أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

يونيو 11، 2010

سواد في أرض السواد


شهر نيسان في العراق لا يشبه سواه إلا في عدد الأيام .. شهرٌ متخم بالذكريات ففيه وُلد القائد وتأسس حزب البعث وفيه سقط النظام .. وهو الفاصل بين عهدين: في عهد صدام مَنَحَتْ اليونيسيف العراقَ جائزة أفضل نظام صحي، فيما منحته اليونسكو جائزة القضاء على الأمية، أما الأمنستي فقد منحته جائزة القمع الأولى .. بعد سقوط النظام اكتشف الناس سجونا تحت الأرض ومقابر جماعية وقصورا فارهة وملفات فساد تورطت فيها الأمم المتحدة وكبار شخصيات العالم، وأفرج عن قصص يشيب من هولها الولدان، ظلت حبيسة الصدور تكوي أصحابها بنار الفُرقة والذل والخوف .. كما اكتشفوا أن مدن العراق تعج بالشوارع الممهدة والطرق السريعة والجسور المعلقة والحدائق الغنّاء .. قبل صدام كان جنوب العراق يعيش مرحلة ما قبل الرأسمالية، وشمالُهُ مرحلةَ ما بعد اكتشاف الزراعة بقليل، فيما مدنه على حالها كما تركها العباسيون .. في عهد صدام صارت مدناً حديثة زاهرة، وتَعِدُ بالكثير .. بعد صدام صارت مدن أشباح يسكنها الموت والسيارات المفخخة،
 وتعيث فيها فسادا عصابات المهدي والزرقاوي، وتنعق فوق أطلالها غربان الجلبي والربيعي وعلاوي، وينهش لحمها المالكي والجعفري، وتعربد في شوارعها قوات البدر والمارينز جنبا إلى جنب، وتعبث في سمائها الأباتشي لتقصف أحلام الصغار ..

في عهد صدام كانت سياط القمع تعُدُّ على الناس أنفاسها وأعواد المشانق تنهيها كلياً، أما في العهد الأمريكي فمناجل العنف الطائفي تحصد حياة الأبرياء بلا تمييز، جلاوزة صدام كانوا يعدمون بضع مئات في السنة .. المليشيات الطائفية تحصد مائتي إنسان في اليوم الواحد، في العهد البائد كان القتلى يواروا في مقابر جماعية أما في العهد الجديد فتقذف جثثهم على قارعة الطريق .. كان النظام يسحق تحت عجلاته المعارضين ويبقي على الآخرين .. اليوم طاحونة الموت تسحق بين رحاها كل شيء فلا تبقي ولا تذر ..

عندما غادر صدام الحكم كانت كل دول الجوار تعاديه، ولكنها لم تكن لتجرؤ على التدخل في شؤونه الداخلية وأعجز من أن تمد لها أذنابا داخل البيت العراقي .. اليوم فتحت هذه الدول أبوابها وسفاراتها للعراق الجديد، ولكنها ما فتئت تعبث بأمنه وتنهش من لحمه دون رادع ودون أن يهتز لها جفن ..

في عهد صدام أدمن العراق على الحروب واعتاد على الحصار ،، أجيال كاملة انقرضت تقريبا ،، الكاتب العراقي "علي الصراف" كتب في العرب اللندنية مقالة بعنوان معارض عراقي يعتذر لصدام جاء فيها: "قُصفت أعمار العراقيين قبل أوانها، سُفحت دفاعا عن حلم مجنون وعن حدود وهمية، وعن زعيم نرجسي .. كانت طبائع الاستبداد واضحة المعالم في بنية النظام، من حيث الزعامة المطلقة ووحشية القمع وشمولية الحكم وسطحية أيديولوجيته وتعاليها.

أحاط الزعيم نفسه بحاشية من أشباه المثقفين وأنصاف البشر، نجحوا في تحويله من رجل صادق في بعثيته ونقيٌ في وطنيته إلى نيرون جديد وفرعون آخر، وإن كان جلّهم من أبناء العمومة والعشيرة فلأنه افترض أن ولاء القرابة أهم من إخلاص ذوي الخبرة والكفاءة، وتبين له في النهاية غباء وتساقط "ذوي القربى" وأنهم آخر ما يفيد ساعة الحقيقة.

بيد أن الزعيم كانت له رؤيته الخاصة الخارقة لحدود الزمن، وحلمه الأكبر من حدود الوطن، وأسلوبه الخاص ذو النكهة العراقية التي استلهمت عبق التاريخ واستحضرت إرثا طويلا من التقلبات الدموية ،، كان صدام يعمّر شاهقاً وبأسرع مما يستوعب الناس لما يجب ان يكون عليه عراق المستقبل.

صدام كان عراقيا بامتياز، ولكن فساد ولديه وقسوة أحكامه وانشغاله بالحروب حجبت عن ملايين العراقيين أن يروه كما يريد أن يراهم غدا وبعد غد .. كان قاسيا إلى درجة التضحية بملايين الناس، كي يرى عراقاً آخر قوي ومنيع وحديث، ولكنه عراق موجود فقط في مخيلته ويعيش في أحلامه".

إذا كان خطأ صدام هو إشعال الحرب لمنع تصدير الثورة، فإن خطيئة الخميني كانت في الإصرار على مواصلتها، إلى أن أجبر أخيراً على تجرع كأس السم ولكن بعد أن أهلكت الحرب الحرث والنسل وحصدت أرواح مليونين ونصف من البشر، ثلثاهم من الإيرانيين الذين كانوا يحملون مفاتيج الجنة في جيوبهم ! أما خطيئة صدام الكبرى فهي أنه آمن بالقوة وحدها لفض أي خلاف، وبالقمع لإنهاء أي معارضة، وبالجيش لحسم أي صراع سياسي، وما لا يأتي بالقوة يأتي بمزيد منها ..

صَرف النظام مائة مليار من الدولارات في سباق التسلح في غضون عقدين من الزمان ظـنّاً منه أن القوة وحدها ستجعل من العراق يابان العرب، وليته أنفق نصفها على الصناعات الخفيفة والزراعة مثلا، وليته أدرك أن دول العالم ليست قبائل وعشائر تناصب تكريت العداء ..

ويحلل "علي الصراف" المشهد السياسي العراقي ودوافع الحرب قائلا: "إغراء القوة هذا كان على المستوى الفردى ولكن برؤية طوباوية تريد أن تجعل من العراق قوة إقليمية مهابة الجانب، وبمخالب نووية تكون شوكة في خصر إسرائيل، فلا يعود بوسع أمريكا ولا غيرها أن تعربد عليها، وهذا لعمري سيضع على المحك استراتيجيات الهيمنة الغربية، وسيعني الكثير جدا بالنسبة لتطلعات اسرائيل الاقتصادية فى المنطقة ولنظرتها الخاصة لعملية السلام، بل ولوجودها بحد ذاته".

صحيح أن نظام صدام قد اتسم بالديكتاتورية والأوتوقراطية والدموية، ولكن يجب أن نعترف مثلا أنه في غضون أشهر معدودات بنى كل ما هدمته حرب إيران، وفرض الأمن الذي هددته الغوغاء، وأعاد النظام الذي مزقته ما أسماها "صفحة الغدر والخيانة" وحافظ على وحدة العراق، رغم أوهام الانفصاليين وتحالفاتهم المشبوهة، وأنه أعطى الفقراء مجانية التعليم والدواء والأراضي الزراعية، وأخذ في المقابل أولادهم حطبا لخمسة حروب .. أراد أن يبني عراقا منيعا ولكنه طالب الناس بالطاعة العمياء .

أمريكا دعمت وتدعم كل الأنظمة الفاشية والفاسدة في أنحاء المعمورة طالما أنها لا تناصبها العداء، فلماذا طرحت أخيرا أسلحة الدمار الشامل الوهمية وتذكرت فجأة حقوق الإنسان المهدورة في أرض الرافدين وذرفت دموع التماسيح على الديمواقراطية الغائبة ؟؟! والحقيقة الحاضرة هي أن موقع العراق وخيراته النفطية والاقتراح المقلق الذي تقدم به صدام لمستقبل الهيمنة الغربية على المنطقة جعل المحافظين الجدد في البيت الأبيض وتابعهم بلير يهرولون بأساطليهم وأطماعهم نحو العراق بعد أن أعياه الحصار وهدته الحروب .

انهار النظام أسرع مما ظن البعض وسقطت كل الأقنعة وذاب الجليد وكشف عما يخبأه تحته من خوف وكراهية وحقد دفين وتوق للخلاص بأي ثمن وأية وسيلة .. وعندها فاضت مجارير بغداد وبواليعها، وامتلأت مزابلها ومكبات نفاياتها، وقذفت من بطونها كل ما هو بذيء وقبيح وذميم، وتقيأت صفاً من اللصوص والنهاب وأمراء الحرب الطائفية - ولا أقصد بعض الرعاع الذين نهبوا المتاجر والجامعات ومقرات الحكم - .. بل أولئك الذين رموا أنفسهم تحت بصاطير المارينز ليحكموا العراق، فأشاعوا فيه الخراب، واغتالوا العلماء وأحرقوا المكتبة الوطنية ونهبوا المتحف الوطني، ودمروا بنية البلد التحتية ولم يسعوا لإعادة إعمارها، ونهبوا أموال البلد وثرواته، وهاهم يدفعونه إلى جرف حرب أهلية وهم مصرون قبل انسحاب أسيادهم أن يكملوا مهمتهم القذرة .

وها هو العراق اليوم بين يدي حفنة من اللصوص، أتوا العراق بليل مع الغزاة اقتحموا مخدعه وانتهكوا حرمته .. ها هم يشكلون المليشيات وفرق الإعدام وينصبون حواجز الموت الطائفية، ويقتلون الناس بلا سبب ويخطفون الأبرياء وينثرون الجثث على الأرصفة يفجرون المقاهي والأسواق والمساجد والحسينيات، ويحرقون دور العبادة ويرهبون عباد الله ويهجرون العوائل بقوة السلاح ضمن عمليات تطهير طائفي وعرقي بغيض ..

الكاتب العراقي علي الصراف يصف زعامات العرق الجديد قائلا ومستنكراً: "في أي جُحْرٍ تناسل هؤلاء المشوّهون ؟! وفي أي زريبة حشوا رؤوسهم بأحكام التكفير والإقصاء ؟؟ ومن أي بالوعة شربوا كل هذا الحقد ؟؟ لا يمكن بأية حال وتحت أي ظرف لعراقي أن يقتل أخاه على الهوية .. لولا حملات التحريض ودعوات الانتقام وعصابات القتل والنهب التي ينظمها ويقودها الحكام الجدد .. وأمراء الحرب .. وتجار الكلمة .. الذين أرادوا عراقا جديدا مشوها قبيحا على شاكلتهم .. أرادوه ممزقا لينهبوه، وضعيفا ليحكموه، ومفتتا ليقيموا دويلاتهم الوهمية .. أرادوه مبغى لا وطن حتى يتسنى لهم الثراء وحتى تصير قيم هذا المبغى تنسجم مع قيم الديموقراطية الأمريكية التي رأينا فصولا منها في أبو غريب .. أرادوه قصعةً لأنهم صاروا كالوحوش ينهشون لحم بعضهم بعضا وينهشون لحم العراق .. أرادوه مخيفا مرعبا حتى تعتكف الناس في بيوتها ولا تبرحها بحثا عن السلامة" ..

هل احتوت ديمقراطية رامسفيلد وبريمر غير الفضائح والمذابح !! وعشرات المليارات من الدولارات المنهوبة أو تلك التي احتجزتها الأمم المتحدة وضاعت بين اللصوص وأحزاب الاحتلال وشركاته !! ماذا تغير في العراق نحو الأحسن ؟ سأتلو عليكم بعض ما حرم صدام على العراقيين وأحلّه بوش الصغير : السماح بالمحطات الفضائية ونوادي الإنترنت والمجلات الأجنبية والهواتف النقالة والسلع الاستهلاكية التي لا تجد من يشتريها !! حالياً ما من شارع يخلو من الحواجز على تعدد أنواعها حواجز أمريكية وأخرى بريطانية وإيطالية وعراقية وحواجز للشرطة، للمليشيات، للعصابات، للمقاومة، للإرهابيين .. عندما يُفرض منع التجول تزداد جرائم الخطف والقنص !! طابور من السيارات بعدة أميال في انتظار شراء الوقود في بلد يعوم على بحر من النفط !! في البدء توجس البعض من لبننة العراق أو صوملته اليوم يخاف الكل من عرقنة لبنان وحتى الصومال ..

حاليا ما من شيء يعمل في العراق سوى البدالة المركزية التي إن اتصلت عليها ستجيب : لقد وصلت إلى البدالة الوطنية للعراق: إذا كنت تريد مقبرة الكرخ اضغط الرقم 1، وإذا كنت تريد مقبرة النجف اضغط الرقم 2، إذا كنت مخطوفا لدى المليشيات اضغط الرقم 3، وإذا كنت مأسورا لدى النظام اضغط الرقم 4، وإذا كنت مقتولا بانفجار اضغط الرقم 5، وإذا كنت مقتولا بعد خطف وتعذيب اضغط الرقم 6، وإذا كنت مقتولا بالقصف الأمريكي اضغط الرقم 7، وإذا كنت مقتولا خوفا وكمدا اضغط الرقم 8، وإذا لم تكن أي من هؤلاء فإما أنك خارج العراق أو أنك محظوظ ولكن إلى حين !!

المسألة باختصار هي الهيمنة على ثانى أكبر احتياطى للنفط فى العالم، إغراء استراتيجي كاف بالنسبة لشركات نصب ونهب يشرف عليها المحافظين الجدد فى الادارة الامريكية ويتولى إدارتها الإقليمية تجار الحرب وتجار الديموقراطية الأمريكية في المنطقة الخضراء .

والمسألة أيضا ترك قواعد عسكرية تتصل مع أضلاع المثلث الأخرى من أفغانستان حتى تركيا ثم عقد معاهدات مشتركة مع نظام حليف في واحدة من أكثر نقاط العالم سخونة وحيوية ..

والمسألة أيضا بالنسبة لإيران استعادة للهيمنة على الجارة التي ناصبتها العداء طويلا، واستكمال القوس الشيعي الصفوي من أصفهان إلى صور وبناء حلف موالي مركزه طهران، يعيد أمجاد الفرس الغابرة ويكرسها كقوة إقليمية ولاعب لا يمكن تجاهله.

وبالنسبة لدول الجوار الأخرى فلكل منها له حصتها من العراق وحساباتها الخاصة ونفوذها ومخاوفها بطبيعة الحال، ومنها ما زال يحتفظ بأحقاده وثاراته ..

أما دول العالم البعيدة فعين على النفط وعين على الرضى الأمريكي، لتنال حصتها من الكعكة ومكانتها في المعادلة الإقليمية والنظام الدولي الجديد القائم على الغزو والنهب .

شراذم تنظيم القاعدة ومفاقص الانتحاريين التي لا تعرف أن تعلن عن وجودها إلا بالدم والتفجيرات، وجدت في العراق مرتعا خصبا وميدانا تختبر فيه قوتها مدفوعة بأحكام إقصائية يطلقها فقهاء التكفير والعنف في طورا بورا ليمارسوا فيه ميثيولوجيتهم وأيديولوجيتهم التي جرى عليها آخر تحديث في القرن الثالث الهجري !! ومن نافل القول أن هذه الشراذم قد دخلت على خط المقاومة لتشويه صورتها والتشويش عليها وحرفها عن رسالتها ولجرها إلى معارك طائفية ومناطقية لا ناقة لهم فيها ولا بعير ..

أيديولوجيا المحافظين الجدد في البيت الأبيض تقوم على محاربة " الإرهاب " وهي الدجاجة التي تبيض ذهباً، والحرب التي تجلب لهم الأموال والنفط وأصوات الناخبين وقرارات مجلس الأمن والتأييد العالمي، وتبيح لها احتلال الدول والأوطان ونهبها وتشريد شعوبها دون أن يجرؤ أحد على مخالفتها .. وأي مكان ستجد فيه خصما أفضل من العراق !؟

المقاومة العراقية الباسلة التي انطلقت أثناء الغزو وبعده قدمت نموذجا رائعا في البطولة والتضحية وحسن التنظيم ودقة الضربات وحجم الخسائر في الصفوف الأمريكية الذي يتجاوز بكثير ما تفرج عنه الصحافة الأمريكية " الحرة " !! وهي براء مما يحدث من فتنة طائفية ومما يُعد له من حرب أهلية وبراء من كل فرسان الفضائيات وتجار الكلام ..

المقاومة العراقية البطلة خربطت كل أوراق بوش وتشيني وأجهضت الشرق الأوسط الجديد قبل أن تلده الست رايز، وبطولات المقاومة أعادت صورة سايغون من جديد أمام ناظري بوش فرأى كوابيس الذل وهو ينكص على عقبيه مذموما مدحورا من أرض الرافدين .. إما ذلك وإما تقسيم العراق ،، ولكن التقسيم لن ينجح إلا إذا تقاتل العراقيون فيما بينهم، وهذا لن يكون إلا إذا كره العراقيون بعضهم بعضا، وهذا لن يتم إلا بحملات التحريض الإعلامية والفعلية وسلسلة من المذابح والتفجيرات يضيع فيها الحابل بالنابل، وهذا بحاجة إلى أداة تنفذها، ولا يمكن أن تكون هذه الأداة إلا ميليشيات طائفية عمى التعصب عيونها وملأ الحقد قلوبها، ولم تعد تحركها إلا غرائزها البدائية وشهوة الانتقام، وهذه الميليشيات يقودها لصوص عراق اليوم ..

 للعراق العظيم تحية تليق بمجده التليد ..

 وللعراقيين تحية تليق بصبرهم وإيمانهم ..

 ولشعب العراق ونخيله ونهريه كل الحب ..

 ولأطفاله أصدق الأمنيات بغدٍ أفضل ..

 غـدٍ يغسل هذا العار ويكنس الاحتلال وأعوانه ..





كانون أول 2006

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق