أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

فبراير 13، 2010

فيروز في عيد الحب


بينما كنت أراجع مع ابني مادة اللغة الإنجليزية توقفت أمام درس مخصص عن "فيروز" فطلب مني ابني أن أتجاوز الدرس لأنه غير داخل في الامتحان، وعندما سألته عن السبب قال إن الأستاذ قد حذف هذا الدرس بالذات، اعتقدت في البداية أن السبب يتعلق بضرورة إنهاء المنهاج وأن الوقت قد أدرك المدرس، وفي اجتماع مجلس الآباء طرحت المسألة أمام عدد من أولياء الأمور فأكد آخرون أن أولادهم – وهم من مدارس مختلفة – قد أخبروهم عن نفس الحالة ! وبعضهم علّل السبب بأن الأستاذ غير معجب بفيروز ! وباعتقادي أن السبب لا علاقة له بالذوق الفني، فلا يُعقل أنّ شخصا ما لديه حس إنساني ويمكن أن يرفض فيروز، فهي التي غنت للشام وبغداد ومكة والقدس، وغنت للعشق وللأم وللنجوم ومواسم المطر، فيروز التي امتزج صوتها الملائكي مع قهوة الصباح ورائحة الياسمين، وتغلغلت في حكايا العاشقين وذكريات الناس وأوجاعهم، هي التي وحّدت لبنان حينما مزقته حروب الطوائف، وهي التي صارت أغانيها عن العودة أهم من القرار 194، هي التي افتتحت أيامنا قبل شروق الشمس، وحلقت بأرواحنا حيث تطيب الأحلام، وكانت ألحانها تذيب حنين الأحبة مع ضوء القمر .. فلماذا يحاول هذا الأستاذ وغيره محو فيروز من ذاكرة الجيل الجديد ؟! أظن أن السبب الحقيقي وراء رفض فيروز هو الموقف الأيديولوجي من الفن نفسه، أو الفهم المتشنج والمغلوط للدين الذي يعادي كل ما ينتجه الإنسان من فن وجمال وإبداع.

وفي عيد الحب من العام الماضي قامت مجموعة من الشبان الرافضين لفيروز في إحدى البلدات الأردنية بطلاء "حمار" باللون الأحمر والطواف به في الشوارع في إشارة منهم على ازدراء هذه المناسبة "الشيطانية"، وقامت إحدى الدول العربية بتحريم كافة مظاهر الاحتفال بهذا اليوم، فمنعت تداول أي منتج باللون الأحمر وأعدمت مئات الورود، وفرضت حراسة مشددة على كل طاولة تصلح للقاء عاشقَيْن، وفي مناطق أخرى تسابقت دوائر الإفتاء على تحريم يوم الحب وأطلقت القصص العجيبة والتفسيرات الغريبة عن أصل هذه المناسبة، وجعلت منها مؤامرة على الإسلام وفكرة يهودية يُراد منها قتل الروح الجهادية ..

الذين يرفضون فيروز هم أنفسهم الذين يرفضون عيد الحب، ومن يرفض عيد الحب يرفض الحب نفسه، وسيرفض بعد ذلك الفن والجمال وكل ما يتصل به من معانٍ وقيم سامية، وبالتالي سيدعو للكراهية حتى لو لم يدرك ذلك، والنتيجة الحتمية للكراهية هي العنف والحروب والدمار.

ولمن لا يعلم فإن الكراهية هي سبب كل الشرور، وسبب وحشية الإنسان وهي اللحظة النهائية التي تسبق العنف، هي ذروة الجشع وحب السيطرة، هي الدافع للاضطهاد والاستغلال، هي تعبير عن الأنانية وحب التملك والسعي للسلطة والمال بأي طريقة، وأينما تحل الكراهية يختفي الحب ويبدأ الناس بالاعتداء على بعضهم بالغش والسرقة والقتل والخداع، وما هذه إلا حروب صغيرة تجري فصولها كل يوم على مسرح الحياة، وهي التي مهدت للحروب الطاحنة التي اجتاحت البشرية منذ آلاف السنين، حيث كانت وما زالت شعوب تقتل بعضها، وقبائل تغزو قبائل، ودول كبيرة تدمر دولا أصغر، والعقل البشري لم يتوقف لحظة عن تطوير أدوات القتل والتدمير.

الكراهية سكنت وجدان البشرية منذ أن قتل قابيلُ هابيل، إذْ أن الأول كان بمقدوره أن يمتلك الأرض كلها دون منازع ولكن الكُرْه سيطر على قلبه، وأعمى بصيرته، ومن يومها سادت العدوانية والاستبداد وعمَّ الظلمُ أربع رياح الأرض، ومع تطور البشرية تطورت أساليب التعبير عن الكره، فصار الاضطهاد الرسمي من قبل الدولة، ثم برزت جماعات الإرهاب والتطرف، وعمت ثقافة الإقصاء والوحدانية، وظهر ممثلي الآلهة، وأصحاب نظريات الحقيقة المطلقة، والأحزاب الشمولية، والتعصب والتطرف ..

لا يقضي على الكراهية إلا الحب، ولا يغير الإنسان إلا الحب، فالحب يرتقي بالمجتمعات ويدفعها للإنتاج لأنه ببساطة نقيض الكراهية، فهو الذي يسمو بروح الإنسان ويهذبها، ويجعله مقبلا على الحياة، وما الحب إلا عملية بيوكيماوية تجري تفاعلاتها في الصدور، وإذا سكن قلب الإنسان غمره بالسعادة، فقد أظهرت التجارب أنه تحدث لدى الشخص المحب تغيرات كيماوية ملموسة في بعض أجزاء المخ تنشّط مشاعر الثقة والارتباط الاجتماعي وتجعله يتغلب على مشاعر الخجل والانطواء والأنانية، وبالتالي تتعزز لديه مشاعر الثقة بالآخرين، فلا يعود مهتما بالأموال والسلطة وتتلاشى لديه رغبة السيطرة على الآخرين، وإذا سيطر الحب على المجتمعات سيتخلى أتباع الديانات عن ثقافة الكراهية التي قامت على فكرة إلغاء الديانات الأخرى، وسيحل التسامح والتعايش بدلا من الديكتاتورية، والتعددية بدلا من الحكم المطلق، والسلام بدلا من الحروب، وستختفي مظاهر العنف ويعيش الناس مع بعضهم في نفس الشارع دون أن يرفض أحدهما الآخر، وتتعايش الشعوب مع بعضها دون حروب ودون هيمنة أو تبعية.

الحب ليس مجرد علاقة جسدية بين شاب وفتاة، إنه اختبار المراهق الأول للحياة، هو ذكريات الشباب المبكر والرسائل الساذجة، هو ارتباك العواطف، هو دفقة الدم الطازج من نجيع القلب يضخها في شرايين الحياة، هو لوعة الحنين، وسهر العاشق وحيدا في عتمة الليل، هو لهفة اللقاء، ووجع الفراق، هو فرحة الطفل بلقاء أبيه وعيناه مركزتان على ما يحمل في يديه، هو تسريحة الأم لجدائل طفلتها وهي تعدها للمدرسة وتلحقها بكوب الحليب، هو دمعة الأم إذ تودع ابنها المسافر، هو حرقة القلب على من فقدناهم، هو بسمة الشهيد قبل أن يصعد إلى حتفه طائعا، هو ترنيمة العابد وابتهال الساجدين للخالق العظيم .. هو سر الوجود.

ألا يستحق الحب منا أن نخصص له يوما في السنة، فنهدي من نحب وردة ؟ بغض النظر عن لونها !! ألا يستحق من نحب أن نحتفل بهم ساعة مع شمعة تحترق معها خطايانا ونجدد من خلالها الأمل ؟ ألا تستحق العواصم العربية التي تتساقط تباعا على يد المحتل غضبة مضرية أعنف من غضبة البعض على عيد الحب ؟!

كل عام وأنتم بخير.

هناك 4 تعليقات:

  1. إل ما يطول العنب حامض عنه يقول، هؤلاء لا يملكون الاحساس حتى يعرفوا من هي فيروز
    لكننا لن نسمح لهم بقتل احساسنا يا أخ عبدالغني

    ردحذف
  2. اخي ابو يزن :

    مع كل هذا سنبقى نعقتد بثقافتنا انها الافضل
    و سنبقى مستمرين في محاربة الجهل و الفكر الرجعي بتمسكنا بنمط حياة ألفناه

    ردحذف
  3. جمال الطبيعة يهذب الطبائع ، ما عدا طبائع من لم يكن جزأ منها --- درويش

    ردحذف
  4. اخي ابو يزن
    اتمنى ان يكون كل يوم عيد حب وعيد للصدق
    وعيد للاخوة وعيد للصداقة
    كثيرة المعاني التي نفتقدها
    ابو المجد

    ردحذف