أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

فبراير 13، 2010

وزارة التربية والمستقبل المهدور


بالرغم من التقدم العلمي والحضاري الذي أنجزته شعوبٌ كثيرة في أرجاء المعمورة، إلا أننا ما زلنا نعاني من انقطاع حضاري عن هذا العالم، ونعيش على هامش حضارته كمتفرجين سلبييّن .. نستهلك ما يصنعه لنا الآخرون، ونتابع ما ما يخترعون، ونعاني من الاحتلالات والقهر الاجتماعي والتخلف العلمي، مع أنا كنا ذات يوم من بناة الحضارة الإنسانية ومن روّادها الأوائل، ولكنا شوّهنا روح حضارتنا وحرّفناها بأيدينا، وقد فشلت نخبنا الثقافية في إنتاج نموذجها الخاص للنهوض بواقع الأمة وانكفأت على ذاتها تحت وطأة الضربات الخارجية، وتراجعت عن مشروعها وأخفقت في خوض معاركها الداخلية، وفي النتيجة صرنا ندور في حلقة مفرغة من التخلف والضياع.

وحتى لا تكون أجيالنا القادمة نسخة مشوهة عن واقعنا، لا بد أن نتوقف عن إنتاج أسباب التخلف، وأن نوْلي هذه الأجيال الاهتمام الذي تستحقه، لأنها آخر السهام في جعبتنا وإذا خسرناها خسرنا مستقبلنا وخسرنا كل شيء، وعلينا أن ندرك قبل أي شيء آخر أن الأسرة والمدرسة هما أهم دعامتين في بناء أجيالنا الطالعة، وهما حجر الزاوية في عملية صياغة المستقبل، فالمدرسة - كما هي الأسرة - تلعب دوراً بالغ الأهمية في تنشئة الأجيال، ففي مرحلة الدراسة يقضي الطالب أهم مراحل عمره وفيها تُبنى شخصيته ويتشكل إطاره الفكري والنفسي، وهي فترة كافية لكي تعلق في ذاكرة الطالب مدى الحياة وتترك بصمات واضحة على طبيعة شخصيته وتحدد مستقبله واتجاهاته، فإما أن يتخرج الطالب من هذه المرحلة إنساناً فاعلاً منتجاً وإما العكس تماماً.

وبتشخيص واقعنا والوقوف على أسباب تخلفه، يتبين لنا أن أساليبنا في تربية الأطفال هي أحد الأسباب الرئيسة في تكريس هذه الحالة، كما هي مفتاح الحل، ففي مجتمعنا "البطريركي" تتميز تربية الطفل بالعنف والقهر المستمرين، والمجتمع التقليدي الجامد عادةً ما يعتمد على كلٍ من الأسرة "السلطوية" والمدرسة لتحقيق هدفه الأساسي والمتمثل في جعل الجيل الجديد صورة عن الجيل السابق وامتدادا له، وذلك بالاعتماد على النظام التربوي القائم على إخضاع الفرد وخنق تمرده، ويكون ذلك من خلال تعليم الأطفال الطاعة وتنفيذ الأوامر وحُسْن التصرف، والاعتماد على أسلوب التلقين والبصم في العملية التعليمية، ونحن بهذا النمط التربوي إنما نكبّل عقول الأطفال ونحدّ من نموهم الذهني الطبيعي، لأن التلقين هو الشكل الأكثر تنظيما لفرض السلطة وتثبيتها، وأنه الطريقة التي تعتمد على الترديد والحفظ بحيث لا تُبقى للطفل مجالا للتساؤل والبحث والتجريب، وفي النتيجة سنجعل من الطلبة مجرد متلقّين مستمعين لا يتأثرون بمضمون ما يحفظون، وهذا الأسلوب التربوي الفاشل ينتج أجيالا تستسهل القبول والتسليم بدلا من البحث والنقد والتجريب، ويؤدي أيضا إلى تأصيل فكرة الخوف من العقاب بدلا من الشعور بالذنب، وإلى تنمية الفردية المرتكزة على الذات بدلا من التطابق مع المجتمع، وتغذية النزعة العدوانية بدلا من الخدمة والتعاون، والسلبية وعدم تحمل المسؤولية بدلا من المشاركة العامة .

ومن مظاهر هذه المشكلة أن الطلبة حينما يجيبون على أي سؤال يخشون الخروج عن النص الحرفي كما ورد تماما في الكتاب، حتى لو كانت إجاباتهم صحيحة، وفي هذا وأدٌ لشغفِ الطالب وتوْقهِ للمعرفة، وتدميرٌ لروح التقصّي والإبداع والتفكير الحر، وتكريسٌ للشخصية النمطية المقلِّدة المسكونة بالخوف من التغيير.

ويكمن جوهر المشكلة في أن الكثير من إدارات المدارس تركز كل همها على العملية التعليمية بمعزل عن العملية التربوية، وإذا ما أرادت أو اضطرت للتوجه للعملية التربوية فغالبا ما تكون بالأسلوب القهري القمعي دون مراعاة لقواعد التربية الحديثة، حيث أن نسبة كبيرة من المعلمين ليست لديهم فكرة واضحة عن احتياجات الطفل النفسية في مراحل نموه المختلفة ويعتقدون أن كل ما يحتاجه الطالب منهم هو حشو رأسه بالمعلومات وتصليح ورقة الامتحان !! ومع أن الإطار الشكلي الرسمي للعملية التعليمية يضع التربية إلى جانب التعليم بل ويسبقها، إلا أن الشعار شيء والممارسة شيء مختلف تماما، فالمدرس مثلا يصبُّ جلَّ اهتمامه على إنهاء المنهاج المقرر في وقته المحدد مدفوعا بهاجس رقابة المفتش الذي هو أيضا لا يبحث إلا عن هذه النقطة بالتحديد !! أما دور المرشد الاجتماعي – إن وُجد – فيقتصر على حل النزاعات بين الطلبة أو الاستماع لشكوى طالب إذا ما توجه إليه من تلقاء نفسه، ونادرا ما يبادر المرشد في التوجه بنفسه إلى الطلبة والبحث عن مشاكلهم وتقصي أحوالهم أو إعطاء الطلبة دروسا في التربية والسلوك لمنع تكوّن المشاكل النفسية من البداية أو لمعالجتها وهي في مهدها، كما لم يحدث يوما أن قام أحدهم بتحليل نفسيات الطلبة ودراسة توجهاتهم وميولهم بهدف توجيههم ونصحهم ودفعهم نحو المجالات التي تتناسب مع طبيعة شخصياتهم ومستويات ذكائهم، أو بهدف اكتشاف الطاقات الإبداعية المتميزة لتشجيعها ومنحها الفرصة.

علما أن أساليب التربية الحديثة تؤكد على أهمية إتباع أساليب التعليم النشط بدلا من التلقين، واستخدام وسائل الإيضاح لترسيخ المعلومة بدلا من حفظها، وحثّ الطلبة على الحوار وتقبُّل الرأي الآخر وإتباع المنهج النقدي المؤمن بالنسبية، وتعويدهم على التفكير الحر بدلا من التقيّد بحرفية النص والتسليم الغيببي، واللجوء للنشاطات اللامنهجية كعوامل مساعدة تحبّب الطلبة بالمنهاج وتعزز انتمائهم للمدرسة وتقربهم من المدرس، إلا أن النشاطات اللامنهجية في مدارسنا تكاد تكون موسمية واحتفالية أكثر من كونها أسلوب تربية وبناء وتعليم، رغم أن الكثير من المدارس تتوفر فيها الإمكانيات اللازمة والتجهيزات الحديثة لإقامتها، إلا أن فتور همّة الإدارة وأحيانا انعدام الحماس والدافع لدى الهيئة التدريسية أو عدم قناعتهم بأهمية هذا النوع من التعليم هي أسباب غياب النشاطات اللامنهجية أو خروجها بشكل باهت وغير مجدِ، وأحيانا تكون التعقيدات البيروقراطية التي تفرضها وزارة التربية هي العائق.

ومن بين أهم أسباب تأخر العملية التعليمية وتدهور مستويات الطلبة هو إهمال كل من حصة التربية الفنية والرياضة والموسيقى، والتي يجد الطلبة فيها متنفسا من الحرية وتتيح لعقولهم الطرية القدرة على التأمل والاستبصار واكتشاف الطبيعة والموجودات ولذة تذوق الجمال وإعادة خلق وتركيب الأشياء، وتدفع الطالب لأن يتفاعل مع محيطه بشكل إيجابي، والمشكلة أن إدارات المدارس تتعامل مع هذه المواضيع باستخفاف وبدون إدراك كافي الوعي لقيمتها وأهميتها، وتعتبرها كما لو أنها دروس زائدة، عادة ما تُشغل في حملات التنظيف من قبل التلاميذ أو تُعطى هذه الحصص لدروس أخرى تعتبرها أكثر أهمية، وما يفاقم من حجم المشكلة حين يكون معلم الفن أو الرياضة من غير ذوي الاختصاص وهذا من شأنه أن يعطل ويقتل الكثير من مواهب الأطفال بدلا من تنميتها وصقلها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق