حريته ومستقبله بعيدا عن سياط البشير وجلاوزته، اختار أن يكون له دولة مستقلة بعد أن عانى كثيرا من التهميش والإهمال، وبعد أن فشلت مشاريع الكونفدرالية واللامركزية، وتبين للجنوبيين أن الضم والاحتواء سيكون على حسابهم، لأنهم سيعامَلون كمواطنين من الدرجة الثانية على أقل تقدير. اختاروا تقرير مصيرهم بأنفسهم بعد أن آمنوا بتميز هويتهم وقدرتهم على الحياة بعيدا عن وصاية الأب - الذي لم يكن حنونا عليهم - خاصة بعد أن حاول البشير فرض أحكام الشريعة عليهم دون مراعاة لخصوصياتهم الدينية والإثنية، وبعد أن أنهكتهم الحروب واستنـزفت قدراتهم وشبابهم، وأبقتهم في قاع التخلف البشري، مجتمعا
رعويا بدائيا كأنهم خارج حسابات الزمن.
إذا كنا سننحاز إلى نظرية المؤامرة، فذلك لأن ملامحها على السودان كانت واضحة منذ البداية، حين تم إدراجه في دائرة الأهداف الاستعمارية، بغرض السيطرة على ثرواته المائية والنفطية والغذائية، والتحكم في مجرى النيل.
ولا شك أن هناك أطراف خارجية كثيرة تآمرت على السودان، وسعت لتقسيمه: أمريكا، وبعض الدول الأوروبية، وإسرائيل، وكثير من دول الجوار وأهمها أوغندا، كلٌ له حساباته ومصالحه، وقد ظهرت أدلة متزايدة تؤكد أن المطالبة بالانفصال كانت تأتي في سياق مخطط أميركي إسرائيلي، يهدف إلى إتباع تكتيك مختلف في الحرب على المنطقة العربية، أي بتقسيم الدول العربية وتجزئتها، بدلا من خوض الحروب التقليدية معها، بحيث يسهل على أمريكا التحكم بتلك الدول ونهب ثرواتها، ويسهل على إسرائيل فرض هيمنتها عليها. وفي السودان كان الهدف الأميركي واضحا: السيطرة على مواقع إستراتيجية جديدة في القارة الإفريقية، واستغلال مواردها الطبيعية، وتحديداً النفط - محور المطامع الأميركية - حيث تشير تقارير إلى سعي أميركا إلى رفع نسبة استيرادها من النفط من مصادر أخرى 50 % بحلول عام 2015، ضمن خطط لتخفيف الطلب على النفط العربي، وخاصة أن الاحتياطي الإجمالي للنفط السوداني يصل إلى ثلاثة مليارات برميل، وأن القسم الأعظم من آبار البترول السودانية تقع في الجنوب والشرق، وهو ما يفسر الارتباط الأميركي بهذه المناطق، وإثارتها للقلاقل والتدخلات هناك .
ويعتبر ملف التعاون العسكري الأهم في الدور الأميركي في السودان الجنوبي، فقد منحت الخارجية الأميركية شركة (دين كورب) عقداً قيمته المبدئية 40 مليون دولار لتأهيل جيش جنوب السودان، ليلعب دور أكبر في المنطقة كما حدث في العراق وأفغانستان، كما حصلت شركة "بلاك ووتر" سيئة الصيت، بعد أن غيرت اسمها إلى XE على تعاقدات حكومية لتدريب جيش جنوب السودان، وتوفير الحماية الأمنية لمسؤولي حكومة الجنوب بعقد قيمته 100 مليون دولار، مع حق الانتفاع بـ50% من مناجم حديد وذهب في الجنوب .. ولم يقف الأمر عند شراء شركات الخدمات الأمنية، فقد كشفت تقارير عن قيام العديد من رجال الأعمال الأميركيين بشراء مساحات كبيرة من الأراضي في جنوب السودان بدعوى الاستثمار.
أما إسرائيل والتي تعتبر اللاعب الأكبر، فقد أشار وزير الأمن الإسرائيلي، "آفي ديختر" بمحاضرة نشرها معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي، إلى أن لدى إسرائيل موقفا استراتيجيا ثابتا تجاه السودان، يهدف إلى حرمانه من أن يصبح دولة مهمة بالمنطقة، وكانت "جولدا مائير" قد أكدت بعد نكسة حزيران، أن تقويض الأوضاع بالسودان والعراق يقتضي استغلال النعرات العرقية فيهما. إن استهداف وحدة البلدين، من وجهة نظرها، سيجعل العمق الاستراتيجي لدول المواجهة العربية مكشوفا، في أية حرب مع إسرائيل. وفي هذا الاتجاه، عملت إسرائيل على اكتساب مواقع في إثيوبيا وأوغندا وكينيا وزائير، بهدفين مركبين: الأول الانطلاق من هذه المناطق لعزل الجنوب السوداني ودارفور عن المركز، والثاني، التسلل لبقية القارة الأفريقية.
ولا شك أن موطئ القدم الذي تسعى له الدوائر المعادية في دولة السودان الجنوبي يعني التحكم في مجرى النيل، وبالتالي وقوع مصر والسودان في القبضة المتحكمة فيه، وهي على الأكثر أمريكا وإسرائيل، وهذا يعني تهديد أمنهما القومي في عصب الحياة وشريانها الأهم، بكل ما يعنيه من مياه للشرب والري والصناعة والطاقة الكهربائية.
أما أوغندا التي شكلت جسرا للوصول الإسرائيلي إلى جنوب السودان، فقد حاولت إرضاء واشنطن في مسعاها لأن تكون الشرطي الأمريكي في منطقة شرق ووسط أفريقيا، من خلال بوابة السودان، ومن ناحية ثانية رأت في انفصال جنوب السودان تحقيقا لمصلحة خاصة بها، حيث أرادت منها دولة موالية لها في كافة التوجهات، بالإضافة إلى مساعدتها في القضاء على حركة "جيش الرب" المناوئة لها، وهى الحركة الموجودة على الحدود السودانية الأوغندية من جهة الجنوب، ومن ناحية أخرى فقد استضافت "عنتيبى" اجتماعا لبعض دول حوض النيل انتهى بالتوقيع على "اتفاق إطار" يعدل من الحقوق التاريخية لمصر والسودان في مياه النيل، ولكنه فشل بسبب رفض الكونغو وبوروندى التوقيع عليه.
ومع هذا، فإن كشف خيوط المؤامرة لا يعفي النظام والنخب المسيطرة في السودان من مسؤوليتهما التاريخية والقومية، بالفشل في الحفاظ على وحدة أراضي السودان، ولا يعني أيضا أن الأسباب الموضوعية الداخلية التي أدت للانفصال ليست أسبابا كافية، ولم يكن للنظام دورا أساسيا في تفاقمها، فمن المؤكد أن النظام أخفق في معالجتها، وبالتالي فتح المجال للتدخلات الأجنبية لتفعل أفاعيلها في السودان.
أصل الحـكاية
في التاريخ القريب يبلغ عمر الأزمة حتى الآن قرابة النصف قرن، عندما أطلقت شرارة التمرد الجنوبي الأول قبيل الاستقلال بعام واحد، لتعيد إلى الأذهان تجربة سلخ الباكستان عن الهند عشية استقلالها، وسلخ تايوان عن الصين أيضا في نفس عام استقلالها، أما في التاريخ البعيد .. فإن عمر الأزمة يزيد عن القرن. وطوال تاريخ السودان الحديث كانت الدعوة إلى فصل الجنوب عن الشمال تتردد من حين لآخر.
قبل أن يلفظ القرن التاسع عشر آخر زفرة منه، دخل السودان عهد الاستعمار البريطاني. وبعد أن سكتت مدافع الحرب العالمية الأولى بسنتين تبنت الإدارة البريطانية سياسة فصل الجنوب عن الشمال. ومن ضمن إجراءاتها لتنفيذ هذا المخطط، أنها منعت انتشار اللغة العربية والدين الإسلامي بين أهل الجنوب، ومنعت دخول الشماليين إليهم.
وطوال ربع القرن التالي، ظلت هذه السياسة موضع تطبيق حازم. ولكن بدون نتيجة. ومع نهاية الحرب العالمية الثانية كانت الإدارة البريطانية قد توصلت إلى قناعة مفادها أنه لا مستقبل للجنوب إذا انفصل عن الشمال، وبالتالي كان أمامها أحد ثلاثة خيارات: إما دمج الجنوب مع الشمال بدولة واحدة. أو دمج الجنوب مع أوغندا وكينيا. أو دمج أجزاء منه مع الشمال والأجزاء الأخرى مع بلدان شرق إفريقيا المجاورة. ولكنها اختارت أخيرا الخيار الأول، بعد أن رفضت الإدارات الاستعمارية البريطانية في تلك البلدان ضم جنوب السودان إليها، خشية أن يشكل عبئاً اقتصاديا وإدارياً ثقيلا عليها، من فرط تخلف أهله.
وطالما أن بريطانيا كانت مقتنعة بأن جنوب السودان لا يملك المقومات الأساسية اللازمة لإنشاء دولة مستقلة ذات سيادة. لماذا أسقطت من حساباتها خيار قيام دولة مستقلة للجنوب ؟ وعلى ما يبدو أنها من خلال هذا الفهم اختارت سياسة أخرى وجدت أنه لا مناص منها وهي بناء سودان موحد، وكان هذا ابتداء من عام 1947.
ورغم تطبيق هذه السياسة طوال عهد الإدارة الاستعمارية البريطانية، إلا أنه سرعان ما اشتعلت شرارة أول تمرد جنوبي في عام 1955 ضد الشمال. ولكنها كانت محدودة، حيث فر قادتها وكوادرها، عبر الحدود إلى أوغندا وكينيا، لتشكيل نواة لتنظيم مسلح اكتمل بناؤه خلال بضع سنين. وفي عام 1958 وبعد تولي إبراهيم عبود للسلطة قامت حكومته العسكرية بإتباع سياسة التذويب بالقوة مع الجنوبيين، وأدي ذلك إلى مطالبة الأحزاب الجنوبية باستقلال الجنوب، كما تم تشكيل حركة أنانيا التي بدأت عملياتها العسكرية في عام 1963.
وفي العام 1965 انعقد في الخرطوم مؤتمر المائدة المستديرة لإحلال السلام، جمع بين القيادات الجنوبية وقيادات الأحزاب الشمالية. وانتهى إلى فشل تحت إصرار الطرفين على مطالبهم، وهكذا تجددت الحرب على أرض الجنوب بين قوات التمرد المسلح والجيش الرسمي، وتواصلت على مدى سبع سنوات أخرى، لكنها توقفت بعد أن توصل الجانبان، عبر وساطة إمبراطور إثيوبيا "هيلاسلاسي"، إلى اتفاق سلام في عام 1972 في أديس أبابا. لم تشمل تلك الاتفاقية مطلب الانفصال، ونصت فقط على منح الجنوب نظام حكم ذاتي محدود. لكن حالة السلام والوئام لم تدم سوى عقد ونيف، حيث اندلعت حركة تمرد جديدة، إيذانا بمولد «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة "جون جارانغ" .
ففي العام 1983 أصدر الرئيس "النميري" عدة قرارات أطاحت باتفاق أديس أبابا، منها تقسيم المنطقة إلى ثلاثة أقاليم، ونقل الكتيبة (105) إلى الشمال وإتهام قائدها بالفساد، كما تم إرسال قوات لإخضاعها، فأدي ذلك إلى هروبها إلى الأدغال الاستوائية لتصبح فيما بعد نواة لجيش الرب، فكلفت الحكومة العقيد "جون قرنق" بتأديب الكتيبة، إلا إنه أعلن انضمامه إلى المتمردين، مؤسسًا بذلك الحركة الشعبية لتحرير السودان، وأعلن إن هدف الحركة هو "تأسيس سودان علماني جديد" قائم على المساواة والعدالة الاجتماعية داخل سودان موحد، وقام برفع شعارات يسارية، فحصل علي دعم من إثيوبيا وكينيا.
وبعد الإطاحة بنظام النميري عام 1985 بقيادة الجنرال سوار الذهب، بدا في الأفق بوادر أمل في التوصل إلى اتفاق مع الحركة، ولكنه لم يحصل، وبعد انقلاب يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، تبنت الحكومة العسكرية شعار "الجهاد الإسلامي" ضد القوى الجنوبية، الأمر الذي أدى إلى اشتعال الحرب بقوة أكبر.
الولادة القيصرية لسودان جديد
كان "جون جارانغ" يقول "قبل كل شيء علينا أن نفكر أننا سودانيين في سودان واحد"، بيد أن ما آلت إليه الأمور قبل وبعد موته الغامض يشير إلى اتجاه مختلف تماما، إذ أن السودانيون كانوا قد أهملوا من قبل حديث السياسي الجنوبي "بنجامين لكى" الذي قال "إن الجنوب إذا ما ظُلم يوم ما، فإنه قادر على فعل التغيير"، واليوم من الواضح أن الجنوب سائر في هذا الاتجاه.
بعد خمس سنوات من اكتشاف البترول في الجنوب السوداني عام 1978، اندلعت الحرب الأهلية هناك مرة ثانية، بين القوات الحكومية والحركة الشعبية لتحرير السودان، والتي استمرت أكثر من عشرين عاما، أكلت الأخضر واليابس وأهلكت الحرث والنسل، مما دعا الأسرة الدولية لمضاعفة جهودها للتوصل إلى تسوية، إلى أن تم ذلك بتوقيع اتفاق إطار يسمي "بروتوكول ماشاكوس" وذلك في تموز من عام 2005 والذي أعطى للجنوب حكم ذاتي لفترة انتقالية مدتها 6 سنوات، وحق تقرير المصير وفرصة للجنوبيين لتفكير في الانفصال،. ثم وقعت الحكومة والحركة الشعبية لتحرير السودان اتفاقية السلام الشامل في نيفاشا، والذي نصت بنوده على: حق تقرير المصير للجنوب عام 2011. هذه الاتفاقية وضعت حدا للحرب، وبموجبها عيّن الرئيس السوداني "عمر البشير" الدكتور "جون جارانج" نائبا أول لرئيس الجمهورية، وحينها وضع "عمر البشير" ونائبه جارانغ أياديهما معا بعد أداء اليمين الدستورية تعبيرا عن بدء مرحلة جديدة من التضامن والتلاحم وسط تصفيق وهتافات الحاضرين. وتعهدا معا على العمل لإحلال السلام في جميع أنحاء السودان. كما وعدا بتقديم نموذج جديد لحكم البلاد خلال الفترة الجديدة. وأن يكون الدستور الانتقالي الجديد - الذي يمنح جنوب السودان قدراً أكبر من الحكم الذاتي - وسيلة للشفافية في الحكم .
ولكن مقتل "جون جارانج" ومعه ستة من كبار العسكريين الجنوبيين بعد أقل من 3 أسابيع من توليه منصبه الجديد، جاء ليثير زوبعة من الأسئلة المحيرة حول ظروف مقتله، فهل غدر البشير بنائبه، كما فعل من قبل مع الترابي الذي أودعه السجن ؟ أم أن مقتله كان على خلفية صراع داخلي في صفوف الحركة الشعبية لتحرير السودان ؟!!
ظن البعض أنه بموت "جارانغ" ستنتهي الحركة الشعبية، بيد أن خليفته "سلفاكير" أثبت لهم عكس ذلك، وهذا انجاز يحسب له، حيث استطاع أن يوحد الحركة الشعبية في أحرج أوقاتها. وعليه فإن «الحركة الشعبية» الجنوبية بقيادته هي التي سيؤول إليها أمر حكم الدولة المستقلة الوليدة. وإذا أخذنا في الاعتبار الطبيعة القبلية لساحة الصراع السياسي في الإقليم الجنوبي، سنفهم طبيعة وأسباب الصراع هناك، حيث تدور حرب جنوبية - جنوبية حول السلطة. أوقعت خلال عام واحد نحو 2500 قتيل. هذا لأن «الحركة الشعبية» مستأثرة بالسلطة وتريد الاحتفاظ بها، وهي عمليا لا تمثل سوى قبيلة واحدة، الأمر الذي لا تقبل به القبائل الأخرى، مما دعاها إلى تشكيل ميليشيات مسلحة تقاتل جيش «الحركة». وهذه بلا شك نذر سيئة لدولة تنتظر الاستقلال.
مخاطر وتحديات تنتظر الدولة الجديدة
تعادل مساحة السودان الجنوبي مساحة فرنسا، أي بحدود 600.000 كم مربع تقريبًا. وتعداد سكانه نحو سبعة ملايين إنسان، أكثرهم من أتباع الديانات الأفريقية التقليدية والوثنيون، ويشكل المسيحيين نحو 15% والمسلمين حوالي 10% من السكان. ويتكون جنوب السودان من القبائل الأفريقية النيلية والحامية والبانتوية. ويعتقد أن أكبر جماعة عرقية هي الدينكا تليها النوير، ثم الشلك. ويتكلم السكان هناك عدة لغات. لغة التعليم والحكومة والأعمال هي الإنجليزية، وهي اللغة الرسمية لجنوب السودان منذ عام 1928، وأيضا يتكلمون اللغة العربية بلهجة جنوبية تعرف باسم عربية جوبا، إلى جانب عدد من اللغات الأفريقية المحلية .
قد يساعدنا فهم هذه المعطيات على فهم طبيعة المجتمع هناك، ونوع التحديات والمخاطر التي تواجهه، كمدخل لاستشراف مستقبل الدولة الوليدة، وتحليل اتجاهاتها وطبيعة علاقاتها المحتملة مع دول الجوار. فاللاعبون في هذه الدولة الوليدة كُثر، والأهداف أكثر، وفي المقابل العرب تائهون، ولم يحددوا بعد طريقة مثلى للتعاطي مع موضوع الانفصال، وربما مصر وليبيا وحدهما من حدد موقفا معينا منها .
ويرى المراقبون بعض المؤشرات السلبية التي تعطي فكرة عن ملامح المرحلة المقبلة لهذه الدولة الوليدة، ويبدون خشيتهم من تردي الأوضاع الأمنية هناك، وتزايد التدخلات الخارجية وخاصة الأميركية والإسرائيلية، واحتمال ظهور أفغانستان جديدة، إذا ما علمنا أن الوجود الأميركي سيدعم القبيلة الحاكمة في جنوب السودان ضد القبائل الأخرى، وما يزيد من احتمالات الخطر أن المنطقة تضم نسيجاً إثنياً متعددا يتكون من عشرات القبائل المتصارعة .
وبسبب هشاشة البنية السياسية في دولة الجنوب، وغياب مؤسسات المجتمع المدني، وضعف العمل الحزبي والمؤسسات الحديثة، فإن هذا سيعلي من شأن النفوذ القبلي، ويفاقم من الانفلات الأمني، وبالتالي ستجد الحركة الشعبية نفسها مرغمة على بناء نظام ديكتاتوري حتى تفرض النظام وتوفر الحد الأدنى من الأمن.
وهناك مخاطر وقوع حرب بين الشمال والجنوب بسبب التناقضات الكثيرة بين الإقليمين، وعدم الاتفاق على حل قضايا ما بعد الانفصال كالجنسية والعملة والمؤسسات، المدمجة، ومن سيتكفل بديون السودان الخارجية المقدرة ب 34 مليار دولار، وأيضا حقول النفط وإنتاجه .. وأهمها ربما قضية ترسيم الحدود في منطقة أبيي الغنية بالنفط، وهي مشكلة تشبه إلى حد كبير مشكلة كركوك في شمال العراق. وفي كلتا الحالتين، اعتبرت الحكومة المركزية هذه المدن امتدادا طبيعيا للوطن الأم، وفي الحالتين أيضا وقفت الولايات المتحدة ضد رغبات شعوب المنطقة. وفرضت القسمة الطائفية والإثنية عليها، وذلك يعني أن الحكومة السودانية ستحشر بين خيارين: إما أن تسلم بكافة المطالب الجنوبية، بما في ذلك التنازل عن مدينة أبيي، أو الاستعداد لجولة أخرى من العنف مع إبقاء العقوبات "الدولية . مما ينذر بحدوث حركات هجرة بينية بين الإقليمين، كالتي حدثت بين الهند وباكستان إبان التقسيم، حين تم التقسيم على أساس ديني كرس العداء بين الشعبين ونفخ فيه روح الطائفية.
وستواجه دولة الجنوب مشكلات البدء بالبناء المطلوب منها على كافة المستويات، في ظل نقص الكادر وضعف التمويل وضعف البنية التحتية، واستمرار نشاط عسكرة الحياة مما يصعب إعادة تأهيل البلد للعودة للحياة المدنية. وهذا بالطبع يستدعي الاستعانة بالخارج، وليس هنالك خارج مستعد للدعم بدون مقابل، ودون أن يحقق له هذا الدعم مصالح اقتصادية وسياسية وبشروط مجحفة لا سبيل لتفاديها، خاصة في حال البناء من الصفر، وهذا يشكل أكبر خطر على استقلال البلد وسيادته، وإذا علمنا أن دولة الجنوب دولة مغلقة لا منفذ لديها إلى البحر، ما يعني أن بترولها سيمر حتما عبر دولة الشمال إلى بورسودان. وبالتالي فإن دولة الجنوب ستخضع للإبتزاز لتسويق بترولها مما يجعل استقلالها شكلياً، ويمكّن دولة الشمال من إضعافها اقتصاديا .
السودان الجديد .. خسائر ومخاوف
بسبب غياب الديمقراطية ونرجسية الحاكم بأمر الله، واستفراده بتسيير دفة الحكم، والتحكم في كل مفاصل الدولة، دون سياسة واضحة، ودون مشاركة القوى والفعاليات الشعبية، برؤية ضيقة تحكمها عقلية مستبدة، انتشرت في عموم البلاد القلاقل والاضطرابات، وأخفقت الحكومة في الاستفادة من ثروات البلاد، وتعطلت كل مشاريع التنمية، وأُغلق الأفق السياسي، وغرق السودان في بحر لجي من الظلمات والحروب الأهلية ونزعات الانفصال. وفي النتيجة رضخ النظام للضغوطات الدولية، وقَبِل بالتقسيم على وهم أن نقاء دولة الشمال الديني بأغلبيتها المسلمة سوف يمكن البشير من فرض دولته الدينية بسهولة ويسر، والأهم من هذا أنه توهم أيضا أن اعترافه بنتائج الاستفتاء ستبعد عنه شبح المحكمة الدولية.
لقد أراد النظام السوداني من خلال الانفصال تكريس الدولة الدينية لتشكل غطاء لرأس المال الطفيلي من تشديد قبضته على السلطة، ومن نهب موارد الدولة، متوهماً أن فشله في فرض سطوته على الجنوب أسبابها دينية وعرقية، متناسيا أن الأزمة بالأصل هي اقتصادية واجتماعية وسياسية، تغطت برداء التمايز العرقي والديني، وهو التمايز الذي عمقته دولة البشير الدينية، والدلالة على ذلك الأزمة في دارفور، وانتفاضات أبناء الشمال والغرب ضد الاستبداد، وهي مرشحة للتصاعد رغم أن النقاء الديني والعرقي في هذه الأقاليم. فمن المعروف أن جميع سكان دارفور على سبيل المثال هم من المسلمين السنة ويتكلمون العربية، ورغم ذلك تعرضت لمذابح وأعمال تهجير عنيفة.
لقد خسر السودان بعد التقسيم ميزة الكيان الواحد، الذي كان من المفترض أن يجعل السودان كله الأقوى والأغنى بين دول المنطقة، وخسر بالتالي فرصة التماسك بوزن إقليمي ودولي أكبر، وهذه خسارة مضاعفة في زمن التكتلات الاقتصادية الباحثة عن كيانات أكبر تمكنها من مواجهة الأزمات الاقتصادية والسياسية الدولية المعقدة. وطالما أن الانفصال تم على أساس افتراض تباين وتناقض مستعصٍ على الحل، فإن هذا سيمنع من وجود أي شكل من أشكال التعاون أو التكامل بين البلدين.
وحرم الانفصال دولة الشمال من عمقها الأفريقي، وقطع الصلة المباشرة بينها وبين دول حوض النيل، ومن ناحية أخرى أغلق الطريق أمام أي تواصل حضاري يسمح للطرفين ببناء تواصل إنساني مفيد ومؤثر على المستوى الإنساني، وأخطر ما في الموضوع أن انفصال الجنوب سيشجع جميع المجموعات المهمشة بالبلاد – وما أكثرها - على المطالبة بحقها في تقرير مصيرها، وذلك لأن استمرار الطريقة العقيمة في التعاطي مع المشكلات وحصرها في إطارها الأمني وتبرير الفشل بالمؤامرات الخارجية، لن يسمح بمعالجة مشكلات تلك المناطق بإشراكها إشراكاً حقيقياً وفاعلاً في السلطة، أو القيام بتنمية حقيقية تنتشلها من قاع التخلف التي تنعم فيها.
وحول تأثير الانفصال على الأوضاع القانونية في حوض النيل، تخشى دول الحوض أن يتبرأ جنوب السودان من الاتفاقيات الدولية السابقة، والتي قسَّمت الحصص التاريخية بينها، كاتفاقيات 1929 و 1959 وفي هذا سابقة خطيرة في التبرؤ من مبدأ التوارث التاريخي للمعاهدات الدولية . من الممكن أن تقدم عليها حكومة الجنوب، خاصة مع الدعم الأمريكي الواضح، والإسرائيلي الخفي، وما يعزز هذه القناعة تصريحات قادة الدولة الجنوبية عن نيتهم بفتح البوابة الجنوبية لإسرائيل، لتكثيف تسللها للعمق الأفريقي. سيما وأن الوجود العسكري والأمني الأجنبي (الأمريكي والإسرائيلي والأثيوبي والأوغندي) سيمنع أي من الدول العربية المتضررة من التدخل العسكري، خصوصا مصر والسودان باعتبار أنهما المتضرر الأكبر .
وتخشى الأنظمة العربية أن يكون السودان قد افتتح عصراً آخر من أدوات الانفصال والتجزئة، لأن التجربة ستكون قاسية إذا امتدت وأحسن استغلالها خارجياً . فإذا شكلت محاكمة البشير مدخلاً للتقسيم، فإن محكمة قتلة الحريري في لبنان قد تكون مدخلاً لأوضاع ربما مشابهة .
خاتمـة سـريعة
أخفق النظام السوداني في التعامل مع الأزمة منذ بداياتها، وتصرف في ذلك كما تتصرف باقي الدول العربية مع مواطنيها خاصة إذا كانوا يشكلون أقليات أو مجموعات متمايزة طائفيا وإثنيا، فجميع تجارب الدول العربية تقدم أمثلة سلبية ومخزية في هذا الشأن، تنطلق من النظرة الأمنية الأحادية للأزمة، وتتعامل معها بطريقة عقيمة، ولا ترى أي أفق إستراتيجي مستقبلي، وتنتظر المشكلة حتى تتفاقم وتبدأ الشعوب بالتحرك والاحتجاج، والدول الأجنبية بالتدخل وفرض العقوبات. ويكون حينها قد فات الأوان.
كذلك أخفقت الدول العربية، سواء على مستوى دول الجوار المتأثرة مباشرة بأزمات السودان، أم على مستوى الجامعة العربية، في تقديم أي عون حقيقي للسودان، أو طرح مبادرات عملية تجنبه ما تعرض إليه أخيرا، وترك العرب السودان وحيدا يواجه أزماته بطريقته العدمية، ومن المؤسف أن أي من دول المنطقة قد استفاد من الدرس.
تقسيم السودان صار أمرا مقضيا، ومن حقائق السياسة الراهنة التي لا يمكن تجاهلها، أو العودة بها إلى الوراء، وعلى شعب السودان – شماله وجنوبه – أن يبدأ ببناء سودان جديد برؤية جديدة، وليس أمامه خيار آخر، سوى انتظار مشاريع انفصال جديدة، والبقاء يراوح مكانه في دوائر القمع والاستبداد والتخلف.
حدود السودان بين شماله وجنوبه أطول حدود فى إفريقيا، وتبلغ 1636 كيلومتر، هذه الحدود لن تحميها القوات المدججة بالسلاح ، بل يحميها السلام والتعايش بين قبائلها، ويحميها تحويل مناطق التماس من حقول ألغام ومناطق حرب إلى حدائق للسلام والازدهار، وعلى الجميع أن يتركوا الماضي خلفهم، وأن يعملوا معا، لرؤية السودان الجديد وأن يتطلعوا نحو المستقبل.
14 نيسان 2011
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق