مثل قذيفة صاروخية انطلقت من غابر الزمان، مرّت عبر العصور، وجابت حواضر العالم كله، لتصل إلى مستقبل لم يأتي بعد، كمركبة فضائية آتية من خارج الزمان .. هي "دبي" .. مأثرة العرب، ومعجزة الخليج العربي، ودرة الإمارات النفيسة، المدينة التي اختصرت العالم، وحَوَت كل تناقضاته بانسجام فريد، جَمعت الماضي مع الحاضر، واستحضرت المستقبل قبل أن يراه الآخرون، إمارة صغيرة في الخليج انفتحت بشكل جنوني على العالم؛ فإذا بالعالم يجتاحها من كل النواحي، ويوما بعد يوم تخطف هذه المدينة الساحرة الأضواء من كل المدن القريبة والبعيدة، ليس بمبانيها المميزة، ولا بمجمّعاتها الضخمة ولا بناطحات السحاب التي تفوقت على مثيلاتها في العالم، بل بأسلوب حياتها، بأضوائها، بنظامها، بحيويتها المتدفقة .. باختصار .. هي مدينة مدهشة بكل شيء ..
بتفاصيلها الصغيرة، بمشاريعها العملاقة، بتطلعها نحو المستقبل، بصخبها وازدحامها، بأمنها واستقرارها .. بأنماط عمرانها المتعددة، بحدائقها الفسيحة، ببيوتها الضيقة، بأسواقها المسقوفة والمفتوحة على كل الشعوب .. لا شيء فيها يدعو للقلق، سوى الصيف والغلاء وأزمات المرور.
مدينة ولا في الخيال، فيها كل ما هو مختلف وغريب وخارج عن المألوف، وكل ما هو متوقع وطبيعي، حيث المجمعات التجارية المكيفة، وأروع "المولات" وأكبرها على الإطلاق، حيث الشواطئ الذهبية والمرافق السياحية والجزر الصناعية وليالي ألف ليلة وليلة، أينما تولي وجهك، تجد المشاريع الجبارة والعملاقة، البناء فيها لا يتوقف ليل نهار، سرعة نمو خارقة، وتوسع يفوق قدرات أي مكان آخر على الخارطة، كل عمارة تختلف عن الأخرى، وتقول عن نفسها الأجمل والأغرب، هَوس في تحطيم الأرقام القياسية: أعلى ناطحات سحاب، أضخم سوق تجاري، أعلى مطعم، أفخم فندق، أوسع ساحة تزلج، أجمل نافورة راقصة، أغلى عقار، أسرع مصعد، أبطأ ازدحام سير ... وكل ما هو على وزن أَفْعَلْ.
تسعى دبي بخطى حثيثة وواثقة أن تصبح مدينة عالمية بكل معاني الكلمة، لتتفوق بأهميتها على أقدم وأغنى العواصم، وأن تكون منطقة الجذب الأولى لأهم الاستثمارات، وأن تحتضن أهم العقول والخبرات والكفاءات، ولتحقيق ذلك أقامت مدينة للإنترنت، مدينة إعلامية، مدينة للطفل، مدينة للمعرفة، فروع لأرقى جامعات العالم، وأهم المتاحف، مكاتب وإدارات إقليمية لكبرى الشركات والمصانع العالمية، أضخم وأهم المعارض في شتى المجالات والصناعات، بدءً من شركات الطيران والتصنيع الحربي إلى التكنولوجيا والغذاء والصناعات الثقيلة والخفيفة، وحتى معارض الكتب.
ولكن عبقرية دبي لم تتوقف عند جلب الخبراء الأجانب، وافتتاح فروع الجامعات والشركات الدولية، بل أن عبقريتها تكمن في توفير البيئة المثالية لتعايش كل هذه المتناقضات بانسجام وتناغم قل مثيله، تكمن في بنيتها المؤسسية وطريقة إداراتها الفذة، في احترامها للقانون وحرصها على النظام، في تنقيبها عن العقول واستخراج أفضل ما فيها، في فتح فضاءاتها دون حدود، وإطلاق حرياتها دون قيود، في قدرتها على إزالة الحواجز أمام أي موهبة أو طموح شخصي، وإزالتها للعوائق التي تمنع من يملك القدرات النابغة أن يصنع مشروعه ويحقق حلمه.
إذا كان الحصول على تأشيرة السفارة الأمريكية حلم الشباب العربي الحالم والمعذب، فإن تأشيرة الإمارات اليوم صارت حلم شباب العالم بأسره .. من خبراء وعلماء وفنيين وأثرياء وفقراء مشاهير ومسحوقين ومهندسين ومجانين وفنانين وعمال .. وكل من له حلم ويسعى لتحقيقه، لا يبحث كل هؤلاء عن المال، فكثير منهم بمقدوره أن يجده في أماكن أخرى، وربما بطرق أسهل. ولا يأتي ملايين السيّاح إلى دبي بحثا عن جمال مصطنع، أو أسواق نظيفة، فالجمال الطبيعي موجود في أماكن كثيرة، بعيدا عن جو دبي الحار والرطب معظم أيام السنة، والأسواق في كل مكان، ولكن الذي ساق الناس إلى دبي، والذي جعل منها قبلة قلوبهم وعقولهم .. هو قدرتها العجيبة على إثارة دهشتهم، وعلى منحهم البهجة والسرور، على ضخ الأدرينالين في شرايينهم، وجعلهم يحسّون بالأمان، وأن إنسانيتهم مُقدّرة، وتلك ربما أهم احتياجات الناس، قبل فرصة العمل، وأحيانا قبل الطعام.
في دبي ينحت القائمون على بناءها نموذجا خاصا بها، برؤية عربية خالصةٌ، تمكنت من تكثيف العالم وتجميعه في قارورة، وأعادت بناء العلاقات الإنسانية لشعوبه على نحو جديد ومختلف، يتجاوز الصورة النمطية لها والتي طالما وسمتها بالتشابك والتناقض والصراع، لتنتج فهماً جديداً ومختلفا، مبني على أسس إنسانية حضارية، يتجاوز القبيلة والدولة والحدود السياسية، ويفتش عن آفاق التعاون والتكامل بمعانية الرحبة، حيث لا يسأل أحدٌ الآخر عن أصله ولونه ودينه، بل يسأل عن مهنته وفكره وخبراته وكفاءته، وحيث المناخ الموات، والأرض الخصبة لكي يزرع الناس أحلامهم ثم يرونها تورق، حيث لا تتغوّل الآلة على الإنسان، ولا يفترس رأس المال المجتمع، ولا تقضي الشركات على روحية العلاقات وجذرها الإنساني. بمعنى آخر يسعى نموذج دبي أن يقدم الوجه الآخر للعولمة، بدلا من تطبيقاتها المشوهة واللاإنسانية.
دبي بكل ضجيجها هادئة، وبكل حركتها التي لا تعرف الكلل أو التوقف، آمنة. وبكل تناقضاتها منسجمة، درجة الأمان فيها عالية، والمقيمون بدبي والذين زاروها وحدهم يعرفون أنها خاليةٌ تماماً من أي مظهر عسكري أو شُرَطي، وبإمكان أي شخص أن يعيش فيها سنوات دون أن يرى حتى شرطي سير يعترض طريقه، ولكن دبي مع ذلك تتقن جيداً أمن القبضة الحريرية، حيث مركز الشرطة تحسبه من الخارج مركزا ترفيهيا، وتدرك كيف تحفظ أمن المقيمين فيها دون أن تزعجهم، أو تنغّص عليهم، أو تربكهم، أو تجعل شرطتها يتعالون عليهم في ذهابهم وإيابهم .
بعد أن استباحت إسرائيل أمن هذه المدينة الوادعة، واغتالت الشهيد "المبحوح" في أحد فنادقها، بيّنت دبي للعالم أنها ليست مجرد مدينة من الأبراج والفنادق الفخمة، وليست فقط مهرجانا للتسوق أو ميدانا للتزلج، يؤمّها السيّاح ولاعبي الجولف، هي قبل كل هذا مدينة منيعة وعصية على الاختراق، وقدراتها لا تنحصر في شغفها على التطور والبنيان، وأثبتت أنها إمارة مؤسسات، منيعة على العابثين بأمنها، وأنها قادرة على الردع، والدفاع عن منجزاتها، حيث تمكنت شرطة دبي، من كشف الجناة وفضحهم، بل وملاحقتهم في الإنتربول وأمام القضاء الدولي، وهو إنجاز أمني أطاح بالصورة النمطية المعهودة عن الموساد، وتفوقت فيه على دول كثيرة، طالما تغنت بقدراتها وبمخابراتها دون أن تحل أي لغزٍ من ألغاز الاغتيالات والتفجيرات في مدنها وساحاتها.
دبي في عيون الآخرين
ملايين الناس زاروا دبي، منهم من أقام فيها، ومنهم من مر مرور الكرام، منهم من كتب عنها، ومنهم من نقل رسالة شفهية، ومن المستحيل أن هؤلاء قد اتفقوا فيما بينهم على رؤية واحدة، ولكن من المؤكد أنها قد أدهشتهم جميعا. البعض رأى في دبي مدينة من الزجاج والأبراج، وتعاملوا مع شغفها بالتطوير والإعمار على أنه «مراهقة عمرانية»، وأنها إمارة للترف والمجون، وأن حكامها لا يعرفون أين يصرفون نقودهم فاخترعوا مشاريع أسطورية تكلفت مليارات الدولارات، وأنها مدينة تستعرض جمالها وبذخها دون رسالة، ودون هدف، وأنها الراعي الأول لثقافة الاستهلاك.
والبعض رآها مدينة بلا هوية، فقدت أصالتها وطابعها المميز، وتضخمت بشكل سرطاني، دون تخطيط أو منهجية، سكانها الأصليون ذابوا مع هذا الخليط الهجين، وخسروا تراثهم، حتى أنهم لا يشكلون سوى أقلية تتحكم في المال والنفوذ والمرافق الحساسة، دون مؤهلات حقيقية، ولا يتقنون شيئا سوى التسوق ومجاراة الموضة ومواكبة التطورات التكنولوجية التي يصنعها الآخرون. بينما رأى آخرون أن الطبقة الحاكمة فقدت زمام السيطرة وأفلتت الأمور من عقالها، وخرجت عن نطاق التحكم.
والبعض رأوها مدينة ماجنة، النساء سافرات، محلات الخمور علنية، الاختلاط بلا ضوابط، مظاهر الحياة الغربية طغت على تقاليد أهلها المحافظة، وأنها من علامات اقتراب يوم القيامة، حيث الحفاة الرعاة يتطاولون في البنيان .. وأنها صنيعة الغرب لضرب القيم الإسلامية ..
والبعض رأى أن ما يجري في دبي هو سباق محموم على جمع المال، وتكديس الثروات، والتنافس بين الشركات الكبرى متعددة الجنسيات أو الشركات الكبرى الهاربة من القوانين، والمتهربة من الضرائب، لتستثمر في إمارة تقدم لها كل شيء، ولا تقبض سوى هذا الفتات الذي يتناثر هنا وهناك.
البعض اعتبرها طفرة وراثية نمت في الخليج ضمن حسابات غير متوقعة وغير مدروسة من قبل أصحابها، وأنها بُنيت بعقول وخبرات وجهود الآخرين، وأن الغرب أراد أن يشارك العرب في نفطهم وأرباحه، من خلال مشاريعه المجنونة فيها، والبعض اعتبر أن الغرب أراد لها أن تكون ملاذا لشركاته واستثماراته لتنمو بعيدا عن أعين برلمانات دولهم وصحافتها وأحزابها المعارضة وقوانينها الصارمة.
باعتقادي، أن كل ما تقدم من تحليل، هو تحليل سطحي ومتعالي ومتسرع، وأنه يفتقد للموضوعية، بالرغم من صحة بعض من هذه التهم التي لا ينكرها أحد، ولكن .. إذا سلمنا مثلا أن أموال النفط كان لها الدور الأساسي في صنع هذه المعجزة، فقد بيّنت نتائج الثورات الشعبية في البلدان العربية المختلفة، أن حكامها كانوا يمتلكون الثروات الطائلة التي ربما تتجاوز ثروة هذه الإمارة الصغيرة، ورغم ذلك لم يبني أحدهم نموذجا بربع أو خُمس نموذج دبي، بل كدّسوها في مصارف سويسرا، وأنفقوا ما تبقى منها على مشاريع وهمية وبناء جيوش هلامية، وطبعا هذا لا يعني أن حكام الإمارات يعيشون في شقق متواضعة ويركبون سيارات الأجرة .. ولكنهم بالتأكيد يفكرون ويتصرفون بطريقة مختلفة.
وليس من المعقول ولا من المنطق أن هذا التطور الذي أصاب الإمارة قد تم بدون تخطيط ولا دراسة، فمن المؤكد أن سر نجاح العملية برمتها يكمن في العقلية الإدارية وأسلوبها العصري المنفتح والذكي، وإلى جانب التخطيط السليم والطَّموح والحالم حد الخيال، كان هناك مثابرة حثيثة، ومتابعة دقيقة لأصغر التفاصيل، وجدّية في العمل، وحرص على الإنجاز بمستوى من الحرفية لا يقبل بأقل من الكمال، وأن الأموال ليست كل شيء، فعلى سبيل المثال عند بداية فكرة عمل مترو أنفاق في دبي، كانت حكومة الكويت قد توصلت إلى نفس الفكرة في نفس الوقت، اليوم وبعد عدة سنوات أكملت دبي مشروعها، بينما ما زالت الكويت لم تحسم أمرها حتى اللحظة بعمل قطار فوق الأرض أم مترو أنفاق تحتها.
والحقيقة أن أهل الإمارات الأصليين يمتازون بالذكاء والتواضع وحسن المعشر، ولولا هذه السمات لما نجحوا في استقطاب سكان الأرض لإماراتهم، ولولا تسامحهم وانفتاحهم لما نجح هذا النموذج الفريد من التعايش السلمي الإيجابي بين كل هذه المجموعات البشرية التي ربما تقاتلت في أوطانها وتصالحت في دبي، ولولا عقلياتهم المرنة والقابلة للتعلم والحريصة على التطور، واستيعاب نظم الإدارة الحديثة لما كانت دبي كما هي الآن. وقبل كل هذا - وربما الأهم - أنه لو لم تكن السلطة الحاكمة في دبي تتمتع بكل هذه الصفات الإيجابية وهذه العقلية العبقرية والطموح اللامتناهي لما كانت دبي مختلفة ومتميزة كما نراها اليوم.
ودبي تدرك أن نفطها سينضب بعد سنين طالت أم قصرت، وهي متنبّهة لهذه النهاية، لذلك فهي لا تعتمد على أموال نفطها فقط، فقد أوجدت مصادر دخل إضافية تفوق بأهميتها النفط بكثير: السياحة، الترانزيت، معارض الصناعات، مهرجانات التسوق، افتتاح مقرات لأهم الشركات العابرة للقارات، التبادل التجاري، الاستثمارات العقارية، الخدمات المصرفية، وتجارة الخدمات، والأهم من هذا حفاظها على سمعتها ومكانتها كحاضنة مثالية جاذبة للاستثمارات توفر الأمن والاستقرار والقوة الاقتصادية القادرة على تخطي الأزمات العالمية.
المشاريع العملاقة التي تنفذها دبي قد تبدو للبعض مشاريع مجنونة لا ضرورة لها، وأنها ضرب من التبذير، بينما يراها القائمون عليها تحدي للمستحيل، ونوع من التميز والتفرد والتفوق، وضرب من الفن والجمال الخاص، فيها متعة الإنجاز، والوصول إلى حيث لم يفكر أحد من قبل، ولم يجرؤ عليها مغامر في مكان آخر، هي نوع من الإبداع والخلق والعبقرية، وفي النهاية هي التي تعطي لدبي مكانتها المرموقة، وتحجز لها صفا متقدما في المستقبل، وتجذب إليها الناس من كل أنحاء المعمورة لتبهرهم وتخطف أفئدتهم، وهي استثمار اقتصادي بحد ذاته. انتزعت اعتراف العالم من خلالها بعبقرية دبي وأهلها.
أما فيما يتعلق بالهوية والأصالة، فإن الهوية لا تعني أن تكون النوافذ على شكل أقواس، والأبواب مزخرفة، والمساجد تملؤها نقوش الفسيفساء حتى نقول أن البلد إسلامي، والتراث لا يقتصر على الزي الشعبي، والأصالة لا تعني العيش في الماضي. الهوية هي الذاتية والخصوصية، وهي القيم والمبادئ التي تشكل أساس الشخصية الفردية وشخصية المجتمع، وهي الروح المعنوية للمجتمع. والهوية ليست معطى مطلق وثابت، وإنما تتحول تبعا لتحول الواقع، بل أكثر من ذلك هناك داخل كل هوية هويات فرعية متعددة ذوات مستويات مختلفة، والإنسان هو الذي يخلقها وفق صيرورة التحول والتطور. ومع ذلك تحاول دبي بوضوح إبراز ثقافتها الخاصة، وتركز دوما على أنها إنها مدينة عربية إسلامية ذات طابع شرقي، ولكن على ما يبدو فإن معادلة تطبيق احترام الزي الإسلامي أو المحافظة على الهوية الإسلامية التقليدية مع جود سياحة مفتوحة واستثمارات أجنبية، لم تتوصل إليها أي دولة إسلامية بشكل كامل حتى الآن.
الهوية الجديدة التي اختارتها دبي هي العالمية، هي التسامح والتعايش المشترك، هي التنوع والتعدد دون أن يطغى أحد على الآخر، ودون أن يدعي أحد أنه الأفضل، فلا وجود للصراع الأيديولوجي هناك، ولا مجال لبروز الطائفية أو نمو التطرف والإرهاب، لا أحد يفتش عن الماضي، فكل من اختار دبي رمى ماضيه وراءه وجاء يبحث عن المستقبل، ورغم ذلك تجد هناك التراث الأندلسي والصيني والهندي والمصري والأوروبي والمغربي والإفريقي والأوكراني والشامي واليمني .. وجميعهم تحت سلطة القانون.
الكاتب الفلسطيني "إبراهيم جابر" كتب في صحيفة الغد في وصف مدينة دبي: "أنت هنا في بلدٍ تُقالُ فيه "صباح الخير" كل يوم، بأكثر من ثلاثمائة لهجةٍ، ومائة لغة، حيث يُسلق الأرز، ويُلبس الجينـز، ويُشرب الشاي، كل يومٍ بأكثر من مائتي طريقة. في مطعمٍ صغيرٍ تتجاور خمسُ دول على طاولتين، وفي مصعد البناية تبتسم لبعضهما ديانتان، وتتلامس أكتاف ثلاث قارات، قبل أن يهبط الجميع في طابقٍ واحد. وعلى مرآة الفندق الأنيق ترى وجوها سمراء وشقراء وبيضاء وسوداء وقمحية، وعيوناً واسعة وضيقة وضاحكة، فإذا أردت أن تعرف العالم لا تحتاج سوى أن تزور هذه المدينة."
ويضيف "جابر" في نفس المقالة: "في دبي تزرع الهنديةُ نبتتها الوطنيةَ على إفريز النافذة، ويُعلّق العربي علم بلاده في سيارته، ويوشم الإفريقي طفله بوسمه القومي، ويفاجأ الأوروبي أن العرب لا ينامون في حظائر الإبل؛ هنا أنموذج آخر من العولمة التي لا تبتلع الهويات، وإنما تحتفي بها وتفسح لها لتتعايش وتتحاور، وتلقي التحية على بعضها في مصاعد البنايات".
التحديات في سباق التميز
الحديث عن دبي لا يكتمل ولا يصح دون الحديث عن حاكمها سمو الشيخ محمد بن راشد، نائب رئيس الدولة ورئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، والذي لخص حكاية دبي في كتابه "رؤيتي.. التحديات في سباق التميز"، حيث أوضح سموه رؤيته الخاصة للتجربة التنموية في دبي، التي تقوم على تحقيق الامتياز والانتقال بالإمارات ككل ودبي بشكل خاص من دورهما كمركز اقتصادي إقليمي، إلى القيام بدور حيوي كمركز اقتصادي عالمي، مع التركيز على قطاعات الخدمات المتميزة والسياحة واقتصاد الفكر والمعرفة، والطاقة البشرية المبدعة.
وقد اعتمد في صياغة كتابه على المعايشة اليومية، والتجربة الذاتية، والعمل الدؤوب والمتواصل. وتضمن الكتاب تصوره عن مقومات صناعة التنمية، والتي حددها بالرؤية والقيادة والإدارة والقرار وفريق العمل. وفي فصل آخر عَرَض المفاهيم والمواصفات والخصائص التي تتميز بها عملية التنمية في الإمارات ودبي، والطريق إلى المستقبل، ورَسَم فيه آفاق الرؤية البعيدة، وامتدادها إلى الخليج والعالم العربي والعالم برمته، للمساهمة في صنع الفرص التنموية الإنسانية الواعدة.
وقد لخص سموه رؤيته في طريقة الإدارة الصحيحة والناجحة، فقال: " أعتقد أن مهام مديري الشركات والمشاريع يجب أن تتضمن اختيار مجموعة مناسبة من الموظفين ذوي الكفاءات العالية، وتدريبهم تدريباً خاصاً لكي يصبحوا مديرين مثلهم في المستقبل. وأن من واجب القائد أن ينمي القدرات القيادية لدى من يعرف فيهم الكفاءة والإبداع، والاستعداد ليتمكن هؤلاء في الوقت المناسب من تنمية القدرات القيادية لدى العاملين معهم. لأن القيادي لا يستطيع التواجد في كل الأماكن، ولا يستطيع القيام بكل الأعمال في الوقت نفسه. وعليه أن يفوض جزءاً من صلاحياته إلى مرؤوسيه، وإلا سينهمك بالجزئيات ويغرق في التفاصيل، ولن يجد الوقت الكافي للقيام بالعمل الأساسي الذي يجب عليه القيام به، وهو تطوير العمل وابتكار الحلول. إذا استمر هكذا فسوف يتحول إلى إنسان دائم الشكوى من قلة الوقت، لا لأنه مثقل بالعمل الخلاق والمجدي، بل لأنه يريد متابعة كل صغيرة وكبيرة، لذا يغرق في التفاصيل فتضيع عليه الصورة الكبيرة. وما هي هذه الصورة الكبيرة؟ الصورة الكبيرة بالنسبة له ولنا وللوطن هي البقاء، الذي هو محرك الحياة، لذا ترى الكائنات كلها وهي تحاول إما اللحاق بفريستها، أو الهروب من مفترسها في كل ثانية من حياتها. البقاء لا يتحقق بالتمنّي، واستمرار النمو يتطلب جهداً جباراً وانتباهاً كاملاً شاملاً واستعداداً دائماً لكل طارئ محتمل. نحن نعيش في مجتمعات متحضرة لكن عالم الأعمال يمكن أن يكون مثله مثل الغابة، السباق فيها لاقتناص الفرص وتحقيق الأرباح والتوسع. رجل الأعمال الناجح يجب أن يتربص بالفرصة الجيدة ويقتنصها قبل الآخرين."
وفي موضع آخر أضاف: " لن يكتمل الفخر ولا الاعتزاز ما لم يعم الخير والإنجاز والامتياز كل العرب. أكثر ما يحزنني هو حال هذه الأمة، وأرى الحزن يزداد بسبب واقع محزن، فيخففه التفاؤل بمستقبل سعيد، وأقول لنفسي وللآخرين، كل هذا اليأس والتشاؤم والخوف عابر عبور الغيمة الوحيدة في السماء الصافية. ما يجمع العرب أكثر بكثير مما يفرقهم، ونرى لدى أمم أخرى ما يفرقها عن بعضها أكثر بكثير مما يجمعها، لكنها تسير في طريق الاندماج والتكامل. هذا التشتت العربي الدائم غير طبيعي.. فالطبيعي أن نكون كتلة واحدة لكن لن نستطيع تحقيق هذا الهدف إذا ظلت الصغائر تتصدر الكبائر، وإذا ظل السلبي يتقدم الإيجابي، وأزمة العرب اليوم ليست أزمة مال أو رجال أو أخلاق أو أرض أو موارد فكل هذا موجود والحمد لله، ومعه السوق الاستهلاكية الكبيرة، وإنما أزمة قيادة وأزمة إدارة وأزمة أنانية مستحكمة، نَعَم إنها الأزمة الطبيعية التي يفرزها إعلاء حب كراسي الحكم على حب الشعب، وتقديم مصلحة الفرد ومصيره على مصير الوطن ومصلحته، ووضع مصالح الجماعات والشلل المحيطة بالقائد فوق مصالح الناس، إنها تسخير الشعب لخدمة الحكومة بدلا من الوضع الطبيعي المعاكس."
وفي معرض حديثه عن رؤيته الخاصة وعن المستقبل، يقول: "المستقبل هو شباب هذا الوطن. إنهم رافعو رايته وبناة اقتصاده وعماد مقوماته، وهم الذين سيواجهون تلك التحديات على أرض الواقع وسيتوصلون إلى المعادلة التي تضمن استمرار التنمية والبناء والاستقرار لهم ولأجيالهم من بعدهم. إنهم أول المستهدفين بأي رؤية اقتصادية وأي جهد تنموي، لذا يجب أن تتضمن الرؤية إعداد الشباب ليس لتتبع خطوات الاقتصاد الجديد أو لمماشاته، بل للأخذ بزمامه وقيادة مبادراته. هذا يقتضي التغيير: التغيير في المناهج، التغيير في التدريب، التغيير في التفكير، التغيير في عمل الحكومة، التغيير في الأولويات. أقول باختصار إن معظم الأدوات المناسبة للاقتصاد الجديد أدوات جديدة يجب إحداث التغيير المناسب للتعامل معها وتحقيق النجاح. وللنجاح في الأعمال والمشاريع مقومات معروفة، لكن لا شيء يعلو على التخصص في زمن التخصص، والمهنيّة في زمن المهنيّة، والتقنية في زمن التقنية. زمننا باختصار هو زمن الأفكار العظيمة القادرة على صناعة المشاريع العظيمة، وليس زمن حشو العقول بالمعلومات. مائة مشروع ناجح يمكن أن توفّر فرص العمل لعشرات الآلاف، وتصنع من المستقبل مكاناً أفضل لأبنائنا وبناتنا وكل الأجيال بعدهم. يجب أن يتعلّم شبابنا وشاباتنا على مقاعد الدراسة كل المواد المعروفة، لكن يجب أيضاً أن يتقنوا خبرات العمل في الشركات والمشاريع كخطوة أوليّة في طريق تأسيس الشركات وإقامة المشاريع الناجحة، ويجب أن تُتاح لهم الفرصة للتفاعل مع الاقتصاد كخطوة أوليّة في طريق تطويره وإثرائه. يجب ألا نكتفي بتقديم أفضل المدارس والجامعات لشبابنا وشاباتنا فقط، بل أن نقدم لهم أفضل المؤسسات المتخصصة القادرة على تشجيع المبادرة والابتكار ومساعدتهم على تطوير مهاراتهم في حقول الأعمال والمشاريع، والإسهام في تحويل الأفكار المتميزة إلى مشاريع متميزة، وإعداد الهياكل الاستشارية والاستثمارية والإدارية والتسويقية لإنجاح هذه الأفكار."
وفي فصل آخر يضيف: "إنْ لم يتطور الأداء الإداري والمفاهيم الإدارية في كل أشكال العمل ومستوياته فإننا سنظل نراوح في مكاننا، والمراوحة في المكان هي أقصر طريق إلى استمرار التأخر والتخلف... والهزائم أيضاً.. مهما يكن المدير جيداً فإننا نريد أن نُخرّج من الصفوف الخلفيّة الثالثة والرابعة أصحاب المواهب والطاقات الواعدة. هؤلاء هم المخزون الطبيعي للطاقات البشرية التي نحتاجها، وهنا مخزون الإبداع والأفكار الكبيرة التي نحتاجها في الطريق إلى المستقبل بعد صقلها وإثرائها بالتدريب والخبرة. هذه العملية ليست خبط عشواء وليست وليدة الساعة أو الصدفة أو المزاج. من كان مبدعاً قبل سنتين ربما لم يعد مبدعاً لسبب من الأسباب، ومن كان يعيش في عتمة الإنجاز ربما انتقل إلى نوره لسبب من الأسباب، لذا فإن متابعة أصحاب الصفوف الخلفية مهمة دقيقة تتطلب دراسة تقييمية منهجية مستمرة".
وعن رؤيته لما تم إنجازه والتحديات التي تنتظر الإمارة يقول: "ما أنجزناه حتى اليوم لا يزيد على 10 في المائة من أهدافنا. ضمن رؤية تمتد حتى منتصف القرن الجاري، فنحن لا نزال في بداية السباق الطويل. عندما نتحدث عن المستقبل يعني أننا نتحدث عن التحديات. طموحاتنا كبيرة ونتوقع أن تكون التحديات التي سنواجهها بحجم الطموحات، وستتوقف قدرتنا على تجاوز تلك التحديات على العمل والتخطيط والاستعداد والتفاؤل والثقة بأنفسنا وبقدراتنا، وعلى أملنا الكبير بأننا نستطيع أن نصل إلى أهدافنا. التحديات الكبيرة هي التي تصنع الشعوب الكبيرة، وحين أنظر إلى الماضي ثم أعود وأنظر إلى المستقبل فأنا مقتنع في قرارة نفسي بأننا سنتغلب على تلك التحديات وسنحقق النجاح لأننا فعلنا هذا في الماضي وسنفعله في المستقبل."
ويعترف سموه بوجود أخطاء وعثرات واكبت المسيرة: "يوجد في مجتمعنا الكثير من المظاهر السلبية الصغيرة التي لا ننتبه إليها دائماً، لكنها تؤثر في مجموعها في الأداء سواء على مستوى الفرد أو المجتمع، وينبغي التخلص منها بالسرعة الممكنة من خلال تشجيع السلوكيات الإيجابية، وترسيخ الأمانة وتطوير الأداء، لأن كل هذا سيؤدي إلى نتائج إيجابية على المدى الطويل، ويحقق الاستغلال الأمثل للموارد، ويُسهم في توفير البيئة التي تساعد على تعميق الامتياز والإبداع. التغلب على تحديات قرن جديد في ألفية جديدة، يتطلب تفكيراً جديداً وأساليب مبتكرة، يمكن الاستفادة منها في تطوير المجتمع وتعجيل حركة التنمية، وهذا يقتضي التغيير. التغيير يعني القبول بالجديد المفيد والاقتناع النهائي بأن القديم غير المفيد لم يعد مناسباً، وآن أوان طرحه من العقول والممارسة. إنه يعني تغيير أنماط التفكير والقدرة على فهم اللغة التي يتحدث بها العالم، والقدرة على نقل رسالتنا وأهدافنا ومواقفنا بالوضوح والبساطة والصراحة التي تمكّن العالم من فهمنا، وبالتالي تعميق التعاون بين الشعوب وإزالة مكامن سوء الفهم وإتاحة المجال لتوجيه كل الجهود إلى صنع التنمية. إن أهدافنا إستراتيجية، وتخطيطنا استراتيجي، وتطلعاتنا إستراتيجية لذا فإن التغيير، الذي نتحدث عنه يجب أن يكون بالضرورة تغييراً استراتيجياً يستجيب لكل ما تقدم ويتوافق معه".
دبـي بين عصرين
الحديث عن دبي يعني بشكل أو بآخر الحديث عن شقيقتها التوأم التي تشبهها إلى حد كبير، مدينة "أبوظبي"، كبرى وأغنى الإمارات السبع التي تشكل معا الإمارات العربية المتحدة، والتي استقلت في بداية السبعينات من القرن الماضي، وقد برز اسم دبي لأول مرة في القرن الثامن عشر، عندما كانت قرية صغيرة للصيد والغوص، تسكنها قبيلة بني ياس، وقد حكمها آل مكتوم منذ عام 1833 عندما جاؤوا إليها من إمارة أبو ظبي، بقيادة الشيخ مكتوم مؤسس إمارة دبي الأولى, الذي أظهر براعة وكفاءة في تنظيم وإدارة أمور القبيلة.
وقد لعب الصيد والغوص وتجارة اللؤلؤ دورا كبيرا في إنعاش القرية وتحويلها إلى مدينة تجارية مهمة، لتصبح أكبر مركز تجاري نشيط ومتطور في تلك المرحلة، ويعود بعض هذا التطور إلى موقع المدينة الحيوي، حيث تقع دبي على شاطئ ميناء طبيعي، ويمثل "الخور" الذي يمتد بداخلها عشرة أميال أفضل الموانئ الطبيعية في جنوب الخليج. وقد شكل الخور جزءاً مهماً من الحياة اليومية لسكان دبي القديمة آنذاك، وخاصة لغواصي اللؤلؤ والتجار وصيادي السمك والبدو .
وبعد أن استتب الأمن في دبي توافد عليها الناس وأخذت تكبر، وحتى منتصف القرن العشرين لم يكن في دبي شبكة طرق رسمية، بل أن طرقها عبارة عن ممرات ترابية ضيقة لا تسمح بمرور السيارات، لذلك كانوا يستخدمون الدواب والجمال للتنقل، وبما أنه لم تكن هنالك جسور على الخور تصل بين شطري دبي، فقد ترتب على الناس أن يتحملوا رحلة مضنية للانتقال من ضفة إلى أخرى، وذلك بالدوران حول نهاية الخور. أو باستخدام قوارب صغيرة تسير بالتجديف. وقد أنارت المصابيح الزيتية الزجاجية الطرقات والمحلات التجارية قبل معرفة الكهرباء عام 1952، وكان السكان يستوردون الفحم النباتي من سلطنة عمان ليستخدموه في أغراض الطهي وصنع القهوة. ولم تكن هناك شبكات توزيع للمياه، فاعتمد السكان على المياه الجوفية، وكانوا يستخرجون الماء من الآبار بطرق يدوية بدائية، وعاش معظم السكان في أكواخ مصنوعة من سعف النخيل، وكانت المحلات التجارية الرئيسة مبنية من الجبس والحجارة المرجانية، وتعد القلعة التي تم بناؤها عام 1799 أقدم بناء مازال قائماً منذ ذلك الزمان, وهي مقر الحاكم قبل أن يتم تحويلها إلى سجن. وكان يغلب على دبي القديمة زخم وافر من تقاليد الماضي التي طبعت الحياة بسمات التعايش والانسجام بين الناس وبيئتهم. وبميناء دبي الزاخر وسوقها المفعم بالحيوية والنشاط التجاري، واحتفظت دبي على الدوام بمستوى معيشة أفضل من مستويات المعيشة التي توفرت في مدن أخرى بالمنطقة في نفس الفترة.
وكان للشيخ "شخبوط" مؤسس الإمارة والشقيق الأكبر للشيخ "زايد" رحمه الله رئيس دولة الإمارات السابق، طريقة تفكير معينة تتسم بالسكون والجمود والمحافظة، الأمر الذي حرم الإمارات من فرصة التطور في وقت مبكر، وعلى سبيل المثال كانت له وجهة نظره مختلفة تجاه التطور والحداثة وأنماط الحياة الجديدة، وكان يعتبر مثل هذه الأمور من الترف والرفاهية التي لا لزوم لها، وأنها ليست ضرورية، طالما أن الشعب قانع بحياته وعاش من دونها لمدة قرنين من الزمان .. وكانت مشكلته الأساسية عند الأجنبي بالطبع، أنه يفتخر بالاستقلالية والحياة القبلية، ويترفع عن تلك التي يعتبرها حياة مصطنعة وينظر إليها على أنها كماليات، لدرجة أنه قال ذات مرة لأحد مندوبي الشركات الأجنبية أنه ليس راغبا في المال، وقال أيضا أنه سيكون سعيدا تماما إذا أخذت الشركة نصف البترول وغادرت المنطقة تاركة النصف الآخر تحت الأرض.
اليوم تغيرت الصورة بالكامل، وانقلب المشهد رأسا على عقب، ولم يبق من الماضي سوى ذكريات تؤرق بعض المؤرخين. اليوم تمثل دبي صورة واقعية لشكل المستقبل، في العمران والتطور وأسلوب الحياة والتعايش بين الناس. يحق لأهلها أن يفتخروا بها وأن يباهوا الأمم، ويحق لنا أن نفتخر بأنها مدينة عربية، تفوقت على كثير من مدن العالم، وأنها ما زالت تعد بالكثير، وما نراه اليوم من صور مدهشة وساحرة ما هو إلا جزء من أحلام وطموحات المدينة التي لا تعرف التوقف، ولا تعرف المستحيل.
بتفاصيلها الصغيرة، بمشاريعها العملاقة، بتطلعها نحو المستقبل، بصخبها وازدحامها، بأمنها واستقرارها .. بأنماط عمرانها المتعددة، بحدائقها الفسيحة، ببيوتها الضيقة، بأسواقها المسقوفة والمفتوحة على كل الشعوب .. لا شيء فيها يدعو للقلق، سوى الصيف والغلاء وأزمات المرور.
مدينة ولا في الخيال، فيها كل ما هو مختلف وغريب وخارج عن المألوف، وكل ما هو متوقع وطبيعي، حيث المجمعات التجارية المكيفة، وأروع "المولات" وأكبرها على الإطلاق، حيث الشواطئ الذهبية والمرافق السياحية والجزر الصناعية وليالي ألف ليلة وليلة، أينما تولي وجهك، تجد المشاريع الجبارة والعملاقة، البناء فيها لا يتوقف ليل نهار، سرعة نمو خارقة، وتوسع يفوق قدرات أي مكان آخر على الخارطة، كل عمارة تختلف عن الأخرى، وتقول عن نفسها الأجمل والأغرب، هَوس في تحطيم الأرقام القياسية: أعلى ناطحات سحاب، أضخم سوق تجاري، أعلى مطعم، أفخم فندق، أوسع ساحة تزلج، أجمل نافورة راقصة، أغلى عقار، أسرع مصعد، أبطأ ازدحام سير ... وكل ما هو على وزن أَفْعَلْ.
تسعى دبي بخطى حثيثة وواثقة أن تصبح مدينة عالمية بكل معاني الكلمة، لتتفوق بأهميتها على أقدم وأغنى العواصم، وأن تكون منطقة الجذب الأولى لأهم الاستثمارات، وأن تحتضن أهم العقول والخبرات والكفاءات، ولتحقيق ذلك أقامت مدينة للإنترنت، مدينة إعلامية، مدينة للطفل، مدينة للمعرفة، فروع لأرقى جامعات العالم، وأهم المتاحف، مكاتب وإدارات إقليمية لكبرى الشركات والمصانع العالمية، أضخم وأهم المعارض في شتى المجالات والصناعات، بدءً من شركات الطيران والتصنيع الحربي إلى التكنولوجيا والغذاء والصناعات الثقيلة والخفيفة، وحتى معارض الكتب.
ولكن عبقرية دبي لم تتوقف عند جلب الخبراء الأجانب، وافتتاح فروع الجامعات والشركات الدولية، بل أن عبقريتها تكمن في توفير البيئة المثالية لتعايش كل هذه المتناقضات بانسجام وتناغم قل مثيله، تكمن في بنيتها المؤسسية وطريقة إداراتها الفذة، في احترامها للقانون وحرصها على النظام، في تنقيبها عن العقول واستخراج أفضل ما فيها، في فتح فضاءاتها دون حدود، وإطلاق حرياتها دون قيود، في قدرتها على إزالة الحواجز أمام أي موهبة أو طموح شخصي، وإزالتها للعوائق التي تمنع من يملك القدرات النابغة أن يصنع مشروعه ويحقق حلمه.
إذا كان الحصول على تأشيرة السفارة الأمريكية حلم الشباب العربي الحالم والمعذب، فإن تأشيرة الإمارات اليوم صارت حلم شباب العالم بأسره .. من خبراء وعلماء وفنيين وأثرياء وفقراء مشاهير ومسحوقين ومهندسين ومجانين وفنانين وعمال .. وكل من له حلم ويسعى لتحقيقه، لا يبحث كل هؤلاء عن المال، فكثير منهم بمقدوره أن يجده في أماكن أخرى، وربما بطرق أسهل. ولا يأتي ملايين السيّاح إلى دبي بحثا عن جمال مصطنع، أو أسواق نظيفة، فالجمال الطبيعي موجود في أماكن كثيرة، بعيدا عن جو دبي الحار والرطب معظم أيام السنة، والأسواق في كل مكان، ولكن الذي ساق الناس إلى دبي، والذي جعل منها قبلة قلوبهم وعقولهم .. هو قدرتها العجيبة على إثارة دهشتهم، وعلى منحهم البهجة والسرور، على ضخ الأدرينالين في شرايينهم، وجعلهم يحسّون بالأمان، وأن إنسانيتهم مُقدّرة، وتلك ربما أهم احتياجات الناس، قبل فرصة العمل، وأحيانا قبل الطعام.
في دبي ينحت القائمون على بناءها نموذجا خاصا بها، برؤية عربية خالصةٌ، تمكنت من تكثيف العالم وتجميعه في قارورة، وأعادت بناء العلاقات الإنسانية لشعوبه على نحو جديد ومختلف، يتجاوز الصورة النمطية لها والتي طالما وسمتها بالتشابك والتناقض والصراع، لتنتج فهماً جديداً ومختلفا، مبني على أسس إنسانية حضارية، يتجاوز القبيلة والدولة والحدود السياسية، ويفتش عن آفاق التعاون والتكامل بمعانية الرحبة، حيث لا يسأل أحدٌ الآخر عن أصله ولونه ودينه، بل يسأل عن مهنته وفكره وخبراته وكفاءته، وحيث المناخ الموات، والأرض الخصبة لكي يزرع الناس أحلامهم ثم يرونها تورق، حيث لا تتغوّل الآلة على الإنسان، ولا يفترس رأس المال المجتمع، ولا تقضي الشركات على روحية العلاقات وجذرها الإنساني. بمعنى آخر يسعى نموذج دبي أن يقدم الوجه الآخر للعولمة، بدلا من تطبيقاتها المشوهة واللاإنسانية.
دبي بكل ضجيجها هادئة، وبكل حركتها التي لا تعرف الكلل أو التوقف، آمنة. وبكل تناقضاتها منسجمة، درجة الأمان فيها عالية، والمقيمون بدبي والذين زاروها وحدهم يعرفون أنها خاليةٌ تماماً من أي مظهر عسكري أو شُرَطي، وبإمكان أي شخص أن يعيش فيها سنوات دون أن يرى حتى شرطي سير يعترض طريقه، ولكن دبي مع ذلك تتقن جيداً أمن القبضة الحريرية، حيث مركز الشرطة تحسبه من الخارج مركزا ترفيهيا، وتدرك كيف تحفظ أمن المقيمين فيها دون أن تزعجهم، أو تنغّص عليهم، أو تربكهم، أو تجعل شرطتها يتعالون عليهم في ذهابهم وإيابهم .
بعد أن استباحت إسرائيل أمن هذه المدينة الوادعة، واغتالت الشهيد "المبحوح" في أحد فنادقها، بيّنت دبي للعالم أنها ليست مجرد مدينة من الأبراج والفنادق الفخمة، وليست فقط مهرجانا للتسوق أو ميدانا للتزلج، يؤمّها السيّاح ولاعبي الجولف، هي قبل كل هذا مدينة منيعة وعصية على الاختراق، وقدراتها لا تنحصر في شغفها على التطور والبنيان، وأثبتت أنها إمارة مؤسسات، منيعة على العابثين بأمنها، وأنها قادرة على الردع، والدفاع عن منجزاتها، حيث تمكنت شرطة دبي، من كشف الجناة وفضحهم، بل وملاحقتهم في الإنتربول وأمام القضاء الدولي، وهو إنجاز أمني أطاح بالصورة النمطية المعهودة عن الموساد، وتفوقت فيه على دول كثيرة، طالما تغنت بقدراتها وبمخابراتها دون أن تحل أي لغزٍ من ألغاز الاغتيالات والتفجيرات في مدنها وساحاتها.
دبي في عيون الآخرين
ملايين الناس زاروا دبي، منهم من أقام فيها، ومنهم من مر مرور الكرام، منهم من كتب عنها، ومنهم من نقل رسالة شفهية، ومن المستحيل أن هؤلاء قد اتفقوا فيما بينهم على رؤية واحدة، ولكن من المؤكد أنها قد أدهشتهم جميعا. البعض رأى في دبي مدينة من الزجاج والأبراج، وتعاملوا مع شغفها بالتطوير والإعمار على أنه «مراهقة عمرانية»، وأنها إمارة للترف والمجون، وأن حكامها لا يعرفون أين يصرفون نقودهم فاخترعوا مشاريع أسطورية تكلفت مليارات الدولارات، وأنها مدينة تستعرض جمالها وبذخها دون رسالة، ودون هدف، وأنها الراعي الأول لثقافة الاستهلاك.
والبعض رآها مدينة بلا هوية، فقدت أصالتها وطابعها المميز، وتضخمت بشكل سرطاني، دون تخطيط أو منهجية، سكانها الأصليون ذابوا مع هذا الخليط الهجين، وخسروا تراثهم، حتى أنهم لا يشكلون سوى أقلية تتحكم في المال والنفوذ والمرافق الحساسة، دون مؤهلات حقيقية، ولا يتقنون شيئا سوى التسوق ومجاراة الموضة ومواكبة التطورات التكنولوجية التي يصنعها الآخرون. بينما رأى آخرون أن الطبقة الحاكمة فقدت زمام السيطرة وأفلتت الأمور من عقالها، وخرجت عن نطاق التحكم.
والبعض رأوها مدينة ماجنة، النساء سافرات، محلات الخمور علنية، الاختلاط بلا ضوابط، مظاهر الحياة الغربية طغت على تقاليد أهلها المحافظة، وأنها من علامات اقتراب يوم القيامة، حيث الحفاة الرعاة يتطاولون في البنيان .. وأنها صنيعة الغرب لضرب القيم الإسلامية ..
والبعض رأى أن ما يجري في دبي هو سباق محموم على جمع المال، وتكديس الثروات، والتنافس بين الشركات الكبرى متعددة الجنسيات أو الشركات الكبرى الهاربة من القوانين، والمتهربة من الضرائب، لتستثمر في إمارة تقدم لها كل شيء، ولا تقبض سوى هذا الفتات الذي يتناثر هنا وهناك.
البعض اعتبرها طفرة وراثية نمت في الخليج ضمن حسابات غير متوقعة وغير مدروسة من قبل أصحابها، وأنها بُنيت بعقول وخبرات وجهود الآخرين، وأن الغرب أراد أن يشارك العرب في نفطهم وأرباحه، من خلال مشاريعه المجنونة فيها، والبعض اعتبر أن الغرب أراد لها أن تكون ملاذا لشركاته واستثماراته لتنمو بعيدا عن أعين برلمانات دولهم وصحافتها وأحزابها المعارضة وقوانينها الصارمة.
باعتقادي، أن كل ما تقدم من تحليل، هو تحليل سطحي ومتعالي ومتسرع، وأنه يفتقد للموضوعية، بالرغم من صحة بعض من هذه التهم التي لا ينكرها أحد، ولكن .. إذا سلمنا مثلا أن أموال النفط كان لها الدور الأساسي في صنع هذه المعجزة، فقد بيّنت نتائج الثورات الشعبية في البلدان العربية المختلفة، أن حكامها كانوا يمتلكون الثروات الطائلة التي ربما تتجاوز ثروة هذه الإمارة الصغيرة، ورغم ذلك لم يبني أحدهم نموذجا بربع أو خُمس نموذج دبي، بل كدّسوها في مصارف سويسرا، وأنفقوا ما تبقى منها على مشاريع وهمية وبناء جيوش هلامية، وطبعا هذا لا يعني أن حكام الإمارات يعيشون في شقق متواضعة ويركبون سيارات الأجرة .. ولكنهم بالتأكيد يفكرون ويتصرفون بطريقة مختلفة.
وليس من المعقول ولا من المنطق أن هذا التطور الذي أصاب الإمارة قد تم بدون تخطيط ولا دراسة، فمن المؤكد أن سر نجاح العملية برمتها يكمن في العقلية الإدارية وأسلوبها العصري المنفتح والذكي، وإلى جانب التخطيط السليم والطَّموح والحالم حد الخيال، كان هناك مثابرة حثيثة، ومتابعة دقيقة لأصغر التفاصيل، وجدّية في العمل، وحرص على الإنجاز بمستوى من الحرفية لا يقبل بأقل من الكمال، وأن الأموال ليست كل شيء، فعلى سبيل المثال عند بداية فكرة عمل مترو أنفاق في دبي، كانت حكومة الكويت قد توصلت إلى نفس الفكرة في نفس الوقت، اليوم وبعد عدة سنوات أكملت دبي مشروعها، بينما ما زالت الكويت لم تحسم أمرها حتى اللحظة بعمل قطار فوق الأرض أم مترو أنفاق تحتها.
والحقيقة أن أهل الإمارات الأصليين يمتازون بالذكاء والتواضع وحسن المعشر، ولولا هذه السمات لما نجحوا في استقطاب سكان الأرض لإماراتهم، ولولا تسامحهم وانفتاحهم لما نجح هذا النموذج الفريد من التعايش السلمي الإيجابي بين كل هذه المجموعات البشرية التي ربما تقاتلت في أوطانها وتصالحت في دبي، ولولا عقلياتهم المرنة والقابلة للتعلم والحريصة على التطور، واستيعاب نظم الإدارة الحديثة لما كانت دبي كما هي الآن. وقبل كل هذا - وربما الأهم - أنه لو لم تكن السلطة الحاكمة في دبي تتمتع بكل هذه الصفات الإيجابية وهذه العقلية العبقرية والطموح اللامتناهي لما كانت دبي مختلفة ومتميزة كما نراها اليوم.
ودبي تدرك أن نفطها سينضب بعد سنين طالت أم قصرت، وهي متنبّهة لهذه النهاية، لذلك فهي لا تعتمد على أموال نفطها فقط، فقد أوجدت مصادر دخل إضافية تفوق بأهميتها النفط بكثير: السياحة، الترانزيت، معارض الصناعات، مهرجانات التسوق، افتتاح مقرات لأهم الشركات العابرة للقارات، التبادل التجاري، الاستثمارات العقارية، الخدمات المصرفية، وتجارة الخدمات، والأهم من هذا حفاظها على سمعتها ومكانتها كحاضنة مثالية جاذبة للاستثمارات توفر الأمن والاستقرار والقوة الاقتصادية القادرة على تخطي الأزمات العالمية.
المشاريع العملاقة التي تنفذها دبي قد تبدو للبعض مشاريع مجنونة لا ضرورة لها، وأنها ضرب من التبذير، بينما يراها القائمون عليها تحدي للمستحيل، ونوع من التميز والتفرد والتفوق، وضرب من الفن والجمال الخاص، فيها متعة الإنجاز، والوصول إلى حيث لم يفكر أحد من قبل، ولم يجرؤ عليها مغامر في مكان آخر، هي نوع من الإبداع والخلق والعبقرية، وفي النهاية هي التي تعطي لدبي مكانتها المرموقة، وتحجز لها صفا متقدما في المستقبل، وتجذب إليها الناس من كل أنحاء المعمورة لتبهرهم وتخطف أفئدتهم، وهي استثمار اقتصادي بحد ذاته. انتزعت اعتراف العالم من خلالها بعبقرية دبي وأهلها.
أما فيما يتعلق بالهوية والأصالة، فإن الهوية لا تعني أن تكون النوافذ على شكل أقواس، والأبواب مزخرفة، والمساجد تملؤها نقوش الفسيفساء حتى نقول أن البلد إسلامي، والتراث لا يقتصر على الزي الشعبي، والأصالة لا تعني العيش في الماضي. الهوية هي الذاتية والخصوصية، وهي القيم والمبادئ التي تشكل أساس الشخصية الفردية وشخصية المجتمع، وهي الروح المعنوية للمجتمع. والهوية ليست معطى مطلق وثابت، وإنما تتحول تبعا لتحول الواقع، بل أكثر من ذلك هناك داخل كل هوية هويات فرعية متعددة ذوات مستويات مختلفة، والإنسان هو الذي يخلقها وفق صيرورة التحول والتطور. ومع ذلك تحاول دبي بوضوح إبراز ثقافتها الخاصة، وتركز دوما على أنها إنها مدينة عربية إسلامية ذات طابع شرقي، ولكن على ما يبدو فإن معادلة تطبيق احترام الزي الإسلامي أو المحافظة على الهوية الإسلامية التقليدية مع جود سياحة مفتوحة واستثمارات أجنبية، لم تتوصل إليها أي دولة إسلامية بشكل كامل حتى الآن.
الهوية الجديدة التي اختارتها دبي هي العالمية، هي التسامح والتعايش المشترك، هي التنوع والتعدد دون أن يطغى أحد على الآخر، ودون أن يدعي أحد أنه الأفضل، فلا وجود للصراع الأيديولوجي هناك، ولا مجال لبروز الطائفية أو نمو التطرف والإرهاب، لا أحد يفتش عن الماضي، فكل من اختار دبي رمى ماضيه وراءه وجاء يبحث عن المستقبل، ورغم ذلك تجد هناك التراث الأندلسي والصيني والهندي والمصري والأوروبي والمغربي والإفريقي والأوكراني والشامي واليمني .. وجميعهم تحت سلطة القانون.
الكاتب الفلسطيني "إبراهيم جابر" كتب في صحيفة الغد في وصف مدينة دبي: "أنت هنا في بلدٍ تُقالُ فيه "صباح الخير" كل يوم، بأكثر من ثلاثمائة لهجةٍ، ومائة لغة، حيث يُسلق الأرز، ويُلبس الجينـز، ويُشرب الشاي، كل يومٍ بأكثر من مائتي طريقة. في مطعمٍ صغيرٍ تتجاور خمسُ دول على طاولتين، وفي مصعد البناية تبتسم لبعضهما ديانتان، وتتلامس أكتاف ثلاث قارات، قبل أن يهبط الجميع في طابقٍ واحد. وعلى مرآة الفندق الأنيق ترى وجوها سمراء وشقراء وبيضاء وسوداء وقمحية، وعيوناً واسعة وضيقة وضاحكة، فإذا أردت أن تعرف العالم لا تحتاج سوى أن تزور هذه المدينة."
ويضيف "جابر" في نفس المقالة: "في دبي تزرع الهنديةُ نبتتها الوطنيةَ على إفريز النافذة، ويُعلّق العربي علم بلاده في سيارته، ويوشم الإفريقي طفله بوسمه القومي، ويفاجأ الأوروبي أن العرب لا ينامون في حظائر الإبل؛ هنا أنموذج آخر من العولمة التي لا تبتلع الهويات، وإنما تحتفي بها وتفسح لها لتتعايش وتتحاور، وتلقي التحية على بعضها في مصاعد البنايات".
التحديات في سباق التميز
الحديث عن دبي لا يكتمل ولا يصح دون الحديث عن حاكمها سمو الشيخ محمد بن راشد، نائب رئيس الدولة ورئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، والذي لخص حكاية دبي في كتابه "رؤيتي.. التحديات في سباق التميز"، حيث أوضح سموه رؤيته الخاصة للتجربة التنموية في دبي، التي تقوم على تحقيق الامتياز والانتقال بالإمارات ككل ودبي بشكل خاص من دورهما كمركز اقتصادي إقليمي، إلى القيام بدور حيوي كمركز اقتصادي عالمي، مع التركيز على قطاعات الخدمات المتميزة والسياحة واقتصاد الفكر والمعرفة، والطاقة البشرية المبدعة.
وقد اعتمد في صياغة كتابه على المعايشة اليومية، والتجربة الذاتية، والعمل الدؤوب والمتواصل. وتضمن الكتاب تصوره عن مقومات صناعة التنمية، والتي حددها بالرؤية والقيادة والإدارة والقرار وفريق العمل. وفي فصل آخر عَرَض المفاهيم والمواصفات والخصائص التي تتميز بها عملية التنمية في الإمارات ودبي، والطريق إلى المستقبل، ورَسَم فيه آفاق الرؤية البعيدة، وامتدادها إلى الخليج والعالم العربي والعالم برمته، للمساهمة في صنع الفرص التنموية الإنسانية الواعدة.
وقد لخص سموه رؤيته في طريقة الإدارة الصحيحة والناجحة، فقال: " أعتقد أن مهام مديري الشركات والمشاريع يجب أن تتضمن اختيار مجموعة مناسبة من الموظفين ذوي الكفاءات العالية، وتدريبهم تدريباً خاصاً لكي يصبحوا مديرين مثلهم في المستقبل. وأن من واجب القائد أن ينمي القدرات القيادية لدى من يعرف فيهم الكفاءة والإبداع، والاستعداد ليتمكن هؤلاء في الوقت المناسب من تنمية القدرات القيادية لدى العاملين معهم. لأن القيادي لا يستطيع التواجد في كل الأماكن، ولا يستطيع القيام بكل الأعمال في الوقت نفسه. وعليه أن يفوض جزءاً من صلاحياته إلى مرؤوسيه، وإلا سينهمك بالجزئيات ويغرق في التفاصيل، ولن يجد الوقت الكافي للقيام بالعمل الأساسي الذي يجب عليه القيام به، وهو تطوير العمل وابتكار الحلول. إذا استمر هكذا فسوف يتحول إلى إنسان دائم الشكوى من قلة الوقت، لا لأنه مثقل بالعمل الخلاق والمجدي، بل لأنه يريد متابعة كل صغيرة وكبيرة، لذا يغرق في التفاصيل فتضيع عليه الصورة الكبيرة. وما هي هذه الصورة الكبيرة؟ الصورة الكبيرة بالنسبة له ولنا وللوطن هي البقاء، الذي هو محرك الحياة، لذا ترى الكائنات كلها وهي تحاول إما اللحاق بفريستها، أو الهروب من مفترسها في كل ثانية من حياتها. البقاء لا يتحقق بالتمنّي، واستمرار النمو يتطلب جهداً جباراً وانتباهاً كاملاً شاملاً واستعداداً دائماً لكل طارئ محتمل. نحن نعيش في مجتمعات متحضرة لكن عالم الأعمال يمكن أن يكون مثله مثل الغابة، السباق فيها لاقتناص الفرص وتحقيق الأرباح والتوسع. رجل الأعمال الناجح يجب أن يتربص بالفرصة الجيدة ويقتنصها قبل الآخرين."
وفي موضع آخر أضاف: " لن يكتمل الفخر ولا الاعتزاز ما لم يعم الخير والإنجاز والامتياز كل العرب. أكثر ما يحزنني هو حال هذه الأمة، وأرى الحزن يزداد بسبب واقع محزن، فيخففه التفاؤل بمستقبل سعيد، وأقول لنفسي وللآخرين، كل هذا اليأس والتشاؤم والخوف عابر عبور الغيمة الوحيدة في السماء الصافية. ما يجمع العرب أكثر بكثير مما يفرقهم، ونرى لدى أمم أخرى ما يفرقها عن بعضها أكثر بكثير مما يجمعها، لكنها تسير في طريق الاندماج والتكامل. هذا التشتت العربي الدائم غير طبيعي.. فالطبيعي أن نكون كتلة واحدة لكن لن نستطيع تحقيق هذا الهدف إذا ظلت الصغائر تتصدر الكبائر، وإذا ظل السلبي يتقدم الإيجابي، وأزمة العرب اليوم ليست أزمة مال أو رجال أو أخلاق أو أرض أو موارد فكل هذا موجود والحمد لله، ومعه السوق الاستهلاكية الكبيرة، وإنما أزمة قيادة وأزمة إدارة وأزمة أنانية مستحكمة، نَعَم إنها الأزمة الطبيعية التي يفرزها إعلاء حب كراسي الحكم على حب الشعب، وتقديم مصلحة الفرد ومصيره على مصير الوطن ومصلحته، ووضع مصالح الجماعات والشلل المحيطة بالقائد فوق مصالح الناس، إنها تسخير الشعب لخدمة الحكومة بدلا من الوضع الطبيعي المعاكس."
وفي معرض حديثه عن رؤيته الخاصة وعن المستقبل، يقول: "المستقبل هو شباب هذا الوطن. إنهم رافعو رايته وبناة اقتصاده وعماد مقوماته، وهم الذين سيواجهون تلك التحديات على أرض الواقع وسيتوصلون إلى المعادلة التي تضمن استمرار التنمية والبناء والاستقرار لهم ولأجيالهم من بعدهم. إنهم أول المستهدفين بأي رؤية اقتصادية وأي جهد تنموي، لذا يجب أن تتضمن الرؤية إعداد الشباب ليس لتتبع خطوات الاقتصاد الجديد أو لمماشاته، بل للأخذ بزمامه وقيادة مبادراته. هذا يقتضي التغيير: التغيير في المناهج، التغيير في التدريب، التغيير في التفكير، التغيير في عمل الحكومة، التغيير في الأولويات. أقول باختصار إن معظم الأدوات المناسبة للاقتصاد الجديد أدوات جديدة يجب إحداث التغيير المناسب للتعامل معها وتحقيق النجاح. وللنجاح في الأعمال والمشاريع مقومات معروفة، لكن لا شيء يعلو على التخصص في زمن التخصص، والمهنيّة في زمن المهنيّة، والتقنية في زمن التقنية. زمننا باختصار هو زمن الأفكار العظيمة القادرة على صناعة المشاريع العظيمة، وليس زمن حشو العقول بالمعلومات. مائة مشروع ناجح يمكن أن توفّر فرص العمل لعشرات الآلاف، وتصنع من المستقبل مكاناً أفضل لأبنائنا وبناتنا وكل الأجيال بعدهم. يجب أن يتعلّم شبابنا وشاباتنا على مقاعد الدراسة كل المواد المعروفة، لكن يجب أيضاً أن يتقنوا خبرات العمل في الشركات والمشاريع كخطوة أوليّة في طريق تأسيس الشركات وإقامة المشاريع الناجحة، ويجب أن تُتاح لهم الفرصة للتفاعل مع الاقتصاد كخطوة أوليّة في طريق تطويره وإثرائه. يجب ألا نكتفي بتقديم أفضل المدارس والجامعات لشبابنا وشاباتنا فقط، بل أن نقدم لهم أفضل المؤسسات المتخصصة القادرة على تشجيع المبادرة والابتكار ومساعدتهم على تطوير مهاراتهم في حقول الأعمال والمشاريع، والإسهام في تحويل الأفكار المتميزة إلى مشاريع متميزة، وإعداد الهياكل الاستشارية والاستثمارية والإدارية والتسويقية لإنجاح هذه الأفكار."
وفي فصل آخر يضيف: "إنْ لم يتطور الأداء الإداري والمفاهيم الإدارية في كل أشكال العمل ومستوياته فإننا سنظل نراوح في مكاننا، والمراوحة في المكان هي أقصر طريق إلى استمرار التأخر والتخلف... والهزائم أيضاً.. مهما يكن المدير جيداً فإننا نريد أن نُخرّج من الصفوف الخلفيّة الثالثة والرابعة أصحاب المواهب والطاقات الواعدة. هؤلاء هم المخزون الطبيعي للطاقات البشرية التي نحتاجها، وهنا مخزون الإبداع والأفكار الكبيرة التي نحتاجها في الطريق إلى المستقبل بعد صقلها وإثرائها بالتدريب والخبرة. هذه العملية ليست خبط عشواء وليست وليدة الساعة أو الصدفة أو المزاج. من كان مبدعاً قبل سنتين ربما لم يعد مبدعاً لسبب من الأسباب، ومن كان يعيش في عتمة الإنجاز ربما انتقل إلى نوره لسبب من الأسباب، لذا فإن متابعة أصحاب الصفوف الخلفية مهمة دقيقة تتطلب دراسة تقييمية منهجية مستمرة".
وعن رؤيته لما تم إنجازه والتحديات التي تنتظر الإمارة يقول: "ما أنجزناه حتى اليوم لا يزيد على 10 في المائة من أهدافنا. ضمن رؤية تمتد حتى منتصف القرن الجاري، فنحن لا نزال في بداية السباق الطويل. عندما نتحدث عن المستقبل يعني أننا نتحدث عن التحديات. طموحاتنا كبيرة ونتوقع أن تكون التحديات التي سنواجهها بحجم الطموحات، وستتوقف قدرتنا على تجاوز تلك التحديات على العمل والتخطيط والاستعداد والتفاؤل والثقة بأنفسنا وبقدراتنا، وعلى أملنا الكبير بأننا نستطيع أن نصل إلى أهدافنا. التحديات الكبيرة هي التي تصنع الشعوب الكبيرة، وحين أنظر إلى الماضي ثم أعود وأنظر إلى المستقبل فأنا مقتنع في قرارة نفسي بأننا سنتغلب على تلك التحديات وسنحقق النجاح لأننا فعلنا هذا في الماضي وسنفعله في المستقبل."
ويعترف سموه بوجود أخطاء وعثرات واكبت المسيرة: "يوجد في مجتمعنا الكثير من المظاهر السلبية الصغيرة التي لا ننتبه إليها دائماً، لكنها تؤثر في مجموعها في الأداء سواء على مستوى الفرد أو المجتمع، وينبغي التخلص منها بالسرعة الممكنة من خلال تشجيع السلوكيات الإيجابية، وترسيخ الأمانة وتطوير الأداء، لأن كل هذا سيؤدي إلى نتائج إيجابية على المدى الطويل، ويحقق الاستغلال الأمثل للموارد، ويُسهم في توفير البيئة التي تساعد على تعميق الامتياز والإبداع. التغلب على تحديات قرن جديد في ألفية جديدة، يتطلب تفكيراً جديداً وأساليب مبتكرة، يمكن الاستفادة منها في تطوير المجتمع وتعجيل حركة التنمية، وهذا يقتضي التغيير. التغيير يعني القبول بالجديد المفيد والاقتناع النهائي بأن القديم غير المفيد لم يعد مناسباً، وآن أوان طرحه من العقول والممارسة. إنه يعني تغيير أنماط التفكير والقدرة على فهم اللغة التي يتحدث بها العالم، والقدرة على نقل رسالتنا وأهدافنا ومواقفنا بالوضوح والبساطة والصراحة التي تمكّن العالم من فهمنا، وبالتالي تعميق التعاون بين الشعوب وإزالة مكامن سوء الفهم وإتاحة المجال لتوجيه كل الجهود إلى صنع التنمية. إن أهدافنا إستراتيجية، وتخطيطنا استراتيجي، وتطلعاتنا إستراتيجية لذا فإن التغيير، الذي نتحدث عنه يجب أن يكون بالضرورة تغييراً استراتيجياً يستجيب لكل ما تقدم ويتوافق معه".
دبـي بين عصرين
الحديث عن دبي يعني بشكل أو بآخر الحديث عن شقيقتها التوأم التي تشبهها إلى حد كبير، مدينة "أبوظبي"، كبرى وأغنى الإمارات السبع التي تشكل معا الإمارات العربية المتحدة، والتي استقلت في بداية السبعينات من القرن الماضي، وقد برز اسم دبي لأول مرة في القرن الثامن عشر، عندما كانت قرية صغيرة للصيد والغوص، تسكنها قبيلة بني ياس، وقد حكمها آل مكتوم منذ عام 1833 عندما جاؤوا إليها من إمارة أبو ظبي، بقيادة الشيخ مكتوم مؤسس إمارة دبي الأولى, الذي أظهر براعة وكفاءة في تنظيم وإدارة أمور القبيلة.
وقد لعب الصيد والغوص وتجارة اللؤلؤ دورا كبيرا في إنعاش القرية وتحويلها إلى مدينة تجارية مهمة، لتصبح أكبر مركز تجاري نشيط ومتطور في تلك المرحلة، ويعود بعض هذا التطور إلى موقع المدينة الحيوي، حيث تقع دبي على شاطئ ميناء طبيعي، ويمثل "الخور" الذي يمتد بداخلها عشرة أميال أفضل الموانئ الطبيعية في جنوب الخليج. وقد شكل الخور جزءاً مهماً من الحياة اليومية لسكان دبي القديمة آنذاك، وخاصة لغواصي اللؤلؤ والتجار وصيادي السمك والبدو .
وبعد أن استتب الأمن في دبي توافد عليها الناس وأخذت تكبر، وحتى منتصف القرن العشرين لم يكن في دبي شبكة طرق رسمية، بل أن طرقها عبارة عن ممرات ترابية ضيقة لا تسمح بمرور السيارات، لذلك كانوا يستخدمون الدواب والجمال للتنقل، وبما أنه لم تكن هنالك جسور على الخور تصل بين شطري دبي، فقد ترتب على الناس أن يتحملوا رحلة مضنية للانتقال من ضفة إلى أخرى، وذلك بالدوران حول نهاية الخور. أو باستخدام قوارب صغيرة تسير بالتجديف. وقد أنارت المصابيح الزيتية الزجاجية الطرقات والمحلات التجارية قبل معرفة الكهرباء عام 1952، وكان السكان يستوردون الفحم النباتي من سلطنة عمان ليستخدموه في أغراض الطهي وصنع القهوة. ولم تكن هناك شبكات توزيع للمياه، فاعتمد السكان على المياه الجوفية، وكانوا يستخرجون الماء من الآبار بطرق يدوية بدائية، وعاش معظم السكان في أكواخ مصنوعة من سعف النخيل، وكانت المحلات التجارية الرئيسة مبنية من الجبس والحجارة المرجانية، وتعد القلعة التي تم بناؤها عام 1799 أقدم بناء مازال قائماً منذ ذلك الزمان, وهي مقر الحاكم قبل أن يتم تحويلها إلى سجن. وكان يغلب على دبي القديمة زخم وافر من تقاليد الماضي التي طبعت الحياة بسمات التعايش والانسجام بين الناس وبيئتهم. وبميناء دبي الزاخر وسوقها المفعم بالحيوية والنشاط التجاري، واحتفظت دبي على الدوام بمستوى معيشة أفضل من مستويات المعيشة التي توفرت في مدن أخرى بالمنطقة في نفس الفترة.
وكان للشيخ "شخبوط" مؤسس الإمارة والشقيق الأكبر للشيخ "زايد" رحمه الله رئيس دولة الإمارات السابق، طريقة تفكير معينة تتسم بالسكون والجمود والمحافظة، الأمر الذي حرم الإمارات من فرصة التطور في وقت مبكر، وعلى سبيل المثال كانت له وجهة نظره مختلفة تجاه التطور والحداثة وأنماط الحياة الجديدة، وكان يعتبر مثل هذه الأمور من الترف والرفاهية التي لا لزوم لها، وأنها ليست ضرورية، طالما أن الشعب قانع بحياته وعاش من دونها لمدة قرنين من الزمان .. وكانت مشكلته الأساسية عند الأجنبي بالطبع، أنه يفتخر بالاستقلالية والحياة القبلية، ويترفع عن تلك التي يعتبرها حياة مصطنعة وينظر إليها على أنها كماليات، لدرجة أنه قال ذات مرة لأحد مندوبي الشركات الأجنبية أنه ليس راغبا في المال، وقال أيضا أنه سيكون سعيدا تماما إذا أخذت الشركة نصف البترول وغادرت المنطقة تاركة النصف الآخر تحت الأرض.
اليوم تغيرت الصورة بالكامل، وانقلب المشهد رأسا على عقب، ولم يبق من الماضي سوى ذكريات تؤرق بعض المؤرخين. اليوم تمثل دبي صورة واقعية لشكل المستقبل، في العمران والتطور وأسلوب الحياة والتعايش بين الناس. يحق لأهلها أن يفتخروا بها وأن يباهوا الأمم، ويحق لنا أن نفتخر بأنها مدينة عربية، تفوقت على كثير من مدن العالم، وأنها ما زالت تعد بالكثير، وما نراه اليوم من صور مدهشة وساحرة ما هو إلا جزء من أحلام وطموحات المدينة التي لا تعرف التوقف، ولا تعرف المستحيل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق