أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

فبراير 12، 2010

إشكالية العلاقة بين فتح وحماس

بدأت جولات الحوار بين حركتي فتح وحماس في أواخر الثمانينات من القرن الماضي، وكانت أولى جلسات الحوار قد عقدت في الخرطوم حيث ترأس وفد فتح آنذاك المرحوم ياسر عرفات، اليوم يكون قد مضى على بدء هذا الحوار قرابة العقدين من الزمن دون أن يبدو في الأفق أي نهاية له، وما يدعو للإحباط أن الحركتين للآن لم تتوصلا لأي اتفاق حقيقي، وجميع الاتفاقات التي كان يتم التوصل لها كانت سرعان ما تختفي ويتم التراجع عنها، الأمر الذي يثير عاصفة من التساؤلات والشكوك سنطرحها في سياق هذه الدراسة.

ولا بد أن نتفق بداية أن للحركتين تاريخ مشرف من النضال الوطني وماضٍ زاخر بالتضحيات الجسيمة، وقد قدمت كل منهما كوكبة من قادتها وكادرها على مذبح الشهادة، فيما غيبت السجون والمعتقلات أفواجاً غفيرة من خيرة شبانها، الأمر الذي لا يدع مجالا للشك في إخلاصهما لفلسطين، أو التشكيك في وطنيتهما وغاياتهما، ولا يحتاج أي منهما لنصائح وعظات عن أهمية الوحدة الوطنية وضرورة إنهاء حالة الإنقسام فكلاهما يدركان خطورة هذا الوضع ليس على القضية الفلسطينية وحسب بل وحتى على قدرة التنظيمين على الصمود في وجه المتغيرات القادمة، ولدى الحركتين من المنظّرين من لديه القدرة على التحدث لساعات طويلة عن هذا الموضوع، ومع ذلك فإن هذه الحقائق وإن بدت بديهية إلا أنها تضفي مزيدا من الغموض على المشهد وتضيف أسبابا أخرى للإحباط وتعمق من حيرة المراقب في أسباب تعثر الحركتين في خلق إستراتيجية واحدة موحدة، أو حتى الاتفاق على برنامج مشترك.
ولفهم هذه الإشكالية ينبغي تصويرها من مختلف الجوانب دون تسطيح أو تهويل، ولأن عوامل كثيرة متداخلة تؤثر عليها فلا ينبغي أن نهمل أيٍ منها، مع الالتزام برفض منهج التخوين والتكفير وإطلاق التهم والتوصيفات والأحكام المسبقة، فليس الهدف من هذه الدراسة الحكم على صوابية أحد من عدمها أو تصنيف الآخرين في خانتي الخيانة والوطنية، ليس لأن هذا المنهج عقيم وحسب بل لأن هذه هي المهمة عادة ما يضطلع بها التاريخ، ولكن مع هذا كله من حق الجماهير أن تطلع وتعرف الحقائق, فهي دوما بحاجة لمن يرشدها، ومؤكد أن الكتابة في موضوع شائك ومعقد كهذا مسألة ليست هينة بالمطلق، حيث تتباين فيه وجهات النظر إلى مستوى التخوين والتكفير، وأبعد من ذلك ربما القتل.


هل هو خلاف سياسي أم أيديولوجي ؟
من المؤكد أن البعد الشخصي لبعض القيادات قد ترك آثارا سلبية في تأسيس وتعميق الإشكالية بحيث يصعب تجاوزها، وأن التعصب الحزبي لأبناء التنظيمين قد شكل الوقود الحيوي لإشعال الخلاف وإدامته، إلا أن الشخصنة والتعصب ليسا سوى الشكل الظاهري للمشكلة، وهناك في العمق ما هو أهم وأكثر تأثيرا.
يعتقد الكثيرون بأن الخلاف الأيديولوجي بين الحركتين يأتي في مقدمة أسباب الخلاف، وطالما اتفقنا على عدم تفسير أي ظاهرة بالإستناد إلى عامل واحد، فإننا لن نسلم بصحة هذه الفرضية قبل تمحيصها، فإذا كانت الأيديولوجية هي نسق علمي يفسر الكون والحياة والإنسان ويصيغ نظاما اقتصاديا سياسيا لمجموعة من الناس تلتقي على هذا الفهم المشترك، فقد اعتبر آخرون أن الأيديولوجيا لا تغدو عن كونها التقاء مصالح مشتركة لمجموعة من الناس ولكن على المدى الطويل ضمن نفس الحقبة التاريخية، إي بمعنى آخر هي مجموعة من المعتقدات والقيم التي تبرر هيمنة المجموعات الحاكمة والتي تسعى لفرضها على الناس، وقد لا يتعارض التفسيران كما يبدو للوهلة الأولى، إلا أن التفسير الثاني بالنسبة للأول يمكن تشبيهه بحال قوانين نيوتن مقارنة بقانون أينشتاين في النسبية، فالأخير لم ينفي الأول بل قدم تفسيرا أعمق وأشمل وأبعد مدى، وبالتالي فهو يقترب أكثر من العلمية والواقع.
عموما، يمكن القول بأن الأيديولوجيات تتشابه في منحاها العاطفي وطبيعتها المحركة للجماهير وتعبيرها عن أفكار يعجز العلم التجريبي عن إثبات صحتها، وتاريخيا لم تتورع كل الأيديولوجيات عن استخدام كل وسائل الاستقطاب لما يوصلها مبتغاها، ولم تتوانى لحظة عن توظيف الدين والطائفة والشعار السياسي لتحقيق هدفها ومسعاها الوحيد وهو الظفر بالسلطة، ولم تشذ عن هذه القاعدة إلا مجموعات هامشية من المتصوفين والطوباويين الذين غرقوا في تأملاتهم الوجدانية وانتهوا كظاهرات تاريخية دون أن يحدثوا جلبة سوى ذكريات غامضة عن أحلامهم ومصائرهم كما صار مع الحلاج وأخوان الصفا، لأنهم ببساطة ظنوا واهمين أن قوة الفكرة وأخلاقيتها كفيلة لإظهارها وسيادتها وأنها لا تحتاج للقوة المادية.
سقنا هذه المقدمة البسيطة لنتوصل إلى فهم مشترك بأن الأيديولوجيا وكل ما يتفرع عنها من نظريات يُراد لها غالبا أن تصل مرحلة التابو، وكل ما ينبثق عنها من شعارات يحرص مطلِيقها على إحاطتها بهالة من القداسة، هي في حقيقتها قضية سياسية بامتياز، وما المقدس والمطلق في كل هذه الأيديولوجيات إلا ساتر كثيف من الدوغما يُراد منه منع الآخر من رؤيتها على حقيقتها الدنيوية المجردة وبالتالي حرمانه من سلاح النقد، لا بل تكفير وتخوين كل من تسول له نفسه الاقتراب من هذا المقدس، وتبعا لذلك فالمقدس يتغير بتغير الظروف في كل مرحلة من التاريخ بل ويتغير ضمن نفس المرحلة ولكن من أيديولوجيا لأخرى ومن طائفة إلى طائفة، لأن المقدس في حقيقته المجردة ليس مقدسا، بل نُصّب على هذا العرش أو ذاك لخدمة الهدف السياسي.
حماس كحركة اسلامية تحمل أيديولوجيا دينية تعتقد أنها تمثل الدين نفسه وبالتالي فإن سياساتها وممارساتها وإدارتها للصراع ما هي إلا تعبير عن فهم ديني يستمد قوته من القوة التي يمثلها الدين نفسه، وعليه فإنها ستعمل على أرض الواقع وفق هذه الرؤية باعتبارها حركة ربانية وامتداد لرسالة الإسلام العظيمة، ومن هنا ستكون حماس في بنائها الداخلي وتكوينها السياسي تمثل بناءً ثيوقراطيا يؤمن أنه يحتكر الصواب ويمثل الحقيقة المطلقة وينظر إلى كل من يخالفه على أنه مفارق للجماعة وخارج عن شرع الله.
وقد رأينا كيف سفّهت أيديولوجية "حماس" أيديولوجية "جند أنصار الله" بزعامة عبد اللطيف موسى في رفح حينما اعتبرت الأخير مصابا بلوثة عقلية، فكل ما دعى إليه الشيخ وما كان من وجهة نظر أتباعه مقدسا صار مذموما في أعين حماس !! ولم تكتفي حماس بتجريم أفكاره بل حاصرته مع جماعته في المسجد وقتلتهم، وعلى إثر مقتلهم هبَّ التنظيم العالمي للسلفية الجهادية وكفّر حماس وأخرجها من ملة الإسلام، متبعاً في ذلك نفس قواعد لعبة "الأيديولوجية والسلطة".
وهذا النمط من تبادل الأدوار تجده في مستويات أخرى ضمن أمثلة واضحة للعيان، فإذا أخذنا غزة مثالا سنجد كيف تتبادل التيارات الفكرية الإسلامية التهم والإدعاء باحتكار الحقيقة وكيف تقوم بحملات التكفير تجاه بعضها البعض، فما تقبل به حماس يرفضه الجهاد الإسلامي، وما تؤمن به السلفية الدعوية ترفضه السلفية الجهادية، وما تريده حماس يختلف كليا عما يريده حزب التحرير، علما بأنهم جميعا متفقون على المستوى الديني ولكنهم مختلفون على المستوى الأيديولوجي، وهذه الممارسة تنسحب أيضا على الأحزاب الوطنية والحركات العلمانية، مع فرق في استخدام المصطلحات، حيث يستبدل التكفير بالتخوين.
وكمثال، سنرى كيف أن التوظيف الدوغمائي للأيديولوجيا يبدو جليا في سلوك حماس تجاه المقاومة، حيث تعلي حماس من جانبها النظري وتضعف الجانب العملي, فمثلا هي تكثر من الحديث عن برنامجها المقاوم ولكنها عمليا ومنذ سنوات عدة كفت عن الممارسة الفعلية للمقاومة، وهي حاليا تمنع المقاومين الآخرين من المقاومه, وتكبح جماحهم وتنظر اليهم كعائق سياسي، أي أن حماس تمارس أيديولوجية السلطة كي تخدم نطريتها السياسه, فالسلطة وممارستها هي الهدف النهائي لها التي تسعى للاستحواذ عليها بكل قوة.
وإذا كانت "حماس" قد جعلت من الإسلام مَعينا لها لبناء "أيديولوجيتها السياسية" والتي أحاطتها بتراث طويل من المقدس يمتد عبر خمسة عشر قرنا من الزمان، وسعت لأن تستمد شرعيتها السياسية من هذا التراث وأقحمت نفسها في صلب تاريخ الإسلام وربطت نفسها بكل ما هو رباني ومقدس، فإن "فتح" أيضا قد استمدت "أيديولوجيتها السياسية" من "فلسطين" بكل ما يحيطها من هالات القداسة، وجعلت نفسها كجزء من حركة النهضة العربية وامتداد للثورة العربية والنضال القومي، وسعت بكل قوتها للإستفادة من هذا الإرث النضالي ومن قدرة القضية الفلسطينية على الجذب وجعلت من كل هذه القيم ما يشبه المقدس وحاولت توظيفه لتحقيق هدفها السياسي.
بعد كل هذا التوظيف الناجح للمقدس، صار من الصعب وضع الأمور في نصابها وتسمية الأشياء بمسمياتها المجردة "دون تقديس"، وصرنا بحاجة إلى جرعة زائدة من الجرأة والصراحة للإقرار بأن "حماس" وكل تيارات الإسلام السياسي إنما تسعى للسلطة "الدنيوية" بكل ما تعنيه الكلمة وما تحتاجه السلطة لنجاحها، وأنها في سبيل هذا الهدف قد صنفت العالم إلى فسطاطي الحق والباطل, والخير والشر, وكفرت كل من يعترض طريقها بما في ذلك أبناء ملتها، أي أنها وظفت الأيديولوجيا لخدمة مآربها بعد أن كستها برداء القداسة والمطلق الذي لا يأتيه الباطل من أمامه ولا من خلفه.
وبحاجة أيضا إلى نفس الجرعة للإقرار بأن "فتح" وكل الأحزاب الثورية والعلمانية والوطنية إنما تسعى للسلطة والحكم، أي السيطرة على قطعة من الأرض وإقامة كيان سياسي عليها، وأنها في مبتغاها هذا شأنها شأن كل النظريات الثورية في العالم وعلى مر التاريخ ستحط من شأن العدو وتجعله معتديا وغاشما ويتوجب مقاتلته، ومن ثم ستعلي عاطفيا ووجدانيا من شأن التضحيات في سبيل هذا الهدف.
وهذا لا يعني قطعا بأن حماس لا يحق لها النضال لتحقيق أهدافها، أو أن أهدافها غير مشروعة، أو أنها غير صادقة في نواياها، فهي فعلا تناضل لإقامة حكم إسلامي وفق رؤيتها الخاصة، ولكن الحقيقة أن هذا الحكم الذي تسعى للوصول إليه في جوهره ومضمومنه وحتى في معظم جوانبه الشكلية لا يختلف عن أي نظام حكم أو أي سلطة أخرى أُقيمت أو ستُقام على أي جزء من الكرة الأرضية، وبالذات الأنظمة الثيوقراطية.
كما لا يعني بالمطلق بأن ما وصفت "فتح" أعداءها به بأنهم معتدون وظالمون ويتوجب مقاتلتهم هو وصف غير صحيح، بل هو كذلك دون ريب، ولا يعني أيضا أن أهداف "فتح" غير مشروعة أو أنها غير صادقة في نواياها، فهي بدون أدنى شك تناضل من أجل تحرير الأرض الفلسطينية وإقامة دولة فلسطينية مستقلة وفق رؤيتها الخاصة، وطالما عبرت عن ذلك جهارا نهارا وبمنتهى الوضوح، وهو هدف من وجهة نظرنا يمثل قمة العدالة الإنسانية، ولكنه في نهاية المطاف سعي لإقامة نظام حكم وكيان سياسي في جوهره ومضمومنه وحتى في معظم جوانبه الشكلية لا يختلف عن أي حكم أو أي سلطة أخرى أُقيمت أو ستُقام على أي جزء من الكرة الأرضية، وبالذات الأنظمة الديموقراطية.

هل هنالك خلاف سياسي بين الحركتين ؟
لن نجري مقارنة بين أهداف ووسائل حركات الإسلام السياسي من جهة وبين الحركات والأحزاب الوطنية والعلمانية من جهة أخرى، من حيث سعيهم للسلطة ومحاربتهم خصومهم، وسنركز أكثر على تبيان الفرق بين حماس وفتح والبحث في أسباب خلافهما لكونهما يتنافسان وأحيانا وللأسف يتصارعان في السيطرة على نفس الأرض – فلسطين – أو أي جزء منها، ولكن دون أن نغفل عن حقيقة أن حماس هي امتداد طبيعي لجماعة الإخوان المسلمين وبل وجزء منها وتابع لها على المستويات الفكرية والتنظيمية، وأن حركة فتح رغم استقلاليتها تنظيميا وحركيا، إلا أن أيديولوجيتها السياسية ونظريتها الثورية هي امتداد طبيعي لحركة النهضة العربية التي بدأت في بدايات القرن العشرين بكل ما تتضمنه رؤى هذه النهضة من فلسفة علمانية، وأنها تنتمي في أدائها السياسي إلى المدرسة البراغماتية.
حماس تختلف مع فتح وبقية فصائل العمل الوطني بشكل عام في رؤيتها للحل والأسلوب والأدوات وفهم المرحلة وترتيب الأولويات وبناء التحالفات ... وهذا حق طبيعي لها، ولكن جميع هذه المسميات هي ممارسة سياسية بامتياز، وطالما أن الحركتين "فتح وحماس" قد وضعتا نصب أعينهما هدفا أعلى وغاية كبرى هي إقامة كيان سياسي على فلسطين أو أي جزء يتاح لهما منها - وهو هدف سياسي محض - حماس تريده كيانا إسلاميا وفق أحكام الشريعة الإسلامية، وفتح تريد دولة فلسطينية مدنية ذات نظام ديموقراطي، فإن الغاية الكبرى هذه ستنقسم تلقائيا إلى هدفين لكل هدف منها أساليبه وأدواته ونظريته الثورية وبناءه التنظيمي، إلا أنه من البديهي أن الهدفين سيصطدمان بعدو واحد مركزي وهو الكيان الإسرائيلي الذي يحتل كل فلسطين ويمنع - طالما هو قادر على ذلك - إقامة أي نظام حكم فلسطيني مهما كانت تسميته، هذا العدو المركزي من المفروض بداهة أن يوحد الحركتين في مواجهته وأن يدفعهما لتأجيل خلافاتهما إلى ما بعد حسم صراعهما معه، ولكن ما حصل هو أن هذا العدو كانت تتاح له في كثير من الأحيان فرصة الإمساك بزمام الأمور فكان يوجه عداء الحركتين له باتجاه بعضهما البعض، وأحيانا كان يقوي طرف على الآخر، وطبعا في سبيل إضعاف الطرفين.
الآن وبعد أن جردنا الحركتين من هالة القداسة وفرغنا أيديولوجيتهما من محتوياتها الغيبية والدينية والشعاراتية، وبعد أن تخلصنا من تأثير الشحن العاطفي، يمكننا القول بأن الأيديولوجي في تاريخ الحركتين كان يتماهى مع السياسي للحد الذي صار من المتعذر الفصل بينهما سيما وأن الحركتين دأبتا – ولكن بطرق وبدرجات متفاوتة – على توظيف الأيديولوجي لخدمة السياسي، ولكن وللأمانة التاريخية لا بد من الإقرار بأن حماس ولأنها حركة دينية كانت تفوق وبمراحل حركة فتح في التوظيف الأيديولوجي وفي الممارسة الدوغمائية، خاصة وأن الدين لديه إمكانيات أكبر بكثير في هذا الشأن، في حين أن "فتح" كحركة لا دينية ليس في أدبياتها شيء من الغيبيات والمطلقات كان أداؤها الإعلامي يتسم بالبراغماتية التي كثيرا ما كانت تبدو للجماهير تبريرات بائسة غير مقنعة لتنازلات سياسية غير مطلوبة، على عكس "حماس" التي بنت رصيدها الجماهيري استنادا إلى أدائها الإعلامي الدوغمائي الذي يخاطب العواطف والوجدان.
ولكن هذا لا ينفي وجود جانب أيديولوجي نظري لدى حماس، فهي كما هو معروف حركة دينية، وبالتالي فإن كل يناسبها من نظريات سياسية واقتصادية واجتماعية وعقائدية من التراث الإسلامي ستجعله في صميم أيديولوجيتها، وأيضا فإن حماس ككل التيارات الفكرية والسياسية التي نشأت عبر تاريخ الدولة الإسلامية وأيضا ككل حركات الإسلام السياسي في العصر الحديث ستعتبر أن أيديولوجيتها هذه هي الحقيقة المطلقة، وما عداها إما كافر يجب قتاله، وإما مخطيء يتوجب عليه أن يثوب إلى رشده وينخرط مع الجماعة في جادة الصواب، وإذا أردنا التحقق من صحة هذا الإدعاء فلندع كل التصريحات الإعلامية جانبا بالرغم مما تفيض به في هذا المجال ولنفتش في أدبيات الحركة وتوجيهاتها الداخلية للأعضاء وأنماط تربيتها الحزبية، ومع ذلك ورغم المساحة الشاسعة للجانب النظري العقائدي في أيديولوجية حماس إلا أنها لم تكن هي السبب في خلافاتها مع فتح، حيث أن فتح لا مشكلة لديها مع الدين ولا تتناقض مع أي طرح فكري فلسفي فقهي ولا تعتبر هذه الأمور ضمن مجال اهتمامها، والشيء الوحيد الذي يثير خلافا أو اتفاقا معها هو ما يتعلق بالجانب السياسي ومفاهيم الصراع والمفاهيم الاجتماعية والاقتصادية لمرحلة النضال وما بعد التحرير، ومن هنا إذا أردنا تحديد مواقع الاشتباك والإلتقاء بين الحركتين يتوجب علينا التفتيش فقط في هذه الجوانب بمعزل عن القضايا الفقهية والنظرية والفلسفية الأخرى.
نقاط الخلاف والإلتقاء بين الحركتين
يمكننا – ومن أجل التبسيط - تحديد مستويين رئيسين نشخص فيهما نقاط الخلاف والإلتقاء بين الحركتين: المستوى الإستراتيجي العام ونجد فيه تباين طفيف وأحيانا تطابق شبه تام في رؤية الحركتين وموقفهما من القضايا الكبرى كالتسوية السياسية ومشروع الدولة الفلسطينية وفلسفتهما من المقاومة وممارستهما لها، والمفاوضات المباشرة، وكذلك موقفهما الملتبس من الإعتراف بإسرائيل، وفي المستوى الثاني سنجد قضايا وعوامل سياسية وميدانية ذات بعد تكتيكي، ولكنها مهمة ومؤثرة ومنها تأثير العامل الخارجي، وبناء الثقة بين الطرفين والمرجعيات المؤسسية، إلى جانب القضايا التفصيلية الشائكة والتي نجمت عن الإنفصال أو كانت سببا له، كالأجهزة الأمنية والمحاصصة والتقاسم الوظيفي والحكومة وإصلاح منظمة التحرير، قانون الانتخابات ... وقد نتفق في النهاية أن كل ما تقدم عبارة عن الشكل الظاهري لتناقض الحركتين، وأن جوهره عبارة عن تناقض بين مشروعين: المشروع الوطني القومي في مواجهة المشروع العالمي للإسلام السياسي، ولن نستعجل في الحكم على المشروعين قبل دراسة وتحليل كل مستوى لنقاط الإلتقاء والخلاف بينهما، لنتابع:

الدولة الفلسطينية على حدود ال 67
في عالم السياسة لا توجد محرمات ولا مطلقات ولا ثوابت، وكل القضايا التي تخضع للسياسة تصبح نسبية ومتحركة وتخضع لقوانين الصراع وتقديرات الظروف المحيطة وتحليل موازين القوى وتلمس الدرب نحو الهدف البعيد بشتى الطرق، وإذا ما تحررنا من أسر الشعارات ورأينا الأمور بمنظار الواقعية والنسبية سنجد أنه لا فتح ولا حماس ولا أي فصيل آخر لديه مرجعية فكرية وأيدولوجية ثابتة ومقدسة ولا يحيد عنها قيد أنملة، وأن العمل السياسي والنضال الوطني يحتم عليها العمل بواقعية سياسية، وتحديد ما هو ثابت ومقدس ولا يقبل المساومة وإلى أي مدى، وما هو خاضع للتكتيك والمصلحة والتقدير السياسي وظروف الزمان والمكان وموازين القوى وبيئات العمل وغيرها، وبالطبع، فإن ذلك سينعكس على البرنامج الوطني والسياسي لكلا الطرفين، وعلى تحديد الأولويات، وعلى ما يمكن تقديمه من تنازلات، وعلى رؤية الطرفين الإستراتيجية والتكتيكية لمشروع التسوية.
ولو دققنا النظر في أيديولوجية حماس لنفرز منها ما هو سياسي، أو في برنامجها السياسي لنفرز ما هو أيديولوجي، سنجد مجموعة من الشعارات والنصوص العامة، سيما بعد أن قطعت الحركة شوطا طويلا في العمل السياسي وبشكل خاص بعد أن تولت السلطة في الضفة وغزة ثم انفردت بها في غزة، لو ألقينا الضوء على هذه الشعارات لاستطعنا بكل سهولة تبيان الفرق بين ما كان أيديولوجيا يأخذ شكل المقدس ثم صار سياسيا يأخذ صفة السياسي، لنرى بجلاء لا يعتريه الشك كيف تحول بين ليلة وضحاها ما كان ثابتا إلى متغير, وما كان مطلقا إلى نسبي وما كان محرما إلى مباح بل وصار واجبا شرعيا !!
عند هذا المستوى من القراءة سنجد شعار حماس الشهير بأن "فلسطين أرض وقف إسلامي لا يجوز التنازل عن أي جزء منها مهما طال الزمن أو اشتدت الضغوط، والمعركة معركة أجيال، كما لا يوجد ما يُبرر التنازل، حتى عندما يكون الفلسطينيون والعرب والمسلمون في أشد حالات ضعفهم"، وعندما كانت فتح وبقية فصائل منظمة التحرير تدعو لإقامة دولة فلسطينية في حدود الرابع من حزيران 1967، كانت تعتبر هذا تنازل عن ثلاثة أرباع فلسطين وكانت تعد ذلك في منزلة الخيانة العظمى، ولكن في مرحلة لاحقة وافقت حماس على إقامة دولة فلسطينية مستقلة على أراضي أل 67 خالية من المستوطنات وعاصمتها القدس مع حل عادل للاجئين، وهذا لا يختلف في شيء عن برنامج فتح الذي كانت تعتبره كفرا بواحا وتفريطا بأرض المسلمين.
وفي نفس السياق نتابع موقف حماس من الانتخابات التشريعية والرئاسية للسلطة الوطنية، لنرى كيف انتقلت من موقف التحريم إلى المقاطعة إلى الموافقة السلبية ثم القبول الإيجابي الذي جعل من المشاركة في الاقتراع واجبا دينيا، ثم لنرى كيف اختفت من برنامج حماس الانتخابي كل الفقرات والشعارات التي تضمنها ميثاق حماس والتي تدعو لإزالة إسرائيل من الوجود، لستبدل ببرامج انتخابية لها صلة أكثر بالواقع.
هذا التغير الواضح في موقف حماس من الدولة الفلسطينية ومن المشاركة السياسية يعكس تطورا إيجابيا في أداءها السياسي ويدل على درجة معينة من النضوج وأن قرائتها للمعطيات والظروف المحيطة باتت أكثر واقعية، لكنها وخلافا لفتح التي لا تجد حاجة لتبرير مواقفها السياسية لسوق حجج ومسوغات دينية أو استصدار فتاوى تحدد لها مجال حركتها، فإن حماس مع كل تغير في مواقفها – حتى لو كان جذريا - كانت تضطر لتبريره بفتاوى وبراهين فقهية ثم تسندها بالقياس بأمثلة من التاريخ الإسلامي، لأنها كانت تجعل من القضايا السياسية قضايا دينية بحتة.
أما بالنسبة لفتح فباستثناء مراحل تكونها وصعودها المبكرة والتي اتسم برنامجها آنذاك بالشعارات والعاطفية والتشدد سنجد أنها ومنذ تبنيها البرنامج المرحلي عام 1974 قد دخلت في ما يمكن وصفه بالنضوج السياسي أو البراغماتية التي كانت تصل مديات غير مقبولة أحيانا، ومن هنا فإنها لا تجد صعوبة في التكيف مع أي ضغوطات تتعرض إليها أو بإبداء المرونة إزاء أي تحرك سياسي، الأمر الذي يعفيها من التبريرات الأيديولوجية وإصدار الفتاوى، فالأمر بالنسبة لفتح مرتبط بتقدير المصلحة، ودراسة الواقع وموازين القوى، وتحصيل ما يمكن تحصيله وفق قرارات الشرعية الدولية، لأنها ترى الإصرار على كل فلسطين الآن قد يؤدي إلى خسارة كل فلسطين وللأبد، كما أنه لا يمكنها المراهنة على عامل الزمن الذي لم يعمل لصالح القضية طوال السنوات المائة الماضية.
مفهوم المقاومة في برامج الحركتين
تعتبر حماس شأنها شأن الكثير من حركات الإسلام السياسي أن مقاومة إسرائيل والدفاع عنها باعتبارها أرض للمسلمين مسألة تندرج في صلب الجهاد المقدس الذي فرضه الإسلام كواجب شرعي وفرْض عين على كل مسلم ومسلمة ... ولن نتسائل هنا لماذا تأخر الإخوان المسلمون 40 عاما كاملة قبل الشروع في تطبيق هذا الفرض ! وهي الفترة الفاصلة ما بين قيام إسرائيل وإنطلاقة حماس ( 1948 ~ 1988 )، ولن نسأل أيضا لماذا تأخرت المقاومة المسلحة بعد ذلك أربعة سنوات إضافية لتنطلق فعليا مع بدايات انطلاقة العملية السلمية في العام 1992 ! ولن نسأل أيضا لماذا اقتصر أسلوب حماس في المقاومة على شكلين فقط هما العمليات التفجيرية والصواريخ محلية الصنع وبالكاد مارست اشكالا أخرى ! فالتصدي لتلك الأسئلة يحتاج إلى بحث منفصل.
وطرح هذه الأسئلة بهذه الصورة المقتضبة هو من أجل تخيل إجابات عامة على تلك التساؤلات، وحتى نخلق فضاءً للفكرة يمكن من خلاله التعرف مباشرة على فلسفة حماس الحالية للمقاومة خاصة بعد أن اختطت لنفسها أسلوبا مميزا وراكمت تجربة مهمة في هذا الشأن، وبتتبع مسار ممارسة حماس للمقاومة المسلحة سنلاحظ كيف صعدت من هذه العمليات في الأعوام 1992 ~ 1994 وهي الأعوام التي شهدت ميلاد اتفاق أوسلو، وموجة ثانية من التصعيد 1996 ~ 1998 وهي السنوات الأولى من عمر السلطة الوطنية، ثم موجة أخرى أكثر عنفا في السنوات الأولى من انتفاضة الأقصى، وأخيرا الوقف شبه التام للمقاومة المسلحة بعد تفرد حماس في حكم غزة ونزوعها نحو دخول الحلبة السياسية وانتزاع اعتراف عالمي بها، ما يدل على أن تصعيد العمل العسكري أو إيقافه كان دوما يخدم رؤية حماس وموقفها من التسوية السياسية.
ولا شك أن توظيف المقاومة المسلحة لخدمة هدف سياسي هو أسلوب مشروع من ناحية المبدأ، بل أن البندقية التي ليس لها هدف سياسي هي قاطعة طريق، ولكن لا يجب أن يتم هذا التوظيف بأسلوب دوغمائي، فحركة فتح مثلا كانت واضحة في هذا المجال، ففي المراحل المبكرة من نشأتها مارست العمليات العسكرية عبر الحدود، وفي مرحلة أخرى تصادمت مع إسرائيل في معارك طاحنة، واستخدمت العمليات العسكرية من الداخل، حتى أنها في مرحلة ما لجأت لخطف الطائرات (أيلول الأسود) وفي انتفاضة الأقصى قدمت نموذجا فريدا عبر عمليات كتائب شهداء الأقصى، وهي الآن في حالة تهدئة وتوقف شبه تام عن العمليات المسلحة، ولكنها تؤمن وتدعو لأشكال المقاومة الشعبية المدنية، وفي مؤتمر فتح السادس أكدت على تمسكها بخيار المقاومة، بمعنى أنها مارست أشكالا مختلفة ومتنوعة من المقاومة حسب طبيعة كل مرحلة.
وفي المحصلة نرى أن فتح التي اعتبرت الكفاح المسلح في صلب عقيدتها العكسرية وحرّمت التخلي عن السلاح في سنواتها الأولى, نرى أنها تخلت عنه فعليا أو كادت في سنواتها الأخيرة، أو أبقته كامنا، وآمنت أكثر بجدوى العمل السياسي والمفاوضات، أما حماس فقد امتنعت عن ممارسة الكفاح المسلح عندما كانت جزءً من جماعة الإخوان المسلمين ثم مارسته بقوة في مراحل مختلفة كما أسلفنا ثم توقفت عنه، وفي كل مرة كانت تجد المسوغات والتبريرات المختلفة، والحقيقة التي يغفل عنها البعض أن الكفاح المسلح بحد ذاته يمر في أزمة تاريخية ولم تعد ممارسته بنفس الظروف والسياقات والأدوات ولا حتى في النتائج كما كان في السابق.
ولو تأملنا في الهدف السياسي الاستراتيجي لحماس من عملياتها العسكرية لوجدنا أنه كان يبدو أحيانا غامضا أو كامنا، في حين تظهر بوضوح الأهداف المرحلية، والتي تكاد أن تكون مقتصرة على تحقيق أهداف تكتيكية آنية تتعلق بمعالجة حدث معين، وهو حدث غالبا ما يكون ميداني وذو طابع عسكري أو أمني، وقلما نسمع تصريحات تشير أن الهدف من العملية العسكرية هو مثلا الضغط على إسرائيل لوقف الاستيطان أو إجبارها على وقف بناء الجدار أو التصدي لإجراءات تهويد القدس، وفي العدوان الغاشم على غزة أواخر 2008 لم ترفع حماس شعارا سياسيا يدل على أن لها هدفا سياسيا استراتيجيا من خوض الحرب، فكل المؤشرات تدل على أنها أُجبرت على خوض الحرب وأنها حُشرت في وضعية الدفاع، وكل الأهداف التي حددتها قيادات حماس تنحصر في فتح المعبر وقف العدوان وفك الحصار وتحسين شروط التهدئة، وهي نفس الأهداف المعلنة لها منذ أن انفردت بحكم قطاع غزة.
وبتحليل لبعض تصريحات قادة حماس ومتابعة ممارسات حماس على الأرض نتوصل إلى استنتاجين: الأول أن حماس اختزلت جميع أشكال المقاومة ضمن قالب واحد وصادرت وأنكرت كل الأشكال الأخرى، ففي مرحلة سابقة كانت العمليات الاستشهادية هي الشكل الوحيد الذي تمارسه، ومن لا يؤمن بهذا النوع من العمليات كانت تصنفه على أنه مستسلم وخانع، ولما توقفت هذه العمليات استبدلته بالصواريخ محلية الصنع، وصار كل من لا يؤمن بجدوى إطلاق الصواريخ هو أيضا مستسلم ومعادي للمقاومة !!
وأعتقد أن حصر أشكال المقاومة في نمط واحد سيؤدي في نهاية المطاف إلى إصابة المقاومة نفسها في مقتل، فالعمليات الإستشهادية مثلاً توقفت لأسباب معينة، إما أنها استنفذت أغراضها أو أنها صارت غير ممكنة لأسباب عمليانية فنية، أو لأية أسباب أخرى، المهم أنها توقفت رغم حاجة قوى المقاومة الملحّة لها، ورغم تهديداتها المتكررة بأنها تنوي تنفيذها في عمق إسرائيل، وعلى ما يبدو أن المقاومة قد استبدلت هذا النمط من العمليات بالصواريخ، واستبدال أساليب المقاومة هو أمرٌ جيد ومطلوب من الناحية التكتيكية، ولكن ماذا سيكون مصير المقاومة فيما لو تمكنت إسرائيل من منع إطلاق الصواريخ سواء من خلال السيطرة الميدانية على أرض المعركة، أو من خلال قرار مجلس الأمن على غرار القرار 1701 الذي فَرَضَ على حزب الله التوقف عن إطلاق صواريخه ؟!
أما الثاني فهي وضع حماس لنفسها ومعها قوى المقاومة في موقف الدفاع، حتى لو كانت الأهداف التي تصيبها في عمق أراضي العدو، فهي تأتي كرد فعل على عدوان قوات الاحتلال، تدافع عن نفسها، ترد القوات الغازية، تنتقم لإغتيال قائد ميداني، تتصدى للدبابات المهاجمة ... فإذا افترضنا مثلا أن قيادات إسرائيل تحلت بالحكمة وتخلت عن عقلية المحتل المتغطرس، وكفّت أذاها عن الناس، وأوقفت عمليات الاغتيال والتصفيات والتوغلات ... فماذا سيكون جواب المقاومة ؟! وعلى ماذا سترد ؟! وماذا سيكون مبرر وجودها ؟!
قد يجيب البعض بأن إسرائيل لن تخلع ثوبها العنصري ولن تغير طبيعتها العدوانية، وبالتالي فهي لن توقف يوما مسلسل إعتداءاتها، وفي هذا القول قدر كبير من الصواب، ولكن هل من الحكمة أن تكون إستراتيجتنا مجرد ردات فعل لتصرفات العدو ! وأن نبقى في موقع الدفاع العاجز عن رد آلة العدو العسكرية ! وفي حالة كهذه وفي ظل الخلل الفادح في ميزان القوى فإن الحكمة تستدعي الانتقال مباشرة إلى ساحة أخرى، أي الانتقال إلى مرحلة الهجوم السياسي، الأمر الذي بدأته فتح منذ زمن وما زالت حماس غير قادرة عليه، سيما بعد أن أثقلت نفسها بحمولات أيديولوجية وقيدت حركتها بشعارات كبيرة.
والخلاصة التي نصل إليها أن وضع المقاومة في موقف الدفاع وحصر عملياتها في دائرة ردات الفعل، هو وقوع في الفخ الإسرائيلي واللعب في الساحة التي يستدرجها إليها في الوقت والمكان الذي يحدده، ويعني سد أي أفق سياسي لأي انتصار حقيقي ممكن تحقيقه، فالانتصار الحقيقي الذي يؤدي إلى تغييرات إستراتيجية لا يمكن أن ينجم عن عمل دفاعي محض، بل يحتاج هجوم استراتيجي، وطبعا هذا الهجوم لا يشترط أن يكون هجوما عسكريا بالمعنى التقليدي، بل هو الهجوم السياسي الذي تُستعمل فيه كافة أشكال المقاومة الوطنية.
المقاومة والمفاوضات
المفاوضات المباشرة بين الأطراف المتصارعة ليست اختراعا فلسطينيا، فقد مورست المفاوضات في جميع الحروب والنزاعات على مدار التاريخ، وعادة عندما كان يعجز طرفا الصراع على فرض أهدافهما بالقوة فإنهما يلجئان للتفاوض للتوصل إلى نقطة في الوسط، بهذا المعنى فإن المفاوضات ليست بديلا عن القوة العسكرية بل هي شكل مهم وأحيانا حتمي من أشكال ممارسة القوة، وبين ممارسة القوة أو المقاومة المسلحة والمفاوضات علاقة جدلية لا تقبل الإنفصال، من المفترض أن تأخذ هذه العلاقة شكل التكاملية حتى تكون هذه التكاملية في خدمة المسارين معا، فكما أن الكفاح المسلح بحد ذاته ليس هدفا وغاية فإن المفاوضات أيضا مجرد وسيلة لتحقيق غاية عليا، والفصل القاطع بين المفاوضات والمقاومة إنما هو أسلوب دوغمائي وعدمي تلجأ إليه عادة الجهة التي تعتمد أحد الأسلوبين دون الآخر.
وفي هذا السياق لدى حماس مقولة جاهزة طالما رددتها وهي أن الفلسطينيين جربوا المفاوضات عشر سنين كاملة دون طائل ( متى بدأت هذه السنوات العشرة ومتى انتهت ؟ وأين جرت هذه المفاوضات ؟! )، ولدى فتح أيضا اتهام جاهز لحماس بأن عملياتها المسلحة وتوقيتها الخاطيء هي التي تسببت بفشل المفاوضات، والحقيقة أنه لم يكن هنالك أي تنسيق أو تناغم أو تكامل بين العمل العسكري وبين العمل السياسي، فلم يأخذ أي منهم فرصته في النجاح، لأن اعتماد المفاوضات أو المقاومة دون أن تُبنى علاقة تكاملية بينهما أمر يخرج عن سياق المنطق والعقل، فالمفاوضات بدون قوة تسندها تصبح ضربا من التسول، والمقاومة التي لا تتوج بمفاوضات تصبح صنما ثم تتحول إلى هدف فكري وثقافي، علما بأنه في ظل المعطيات الحالية فإن المقاومة الشعبية المدنية هي النمط الوحيد من المقاومة القادرة على التعايش مع مفهوم المفاوضات.
وتفسر حماس إصرار فتح على المفاوضات لأنها تخلت عن المقاومة، فيما تقول فتح بأن حماس تنبذ المفاوضات لأنها لا تملك إمكانية الدخول فيها، أو لأن المعروض عليها مقابل دخولها المفاوضات لا يرقى إلى مستوى طموحها السياسي، بمعنى أن حماس لا ترفض المفاوضات من حيث المبدأ، وهذا ما أكده العديد من قادة حماس، حيث قالوا أن المسألة بالنسبة لهم مرتبطة بتفاصيل واشتراطات معينة يجب توفرها حتى تستطيع الحركة من خلالها تحقيق ما تصبو إليه.
الإعتراف بإسرائيل
من بين أكثر المسائل إثارة للجدل والخلاف على الساحة الفلسطينية، وحيث يلعب سحر اللغة والتلاعب بالكلمات دورا خطيرا، تبرز قضية الإعتراف بإسرائيل، حيث ظلت هذه القضية ساحة حرب كلامية وموضع سجال خطابي بين الحركتين لم يُحسم حتى الآن، فتح قبل دخولها عملية التسوية بشكل عملي كانت تعتبر الإعتراف بإسرائيل من المحرمات السياسية وبعض منظريها صنفوا الاعتراف في خانة الخيانة الوطنية، وبعد أن أخذت العملية السلمية أبعادا جدية وملموسة تغير الوضع ولينت موقفها، ثم من خلال مؤسسات منظمة التحرير تم الإعتراف المتبادل في اتفاقية أوسلو، ومع ذلك لم يصدر عن مؤسسات فتح وأطرها الحركية أي اعتراف رسمي بإسرائيل، حماس منذ البداية رفضت الاعتراف وما زالت مصرة على هذا الموقف.
إذاً، نظريا ترفض الحركتان " فتح وحماس " الإعتراف الرسمي بحق إسرائيل في الوجود، فعليا وافقت فتح على جميع القرارات الدولية التي تتضمن الإعتراف بإسرائيل وأهمها 242، أما حماس فلحداثة تجربتها في العمل السياسي لم تعترف رسميا بهذه القرارات ولكنها وافقت عليها ضمنيا من خلال حكومتها سواء في الضفة وغزة أم في غزة لوحدها، وما يدل على ذلك هو خطابات وتصريحات قادة حماس خاصة المتعلقة بمستقبل الصراع وبأهدافها من المقاومة.
فباختصار وبكل وضوح، يقول قادة حماس بشأن عمليات المقاومة: " إن الهدف من إطلاق الصواريخ هو الدفاع عن شعبنا من بطش الاحتلال"، "هدف العمليات هو الرد على اعتداءات الاحتلال "، " المقاومة مستمرة ما دام الاحتلال باقِ"، " إذا كفَّ الاحتلال عن الاغتيالات والتوغلات سنوقف العمليات " ...
ولنا هنا أن نتساءل: ما هو المقصود بالاحتلال بالضبط ؟! هل هو التواجد غير الشرعي للقوات الإسرائيلية على أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس ؟! أم هو وجود دولة إسرائيل بحد ذاتها ؟! والسؤال لا يفتش عن النوايا والقناعات بل يسعى للتدقيق في مغزى ومدلولات تصريحات قادة المقاومة حينما يقولون "المقاومة مستمرة حتى دحر الاحتلال"، "المقاومة هي دفاع عن النفس ضد الاحتلال"،"إذا توقف الاحتلال عن ممارساته الوحشية توقفنا عن العمليات" .. فإذا توقف بطش الاحتلال وامتنع عن الاغتيالات والتوغلات وانسحب من الأراضي المحتلة فهل سينسحب الجيش الإسرائيلي ومعه عائلاته إلى أمريكا وأوروبا وستنتهي دولة إسرائيل من الوجود ؟! أم أن الاحتلال سينسحب إلى داخل الخط الأخضر أي إلى داخل حدوده التي يعترف بها العالم ؟!
حماس تقول أن إسرائيل ليست خيالا وأن جيشها ليس مجرد أشباح وهي حقيقة واقعة – هكذا قالت فتح من قبل – وأن التعامل مع إسرائيل لا يعني الإعتراف بها أو بشرعيتها، فيما تقول فتح أن من حق حماس أن تصر على موقفها هذا وأنه لم يطلب منها أحد الاعتراف بإسرائيل، إنما مطلوب من الحكومة التي تمثل السلطة الوطنية القبول بقواعد اللعبة السياسية والإشتراطات الدولية بما في ذلك الاعتراف بإسرائيل، لأن السلطة نفسها هي محصلة اتفاق سياسي ثنائي بين منظمة التحرير وإسرائيل يسانده توافق دولي وإقليمي، وبالتالي ليس مطلوبا من حماس كحزب سياسي الإعتراف بإسرائيل لأن فتح لم تفعل ذلك بل هذا ما هو مطلوب من السلطة الوطنية وأي حكومة تعينها.
الخلاف لا سياسي ولا أيديولوجي ! فما هو إذاً ؟
لو تأملنا قليلا في مضمون البرنامج السياسي لحماس، سواء من خلال تحليل تصريحات قادتها وناطقيها الإعلاميين أو من خلال ما تكتبه وتبثه وسائل إعلامها، سنجد بكل وضوح وبما لا يدع مجالا للشك أن برنامجها وأهدافها لا تختلف عن برنامج وأهداف الفصائل الأخرى التي تصنفها على أنها مستسلمة وتخلت عن المقاومة واتبعت نهج المفاوضات وفي مقدمتها فتح.
الهدف الاستراتيجي العام الذي تكرره باستمرار والمتمثل بالمطالبة بإنهاء الاحتلال، فهو نفس الهدف الذي تعلنه فصائل منظمة التحرير، وقد توضح الهدف السياسي لحماس أكثر بعد أن أعلنت صراحة استعدادها للقبول بدولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس وخالية من الاستيطان ضمن حدود الرابع من حزيران، مع ضمان حق العودة، وهو نفس البرنامج السياسي لمنظمة التحرير والفصائل المنضوية تحتها.
ولو قمنا بعمل مقارنة لكافة بنود البرامج السياسية لكل من حماس ومنظمة التحرير لما وجدنا فرقا ذو أهمية، والحديث هنا عن البرامج السياسية المعلنة ( البرنامج الانتخابي لكتلة الإصلاح والتغيير، خطاب التكليف الذي على أساسه استلمت الحكومة، البرنامج السياسي لأول حكومة حمساوية، وثيقة الاتفاق الوطني التي وافقت عليها، برنامج حكومة الوحدة الوطنية التي ترأستها، مشاركتها في قمة الرياض، موافقتها على مبادرة السلام العربية، موافقتها على احترام المعاهدات التي وقعت عليها منظمة التحرير والسلطة الوطنية ... ) بل أن المتتبع سيجد أن السقف السياسي لحماس تبين في أكثر من مرة أنه أقل بكثير من السقف الذي حددته منظمة التحرير ( موافقتها على إجراء الانتخابات بدون تمثيل القدس، موافقتها على دولة ذات حدود مؤقتة، مبادرة أحمد يوسف، موافقتها على هدنة مع إسرائيل طويلة الأمد وقابلة للتجديد، التزامها الحديدي بالتهدئة ) وطبعا الحديث هنا ليس عن أهداف حماس الإستراتيجية التي لها علاقة بطبيعة تركيبتها ودورها الوظيفي وأيديولوجيتها وارتباطها مع جماعة الإخوان المسلمين وتحالفاتها الإقليمية وعلاقتها بجماعات الإسلام السياسي ..
بما أن الحركتان اتفقتا على مبدأ قيام دولة فلسطينية وفق ما تقره الشرعية الدولية، وأن الأهداف السياسية المعلنة لهما تلتقيان بل تكاد أن تتطابق، وأن كانت فلسفة كل منهما في موضوع المقاومة تختلف في بعض الجوانب عن الأخرى إلا أن ممارستهما لها وتحديدا في المرحلة الحالية متطابقة أيضا، وبالذات موقفهما المعلن والمطبق من التهدئة، وبالتالي لا يوجد مبرر موضوعي لأن يزاود أحدٌ على الآخر، وكذلك تفسيرهما الملتبس لمسألة الإعتراف بإسرائيل والتي في المحصلة ستكون عبارة عن سجال لغوي وفقهي لن يغير من الواقع شيئا إلا بتسجيل مواقف للتاريخ ليس أكثر، فهل خلافاتهما على القضايا التفصيلية والتكتيكية كافية لتكون سببا في صراع دموي تسفك فيه أرواح كثيرة، وتسال خلاله دماء غزيرة، وتقسم فيه البلاد والعباد، ويهدد مصير القضية برمتها ؟؟!!
وطالما أن الهدف السياسي المعلن لكل من فتح وحماس يكاد يكون متطابقا، فهل ما يجري من خلاف واقتتال بين التنظيمين هو نوع من الصراع على السلطة ؟! وصراع على من سيفاوض إسرائيل ومن سيوقع معها الحل النهائي ؟! أم صراع على الكراسي والموارد والثروة ومناطق النفوذ كما يجري في الكثير من بلدان العالم ؟! وطالما أن السلطة التي يجري الصراع عليها هي سلطة تحت الاحتلال وبلا صلاحيات ولا تمتلك موارد ولا ثروات حقيقية، فهل هؤلاء المتصارعون مجانين وعميان ؟! الحقيقة أنهم ليسوا كذلك بالمطلق، ولكن الموضوع له علاقة بما هو بعد السلطة وبما هو أبعد من البرنامج السياسي.
صراع بين مشروعين
صار واضحا لدينا من خلال ما تقدم بأن صراع فتح وحماس هو صراع بين مشروعين مختلفين، المشروع الوطني الذي تمثله فتح ومعها فصائل منظمة التحرير ذو الطبيعة الوطنية والساعي لبناء دولة فلسطينية ومجتمع مدني، ومشروع الإسلام السياسي الذي تمثله حركة حماس وحلفائها ذو الطبيعة الدينية والساعي لبناء دولة إسـلامية وفرض القضايا الأممية الكبرى ( المشروع الإسلاموي العالمي ) على حساب المشروع الوطني.
قد يرى البعض أن انتصار أحد المشروعين يعني خسارة الآخر، وهذه حقيقة نسبية، ولكن السؤال الذي يبرز فورا هو انتصار من على من ؟ انتصار فتح على حماس أو العكس ؟ أم انتصار أحد الطرفين على إسرائيل ؟ والفرق كبير جدا بين الحالتين، فقد يتمكن فصيل من إلحاق هزيمة عسكرية بالآخر كما فعلت حماس في غزة في صيف 2007، ولكن هذا لم ولن ينهي الصراع لا بين الفصيلين الشقيقين ولا مع الاحتلال، بل هو حتما يؤخر أو يعطل بل ويمنع انتصار أي من الطرفين على الاحتلال، لأنه من البديهي أن الانتصار على الاحتلال يتطلب أولا وقبل أي شيء آخر توحد الفصيلين على أرض المعركة في مواجهة الاحتلال وتوظيف كل إمكاناتهما التنظيمية والعسكرية والجماهيرية والسياسية ضمن استراتيجية موحدة تذوب فيها كافة التناقضات الفرعية والهامشية .
ولكن ما يجري فعليا على أرض الواقع هو إيمان كل فصيل بأن السلطة من خلال حكومتها وأجهزتها الأمنية والإعتراف السياسي الدولي بها هي التي ستوصل كل فصيل إلى هدفه الأعلى ( الكيان السياسي وفق رؤيته الخاصة )، لأن السلطة ستوفر له الأرض – لا يهم إذا كانت شبه محررة أو تحت الاحتلال – وستوفر القوة والنفوذ والمال والإعلام، وكل ما يلزم لحكم الناس وفرض أنماط اجتماعية واقتصادية عليهم، فالإحتلال لن يمانع إذا ما فُرض على الناس نظام حكم إسلامي أو إذا ما تدفقت الاستثمارات والمشاريع الاقتصادية التي ستخدم مصالح الجهات الحاكمة.
كما أنه في رؤية الحركتين لما بعد التسوية، أو لما بعد تثبيت حكم أي منهما على الأرض سواء على الضفة وغزة أم اكتفاء كل فصيل بحكم الأرض التي يسطر عليها، هنالك تصور لدى الحركتين لطبيعة المرحلة أنذاك من حيث طبيعة الحكم والعلاقات الاقتصادية والاجتماعية والتحالفات الإقليمية والدولية.
وفي هذا السياق تزعم فتح بأن برنامجها بمضامينه السياسية والاجتماعية ينتمي إلى مرحلة الحداثة وما بعدها، لأنه حسب ما تراه برنامج تقدمي تحرري يقوم على أسس ديموقراطية يسمح بتداول السلطة سلميا وبشكل حضاري ويسعى لبناء دولة مدنية مؤسّساتية تلتزم بالقانون والدستور وتعامل جميع مواطنيها بعدالة دون تمييز على أساس اللون أو الجنس أو الدين، وليس فيها أي شكل من أشكال الحكم الثيوقراطي أو الإستبدادي أو الوراثي، وتضمن هذه الدولة حقوق الأقليات وحرية العبادة وحرية الفرد وحقوقه المدنية والشخصية وتحترم المرأة وتلتزم بالشرعية الدولية وتقيم علاقاتاتها مع العالم على أساس حسن الجوار ووفق المواثيق والمعاهدات الدولية.
فيما تقول حماس أنها تسعى لبناء دولة فلسطينية إسلامية تلتزم بقواعد الشورى وتطبق الشريعة الإسلامية وتعتبر القرآن الكريم دستورها وتنظم علاقاتها بالمواطنين وفق أحكام الشريعة التي تنصف المرأة وتحترم الأديان السماوية وتعلي من شأن الإنسان، وتلتزم هذه الدولة بأحكام الإسلام بكل ما يتصل بعلاقاتها الداخلية والخارجية.
وبينما تتهم حماس فتح بأن كل ما تطرحه بشأن الدولة العتيدة مجرد تصريحات وأن تجربتها في الحكم كانت بائسة وأنها قدمت نموذجا من الفساد والترهل والفوضى، وفي المقابل تقول فتح بأن اختباء حماس خلف شعارات ومفاهيم الإسلام العظيمة هو نوع من التضليل، وأن التجربة التاريخية للدولة الإسلامية كانت تفضي على الدوام إلى حكم ثيوقراطي وراثي، وأنه لا توجد ضمانات بأن تلتزم حماس بتعاليم الإسلام السمحة، بل أنها ستبدأ بتطبيق فهمها الخاص ورؤيتها الرجعية لطبيعة الحكم، وأن العصر الحديث والعالم المتحضر قد تجاوز الكثير من أطروحات حماس بشأن العلاقات الداخلية والخارجية والقانون والحريات ... وأن تجربة حكم حماس لغزة قد كشفت عن طبيعتها الإستبدادية وعن تنكرها للديموقراطية وخنقها للحريات ...


موقف الحركتين الحقيقي من التسوية مع إسرائيل
على مستوى البرنامج المعلن للحركتين يرد مرارا وتكرارا على لسان قادتهما مقولة بأنهما مع السلام الشامل العادل الذي يضمن حقوق الشعب الفلسطيني بإقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود الرابع من حزيران 67 شريطة أن تكون خالية من المستوطنات وعاصمتها القدس الشريف مع ضمان حل عادل لمشكلة اللاجئين، وبالنسبة لفتح فقد أثبتت الأحداث صدقها وتمسكها بهذه الثوابت، وخير دليل على ذلك هو فشل مفاوضات كامب ديفيد في تموز عام 2000، وصمود الشهيد ياسر عرفات في حصاره في المقاطعة ورفضه الرضوخ للمطالب الإسرائيلية وللضغط الأمريكي، وتمسك الرئيس أبو مازن بنفس الثوابت وقد مضى على استلامه رئاسة السلطة خمسة سنوات دون أن يبدي تنازلا بهذا الموضوع.
أما حماس فقد وافقت على إجراء الانتخابات عام 2006 بدون القدس ويبدو أن موافقتها جاءت بعد أن ظنت أن فتح تتذرع بهذه القضية للتهرب من استحقاق الانتخابات، واقترحت هدنة طويلة الأمد دون الاعتراف بإسرائيل، حيث أكد السيد إسماعيل هنية بأنه إما أن يكون حلا عادلا كاملا وإما فلا، بمعنى أن حماس لا مشكلة لديها مع موضوع الوقت، وتقول في هذا الصدد أن الاحتلال الصليبي لفلسطين دام مائتي عام ثم انتهى واندحر، وبالتالي فإن إبقاء الوضع على ما هو عليه وانتظار الأجيال القادمة أفضل من الدخول في تسوية لا ترتضيها حماس، وفي وثيقة أعدها د. أحمد يوسف، المستشار السياسي لرئيس الوزراء المقال السيد إسماعيل هنية، وافق على دولة فلسطينية بحدود مؤقتة، واقترح صيغة للتسوية مع بعض المبعوثين من النرويج، وسويسرا، وبريطانيا، وحول هذه الوثيقة ترى فتح النقاط التالية:
أولاً: توفر الوثيقة هدنه مع إسرائيل من دون أي مقابل وقبل تطبيق أي حل على الأرض، وهذه الهدنة مدتها خمس سنوات تنسحب إسرائيل خلالها إلى خط متفق عليه داخل الضفة الغربية، ( ليس الخط الأخضر بالضرورة ) وهي نفس الخطة التي دعت إليها إسرائيل وأمريكا ( دولة ذات حدود مؤقتة ) والتي وردت إشارة عامة حولها في المرحلة الثانية من خطة خارطة الطريق كاحتمال وليس كضرورة، ورفضتها قيادة السلطة آنذاك .
ثانياً: هذه الدولة ذات الحدود المؤقتة لا تشمل القدس، وكل ما تطالب به مجرد حرية الحركة من وإلى القدس، وفي موضوع حق العودة فإن الوثيقة تتناوله بشكل غامض دون أن تحدد المكان الذي سيعود إليه اللاجئون، هل هو الدولة الفلسطينية أم داخل إسرائيل، وتسقط مرجعية حق العودة المتمثلة في القرار 194.
ثالثا: تتعهد الوثيقة بالتعاون مع إسرائيل في إقامة مناطق اقتصادية مشتركة واستمرار العلاقات التجارية، وهو أمر يتجاوز حدود الاعتراف بدولة إسرائيل إلى مستوى التعاون والوحدة الاقتصادية معها، كما تتعهد الوثيقة بأن تعمل لتحقيق حل الدولتين والوصول إلى اتفاق سلام نهائي، وهي أمور تتجاوز حدود مجرد الاعتراف الدبلوماسي، وتكشف مدى هشاشة شعارات حماس الرافضة للإعتراف.
والنتيجة التي توصلت إليها فتح من قرائتها للوثيقة أن حماس أبدت استعدادها لتقديم هذه التنازلات مقابل أن يتم الاعتراف بحكومتها، لتصبح لاعبا أساسيا في المنطقة وجزءً من المعادلة السياسية القائمة، حتى لو كان ذلك على حساب المصالح الوطنية وعكس ما كانت تدعيه، وتعتقد فتح بأن حماس قادرة على تسويق هذا الحل أمام جمهورها وعناصرها وفرضها على الشعب بأي شكل تراه مناسبا.
وتقول فتح أن هذا الحل إذا ما تحقق حسب رؤية حماس فإنه سيوفر لها دويلة بلا أرض وبلا سيادة حقيقية، ولكنه سيوفر لها ما تحتاجه من أدوات لفرض برنامجها وأيديولوجيتها على الجماهير، أي إقامة إمارة إسلامية تحكم وفق الشريعة الإسلامية لتكون أول وربما أهم تجربة سياسية للإخوان المسلمين، تمكنهم ليس من فرضها على المنطقة وحسب بل وبين حركات الإسلام السياسي نفسها لتؤكد تفوقها وانتصار استراتيجيتها عليهم، وكذلك لتحسين شروط مشاركتها السياسية مع بقية الدول العربية والإسلامية، ما يؤكد أن مشروع حماس ليس مشروع تحرر واستقلال وطني بل هو مشروع سلطة تضمن السيطرة للتيار الإسلامي في فلسطين بأي ثمن وضمن أي حدود جغرافية، باعتبار أن حماس هي امتداد لحركة الإخوان المسلمين أولاً وقبل أي شيء.
والفرق بين التسويتين من وجهة نظر كل منهما جوهري، فالحل الذي تطرحه فتح يضمن حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني ويثبت الاعتراف الدولي به كشعب له حقوقه الطبيعية والسياسية، وهو حل يثبت الهوية الوطنية الفلسطينية كنقيض مركزي للمشروع الصهيوني ويضعها في مواجهته تماما ليحد من توسعه ويقوض الركائز الموضوعية والإدعاءات المزيفة التي قام عليها، بينما التسوية التي تقترحها وثيقة أحمد يوسف تعني تحويل الشخصية الوطنية للشعب الفلسطيني إلى مجرد هوية دينية وبالتالي تفتيت حق تقرير المصير وتجيير النضال الفلسطيني على مدى قرن لصالح مشروع أيديولوجي حزبي لا يخدم مصالحه الوطنية العليا.
بينما نفت حماس صلتها بالوثيقة بل وأنكرت وجودها في تصريحات أخرى، وقالت أنها متمسكة بالثوابت الوطنية وبالحل العادل حسب ما أعلنته من قبل، وتزعم فتح بأن هذا الأسلوب من الإدعاء بشيء ثم التنصل منه هو ممارسة دأبت عليها حماس كنوع من اختبار ردات الفعل ودراستها ثم البناء عليها في المرة القادمة، وقد سبق لفتح أن مارست فرقعات إعلامية من هذا النوع.

الخلاف على التفاصيل
إصلاح منظمة التحرير
قد لا يكون تصنيفنا لموضوع إصلاح المنظمة في خانة التفاصيل دقيقا، لأن منتهى غايات حماس وحلمها الكبير هو الظفر بمنظمة التحرير وقيادتها، ولكن في المرحلة الحالية فإن الحديث مقتصر على إصلاحات معينة قد لا تُحدث تغييرات جذرية تمكن حماس من نيل غايتها، طالما أن فتح ومعها بقية الفصائل قادرة على الدفاع عن مكتسباتها في المنظمة، ولكن هذا الموضوع ظل موضع خلاف كبير بين الحركتين في جولات الحوار وعلى مدى سنوات طويلة، والوضع الحالي المترهل للمنظمة جعل أطرافا عديدة كحماس والجهاد لا تعترفان بشرعية تمثيلها أو على الأقل تشككان بها، وبالتالي وبسبب ضعفها لم تعد المنظمة قادرة على لعب دور الحكم والفيصل في ضبط آليات التداول السلمي للسلطة، والبت في الخلافات القائمة والمستفحلة بين فتح وحماس تحديدا، ولم تعد تمثل مرجعية مؤسسية يحتكم إليها الطرفان، وتضبط آليات اتخاذ القرار الوطني.
ومع ذلك، ما زالت منظمة التحرير التي تسيطر عليها فتح منذ نحو 40 عاماً، تشكل مظلة مقبولة لكل الأطراف، غير أن هذه المنظمة واجهت مشكلتين حقيقيتين:
1- منذ تأسيس السلطة تراجع دورها وضعفت دوائرها، وقل تأثيرها في الواقع الشعبي الفلسطيني، وتكلّست مؤسساتها القيادية، ولم يعد المجلس الوطني ينعقد بصورة منتظمة، وذلك نتيجة هيمنة السلطة الفلسطينية على الحياة السياسية على حساب المنظمة التي "ولدت ربَّتها"!
2- صعود قوى فلسطينية جديدة - كحماس - غير ممثلة في المنظمة، وهذه القوى أصبحت تمثل ثقلاً كبيراً في الساحة الفلسطينية، ولن ترضى بمجرد الدخول في المنظمة دونما إصلاحات جوهرية تعكس الحد الأدنى من رؤيتها الأيدولوجية وبرنامجها السياسي، وتعكس وزنها في الشارع، وبالتالي فإنها ستصر على إنهاء احتكار فتح وهيمنتها على مؤسسات المنظمة.
وقد كان واضحاً من خلال السنوات الماضية أن قيادة منظمة التحرير لم تتخذ خطوات جادة عملية لإجراء إصلاحات هيكلية على منظمة التحرير، بحيث تفسح المجال لمشاركة فاعلة وعادلة للفصائل الأخرى، وذلك لأنها أولا لن تتنازل بسهولة عن قيادة المنظمة، وثانيا وربما هو الأهم لأنها ترى أن تسليم المنظمة لحماس يعني تسليمها للقرار الوطني الفلسطيني ولتمثيل الشعب الفلسطيني، سيما في ظل ارتباط حماس في حلف إقليمي يسعى منذ زمن وبكل قوة للسيطرة على القرار الوطني والإمساك بالورقة الفلسطينية برمتها، وأن ذلك يعني العودة بالقضية لزمن الهيمنة والإحتواء والوصاية.

فقدان الثقة
الكثير من عناصر حماس وقياداتها لا تثق بقيادة فتح للمسار السياسي الفلسطيني، وتتهمها بتقديم التنازلات والتنسيق الأمني مع إسرائيل والتعاون مع الأمريكان وتسليم مطلوبين والقيام بحملات اعتقال متكررة بحق أبناء حماس، وأنها ما زالت محكومة بعقلية الهيمنة واحتكار السلطة، بالتالي فهي لا توفر أي فرصة لإعادة ترتيب البيت الفلسطيني. وفي المقابل لا يثق الكثير من عناصر فتح بقيادة حماس للمسار السياسي الفلسطيني، إذ يتهمونها بعدم النضوج وبعدم الواقعية ورفع الشعارات المضللة، وبالتسبب في حصار الشعب وبعدم تقديم أية آفاق عملية لحل مشكلاته وهمومه، وأن طريقتها الخاطئة في المقاومة سببا في تعطيل مسار التسوية والحيلولة دون تحقيق حلم الدولة الفلسطينية، وأنها بسبب حساباتها غير الصحيحة توفر الفرصة لإسرائيل كي تتحجج بالذرائع الأمنية للهروب من استحقاقات السلام، واستمرار قمع الشعب الفلسطيني وبناء الجدار والمستوطنات وتهويد القدس.
العامل الخارجي
تتهم حماس فتح بأنها وضعت السلطة الفلسطينية في الحلف المعادي للأمة والذي أسمته "فسطاط الباطل"، وأن هذا الحلف الذي تقوده الولايات المتحدة بالتحالف العضوي مع الإتحاد الأوروبي إنما هو لحماية إسرائيل، ويدور في فلكه بعض الأنظمة العربية التي تصف نفسها بالمعتدلة كالأردن ومصر والسعودية، وأن سياسات السلطة بالتالي ستُسخر لخدمة أهداف هذا الحلف، ودليل ذلك تولي الجنرال دايتون مسئولية إعادة بناء الأجهزة الأمنية وتسخيرها لحماية أمن إسرائيل ولضرب المقاومة، وأنها أي فتح وتحت تأثير الضغط الأمريكي والإسرائيلي لن توافق على مطالب حماس ولن تعترف بحكمها وستعمل على إسقاط حكومتها ...
ومن جهة أخرى ترى فتح أن حماس وضعت نفسها في لعبة المحاور الإقليمية، وقد أعلنت صراحة أنها في المحور السوري الإيراني لمواجهة المحور الأمريكي، وخالد مشعل اعتبر نفسه الإبن الروحي للخميني، وبررت حماس ذلك بأن الدول الأخرى تخلت عنها بينما احتضنتها إيران وقدمت لها الدعم المالي والعسكري والسياسي، وأن هذا المحور يعلن عن عدائه للسياسة الأمريكية والإسرائيلية وبالتالي لا غضاضة من دخوله، وتتهم فتحُ حماسَ بأنها مقابل هذا الدعم الإيراني غضت الطرف عن ممارسات ميليشيات المهدي الإيرانية ضد الفلسطينيين في العراق، وأنها بهذه الأموال أيضا تقوت على فتح وعملت على إقصائها ووراثتها تمهيدا للإستيلاء على منظمة التحرير لتحويلها إلى منظمة إسلامية ( إيرانية ).
وما يزيد من قلق قيادة فتح من الدعم السوري لحماس أن في ذاكرة فتح الكثير من محاولات الهيمنة السورية على القرار الوطني والسيطرة على الورقة الفلسطينية، وبالتالي فإنها تخشى أن تسلم حماس هذه الورقة على طبق من فضة لسوريا أو لإيران، لأن في ذلك ضياع للقضية.
ومن هنا يتبادل الطرفان الاتهامات بالتأثر بالعامل الخارجي والإرتهان له وخدمة أجندات أجنبية على حساب المصالح الوطنية للشعب الفلسطيني، وبغض النظر عن صحة إدعاء أي طرف، فأن العامل الخارجي يُعد واحد من بين أهم أسباب تعثر الحوار وتكريس حالة الإنقسام، ولو تتبعنا الأحداث التي وقعت في السنوات القليلة الماضية وربطناها بجولات الحوار لتوصلنا إلى نتيجة لا تعتريها الشك، ولكنها مفزعة ومقلقة وللأسف، وهي أن أطرافا خارجية لا تريد للحوار أن ينجح وتختلق الأحداث دوما لإفشاله أو لفرض رؤاها عليه بالقوة.
جولة في أروقة الحوار
رفضت حماس عرضاً من قيادة منظمة التحرير بدخول المجلس الوطني الفلسطيني وكان ذلك في العام 1989، حيث طالبت حماس حينها بنسبة 40 % من عدد مقاعد المجلس، الأمر الذي اعتبرته المنظمة طلبا تعجيزيا وغير واقعي، حيث أن حماس كانت حينها حركة صاعدة وليس لها هذا الحجم من الجمهور في الشارع الفلسطيني، وفي آب 1991 عُقد لقاء بين فتح وحماس في الخرطوم، حيث كانت لدى قيادة فتح رغبة ومصلحة في انضمام حماس للمنظمة، لأن المجلس الوطني المرتقب في الشهر التالي كان بصدد اتخاذ قرار المشاركة في مؤتمر مدريد.
وبعد أن تشكلت السلطة الفلسطينية عام 1994 إنشغلت في همها الداخلي وأهملت عدد من القضايا الهامة من بينها الحوار مع حماس، إلا أن حماس لم تكن لتهمل نفسها، فبدأت بسلسة من العمليات التفجيرية داخل إسرائيل شعرت قيادة فتح بأن هدفها هو تخريب العملية السلمية وإحراج السلطة، حيث أدت هذه الموجة من التصعيد العسكري إلى تغيير نوعي في المشهد السياسي حيث عاد حزب الليكود مرة أخرى للحكم، وهنا وجدت السلطة أنه لا مناص من التعامل مع حماس، وقد تعاملت معها آنذاك على ثلاثة مستويات متدرجة- بحسب ما تقتضيه الحاجة- وهي: الحوار، والاحتواء، والقمع والاعتقال.
وفي كانون الأول 1995 عقد حوار بين السلطة وحماس، حاولت من خلال السلطة إقناع حماس بالمشاركة في الانتخابات التشريعية والرئاسية، أو على الأقل الحصول على ضمانات بعدم سعي حماس لإفشال هذه الانتخابات، إلا أن حماس رفضت الدخول في الانتخابات، لكنها التزمت بعدم إفشالها.
وبعد ذلك انقطعت جلسات الحوار طوال السنوات التالية، بينما كانت "اللغة الأمنية" هي اللغة التي استخدمتها السلطة معظم الوقت للتعامل مع حماس، ولكن بعد انطلاقة انتفاضة الأقصى استطاعت حماس أن تفرض نفسها من جديد وأن تستعيد دورها وتوسع شعبيتها، وصار واضحاً أنه لم يعد من الممكن تجاوزها سياسياً، ولذلك نشطت الدعوة إلى الحوار من جديد، وفي بداية الانتفاضة طلب المرحوم ياسر عرفات من جميع القوى السياسية ومن ضمنها حماس الدخول في صيغة تحالف سميت حينها القوى الوطنية والإسلامية، ولكن مشاركة حماس في هذه الصيغة ظلت مقتصرة على الضفة دون غزة.
ثم عُقدت مفاوضات القاهرة في تشرين الثاني 2002 بين فتح وحماس، ثم في كانون الثاني 2003، وكانون الأول 2004 بمشاركة كافة الفصائل، وفي آذار 2005 انعقدت جولة أخرى من الحوار في القاهرة بمشاركة فتح وحماس وباقي الفصائل، حيث تم تبني برنامج فلسطيني ينصّ على الحق في مقاومة الاحتلال، وعلى الإعلان عن تهدئة تستمر حتى نهاية العام، كما تم الاتفاق على إجراء انتخابات تشريعية، وعلى القيام بإعادة تنظيم منظمة التحرير وإصلاحها وفق أسس تُمكِّن جميع القوى الفلسطينية من الانضمام إليها.
بعد فوز حماس في الانتخابات وتشكيلها أول حكومة حمساوية فُرض حصار شامل على السلطة الفلسطينية، وعلى إثره تدهورت الحياة السياسية والاقتصادية في الأراضي المحتلة، فدعى الرئيس محمود عباس لتنظيم استفتاء شعبي الأمر الذي رفضته حماس بشدة، فدعى رئيس المجلس التشريعي للبدء بحوار وطني شامل، وقد استغرقت جلسات الحوار هذه ساعات طويلة ونقاشات مستفيضة ومتعددة، أفضت في النهاية إلى الموافقة على "وثيقة الوفاق الوطني".
وفي حزيران من العام 2006، وعندما أنهى المتحاورون من فتح وحماس جولة حوار ناجحة كان مقررا في صبيحة اليوم التالي أن يتم التوقيع على اتفاق مصالحة، فوجئ الجميع فجر ذلك اليوم بالعملية الفدائية التي انتهت بأسر شاليط وأدت إلى دخول السلطة وتحديدا في قطاع غزة في نفق مظلم، وتعرض القطاع لحرب عدوانية أودت بفرص التوافق الداخلي، ثم عقدت في العام التالي جلسات حوار جديدة برعاية سعودية أدت إلى التوقيع على اتفاق مكة المكرمة وتشكيل حكومة وحدة وطنية.
ومع كل جولة حوار وكلما اقترب الطرفان من بلورة صيغة حل نهائي يرضي الطرفين كانت تبرز في كل مرة أحداثا مؤسفة، قد تكون مفتعلة وقد تكون مصادفة من حيث التوقيت إلا أنها كانت تترك ظلالا كئيبة على إمكانيات نجاح الحوار، وفي كل مرة كانت عملية بناء الثقة تتعرض لضربات قاسية، وكان الطرفان يدخلان في جولة عنيفة من الإتهامات المتبادلة.
فقيادة حماس ترى أن قيادة فتح لا تلجأ إلى الحوار إلا عندما تكون مضطرة لذلك، إما للظهور أمام إسرائيل والمجتمع الدولي بأنها تمثل كل الفلسطينيين، أو لتوفير الغطاء لتمرير صفقات سياسية، أو لتهدئة الأوضاع بانتظار اجتياز مرحلة أو استحقاق معين، بينما ترى قيادة فتح بأن حماس تستغل جلسات الحوار لكسب الوقت وبناء ما تريده على أرض الواقع، أي تحقيق هدف واحد، وهو تقدم "حماس" إلى الأمام، ثم تحميل الطرف المقابل مسؤولية الفشل.
وهكذا أخذ الحوار "المسلح" يغلب الحوار على "الطاولة" وتعقدت مظاهره وتجاوز كل الحدود، في منتصف حزيران 2007، تمكنت حماس من السيطرة على قطاع غزة وحسم خلافها مع فتح بقوة السلاح وإقصاءها كليا عن السلطة، وهنا يجدر التأكيد أن كلتا الحركتين لا تتبنيان نفس الأسلوب في مسألة الحسم والسيطرة، فحركة حماس تؤكد على خيار الحسم العسكري، وهددت مرارا بأنها ستصلي في المقاطعة برام الله تماما كما صلت في المنتدى، ولكن حركة فتح حاولت قدر الإمكان تجنب الفعل العسكري في صراعها مع حماس داخل القطاع.
بعد ما سمي بالحسم العسكري ظلت "فتح" تعارض بشدة الشروع بأي حوار قبل أن تلبي "حماس" شروطها الثلاثة، ولكن بعد سنة ونصف من الانقسام وتردي الأوضاع أدرك الطرفان خطورة الموقف، فتح رأت أنه سيودي تماما بحلم الدولة المستقلة، وحماس أدركت هي الأخرى استحالة نجاح مشروعها في حكم غزة إلا إذا أرادت تكريس حالة الإنقسام وللأبد، فتخلت فتح عن شروطها وبدأ الطرفان بجولات جديدة من الحوار، ولكن، وللأسف فجميع جولات الحوار كانت إما أن تؤجل أو تُعقد وتفشل، الأمر الذي دفع بالشقيقة مصر – راعية الحوار الوطني – أن تعد وثيقة وطنية شاملة للمصالحة وإنهاء الإنقسام، وحددت أكثر من مرة موعدا نهائيا للتوقيع عليها، وفي المحصلة وقعت عليها فتح، وتلكأت حماس، وهي ممتنعة عن التوقيع حتى تاريخ كتابة هذه السطور، وكان لكل فصيل تبريره ورؤيته الخاصة.
اعتبرت "حماس" ملف المعتقلين "السياسيين" في الضفة ملفاً أساساً ومركزياً، يجب حسمه وانهاؤه قبل التقدم قيد أنملة في الحوار، واعتبرت فتح أن الملف بحد ذاته هو ملف فرعي ومصطنع لعرقلة الحوار، لأن حسم الملف الأمني، سيعني حكماً، حسماً لملف المعتقلين، وبالتالي فإن حماس أرادت كسب المزيد من الوقت، وهي تراهن، على حسم ملفين أساسيين، هما ملف صفقة شاليط، والثاني التوصل إلى هدنة طويلة الأمد مع إسرائيل، وحسم هذين الملفين سيكفل لحماس عناصر قوة جديدة قد تمكنها من كسر الحصار ومن ثم الشروع بإعادة إعمار غزة، وهاتان المسألتان ستتيحان لحماس إدارة شؤون غزة دون الحاجة لأي اتفاق مع السلطة، وفيما اذا كانت مضطرة للاتفاق، فإنها ستقدم عليه من موقع القوة والتمكن، وليس من مواقع الضعف والحصار.
أما فتح فهي لن تقبل بعودة الأمور وفق رؤية حماس وتطلعاتها السياسية؛ لأنها تؤمن أن المرحلة الراهنة لا تسمح لها بالمساومة تجاه التزاماتها الدولية والمعطيات المحيطة لا تمنحها هامشا واسعا للمناورة، وهي تدرك أن الإقدام على أي خطوة غير مدروسة داخلية أو خارجية تتعارض مع إرادة المجتمعين العربي والدولي ستكون مغامرة قد تكلفها وتكلف الشعب الفلسطيني الكثير، فهي لن تقدم على تشكيل حكومة تعيد الحصار ولن تتبنى برنامجا لا يضمن فك الحصار وفتح المعابر، وهي لن ترضخ للقبول بأجهزة أمنية حزبية تمت إعادة هيكلتها على أرض الواقع ومن طرف واحد، ولن تقبل بأي اتفاق يوفر ذريعة لإسرائيل للتملص من استحقاقات التسوية، أو يمكن أن يدمر فرص السلام الذي تسعى إليه سيما بعد أن وقفت على أعتاب مفاوضات الحل النهائي، بعد مؤتمر أنابوليس.
ومن المؤسف أنه مع بعد فشل كل جولة حوار، كانت تنشب معركة إعلامية من الطرفين تصل أحيانا إلى حدود السفالة والخروج عن كل القيم والأخلاق، الأمر الذي يدعو للتشكيك في نوايا القائمين على هذه الحملات الإعلامية، بل الجزم بوجود نوايا مبيتة وقرار سياسي لإفشال الحوار، لأن من يريد للحوار أن ينجح عليه أن لا يتهم الآخر بالخيانة، وإلا كيف سيبرر اتفاقه مع هذا "الخائن" الذي لم يترك مسبة أو شتيمة إلا واستخدمها ضده !!
عناصر القوة الفلسطينية
المقاومة الشعبية بكل أشكالها، يسندها أداء سياسي واعي وقوي يصاحبه هجوم دبلوماسي وسياسي على الساحة الدولية، واستخدام القوة الأخلاقية والمعنوية للقضية الفلسطينية والاستفادة من عدالتها في كسب التأييد الدولي، وتوظيف تضامن العالم الحر معها، والإستفادة أيضا من القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية، بحيث يكون هجوما شاملا ومدروسا ومتناغما، بلغة سياسية واحدة وبخطاب سياسي موحد ضمن برنامج وطني تتفق عليه جميع القوى الوطنية والشعبية وتشترك في تنفيذ فعالياته، أي بمعنى توظيف كل إمكانات الجماهير وفتح جميع جبهات الصراع الشعبية والعسكرية والثقافية والسياسية .. ولكن بوحدة وطنية متحققة على الأرض وتحت قيادة واحدة تخاطب العالم بلغة واقعية يفهمها ويتعاطى معها، هذه عناصر القوة الفلسطينية والتي ثبت أنها قادرة على قلب الطاولة وفرض رؤيتها للحل، وقدرتها على رفض أي حل لا يناسبها، ولكن استخدام هذه العناصر بقوة ونجاعة يتطلب أولاً إنهاء حالة الانقسام والتشرذم على الساحة الفلسطينية.
ومن أجل إنهاء الإنقسام وإعادة الُلحمة إلى شطري الوطن وعقد المصالحة الحقيقية، يجب على الطرفين الشروع بإجراءات بناء الثقة: على فتح توفير المناخ المناسب للحوار الوطني، من خلال وقف كل عمليات الاعتقال ضد كوادر وعناصر حماس في الضفة، ووقف التحريض الإعلامي، وعلى حماس الرجوع إلى جادة الصواب والسماح بإجراء انتخابات رئاسية وتشريعية تعيد القضية إلى حضن الشعب وتعطيه حق التعبير عن رأيه بحرية، بعد أن صادرته منه أيديولوجيا الفصائل.
وطالما أن مشروعي فتح وحماس متناقضين في المنطلقات والأهداف وأسلوب إدارة الصراع وبناء التحالفات، فإن كل منهما سيَحُدُّ من تقدم الآخر، واستمرار هذا الوضع سيلحق أفدح الخسائر بالشعب الفلسطيني وبقضيته وبحاضره ومستقبله، وبما أن أي منهما عاجز تماما عن إلغاء الآخر أو محوه عن الخارطة - ولا ينبغي له أن يفكر بهذا الاتجاه - فلا حلَّ أمامهما ألا بالحوار وقبول كل منهما الآخر، أي الالتقاء على برنامج الحد الأدنى والاتفاق على طريقة موحدة لإدارة الصراع، إلى أن يتحقق هدفهما المشترك وهو دحر الاحتلال، وما بعد ذلك فلا ضير من وجود صراع سياسي لأن هذا من طبيعة البشر، ولكن ليكن بطريقة حضارية تستند إلى دستور وقوانين وآليات النظام الديمقراطي التعددي بحيث يكون للشعب الدور الأساسي والرأي الأول والأخير .



المراجع:
1. د. محسن صالح، أزمة حماس وأزمة فتح، المعرفة، الجزيرة نت، 25-10-2006.
2. د. محسن صالح، تجربة الحوار بين فتح وحماس أين المشكلة، مركز الزيتونة للدراسات والإستشارات، 20-6-2008.
3. تيسير نصر الله، حماس وفتح سيناريوهات محتملة، المعرفة، الجزيرة نت، 10-12-2007.
4. د. رياض الأسطل، فتح وحماس المشكلة في المنهج والتوجهات السياسية وليس في الخلاف على الأجهزة الأمنية، الوسط السياسي، 14-12-2007
5. د. سميح شبيب، الحوار وحركة حماس، جريدة الأيام الفلسطينية، 3-7-2009
6. جواد البشيتي، الأمير الشهيد عبداللطيف موسى، الحوار المتمدن، العدد 2740، محور العلمانية والدين 16-8-2009.
7. ميثاق حركة المقاومة الإسلامية حماس، الباب الثالث، استراتيجية الحركة، مادة 11، إصدار 18-8-1988.
8. عبد الناصر النجار، خطاب مشعل وفزاعة دايتون، جريدة الأيام الفلسطينية، 27-6-2009.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق