مدخـل
كان الشاعر الكبير محمود درويش يحس بسعادة غامرة كلما قرأ قصائده أمام الجمهور المغربي، وطالما أحب المغاربة ووصفهم بالشعب الراقي والمتحضر، ولم يكن درويش وحده من الشعراء مفتونا بالمغرب، فكثير منهم له حكايات وذكريات مع مدن المغرب العتيقة، تتجاورُ فيها مُتعة السفـر، وتفيض بدفء الماضي وشعرية المكان. أزقّة فاس وألوان مراكش، وأبواب مكناس وأسوار الرباط .. تلك التي شيدها شعب المغرب في العصور القديمة، يعيد الشعراء اليوم بناءها في قصائدهم،
الشاعر العراقي سعدي يوسف فضل العيش في مكناس قائلاً: "إنها توازي باريس بالنسبة لي، هي عاصمة السلطان المغربي إسماعيل الذي كان نداً حقيقياً للملك الفرنسي لويس الثاني عشر، حتى أنه طلب يد ابنته ليتزوجها". العديد من مدن المغرب مثل فاس ومراكش والرباط ومكناس تشترك في أن كل واحدة منها أُسست لكي تكون عاصمة ومركز حكم، ولهذا ربما ما زال البعض يخلط بينها في تحديد أيهما العاصمة الحالية، ويحارُ أيّها يزور أولا.
الحديث عن المغرب ذو شجون، فهو ليس كغيره من البلدان، هو آخر بلدان العروبة والإسلام غربا، قبل أن نصل إلى المحيط، وهو جسر التواصل بين الشمال الأوروبي والجنوب الإفريقي، والذي منه انطلقت جيوش الفاتحين صوب الأندلس، وقد حباه الله بطبيعة ساحرة وتنوع مناخي مذهل، شواطئه الذهبية تمتد آلاف الأميال، وجبال الأطلس الشاهقة ترنو نحو السماء بينما تنساب منها الأنهار برشاقة، لتسقي السهول الفسيحة والهضاب التي تكسوها الغابات، صحاريه شاسعة على مد البصر .. كثبان من الرمال تحيطه من الشرق والجنوب، أبعدت عنه شر الغزوات وهجمات البدو، حدوده على المتوسط والأطلسي وعلى تخوم الصحراء حافظت على خصوصيته الثقافية من تقلبات الزمان وتداول الفاتحين، ومنحت المغاربة شخصيتهم المنفردة.
يقول علماء الجيولوجيا أن جباله العذراء تعود إلى العصر الكمباري، وهو العصر الذي شهد بداية تفجر الحياة بكل أنواعها قبل عشرات الملايين من السنين، بينما يقول علماء الانثروبولوجيا أنهم وجدوا فيه آثار مجتمعات زراعية بدائية تعود للألف الخامس قبل الميلاد، وبصرف النظر عن التاريخ القديم وتفسيراته المختلفة، فإنه من الثابت أن المغرب خضع لحكم الرومان في القرن الثاني قبل الميلاد، وأن الحاكم العسكري أقام سوراً رومانياً لكي يحموا أنفسهم من هجمات بدو الصحراء. وربما هذا ما أوحى بفكرة "حرب الرمال" ضد البوليساريو في العصر الحديث.
سفرة في تاريخ المغرب
فتح المسلمون المغرب سنة 681م على يد عقبة بن نافع، ولكن الفتح النهائي احتاج ربع قرن إضافي ليتم على يد موسى بن نصير. دخل الكثير من سكان البلاد في الإسلام. مما أتاح للقائد العربي إدريس بن عبد الله سنة 788، أن يوحّد أقاليم العرب والبربر تحت حكمه، ليُنشئ بذلك أول دولة مغربية، "دولة الأدارسة"، التي حكمت المغرب نحو 200 سنة، وكانت "فاس" عاصمتها وحُكامها يسمون بالسلاطين. ومن بعدهم وحتى القرن السابع عشر: تعاقبت عدة أسر على حكم المغرب ومنها: المرابطون، الموحدون، المرينيون والسعديون، وآخرهم العلويون (وهم أسرة من الأشراف) حكموا منذ 1660 وما زال حكمهم قائما للآن.
وهنا تلعب الصدفة دورا كبيرا في تغيير منحى تاريخ المغرب، فإذا كانت الأسر الحاكمة قبل "الأسرة العلوية" لم تنجح في كسب ود الأهالي، ولم تحظ بالشرعية الدينية التي تمد في عمرها وتحميها من غضب السكان، فإن مشيئة الأقدار سيّرت "الحسن الأول" ليصل إلى المغرب في إحدى السنين التي نجت فيها واحات النخيل في صحراء "تافيلالت" من حشرة الفطر التي ظلت تنخرها سنة وراء سنة، وظن السكان حينها أن وجود شخص من آل البيت هو ما وقاهم سوء البلاء، وأبعد عنهم شر الأمراض الفتاكة، فتبّركوا به ونصبوه ملكا عليهم، بعد أن كان أجداده قبل ذلك، مجرد رعايا يدفعون الضرائب ويقاتلون في صفوف الجيش، لأربعة قرون متوالية .
خلال حكم "مولاي عبد العزيز" عقدت كل من فرنسا وإسبانيا معاهدة سرية حول تقسيم المغرب. بدأتا تنفيذ مخططها بهجوم القوات البحرية الفرنسية على مدينة الدار البيضاء سنة 1907. وفي هذه الأثناء كانت الخلافات قد اشتدت بين الملك عبد العزيز وأخيه عبد الحفيظ، الذي طلب مساعدة الفرنسيين له من أجل استعادة النظام. فكان له ما أراد، ولكن مقابل التوقَّيع على معاهدة "فاس" عام 1912م التي بموجبها تمكن الفرنسيون من السيطرة على المغرب، والقضاء على استقلال البلاد. ثم تمكن الأسبان من السيطرة على منطقتهم في المغرب عن طريق الفرنسيين. ووضعت "طنجة" تحت الإدارة الدولية. لم يمضي وقت طويل حتى اندلعت ثورة شعبية في الريف الشمالي تخللها قيام "جمهورية الريف" بقيادة الأمير عبد الكريم الخطابي. وقد كبدت الثورة الفرنسيين خسائر كبيرة، لكن الفرنسيون قضوا عليها بعد سبعة سنوات من انطلاقتها. بعد ذلك مباشرة في 1927 اعتلى محمد الخامس العرش في ظل الاحتلال الفرنسي، وهو في سن الثامنة عشر، وكان أصغر أخوته.
وعندما نشبت الحرب العالمية الثانية، لم يكن المغرب بمعزل عن الأحداث، وقبيل انتهاء الحرب اجتمع كل من فرانكلين روزفلت رئيس الولايات المتحدة، وونستون تشرتشل رئيس الوزراء البريطاني، في "الدار البيضاء" بحضور الملك محمد الخامس، وقد وعد الزعيمان الملك بمنح بلاده الاستقلال بعد عشرة سنوات، وبعد أن وضعت الحرب أوزارها توجه الملك المغربي إلى باريس، يصحب معه ابنه ابن الخمسة عشر ربيعا، وبيده مذكرة من أربعين صفحة تتعلق بمستقبل المغرب والمطالبة بالاستقلال، وقد وعدهم الجنرال ديغول الذي كان رئيس وزراء الحكومة المؤقتة بأنه عندما تستتب الأمور سيكون لكم ما تشاؤون.
وفي سنة 1947 طالب السلطان "محمد الخامس" وبدعم من حزب الاستقلال بإعادة اتحاد الإقليم المغربي الذي تسيطر عليه فرنسا وأسبانيا، وأن تُمنح المغرب حق الحكم الذاتي، ولكن فرنسا رفضت، وامتنعت عن القيام بأية خطوات هامة باتجاه الاستقلال. بل أنها سنة 1953م قامت بنفي السلطان محمد الخامس وعائلته إلى مدغشقر، وسجنوا بعض قادة حزب الاستقلال. الأمر الذي أدى إلى موجة من السخط والغضب الشعبي، وانتشرت أعمال العنف، وقد شكل قادة الاستقلال الجدد جيش التحرير الوطني الذي قاوم القوات الفرنسية بضراوة، وبعد سنتين فقط أعاد الفرنسيون الملك المنفي من أجل استعادة النظام، ووعدوه بمنح المغرب حريته. وفي آذار 1956م أصبحت المغرب مستقلة فعلا عن فرنسا. وفي نيسان من نفس العام تنازلت أسبانيا عن كل مطالبها تقريبًا في شمال المغرب، وعادت مدينة طنجة مرة أخرى للسيادة المغربية. وبقيت مناطق سبتة ومليلية والجزر الجعفرية وإفني، والأقاليم الصحراوية تحت السيطرة الإسبانية.
أزمات ومؤامرات
لم يكد يمضي عام على الاستقلال، حتى شهد القصر الملكي أول المؤامرات، بدأت خيوطها كما يرويها الملك الحسن الثاني بنفسه عندما أراد "المهدي بن بركة" تسييس جيش التحرير والسيطرة عليه، فقام أحد القناصة باختطاف وقتل قائد الجيش "عباس المسعدي"، وعندما ألقي القبض عليه، اعترف القاتل بتلقيه الأوامر من "ابن بركة"، وأنه كان يستهدف الملك شخصيا، وقد وضعه لعدة مرات في دائرة التصويب بينما يستقل سيارته، من خلال نظارة البندقية، وكان أصبعه على الزناد، إلا أنه عجز عن الضغط وأحس بقوة ما تمنعه عن ذلك .
بعد هذه الحادثة ساءت العلاقة كثيرا بين الملك وأستاذه السابق في الرياضيات "المهدي بن بركة"، الذي اختطف في ظروف غامضة في العام 1965 في فرنسا، ولم يظهر بعدها، وعلى إثر اختطافه نشبت أزمة دبلوماسية بين فرنسا والمغرب، إذ أصر الجنرال ديغول على عزل وزير الدفاع الجنرال "أوفقير" من منصبه، الأمر الذي اعتبره الملك تدخلا سافرا في الشؤون الداخلية، خاصة وأن الطلب كان علنيا، وبنبرة لا تخلو من الغضب.
الأزمة الأخرى والتي ما زالت مستمرة لليوم، هي أزمة الحدود بين الجزائر والمغرب، فبينما يعتبر المغرب أن منطقة "تندوف" الحدودية هي أراضي مغربية، وأن "الجزائريين الذين يرفضون التنازل عنها هم مجرد ورثة للاستعمار فيما يخص مشاكل الحدود" ، اعتبر الرئيس الجزائري "ابن بلة" أن تندوف جزائرية، وأن المغرب دولة رجعية وحليفة للإمبريالية، واتهم الحسن الثاني بتدبير حادثة اختطافه على يد الفرنسيين، وهذا ما نفاه الحسن الثاني جملة وتفصيلا. واعتبر أن الجزائر تريد فرض هيمنتها على المغرب العربي. وقد نشبت مواجهة مسلحة بين البلدين بعد عام واحد من استقلال الجزائر، عرفت بحرب الرمال، ولكن الجامعة العربية تدخلت لإنهائها سريعا، ومنذ ذلك الحين أدار البلدين ظهريهما لبعضهما البعض، وسار كل منهما باتجاه مضاد للآخر.
مؤامرتان تعرض لهما القصر بعد ذلك، الأولى في العام 1971 حين اقتحم قصر الصخيرات بالرباط 1200 جندي وضابط، بينما كان الملك يقيم حفل استقبال لضيوفه، ومن بينهم عدد من السفراء والقناصل، وأخذ المهاجمون يطلقون النار على المدعوين، كانت تلك محاولة انقلابية خطط لها مدير الحرس الملكي واسمه "المذبوح"، الذي صار مذبوحا فعلا بعد فشل المحاولة، حيث قتله مساعده "عبابو"، الذي قُتل أيضا في نفس اليوم.
المؤامرة الثانية وهي التي ستكشف أسرار المؤامرة الأولى ومدبريها، بل ومدبر اختطاف ابن بركة من قبل، ففي العام التالي لمجزرة الصخيرات وبينما كان الملك في طريق عودته قادما من فرنسا، تعرضت طائرته لوابل من الرصاص كاد أن يفجرها وهي تحلق فوق المياه الدولية، وعلى الفور أدرك الملك أن وراء كل ذلك، وزير دفاعه الجنرال "أوفقير" الوحيد القادر على إعطاء التعليمات للطائرات الحربية بالإقلاع، وبعد الهبوط المرتبك للطائرة المحترقة في مطار الرباط، على الفور استقل الملك سيارة شخصية لأحد المواطنين وفر نحو القصر قبل أن يقصف أوفقير المطار بمن فيه، ولكن الجنرال بعد أن أدرك فشله سلم نفسه للملك. الرواية الرسمية تقول أنه انتحر. عائلته تقول أنه انتحر بإطلاقه خمسة رصاصات على رأسه !! الملك يؤكد أن الجنرال الذي كان يقدم نفسه أحد المخلصين والأوفياء، لم يكن ليطيق أن يحاكمه زملائه الجنود، أمام محكمة تسوقه إلى المشنقة، فاختار الانتحار .
سبتة ومليلية
كما قامت فرنسا بسلخ لواء الاسكندرون السوري ومنحه لتركيا عشية الحرب العالمية الثانية، في محاولة منها لإرضاء أتاتورك، ورغبة في التقليل من الخسائر التركية في معاهدة سيفر، كانت مدينتي سبتة ومليلية ضحيتا التفاهم الفرنسي الإسباني لمرحلة ما بعد الجلاء.
وتكمن الأهمية الإستراتيجية لهاتين المدينتين في كونهما يُطْبقان مع الشاطئ الجنوبي الإسباني على مدخل المتوسط من طرفيه، قبل أن يتحد بالمحيط، وبالتالي فإن السيطرة عليهما تعني التحكم بحركة العبور والخروج إلى هذا الحوض العظيم، الذي تتشاطأه أقدم الحضارات في العالم، وقد تنبهت قوى الاستعمار لأهمية المنطقة منذ وقت مبكر، فاحتلت البرتغال "سبتة" في عام 1415، وبعد قرنين وربع انتزعها منهم الأسبان في 1640، أما مدينة "مليلية" فقد احتلتها إسبانيا عام 1497 بعد أن سقطت إمارة غرناطة وانتهى الوجود العربي في الأندلس. وظلت المدينتان منذ ذلك التاريخ تخضعان للحكم الإسباني، وفي العام 1995 أصبحتا منطقة تتمتع بصيغة للحكم الذاتي داخل إسبانيا، بقرار من البرلمان الإسباني. وحاليا تتميز المنطقة بمينائها وموقعها حيث تعتبرهما أسبانيا همزة وصل بينها وبين القارة السمراء، ومنهما تتمكن من مراقبة حركات الهجرة غير الشرعية، والسيطرة على معظم مساحة المياه الإقليمية بين المغرب وإسبانيا.
ولكن المملكة المغربية، ومنذ استقلالها، تعتبر المدينتان جزءً لا يتجزأ من التراب المغربي. وترفض الاعتراف بشرعية الحكم الإسباني عليهما، وتعطي سكانهما ممن هم من أصل مغربي حقوقا كاملة كباقي المواطنين. وتطالب إسبانيا بالدخول في مفاوضات مباشرة معها لأجل استرجاعهما، وتدعمها في ذلك بقية الدول العربية ودول الإتحاد الإفريقي. حيث تعتبرهما إحدى أواخر معاقل الاستعمار في أفريقيا، غير أن الأمم المتحدة لم تصنف المنطقة بعد ضمن المناطق المحتلة والواجب تحريرها.
ومنذ احتلالهما تعددت المحاولات التاريخية لاستعادة المنطقة وضمهما للوطن، منها محاولة المولى إسماعيل في القرن السادس عشر، حيث حاصر المغاربة مدينة سبتة 33 سنة دون أن يتمكنوا من استعادتها، ثم محاولة السلطان محمد بن عبد الله عام 1774 محاصرة مدينة مليلية من غير جدوى. وحديثا تعد أبرز المحاولات المعاصرة لتحريرهما هي ثورة عبد الكريم الخطابي ضد القوات الإسبانية في شمال المغرب.
البوليساريو .. قضية الصحراء الغربية
قضية الصحراء المغربية من أكثر القضايا التباسا وغموضا على المواطن العربي، ليس بسبب الأداء الإعلامي المرتبك إزاء هذه القضية، بل بسبب طبيعتها وخصوصيتها التي تجعل منها إشكالية تستعصي على الحل. فإذا كنا نحن الفلسطينيون سننحاز إلى جانب الشعب الصحراوي في حقه بتقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة، فهذا لأننا من أكثر شعوب الأرض توقا للحرية ونيل الاستقلال، وبالتالي لا يمكن إلا أن نتفهم توجهات الشعوب في تقرير مصيرها، ولكنا في ذات الوقت كعرب نؤمن بالوحدة ونرفض مشاريع التجزئة والتقسيم، وأمام هذا المشهد المحير لا نملك إلا أن نتمنى للشعب المغربي والصحراوي أن يجدا صيغة حل ما، تمكنهما من مواجهة المستقبل وتحدياته، بتعايش سلمي حضاري، يسهم في إثراء الحضارة الإنسانية، كما كان المغرب منذ أقدم العصور.
لم تستطع الجامعة العربية ولا منظمة الوحدة الأفريقية ولا منظمة الأمم المتحدة، من الوصول إلى حل سلمي لنـزاع الصحراء الغربية، الذي قارب عمره أربعة عقود، وما زال يلقي بظلاله الكئيبة، التي تحول دون استقرار المنطقة وقيام اتحاد مغاربي فاعل. وقد طرحت الأمم المتحدة عدة حلول في إطار جهودها لحل المسألة، ولم يكن أي حل منها موضع اتفاق بين الطرفين (المغرب والبوليساريو) حيث لا يقبل المغرب أي حل يضع وحدته الترابية عُرضة للتقسيم، بينما لا تريد البوليساريو أي حل لا يؤدي إلى انفصال الصحراء وحصولها على الاستقلال.
فالاستفتاء الشعبي لسكان الصحراء الغربية، الذي كان مطروحا خلال عقد الثمانينات سيؤدي حتما إلى خيارين، إما الانضمام للمغرب، وهو ما ترفضه البوليساريو بشدة، وإما الانفصال عنه وتكوين دولة الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية المستقلة، وهو ما يرفضه المغرب. ورغم تباعد وجهات نظر الطرفين، فإن الأمم المتحدة قامت بوضع الترتيبات الكاملة لتنظيم عملية الاستفتاء، بدء بإقرار وقف إطلاق النار بين الجانبين، لكن عملية الاستفتاء تعطلت بسبب عدم الاتفاق على من يحق له المشاركة فيها.
وتعود جذور مشكلة الصحراء الغربية إلى فترة الاحتلالين الفرنسي والإسباني للإقليم المغربي في مطلع القرن العشرين، حيث خضع المغرب للاحتلال الفرنسي، فيما خضعت الصحراء الغربية للاحتلال الإسباني، وخلال المدة الطويلة للاحتلال، تمايز الشعبين فيما بينهما، وسارا نتيجة خضوعهما لعوامل متباينة في مسارات مختلفة، فأحس سكان الصحراء بهويتهم الثقافية والوطنية التي تؤهلهم لنيل الاستقلال، ولكن المغرب ظل ينظر لسكان الصحراء على أنهم مواطنون مغاربة.
والواقع أن علاقة إسبانيا بالمنطقة تعود إلى القرن السادس عشر، حيث كان البحارة الكناريون يقومون بالتبادل التجاري مع سكان الساقية الحمراء ووادي الذهب، وبموجب هذا الاحتكاك أصبح بعض السكان على إلمام نسبي باللغة الاسبانية. ثم جاء مؤتمر برلين عام 1884، وفيه أقر الأوروبيون لأسبانيا بحقها في استعمار إقليم الساقية الحمراء ووادي الذهب. وبذلك حصل الأسبان على ما كانوا يحتاجونه لتشريع احتلالهم لمنطقة الصحراء الغربية. وتنبع أهمية المنطقة من كونها موقع جغرافي يربط إفريقيا بأوروبا. وقنطرة عبور للقوافل التجارية شمالا وجنوبا، وشواطئ غنية بمختلف أنواع الأسماك، وثروات معدنية أهمها الفوسفات.
وفي أثناء فترة الاحتلال الاسباني طرأت تغييرات كبيرة في بنية المجتمع الصحراوي، حيث أدى الانتقال من حياة الترحال والبداوة إلى الاستقرار في المناطق الحضرية إلى نشوء طبقة متوسطة، وظهور حركة شبابية تأثرت بالأفكار اليسارية المعادية للاستعمار الإسباني، كانت ترى أن الأنظمة الملكية هي أنظمة دكتاتورية بورجوازية معادية للجماهير، وقد أدى هذا الحراك الشبابي في عام 1973 إلى تأسيس جبهة البوليساريو. خاصة عندما بدؤوا يرقبون عن كثب تحركات الأسبان، وقد أيقنوا أنهم خارجون من الصحراء لا محالة، في هذه الأثناء حاولت إسبانيا في عهد فرانكو إتباع إستراتيجيتين مختلفتين في الصحراء الغربية, فمن جهة كان قسم من حكومة فرانكو يريد الحفاظ على تواجد مباشر مطلق في الإقليم، بينما رأى آخرون ضرورة خلق قوة موالية لإسبانيا، يمكنها حماية الثروات الطبيعية في المنطقة، خاصة مناجم الفوسفات. التقت كل من هاتين الإستراتيجيتين حول ضرورة خلق هوية صحراوية مستقلة.
وقبل أن ينجلي الأسبان عن الصحراء بسنتين، أعلن عن تأسيس جبهة البوليساريو، وكلمة "البوليساريو" هي المختصر الإسباني المكون من الحروف الأولى لاسم "الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب" وهي حركة تسعى إلى انفصال الصحراء الغربية عن المغرب، وتأسيس الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية. أسسها الولي مصطفى الرقيبي الذي لم تدم زعامته إلا ثلاث سنوات، حيث قتل في ظروف غامضة في حزيران 1976 خلال هجوم على العاصمة الموريتانية نواكشوط، ثم تولى زعامة الجبهة محمد عبد العزيز وهو من مراكش، وما زال أمينا عاما للجبهة إلى اليوم .
كانت الانطلاقة الرسمية للجبهة في 20 أيار 1973، من خلال المؤتمر الأول للجبهة الذي عقد تحت شعار "بالبندقية ننال الحرية"، وأعلن عن ميلاد الجبهة، والبدء بالكفاح المسلح ضد الإدارة الاستعمارية الإسبانية، وذلك بعد فشل كل أساليب النضال السلمي التي قمعت بعنف من قبل المستعمر في 17 حزيران 1970 - حسب بيان المؤتمر الأول - الذي أعلن بعبارات واضحة الأسباب التي أدت إلى تبني هذا الخيار، مؤكدا على أنه لم يكن هناك غيره: "إزاء تشبث الاستعمار بالبقاء مسيطراً على شعبنا العربي الأبي، ومحاولة تحطيمه بالجهل والفقر والتمزق، وفصله عن الأمة العربية، وإزاء فشل كل المحاولات السلمية .. تتأسس الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب، كتعبير جماهيري وحيد، متخذة العنف الثوري وسيلة للوصول بالشعب الصحراوي العربي الإفريقي إلى الحرية الشاملة من الاستعمار الإسباني". وقد اعتبرت البوليساريو في أول مؤتمر تعقده بعد الرحيل الفوضوي لإسبانيا عام 1975 أن أسبانيا تنكرت لمسؤولياتها التاريخية وباعت الشعب الصحراوي بعد أن استغلته ما يقارب القرن من الزمن .
إذن، الجبهة تحمل شعارات معاداة الإمبريالية والصهيونية، وتطالب بالحرية والاستقلال، وتنادي بالوحدة العربية، وتعتبر الأنظمة العربية حكومات إقطاعية ورجعية، كما تحمل شعارات يسارية بعضها متأثر بالتروتيسيكة وأخرى بالستالينية، وبهذه الشعارات تمكن مؤسسو البوليساريو من إقامة علاقات وطيدة مع ليبيا والجزائر والمنظومة الاشتراكية.
ورغم الدعم الجزائري والتمويل الليبي للجبهة، فإن دورها على الصعيد العالمي في تراجع مستمر، حيث اعترفت عند نشأة الجبهة 75 دولة بما يعرف بالجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية، وانخفض العدد إلى 40 ثم إلى 30، بعد سحْب الكثير من الدول اعترافها بالجمهورية المعلنة من طرف واحد. علما أن الأمم المتحدة ما زالت تعترف بالجبهة كممثل وحيد للشعب الصحراوي، وتدعم حقه في تقرير مصيره. ويعود هذا التراجع بسبب تخلي ليبيا منذ 1984 عن دعم البوليساريو، وبسبب انشغال الجزائر بأزمتها الداخلية بعد العام 1991، وانتهاء الحرب الباردة، الأمر الذي عمل على تقوية موقف المغرب.
من جهة أخرى، كان المغرب ومنذ البداية يطالب بجلاء الاحتلال الإسباني عن الإقليم، عبر المحافل الدولية والأمم المتحدة، ومن أجل مضاعفة الضغط على إسبانيا، بدأ يكرر مطالبه حول سبتة ومليلية، بالإضافة إلى قيامه بتوقيع معاهدة سرية مع موريتانيا، تنص على اقتسام الصحراء الغربية بين البلدين. خلال هذه الفترة بدأت إسبانيا تحاول إيصال البوليساريو إلى السلطة. ويقول البعض أنه تحت ضغط فرنسا والولايات المتحدة وقّعت إسبانيا مع الحسن الثاني اتفاقا سريا يتخلى المغرب بموجبه عن سبتة ومليلية مقابل الصحراء الغربية، ولكن المغرب لم يكتف بالمطالبة، بل أن الملك الحسن الثاني وجه نداء للشعب المغربي بالتوجه في مسيرة سلمية ضخمة ضمت 350 ألف متطوع، عُرفت بالمسيرة الخضراء، حيث توغل المتطوعون المغاربة داخل الصحراء، وأقاموا فيها فترة من الزمن، رغم الاحتجاجات الإسبانية على المسيرة، وتهديدها برد عسكري، لكن الدعم العربي والدولي ونجاح المسيرة أدى بإسبانيا إلى التفاوض والتخلي عنها لصالح المغرب وموريتانيا، بموجب "معاهدة مدريد". وذلك بعد اعتراف محكمة لاهاي الدولية بوجود روابط تاريخية بين سكان الصحراء والمغرب .
ومن عادة القوى الاستعمارية أن لا تنسحب قبل أن تخلف وراءها قنابل موقوتة قابلة للانفجار في أي لحظة، هي طبعا مشكلة الحدود، وحيث أن موريتانيا كانت جزءً من الدولة المغربية السعدية، قبل ظهورها كدولة مستقلة في أواخر الخمسينيات، فقد نشأ خلاف موريتاني مغربي على الحدود، وتفاديا لحدوث نزاع مسلح توصل الطرفان إلى حل يقضي بتقسيم الإقليم، حيث يكون للمغرب الجزء الأكبر ويكون لموريتانيا الثلث الجنوبي. ولكن جبهة البوليساريو رفضت هذا التقسيم وقامت بحرب عصابات ضد الدولتين معا، انطلاقا من تندوف الجزائرية (الذي هو مقرها إلى هذا اليوم)، وفي النهاية انسحبت موريتانيا من الصراع، وبسط المغرب سيادته على مجموع الإقليم، وقام بتشييد الجدار الرملي على حدوده، الأمر الذي نجح في منع مقاتلي الجبهة من التسلل إلى داخل الإقليم. وفي أيلول 1991م، توصلت المملكة المغربية وجبهة البوليساريو إلى اتفاق أدى إلى وقف إطلاق النار، ووافق الطرفان على إجراء استفتاء تحت إشراف الأمم المتحدة يحدد مصير الصحراء الغربية.
أسئلة مشروعة
السؤال الذي لم أجد إجابة شافية له: لماذا تأخر الصحراويون في مقاومة الاستعمار الإسباني كل هذه السنين، وانتظروا حتى حان موعد رحيله لينشئوا جبهة البوليساريو ؟! وإذا كان مبرر انطلاقة الجبهة هو طرد الاستعمار الإسباني، فماذا بقي من هذا المبرر، بعد أن صار الوجود الإسباني في الصحراء المغربية جزء من التاريخ ؟ ولماذا غذّت دول الجوار هذا الصراع، بدلا من البحث عن حل سلمي يرضي جميع الأطراف ؟
المراقبون يرون أن النـزاع على الصحراء الغربية يأتي في سياق الحرب الباردة، فالبوليساريو رفعت شعارات اشتراكية وحظيت بدعم الجزائر التي كانت في صف المنظومة الاشتراكية، بينما يحتفظ المغرب بعلاقات طيبة مع الغرب والولايات المتحدة. ويعتقد البعض أن الأزمة هي تعبير عن الصراع بين المغرب والجزائر على الهيمنة على المنطقة، وهي امتداد لحرب الرمال الحدودية بينهما، حيث سعت الجزائر إلى خلق أزمة في الصحراء الغربية، ودعم حركات انفصالية لإضعاف المغرب، ومحاولة تحويل الرأي العام الجزائري عن التطرق للمشاكل الداخلية وتوحيد صفوفه لمواجهة العدو الخارجي. بينما يعتبر آخرون أن الحسن الثاني أخذ الموضوع بشكل شخصي أكثر من اللازم.
في المحصلة ما زال شعب الصحراء غارقا في متاهة البحث عن مخرج، وجزء منه يعيش في مخيمات لاجئين في ظروف قاسية، ومنهم من بدء يتهم قيادة البوليساريو بالتعيش من قضيتهم، وأكثرهم لم نسمع كلمتهم حتى الآن. والمنطقة بأسرها مأخوذة بهذا الصراع الذي استنـزف قدراتها وشبابها، وأخّر تقدمها، الذي هو أصلا متأخر.
كان الشاعر الكبير محمود درويش يحس بسعادة غامرة كلما قرأ قصائده أمام الجمهور المغربي، وطالما أحب المغاربة ووصفهم بالشعب الراقي والمتحضر، ولم يكن درويش وحده من الشعراء مفتونا بالمغرب، فكثير منهم له حكايات وذكريات مع مدن المغرب العتيقة، تتجاورُ فيها مُتعة السفـر، وتفيض بدفء الماضي وشعرية المكان. أزقّة فاس وألوان مراكش، وأبواب مكناس وأسوار الرباط .. تلك التي شيدها شعب المغرب في العصور القديمة، يعيد الشعراء اليوم بناءها في قصائدهم،
الشاعر العراقي سعدي يوسف فضل العيش في مكناس قائلاً: "إنها توازي باريس بالنسبة لي، هي عاصمة السلطان المغربي إسماعيل الذي كان نداً حقيقياً للملك الفرنسي لويس الثاني عشر، حتى أنه طلب يد ابنته ليتزوجها". العديد من مدن المغرب مثل فاس ومراكش والرباط ومكناس تشترك في أن كل واحدة منها أُسست لكي تكون عاصمة ومركز حكم، ولهذا ربما ما زال البعض يخلط بينها في تحديد أيهما العاصمة الحالية، ويحارُ أيّها يزور أولا.
الحديث عن المغرب ذو شجون، فهو ليس كغيره من البلدان، هو آخر بلدان العروبة والإسلام غربا، قبل أن نصل إلى المحيط، وهو جسر التواصل بين الشمال الأوروبي والجنوب الإفريقي، والذي منه انطلقت جيوش الفاتحين صوب الأندلس، وقد حباه الله بطبيعة ساحرة وتنوع مناخي مذهل، شواطئه الذهبية تمتد آلاف الأميال، وجبال الأطلس الشاهقة ترنو نحو السماء بينما تنساب منها الأنهار برشاقة، لتسقي السهول الفسيحة والهضاب التي تكسوها الغابات، صحاريه شاسعة على مد البصر .. كثبان من الرمال تحيطه من الشرق والجنوب، أبعدت عنه شر الغزوات وهجمات البدو، حدوده على المتوسط والأطلسي وعلى تخوم الصحراء حافظت على خصوصيته الثقافية من تقلبات الزمان وتداول الفاتحين، ومنحت المغاربة شخصيتهم المنفردة.
يقول علماء الجيولوجيا أن جباله العذراء تعود إلى العصر الكمباري، وهو العصر الذي شهد بداية تفجر الحياة بكل أنواعها قبل عشرات الملايين من السنين، بينما يقول علماء الانثروبولوجيا أنهم وجدوا فيه آثار مجتمعات زراعية بدائية تعود للألف الخامس قبل الميلاد، وبصرف النظر عن التاريخ القديم وتفسيراته المختلفة، فإنه من الثابت أن المغرب خضع لحكم الرومان في القرن الثاني قبل الميلاد، وأن الحاكم العسكري أقام سوراً رومانياً لكي يحموا أنفسهم من هجمات بدو الصحراء. وربما هذا ما أوحى بفكرة "حرب الرمال" ضد البوليساريو في العصر الحديث.
سفرة في تاريخ المغرب
فتح المسلمون المغرب سنة 681م على يد عقبة بن نافع، ولكن الفتح النهائي احتاج ربع قرن إضافي ليتم على يد موسى بن نصير. دخل الكثير من سكان البلاد في الإسلام. مما أتاح للقائد العربي إدريس بن عبد الله سنة 788، أن يوحّد أقاليم العرب والبربر تحت حكمه، ليُنشئ بذلك أول دولة مغربية، "دولة الأدارسة"، التي حكمت المغرب نحو 200 سنة، وكانت "فاس" عاصمتها وحُكامها يسمون بالسلاطين. ومن بعدهم وحتى القرن السابع عشر: تعاقبت عدة أسر على حكم المغرب ومنها: المرابطون، الموحدون، المرينيون والسعديون، وآخرهم العلويون (وهم أسرة من الأشراف) حكموا منذ 1660 وما زال حكمهم قائما للآن.
وهنا تلعب الصدفة دورا كبيرا في تغيير منحى تاريخ المغرب، فإذا كانت الأسر الحاكمة قبل "الأسرة العلوية" لم تنجح في كسب ود الأهالي، ولم تحظ بالشرعية الدينية التي تمد في عمرها وتحميها من غضب السكان، فإن مشيئة الأقدار سيّرت "الحسن الأول" ليصل إلى المغرب في إحدى السنين التي نجت فيها واحات النخيل في صحراء "تافيلالت" من حشرة الفطر التي ظلت تنخرها سنة وراء سنة، وظن السكان حينها أن وجود شخص من آل البيت هو ما وقاهم سوء البلاء، وأبعد عنهم شر الأمراض الفتاكة، فتبّركوا به ونصبوه ملكا عليهم، بعد أن كان أجداده قبل ذلك، مجرد رعايا يدفعون الضرائب ويقاتلون في صفوف الجيش، لأربعة قرون متوالية .
خلال حكم "مولاي عبد العزيز" عقدت كل من فرنسا وإسبانيا معاهدة سرية حول تقسيم المغرب. بدأتا تنفيذ مخططها بهجوم القوات البحرية الفرنسية على مدينة الدار البيضاء سنة 1907. وفي هذه الأثناء كانت الخلافات قد اشتدت بين الملك عبد العزيز وأخيه عبد الحفيظ، الذي طلب مساعدة الفرنسيين له من أجل استعادة النظام. فكان له ما أراد، ولكن مقابل التوقَّيع على معاهدة "فاس" عام 1912م التي بموجبها تمكن الفرنسيون من السيطرة على المغرب، والقضاء على استقلال البلاد. ثم تمكن الأسبان من السيطرة على منطقتهم في المغرب عن طريق الفرنسيين. ووضعت "طنجة" تحت الإدارة الدولية. لم يمضي وقت طويل حتى اندلعت ثورة شعبية في الريف الشمالي تخللها قيام "جمهورية الريف" بقيادة الأمير عبد الكريم الخطابي. وقد كبدت الثورة الفرنسيين خسائر كبيرة، لكن الفرنسيون قضوا عليها بعد سبعة سنوات من انطلاقتها. بعد ذلك مباشرة في 1927 اعتلى محمد الخامس العرش في ظل الاحتلال الفرنسي، وهو في سن الثامنة عشر، وكان أصغر أخوته.
وعندما نشبت الحرب العالمية الثانية، لم يكن المغرب بمعزل عن الأحداث، وقبيل انتهاء الحرب اجتمع كل من فرانكلين روزفلت رئيس الولايات المتحدة، وونستون تشرتشل رئيس الوزراء البريطاني، في "الدار البيضاء" بحضور الملك محمد الخامس، وقد وعد الزعيمان الملك بمنح بلاده الاستقلال بعد عشرة سنوات، وبعد أن وضعت الحرب أوزارها توجه الملك المغربي إلى باريس، يصحب معه ابنه ابن الخمسة عشر ربيعا، وبيده مذكرة من أربعين صفحة تتعلق بمستقبل المغرب والمطالبة بالاستقلال، وقد وعدهم الجنرال ديغول الذي كان رئيس وزراء الحكومة المؤقتة بأنه عندما تستتب الأمور سيكون لكم ما تشاؤون.
وفي سنة 1947 طالب السلطان "محمد الخامس" وبدعم من حزب الاستقلال بإعادة اتحاد الإقليم المغربي الذي تسيطر عليه فرنسا وأسبانيا، وأن تُمنح المغرب حق الحكم الذاتي، ولكن فرنسا رفضت، وامتنعت عن القيام بأية خطوات هامة باتجاه الاستقلال. بل أنها سنة 1953م قامت بنفي السلطان محمد الخامس وعائلته إلى مدغشقر، وسجنوا بعض قادة حزب الاستقلال. الأمر الذي أدى إلى موجة من السخط والغضب الشعبي، وانتشرت أعمال العنف، وقد شكل قادة الاستقلال الجدد جيش التحرير الوطني الذي قاوم القوات الفرنسية بضراوة، وبعد سنتين فقط أعاد الفرنسيون الملك المنفي من أجل استعادة النظام، ووعدوه بمنح المغرب حريته. وفي آذار 1956م أصبحت المغرب مستقلة فعلا عن فرنسا. وفي نيسان من نفس العام تنازلت أسبانيا عن كل مطالبها تقريبًا في شمال المغرب، وعادت مدينة طنجة مرة أخرى للسيادة المغربية. وبقيت مناطق سبتة ومليلية والجزر الجعفرية وإفني، والأقاليم الصحراوية تحت السيطرة الإسبانية.
أزمات ومؤامرات
لم يكد يمضي عام على الاستقلال، حتى شهد القصر الملكي أول المؤامرات، بدأت خيوطها كما يرويها الملك الحسن الثاني بنفسه عندما أراد "المهدي بن بركة" تسييس جيش التحرير والسيطرة عليه، فقام أحد القناصة باختطاف وقتل قائد الجيش "عباس المسعدي"، وعندما ألقي القبض عليه، اعترف القاتل بتلقيه الأوامر من "ابن بركة"، وأنه كان يستهدف الملك شخصيا، وقد وضعه لعدة مرات في دائرة التصويب بينما يستقل سيارته، من خلال نظارة البندقية، وكان أصبعه على الزناد، إلا أنه عجز عن الضغط وأحس بقوة ما تمنعه عن ذلك .
بعد هذه الحادثة ساءت العلاقة كثيرا بين الملك وأستاذه السابق في الرياضيات "المهدي بن بركة"، الذي اختطف في ظروف غامضة في العام 1965 في فرنسا، ولم يظهر بعدها، وعلى إثر اختطافه نشبت أزمة دبلوماسية بين فرنسا والمغرب، إذ أصر الجنرال ديغول على عزل وزير الدفاع الجنرال "أوفقير" من منصبه، الأمر الذي اعتبره الملك تدخلا سافرا في الشؤون الداخلية، خاصة وأن الطلب كان علنيا، وبنبرة لا تخلو من الغضب.
الأزمة الأخرى والتي ما زالت مستمرة لليوم، هي أزمة الحدود بين الجزائر والمغرب، فبينما يعتبر المغرب أن منطقة "تندوف" الحدودية هي أراضي مغربية، وأن "الجزائريين الذين يرفضون التنازل عنها هم مجرد ورثة للاستعمار فيما يخص مشاكل الحدود" ، اعتبر الرئيس الجزائري "ابن بلة" أن تندوف جزائرية، وأن المغرب دولة رجعية وحليفة للإمبريالية، واتهم الحسن الثاني بتدبير حادثة اختطافه على يد الفرنسيين، وهذا ما نفاه الحسن الثاني جملة وتفصيلا. واعتبر أن الجزائر تريد فرض هيمنتها على المغرب العربي. وقد نشبت مواجهة مسلحة بين البلدين بعد عام واحد من استقلال الجزائر، عرفت بحرب الرمال، ولكن الجامعة العربية تدخلت لإنهائها سريعا، ومنذ ذلك الحين أدار البلدين ظهريهما لبعضهما البعض، وسار كل منهما باتجاه مضاد للآخر.
مؤامرتان تعرض لهما القصر بعد ذلك، الأولى في العام 1971 حين اقتحم قصر الصخيرات بالرباط 1200 جندي وضابط، بينما كان الملك يقيم حفل استقبال لضيوفه، ومن بينهم عدد من السفراء والقناصل، وأخذ المهاجمون يطلقون النار على المدعوين، كانت تلك محاولة انقلابية خطط لها مدير الحرس الملكي واسمه "المذبوح"، الذي صار مذبوحا فعلا بعد فشل المحاولة، حيث قتله مساعده "عبابو"، الذي قُتل أيضا في نفس اليوم.
المؤامرة الثانية وهي التي ستكشف أسرار المؤامرة الأولى ومدبريها، بل ومدبر اختطاف ابن بركة من قبل، ففي العام التالي لمجزرة الصخيرات وبينما كان الملك في طريق عودته قادما من فرنسا، تعرضت طائرته لوابل من الرصاص كاد أن يفجرها وهي تحلق فوق المياه الدولية، وعلى الفور أدرك الملك أن وراء كل ذلك، وزير دفاعه الجنرال "أوفقير" الوحيد القادر على إعطاء التعليمات للطائرات الحربية بالإقلاع، وبعد الهبوط المرتبك للطائرة المحترقة في مطار الرباط، على الفور استقل الملك سيارة شخصية لأحد المواطنين وفر نحو القصر قبل أن يقصف أوفقير المطار بمن فيه، ولكن الجنرال بعد أن أدرك فشله سلم نفسه للملك. الرواية الرسمية تقول أنه انتحر. عائلته تقول أنه انتحر بإطلاقه خمسة رصاصات على رأسه !! الملك يؤكد أن الجنرال الذي كان يقدم نفسه أحد المخلصين والأوفياء، لم يكن ليطيق أن يحاكمه زملائه الجنود، أمام محكمة تسوقه إلى المشنقة، فاختار الانتحار .
سبتة ومليلية
كما قامت فرنسا بسلخ لواء الاسكندرون السوري ومنحه لتركيا عشية الحرب العالمية الثانية، في محاولة منها لإرضاء أتاتورك، ورغبة في التقليل من الخسائر التركية في معاهدة سيفر، كانت مدينتي سبتة ومليلية ضحيتا التفاهم الفرنسي الإسباني لمرحلة ما بعد الجلاء.
وتكمن الأهمية الإستراتيجية لهاتين المدينتين في كونهما يُطْبقان مع الشاطئ الجنوبي الإسباني على مدخل المتوسط من طرفيه، قبل أن يتحد بالمحيط، وبالتالي فإن السيطرة عليهما تعني التحكم بحركة العبور والخروج إلى هذا الحوض العظيم، الذي تتشاطأه أقدم الحضارات في العالم، وقد تنبهت قوى الاستعمار لأهمية المنطقة منذ وقت مبكر، فاحتلت البرتغال "سبتة" في عام 1415، وبعد قرنين وربع انتزعها منهم الأسبان في 1640، أما مدينة "مليلية" فقد احتلتها إسبانيا عام 1497 بعد أن سقطت إمارة غرناطة وانتهى الوجود العربي في الأندلس. وظلت المدينتان منذ ذلك التاريخ تخضعان للحكم الإسباني، وفي العام 1995 أصبحتا منطقة تتمتع بصيغة للحكم الذاتي داخل إسبانيا، بقرار من البرلمان الإسباني. وحاليا تتميز المنطقة بمينائها وموقعها حيث تعتبرهما أسبانيا همزة وصل بينها وبين القارة السمراء، ومنهما تتمكن من مراقبة حركات الهجرة غير الشرعية، والسيطرة على معظم مساحة المياه الإقليمية بين المغرب وإسبانيا.
ولكن المملكة المغربية، ومنذ استقلالها، تعتبر المدينتان جزءً لا يتجزأ من التراب المغربي. وترفض الاعتراف بشرعية الحكم الإسباني عليهما، وتعطي سكانهما ممن هم من أصل مغربي حقوقا كاملة كباقي المواطنين. وتطالب إسبانيا بالدخول في مفاوضات مباشرة معها لأجل استرجاعهما، وتدعمها في ذلك بقية الدول العربية ودول الإتحاد الإفريقي. حيث تعتبرهما إحدى أواخر معاقل الاستعمار في أفريقيا، غير أن الأمم المتحدة لم تصنف المنطقة بعد ضمن المناطق المحتلة والواجب تحريرها.
ومنذ احتلالهما تعددت المحاولات التاريخية لاستعادة المنطقة وضمهما للوطن، منها محاولة المولى إسماعيل في القرن السادس عشر، حيث حاصر المغاربة مدينة سبتة 33 سنة دون أن يتمكنوا من استعادتها، ثم محاولة السلطان محمد بن عبد الله عام 1774 محاصرة مدينة مليلية من غير جدوى. وحديثا تعد أبرز المحاولات المعاصرة لتحريرهما هي ثورة عبد الكريم الخطابي ضد القوات الإسبانية في شمال المغرب.
البوليساريو .. قضية الصحراء الغربية
قضية الصحراء المغربية من أكثر القضايا التباسا وغموضا على المواطن العربي، ليس بسبب الأداء الإعلامي المرتبك إزاء هذه القضية، بل بسبب طبيعتها وخصوصيتها التي تجعل منها إشكالية تستعصي على الحل. فإذا كنا نحن الفلسطينيون سننحاز إلى جانب الشعب الصحراوي في حقه بتقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة، فهذا لأننا من أكثر شعوب الأرض توقا للحرية ونيل الاستقلال، وبالتالي لا يمكن إلا أن نتفهم توجهات الشعوب في تقرير مصيرها، ولكنا في ذات الوقت كعرب نؤمن بالوحدة ونرفض مشاريع التجزئة والتقسيم، وأمام هذا المشهد المحير لا نملك إلا أن نتمنى للشعب المغربي والصحراوي أن يجدا صيغة حل ما، تمكنهما من مواجهة المستقبل وتحدياته، بتعايش سلمي حضاري، يسهم في إثراء الحضارة الإنسانية، كما كان المغرب منذ أقدم العصور.
لم تستطع الجامعة العربية ولا منظمة الوحدة الأفريقية ولا منظمة الأمم المتحدة، من الوصول إلى حل سلمي لنـزاع الصحراء الغربية، الذي قارب عمره أربعة عقود، وما زال يلقي بظلاله الكئيبة، التي تحول دون استقرار المنطقة وقيام اتحاد مغاربي فاعل. وقد طرحت الأمم المتحدة عدة حلول في إطار جهودها لحل المسألة، ولم يكن أي حل منها موضع اتفاق بين الطرفين (المغرب والبوليساريو) حيث لا يقبل المغرب أي حل يضع وحدته الترابية عُرضة للتقسيم، بينما لا تريد البوليساريو أي حل لا يؤدي إلى انفصال الصحراء وحصولها على الاستقلال.
فالاستفتاء الشعبي لسكان الصحراء الغربية، الذي كان مطروحا خلال عقد الثمانينات سيؤدي حتما إلى خيارين، إما الانضمام للمغرب، وهو ما ترفضه البوليساريو بشدة، وإما الانفصال عنه وتكوين دولة الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية المستقلة، وهو ما يرفضه المغرب. ورغم تباعد وجهات نظر الطرفين، فإن الأمم المتحدة قامت بوضع الترتيبات الكاملة لتنظيم عملية الاستفتاء، بدء بإقرار وقف إطلاق النار بين الجانبين، لكن عملية الاستفتاء تعطلت بسبب عدم الاتفاق على من يحق له المشاركة فيها.
وتعود جذور مشكلة الصحراء الغربية إلى فترة الاحتلالين الفرنسي والإسباني للإقليم المغربي في مطلع القرن العشرين، حيث خضع المغرب للاحتلال الفرنسي، فيما خضعت الصحراء الغربية للاحتلال الإسباني، وخلال المدة الطويلة للاحتلال، تمايز الشعبين فيما بينهما، وسارا نتيجة خضوعهما لعوامل متباينة في مسارات مختلفة، فأحس سكان الصحراء بهويتهم الثقافية والوطنية التي تؤهلهم لنيل الاستقلال، ولكن المغرب ظل ينظر لسكان الصحراء على أنهم مواطنون مغاربة.
والواقع أن علاقة إسبانيا بالمنطقة تعود إلى القرن السادس عشر، حيث كان البحارة الكناريون يقومون بالتبادل التجاري مع سكان الساقية الحمراء ووادي الذهب، وبموجب هذا الاحتكاك أصبح بعض السكان على إلمام نسبي باللغة الاسبانية. ثم جاء مؤتمر برلين عام 1884، وفيه أقر الأوروبيون لأسبانيا بحقها في استعمار إقليم الساقية الحمراء ووادي الذهب. وبذلك حصل الأسبان على ما كانوا يحتاجونه لتشريع احتلالهم لمنطقة الصحراء الغربية. وتنبع أهمية المنطقة من كونها موقع جغرافي يربط إفريقيا بأوروبا. وقنطرة عبور للقوافل التجارية شمالا وجنوبا، وشواطئ غنية بمختلف أنواع الأسماك، وثروات معدنية أهمها الفوسفات.
وفي أثناء فترة الاحتلال الاسباني طرأت تغييرات كبيرة في بنية المجتمع الصحراوي، حيث أدى الانتقال من حياة الترحال والبداوة إلى الاستقرار في المناطق الحضرية إلى نشوء طبقة متوسطة، وظهور حركة شبابية تأثرت بالأفكار اليسارية المعادية للاستعمار الإسباني، كانت ترى أن الأنظمة الملكية هي أنظمة دكتاتورية بورجوازية معادية للجماهير، وقد أدى هذا الحراك الشبابي في عام 1973 إلى تأسيس جبهة البوليساريو. خاصة عندما بدؤوا يرقبون عن كثب تحركات الأسبان، وقد أيقنوا أنهم خارجون من الصحراء لا محالة، في هذه الأثناء حاولت إسبانيا في عهد فرانكو إتباع إستراتيجيتين مختلفتين في الصحراء الغربية, فمن جهة كان قسم من حكومة فرانكو يريد الحفاظ على تواجد مباشر مطلق في الإقليم، بينما رأى آخرون ضرورة خلق قوة موالية لإسبانيا، يمكنها حماية الثروات الطبيعية في المنطقة، خاصة مناجم الفوسفات. التقت كل من هاتين الإستراتيجيتين حول ضرورة خلق هوية صحراوية مستقلة.
وقبل أن ينجلي الأسبان عن الصحراء بسنتين، أعلن عن تأسيس جبهة البوليساريو، وكلمة "البوليساريو" هي المختصر الإسباني المكون من الحروف الأولى لاسم "الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب" وهي حركة تسعى إلى انفصال الصحراء الغربية عن المغرب، وتأسيس الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية. أسسها الولي مصطفى الرقيبي الذي لم تدم زعامته إلا ثلاث سنوات، حيث قتل في ظروف غامضة في حزيران 1976 خلال هجوم على العاصمة الموريتانية نواكشوط، ثم تولى زعامة الجبهة محمد عبد العزيز وهو من مراكش، وما زال أمينا عاما للجبهة إلى اليوم .
كانت الانطلاقة الرسمية للجبهة في 20 أيار 1973، من خلال المؤتمر الأول للجبهة الذي عقد تحت شعار "بالبندقية ننال الحرية"، وأعلن عن ميلاد الجبهة، والبدء بالكفاح المسلح ضد الإدارة الاستعمارية الإسبانية، وذلك بعد فشل كل أساليب النضال السلمي التي قمعت بعنف من قبل المستعمر في 17 حزيران 1970 - حسب بيان المؤتمر الأول - الذي أعلن بعبارات واضحة الأسباب التي أدت إلى تبني هذا الخيار، مؤكدا على أنه لم يكن هناك غيره: "إزاء تشبث الاستعمار بالبقاء مسيطراً على شعبنا العربي الأبي، ومحاولة تحطيمه بالجهل والفقر والتمزق، وفصله عن الأمة العربية، وإزاء فشل كل المحاولات السلمية .. تتأسس الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب، كتعبير جماهيري وحيد، متخذة العنف الثوري وسيلة للوصول بالشعب الصحراوي العربي الإفريقي إلى الحرية الشاملة من الاستعمار الإسباني". وقد اعتبرت البوليساريو في أول مؤتمر تعقده بعد الرحيل الفوضوي لإسبانيا عام 1975 أن أسبانيا تنكرت لمسؤولياتها التاريخية وباعت الشعب الصحراوي بعد أن استغلته ما يقارب القرن من الزمن .
إذن، الجبهة تحمل شعارات معاداة الإمبريالية والصهيونية، وتطالب بالحرية والاستقلال، وتنادي بالوحدة العربية، وتعتبر الأنظمة العربية حكومات إقطاعية ورجعية، كما تحمل شعارات يسارية بعضها متأثر بالتروتيسيكة وأخرى بالستالينية، وبهذه الشعارات تمكن مؤسسو البوليساريو من إقامة علاقات وطيدة مع ليبيا والجزائر والمنظومة الاشتراكية.
ورغم الدعم الجزائري والتمويل الليبي للجبهة، فإن دورها على الصعيد العالمي في تراجع مستمر، حيث اعترفت عند نشأة الجبهة 75 دولة بما يعرف بالجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية، وانخفض العدد إلى 40 ثم إلى 30، بعد سحْب الكثير من الدول اعترافها بالجمهورية المعلنة من طرف واحد. علما أن الأمم المتحدة ما زالت تعترف بالجبهة كممثل وحيد للشعب الصحراوي، وتدعم حقه في تقرير مصيره. ويعود هذا التراجع بسبب تخلي ليبيا منذ 1984 عن دعم البوليساريو، وبسبب انشغال الجزائر بأزمتها الداخلية بعد العام 1991، وانتهاء الحرب الباردة، الأمر الذي عمل على تقوية موقف المغرب.
من جهة أخرى، كان المغرب ومنذ البداية يطالب بجلاء الاحتلال الإسباني عن الإقليم، عبر المحافل الدولية والأمم المتحدة، ومن أجل مضاعفة الضغط على إسبانيا، بدأ يكرر مطالبه حول سبتة ومليلية، بالإضافة إلى قيامه بتوقيع معاهدة سرية مع موريتانيا، تنص على اقتسام الصحراء الغربية بين البلدين. خلال هذه الفترة بدأت إسبانيا تحاول إيصال البوليساريو إلى السلطة. ويقول البعض أنه تحت ضغط فرنسا والولايات المتحدة وقّعت إسبانيا مع الحسن الثاني اتفاقا سريا يتخلى المغرب بموجبه عن سبتة ومليلية مقابل الصحراء الغربية، ولكن المغرب لم يكتف بالمطالبة، بل أن الملك الحسن الثاني وجه نداء للشعب المغربي بالتوجه في مسيرة سلمية ضخمة ضمت 350 ألف متطوع، عُرفت بالمسيرة الخضراء، حيث توغل المتطوعون المغاربة داخل الصحراء، وأقاموا فيها فترة من الزمن، رغم الاحتجاجات الإسبانية على المسيرة، وتهديدها برد عسكري، لكن الدعم العربي والدولي ونجاح المسيرة أدى بإسبانيا إلى التفاوض والتخلي عنها لصالح المغرب وموريتانيا، بموجب "معاهدة مدريد". وذلك بعد اعتراف محكمة لاهاي الدولية بوجود روابط تاريخية بين سكان الصحراء والمغرب .
ومن عادة القوى الاستعمارية أن لا تنسحب قبل أن تخلف وراءها قنابل موقوتة قابلة للانفجار في أي لحظة، هي طبعا مشكلة الحدود، وحيث أن موريتانيا كانت جزءً من الدولة المغربية السعدية، قبل ظهورها كدولة مستقلة في أواخر الخمسينيات، فقد نشأ خلاف موريتاني مغربي على الحدود، وتفاديا لحدوث نزاع مسلح توصل الطرفان إلى حل يقضي بتقسيم الإقليم، حيث يكون للمغرب الجزء الأكبر ويكون لموريتانيا الثلث الجنوبي. ولكن جبهة البوليساريو رفضت هذا التقسيم وقامت بحرب عصابات ضد الدولتين معا، انطلاقا من تندوف الجزائرية (الذي هو مقرها إلى هذا اليوم)، وفي النهاية انسحبت موريتانيا من الصراع، وبسط المغرب سيادته على مجموع الإقليم، وقام بتشييد الجدار الرملي على حدوده، الأمر الذي نجح في منع مقاتلي الجبهة من التسلل إلى داخل الإقليم. وفي أيلول 1991م، توصلت المملكة المغربية وجبهة البوليساريو إلى اتفاق أدى إلى وقف إطلاق النار، ووافق الطرفان على إجراء استفتاء تحت إشراف الأمم المتحدة يحدد مصير الصحراء الغربية.
أسئلة مشروعة
السؤال الذي لم أجد إجابة شافية له: لماذا تأخر الصحراويون في مقاومة الاستعمار الإسباني كل هذه السنين، وانتظروا حتى حان موعد رحيله لينشئوا جبهة البوليساريو ؟! وإذا كان مبرر انطلاقة الجبهة هو طرد الاستعمار الإسباني، فماذا بقي من هذا المبرر، بعد أن صار الوجود الإسباني في الصحراء المغربية جزء من التاريخ ؟ ولماذا غذّت دول الجوار هذا الصراع، بدلا من البحث عن حل سلمي يرضي جميع الأطراف ؟
المراقبون يرون أن النـزاع على الصحراء الغربية يأتي في سياق الحرب الباردة، فالبوليساريو رفعت شعارات اشتراكية وحظيت بدعم الجزائر التي كانت في صف المنظومة الاشتراكية، بينما يحتفظ المغرب بعلاقات طيبة مع الغرب والولايات المتحدة. ويعتقد البعض أن الأزمة هي تعبير عن الصراع بين المغرب والجزائر على الهيمنة على المنطقة، وهي امتداد لحرب الرمال الحدودية بينهما، حيث سعت الجزائر إلى خلق أزمة في الصحراء الغربية، ودعم حركات انفصالية لإضعاف المغرب، ومحاولة تحويل الرأي العام الجزائري عن التطرق للمشاكل الداخلية وتوحيد صفوفه لمواجهة العدو الخارجي. بينما يعتبر آخرون أن الحسن الثاني أخذ الموضوع بشكل شخصي أكثر من اللازم.
في المحصلة ما زال شعب الصحراء غارقا في متاهة البحث عن مخرج، وجزء منه يعيش في مخيمات لاجئين في ظروف قاسية، ومنهم من بدء يتهم قيادة البوليساريو بالتعيش من قضيتهم، وأكثرهم لم نسمع كلمتهم حتى الآن. والمنطقة بأسرها مأخوذة بهذا الصراع الذي استنـزف قدراتها وشبابها، وأخّر تقدمها، الذي هو أصلا متأخر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق