أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

فبراير 12، 2010

فلسطين بين الرواية التاريخية والرواية الدينية

الصراع على التاريخ

على أرض الرسالات السماوية إلى البشر، على أرض فلسطين: ولد الشعب العربي الفلسطيني، نما وتطور وأبدع وجوده الإنساني والوطني عبر علاقة عضوية لا انفصام فيها ولا انقطاع، بين الشعب والأرض والتاريخ، بالثبات الملحمي في المكان والزمان صاغ شعب فلسطين هويته الوطنية وارتقى بصموده في الدفاع عنها إلى مستوى المعجزة، فعلى الرغم مما أثاره سحر هذه الأرض القديمة وموقعها الحيوي على حدود التشابك بين القوى والحضارات من مطامح ومطامع وغزوات كانت تؤدي إلى حرمان شعبها من إمكانية تحقيق استقلاله السياسي، إلا أن ديمومة التصاق الشعب بالأرض هي التي منحت الأرض هويتها"




قبل التقديم :


كان الإله " بعـل " يأتي كل صباح قبيل خيوط الشمس فيهمس للندى أن ينثر رذاذه والقطرات لتلامس خد الزرع الأخضر على امتداد الروابي والسفوح ليسقيه سحراً وحباً، فيتفجر المكان جمالاً عبقرياً بزاهي الألوان وبشذى الرياحين، ويحيل الأرض إلى خصب ونماء ومواسم حصاد، وكان شعب كنعان يمشط حقول الحنطة في موطنها الأول ويسقيها من ماء عروقه ويروي الأقحوان والحنون ويصبغه بالأحمر القاني فـيبقيه ربيعاً دائماً، ليرتبط باسمه على طول الدهر في أول اقتران بين هذه الأرض المباركة مع أول شعب يستقر فوق روابيها والسهول .. اقتران لا انفصام فيه ولا انقطاع، فكنعان هو أول من حرث الأرض وقطف الثمار وابتكر أول البدايات وترك بصماته تحدد معالم النهايات ومنح المدن أسماءها وهويتها وطقوسها الخالدة، وصاغ ملحمته على ترابه الوطني الذي ما تخلى عنه يوماً ولا بخل عليه بالعرق والدماء .

فالكنعانيون إذاً هم أول من سكن فلسطين وبنوا فيها مدناً عديدة - من ضمنها أريحا التي تعتبر أول حاضرة عمرانية للإنسان الحديث - كما أنهم مع الفينيقيين أول من اخترع الأبجدية التي منها تولدت اللغات الأخرى وبفضلها انتقلت البشرية إلى مرحلة التأريخ والكتابة والتدوين، ولم يكن اشتغالهم بالزراعة دلالة الاستقرار فحسب بل كان تعبيراً عن مدى ارتباطهم بالأرض ونسج علاقة العشق والانتماء لها، ولتمنحها ملامحها الكنعانية العربية وإلى الأبد .

وبينما كانت فلسطين تمثل مناطق جذب والجزيرة العربية مناطق طرد بدأت آنذاك أفواج المهاجرين تندفع نحو الشمال ضمن ما سمي لاحقاً " الهجرات العربية السامية " وذلك في أوائل الألف الثالثة قبل الميلاد، فاستقر الأراميون والعمونيون في بادية الشام والفنيقيون على ساحل سوريا الغربي والكنعانيون في الأرض المنخفضة " فلسطين " ومنهم انحدر اليبوسيين الذين بنوا بيت المقدس وقد أسموها آنذاك أورشالم ، وكانت حينها حضارتا مصر والعراق أولى الحضارات الإنسانية ورائدتهما في طور الفتوة والبدايات تتجاذبان النفوذ على المنطقة، فاحتلت فلسطين ومنذ ذلك الوقت مكانتها المرموقة ومقامها العالي .

فكانت بفضل موقعها الحيوي مهبطاً للرسالات السماوية وملتقى للحضارات وهمزة وصل بين قارات العالم القديم ومحطة للقوافل ومسرحا للأحداث ... على رحاها تجري المعارك، وفوق أراضيها يتقرر مصير المنطقة، ومنها يعبر الغزاة بسنابك خيلهم إلى المناطق المجاورة، من يحكمها يحكم المنطقة بأسرها ويرسم ملامح الحقبة التاريخية، ومن يخرج منها يحال إلى أرشيف التاريخ، وبذلك توالت الغزوات وتعاقب الفاتحون وكان شعب فلسطين في كل مرة يقاوم الغزاة ويلفظ الاحتلالات ويبقي على وجه فلسطين نقيا من كل شائبة .. عربيا أصيلاً.

وفي القرن الثالث عشر قبل المسيح قدم إلى المنطقة " الفلسطيون " قادمين من بحر إيجة في ظروف غامضة يبحثون عن موطن ومستقر، فوجدوا الملاذ على ساحل فلسطين وسكنوا في خمس مدن رئيسة، ولأنهم لم يكونوا غزاة أو مجرد عابرين لم يلبثوا أن اندمجوا مع أهل البلاد الكنعانيين وبدون حروب، بل بكل سهولة ويسر وضمن فترة وجيزة، فتكلموا لغة واحدة وعبدوا نفس الإله ومارسوا ذات الطقوس ومنحوا فلسطين إسمها، وعليها نموا وتطوروا وأبدعوا وجودهم الإنساني والحضاري وحاكوا نسيج الأرض والتاريخ وتواصل وجودهم في كل الحقب والأزمان اللاحقة .. رسموا حدودها بدمائهم وصاغوا تراثها بزنودهم وجبلوا التراب بالعرق والدموع .

ولأن فلسطين أرض مباركة مقدسة فقد وردها جميع الأنبياء والرسل، يدعون إلى التوحيد والمساواة والعدل ويحثون على مكارم الأخلاق ويحملون رسالة السلام إلى كل بني البشر، وكان قدوم إبراهيم الخليل إلى فلسطين في ذات السياق، يحمل معنىً دينياً وروحياً وحسب فهو " أبو الأنبياء وصاحب الديانة الحنيفية السمحة " .

> سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حولـه لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير < الإسراء 1 صدق الله العظيم. تقـديم :

دأبت الحركة الصهيونية ومنذ نشأتها على تصوير الصراع العربي الصهيوني على أنه صراع ديني، مستندةً في حربها المعلنة على الأمة العربية بشكل عام والشعب الفلسطيني بشكل خاص على إدعاءات دينية تاريخية معينة وضعتها ضمن قوالب دينية غيبية تجد ما يدعمها في نصوص التوراة وتفسيراتها المغلوطة، وهي بهذا الطرح تحقق جملة من الفوائد دفعة واحدة: فهي أولا تصور الصراع بحيث يفهمه العالم على أنه صراع ديني طائفي كغيره من الصراعات الطائفية الإثنية التي تحدث في مختلف أنحاء العالم، والتي عادة ما تنتهي بتقاسم الأرض وتثبيت حدود سياسية بين الطوائف المتنازعة، ومن ناحية ثانية فإن المشروع الصهيوني سيتوقع أن يجد الدعم من العالم الغربي المسيحي، فضلا على أنها ستدخلنا في متاهة الجدل الديني والتاريخي أمام العالم بحيث تضيف مزيدا من الغموض والأكاذيب على حيثيات الرواية، وبالتالي ستزعزع ثقة العالم بعدالة قضيتنا، إذ أن العالم المتحضر بات يرفض فكرة الحرب الدينية وينبذها على الأقل على المستوى العلني، وبالتالي ستبدو إسرائيل بمظهر الضحية المغلوب على أمرها، أي دولة الأقلية اليهودية التي يتربص بها العالم الإسلامي ويريد أن يرميها في البحر، وبالطبع ستعيد للأذهان قصة الهولوكوست والمحرقة ومذابح النازية وتبتز العالم وتحصل على المزيد من الدعم والتأييد.

هذا الغلاف الديني / الغيبي الذي أحاطت به الحركة الصهيونية روايتها التاريخية - بالرغم من وهنه وزيـفه - كان ضرورياً بل وشرطا أساسيا لا يمكننا تصور نجاح هذا المشروع بدونه، فهو يوفر قوة دفع له ويشكل مثلاً أعلى للقيم المجتمعية الإسرائيلية تربى عليها الأجيال الجديدة بشكل خاص، وهاديا ومرشدا وناظما لعلاقاته الاجتماعية والسياسية، ومن خلاله يرى المجتمع الحالي صورته في الماضي السحيق ويعبر عن امتداده وتواصله التاريخي، وبالتالي فهـو رابط يجمع بين شتات اليهود في العالم ودافعا ومبررا للهجرة إلى ما أسـموها " أرض الميعاد " ومسوّغا تاريخيا لاحتلال أرض الغير وحجة يرفعها السياسيون لإقناع الرأي العام العالمي وأداةً تستخدم في المحافل الدولية كلما اقتضت الحاجة .

وفي المقابل سنجد أن بعض الأحزاب الإسلاموية تتلاقى مع هذا الطرح بشكل أو بآخر، وذلك انطلاقا من رؤيتها الأيديولوجية للصراع، إذ تعتبر أن الصراع العربي الصهيوني هو صراع ديني بين المسلمين واليهود... وتعتبر أيضاً أن التواجد الصهيوني على أرض فلسطين هو تجسيد لأحلام التوراة ومخططات كُهّانها منذ ألفي عام.

ولا شك أن إضفاء البعد الديني على الصراع سيؤدي إلى تثبيت الرواية الصهيونية بشأن تاريخ اليهود وعلاقتهم المزعومة بفلسطين وسيلغي البعد الإمبريالي للكيان الصهيوني وسيموِّه على حقيقة وطبيعة هذا الكيان وعلاقته بالمشروع الإمبريالي العالمي، مما يعني تقويض الأركان الحقيقية التي يقوم عليها الصراع وتفريغه من محتواه السياسي وتعطيل لكافة أدوات العمل العسكري والسياسي والدبلوماسي التي لا تنسجم مع هذه الرؤية، وهو أيضاً تهديد للوحدة الوطنية ونسيج المجتمع الاجتماعي لأنه طرح يستثني المسـيحيين وأحيانا أخـرى يعاديهم ويصنف المجتمع بين مسلم وكافر ويذكي فيه النزعة الطائفية / المذهبية، كما أن هذا الطرح يرفض التفريق بين اليهودية والصهيونية ويرفض اعتبار القضية الفلسطينية قضية وطنية أو قومية.

كما أن وضع الغرب كله في سلة واحدة سيؤدي إلى زيادة عدد الأعداء وتكتيل العالم ضدنا وانعدام إمكانية بناء تحالفات دولية، في حين أن عدم التمييز بين اليهودية والصهيونية سيؤدي إلى الفصل بين المشروع الإمبريالي المعادي للعرب وبين إسرائيل كقاعدة ارتكازية لهذا المشروع.

وهذا لا يعني بحال من الأحوال استثناء العالم الإسلامي من الصراع أو أن المسلمين غير مطالبين بالانخراط بشكل مباشر أو غير مباشر بالصراع ومد يد العون للفلسطينيين في معركتهم العادلة، أو أن المقدسات الإسلامية لا تعني المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، بل يعني أن من حق الفلسطينيين استنهاض القيم الدينية وروح التضحية وحث المسلمين وكل أحرار العالم على الكفاح ضد الصهيونية بصفتها حركة عنصرية معادية للإنسانية وتنتهك حقوق الإنسان وتعتدي على المقدسات الدينية، لأن تحرير فلسطين هو واجب ديني وقومي وإنساني .

وبالرغم من أن الكفاح المسلح كان هو النهج السائد للثورة الفلسطينية وقد ظل محورا من محاور الفكر السياسي الفلسطيني، إلا أن ممارسته كانت أخلاقية تستهدف إحداث التغييرات السياسية على الأرض التي من شأنها تحقيق الأهداف الوطنية العليا للشعب الفلسطيني، ولم يكن قتالا طائفيا في يوم من الأيام، ومن هذا المنطلق فقد جرى التعامل مع مصير اليهود المقيمين في فلسطين بروح إنسانية تقدمية ديمقراطية، كجزء من تصورها للحل النهائي للقضية الفلسطينية، وذلك من خلال حل الدولة الديمقراطية على كامل أرض فلسطين التي يتعايش فيها الكل بروح المواطنة وتحت القانون ودون تمييز.

هذا الحل الإنساني العادل الذي يطرحه الفلسطينيين ويتعالون فيه على جراحهم وآلامهم التي ابتدأت مع المشروع الصهيوني ولم تتوقف لحظة واحدة، لا تجد له مثيل في الفكر السياسي لدى حركات التحرر في العالم سوى في أدبيات حزب المؤتمر الوطني لجنوب إفريقيا، وتجد مقابل هذا الحل برنامجا إسرائيليا ينطوي على أعمال التشريد والإبادة الجماعية التي تصل أحيانا إلى مستوى التطهير العرقي وكذلك الاستيلاء على أراضي الغير والاعتقال والحصار والتجويع، والذي يمثل جوهر الفكر السياسي للحركة الصهيونية الذي يتسم بالشوفينية والاستعلاء والعنصرية، والذي لا يرى أي إمكانية لنجاح مشروعه إلا بتصفية نقيضه المركزي المتمثل بالوجود الفلسطيني.

ومن الطبيعي أن الرواية التوارتية للتاريخ ستعني بالضرورة نفي الطرف الآخر ومصادرة حقه بالوجود بل وإنكار وجوده أساساً، وفي الحالات التي تضطر فيها إلى الاعتراف بهم فهم مجرد سكان محليين غير جديرين بالحياة وهم عبارة عن برابرة وبدائيون ومتخلفون وبالتالي لا يجب أن تؤخذ مطالبهم على محمل الجد .

التاريخ كخلفية للصراع

تعد جبهة التاريخ واحدة من أشد الجبهات خطورة وأكثرها سخونة من بين جبهات الصراع العربي الصهيوني، وقد أدركت الحركة الصهيونية هذه الحقيقة منذ أن كانت مجرد حلم يعشعش في رؤوس مؤسسيها أواخر القرن التاسع عشر، وأدركت أن الصراع حول تفسير الماضي والإدعاء بامتلاكه إنما هو صراع من أجل الهيمنة والسيطرة على الحاضر، وبالتالي فإن إعادة قراءة التاريخ ليست مجرد إعادة بناء نزيهة للماضي أو عبارة عن جدال أكاديمي بين مثقفين حول مفاهيم تاريخية معينة، بل هو في صميمه ما يكتبه المنتصرون وحسب، وكما جرت العادة لدى كل الغزاة فقد جرى توظيف التاريخ لخدمة الأهداف السياسية التي تسعى لتحقيقها، وهنا أي في إعادة صياغة تاريخ فلسطين، لم يكن مجرد توظيف للتاريخ فحسب بل ابـتداع لتاريخ جديد بكل معنى الكلمة.

ومع صعود الحركات القومية بعد الثورة الصناعية في أوروبا وبداية العصر الكولونيالي الإستعماري ومحاولة القوى المهيمنة فرض تصورها الخاص بها للنظام العالمي الجديد، حاولت كل حركة من هذه الحركات أن تجد لنفسها التبرير والتأييد لإعادة كتابة التاريخ وفق رؤيتها الخاصة وبالشكل الذي يكسبها الشرعية ويدعم مزاعمها، فإذا كانت أوروبا الاستعمارية توفد المبشرين إلى المناطق الجديدة قبل أن ترسل الجيوش لتهيئ سكانها الأصليين لتقبل الفاتحين الجدد، فإن ما حدث مع فلسطين أمر مختلف تماما .. أي إعادة نبش الماضي وكتابته من جديد بما يدعم فكرة احتلالها واقتلاع شعبها من التاريخ قبل اقتلاعهم من الجغرافيا.

ولعـل أكبر كذبتين عرفتهما الإنسانية ليس في هذا السياق فحسب بل عبر تاريخها الطويل، كانتا وليس من قبيل الصدفة على أيدي أحبار اليهود وغلاة الحركة الصهيونية، ويتعـلقان بالطبع بما سيعرف لاحقاً بالمسألة اليهودية وبالتاريخ اليهودي نفسه.

كانت المرة الأولى عندما ابتدع الأحبار العائدين من السبي البابلي قصة أصول اليهود ووحدة الشعب اليهودي وربطها بشخصيات اعتبارية مثل " النبي إبراهيم ويعقوب وموسى وغيرهما " ومن ثم إدماج هذه القصة في سياق التاريخ القديم لمنطقة الشرق الأدنى، أما المرة الثانية فكانت عندما اختلق دعاة الحركة الصهيونية في أواخر القرن التاسع عشر ما سمي حينها " بالمسألة اليهودية واضطهاد اليهود " بحيث يكون الحل متمثلاً بالعودة إلى " أرض الميعاد " كمقدمة لخلق الكيان الإسرائيلي لاحقاً .

ومن اللافت للنظر أنه في المرتين قد صدق العالم تلك الكذبتين، بل وأن أول من صدق هذه القصة وروّج لها أولئك الذين يصنفون أنفسهم بأنهم أكثر الناس عداوةً لليهود ولا يخفون نيتهم في إبادتهم عن بكرة أبيهم .

ليس هذا وحسب فالمناهج المدرسية في معظم الدول الإسلامية أيضا تربي الأجيال الطالعة على فهم التاريخ اليهودي كما تصوره خرافات التوراة قبل ألفين وخمسمائة سنة وكما تشتهي قلوب غلاة الحركة الصهيونية: على أنه تاريخ متصل لشعب متميز يحمل خصائص معينة ويجد مبرراته في كل حقبة من حقب تاريخ هذه المنطقة وبالتالي فهو يضرب جذوره عميقا في تراب هذا الوطن .

وهذه المناهج لم تأتي من فراغ ولم يكتبها لنا أحبار اليهود، بل كتبها مؤرخون عرب ومسلمين، فهموا تاريخ المنطقة استنادا للرواية الدينية التي تناقلتها الأجيال كقصة مؤكدة لا تحتاج إثبات ولا تعوزها مراجعة، ومن أجل ديمومة هذه القصة وحتى لا يأتي من يشكك بها، فقد حرصت الحركة الصهيونية على إحاطتها بجدار إيماني سميك يأخذ السمات الغيبية ويستمد قوته من الكتب المقدسة ويحارب بكل ضراوة كل محاولات اختراق هذا الجدار، أو إخضاع هذا التاريخ للدراسات النقدية العلمية .

وهكذا مع مرور الزمن وغياب البديل العقلي والموضوعي تمكنت الرؤية الصهيونية للتاريخ من فرض نفسها على الأوساط الأكاديمية وهيمنت بالتالي على معظم الدراسات والنظريات التاريخية، حتى غدت وللأسف ومن صلب الخطاب الديني سواء الإسلامي أم المسيحي، وليس من قبيل المبالغة القول بأن الخطاب الديني قد شكل الغلاف الصلب الذي وفر على الدوام الحماية الكافية لهذه القصة من التهاوي والانهيار أمام حقائق العلم، وهو الذي حال دون اختراق الجدار التي طالما اختبأت خلفه.

فدخول المفاهيم اليهودية في صميم البنى الإيمانية للإسلام والمسيحية على حد سواء أصبح الخط الدفاعي الأمامي لجبهة القتال اليهودية، وهكذا صار رجال الدين مسلمين ومسيحيين هم المدافعين بحماس عن الرواية اليهودية، والمسوقين لقصة التاريخ اليهودي في المنطقة، مع يقيننا بأن ذلك كان يتم عن غير قصد وبصورة غير مباشرة، إلا أنه في النهاية قد ساعد دعاة الحركة الصهيونية في تثبيت تصورهم لتاريخ المنطقة، وهيأ الأجيال على تقبلها كحقيقة دينية، وليس هذا فحسب فقد أصبح عمل الباحثين والأكاديميين مجرد نقل لنصوص التوراة واستخدامها كمرجع علمي لتأريخ المنطقة، ومع علمهم بأن هذه النصوص يشوبها الكثير من الظنون والمبالغات إلا أنهم كانوا يفرضونها على المناهج التعليمية كمسلمات .

ومن منطلق إدراك الحركة الصهيونية لخطورة علم الآثار والتنقيبات الأركيولوجية وقدرته على زعزعة المنهج التوراتي الأسطوري بل وهدم الرواية من أساسها، فقد جرت المحاولات للإلتفاف حول هذا العلم وتطويعه لدعم وجهات النظر اليهودية من خلال السيطرة على مراكز الأبحاث والدراسات في الغرب وكذلك السيطرة على صناعة الإعلام ومراكز صنع القرار من أجل تشـويه صورة أي باحث يتوصل لحقائق تاريخية لا تروق لهم، ومن ثم الاسـتغلال البشـع لكذبة " معاداة السامية " كما فعلت على سبيل المثال مع المفكر روجيه جارودي مؤلف كتاب "الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية" حين نجحت بتقديمه للمحاكمة بتهمة النيل من الجنس اليهودي عام 1995، وذات الشيء حدث مع العالم البروفيسور توماس طومسون عالم الآثار في جامعة ماركويت الأمريكية الذي طرد من الجامعة عام 1992 بسبب آرائه المعارضة للرواية التوراتية، حيث أوضح في كتابه " التاريخ المبكر للشعب الإسرائيلي من الكتابة والتنقيبات الآثارية " : أن مجمل التاريخ اليهودي يستند إلى قصص من صنع الخيال، وأخيرا وليس آخرا فقد تمكنت الدوائر الصهيونية في فرنسا من استصدار قانون جيسو عام 1990 والذي يعتبر أن إعادة النظر في تاريخ اليهود يعد بمثابة جريمة ضد الإنسانية !!!! .

وقد أوضح هؤلاء العلماء بأن العوامل السياسية هي التي لعبت دورا حاسما في إعادة بناء الماضي المتخيل لإسرائيل القديمة، كما أكدوا على تورط الدراسات التوراتية اللاهوتية في عملية كتابة التاريخ وتزويره منذ القدم، وأنها هي التي اختلقت جغرافيتها الخاصة وقصتها الخاصة وذلك في سياق محاولتها بناء رواية معينة للماضي، هذه الرواية بالطبع متأثرة بالعامل السياسي الذي حدد دوافعها بدايةً وشكلت بالتالي نظرة المؤرخ للماضي والحاضر.

وحاجة المؤرخين التوراتيين في البحث عن " إسرائيل القديمة " ومن ثم تأكيد وجودها هو اعتبارها منبع الحضارة الغربية ومعينها الديني، ذلك كاستجابة لمطلب اللاهوت المسيحي اليميني المتطرف في سياق بحثه عن جذور خصوصيته في المجتمع الذي أنتج التوراة العبرية نفسها، وقد تعزز هذا الاتجاه مع تأسيس دولة إسرائيل الحديثة مما ولد حاجتها في البحث عن هويتها الوطنية في الماضي السحيق، واليوم مع صعود محافظين جدد من اليمين المسيحي سدة الرئاسة الأمريكية من مدرسة بوش – تشيني – رامسفيلد والتي هي امتداد لمدرسة ريغان فقد تعززت روابط إضافية غير تلك السياسية الاقتصادية الأمنية التقليدية التي طالما ربطت إسرائيل بأمريكا.

وقد أدرك المشروع الإمبريالي الإستيطاني الإسرائيلي ومنذ البدايات الأولى أهمية البعد التاريخي لإنجاح هذا المشروع، فتضمنت المادة 21 من صك الإنتداب البريطاني إصدار " قانون الآثار " وما أن استلم المندوب السامي هربرت صموئيل " اليهودي الصهيوني " مهامه في فلسطين حتى شرع بتوفير التسهيلات اللازمة لعمليات التنقيب على أمل أن يجد ما يدعم مزاعم الحركة الصهيونية أو يسد الثغرات الفاضحة في الرواية اليهودية أو يجد ما يشير إلى صلة ما واستمرارية تاريخية بين مملكة إسرائيل القديمة إبان مطلع العصر الحديدي وبين دولة إسرائيل الحديثة، وكذلك فقد سارعت إسرائيل وخلال شهرين من تأسيسها إلى إنشاء دائرة الآثار الإسرائيلية بهدف فرض الرقابة على عمليات التنقيب .

لا شك أن هذه القراءة السياسية للتاريخ وحتى يكتب لها النجاح لا بد لها من مصادرة تاريخ الطرف الآخر أي بعبارة أخرى " تزييف الحقائق التاريخية "، وقد تولى فريق من المنقبين وعلماء التاريخ مهمة كتابة التاريخ وفق الرؤية الصهيونية وهم يمثلون العلماء التوراتيون الذين يستندون فقط إلى التوراة ويتعاملون معها كمصدر تاريخي، وبالتالي سيعمدون إلى تحليل البيانات الأركيولوجية بما يتناسب مع الأحكام المسبقة التي يريدونها، أي ليّ ذراع الحقيقة بأدوات علمية زائفة، ومن هنا فقد اختلق هؤلاء الباحثون التوراتيون كيانا يدعى " إسرائيل القديمة " وصوروها على أنها كانت إمبراطورية في حين أنها لم تكن أكثر من ضرب من الخيال تجد له دوافع سياسية واضحة في الوقت الحاضر .

وعليه فإن الأخذ بآراء مثل هؤلاء الباحثين دون تدقيق وتمحيص هو تسليم بظلامية التاريخ ودكتاتورية الأفكار الغيبية التي عادة ما تطمس الحقائق وتثقل العقل بالنقل بل وتلغيه تماما وتجعله عاجزا عن التفكير وتفسير ديناميكية الأشياء، فالتناقض في تسلسل الأحداث ووجود كثير من الشخوص التوراتية جعل الكثيرون يتخبطون في مغالطات وتبريرات تخرجهم عن سمات البحث العلمي وتزج بهم في دائرة التبرير الضيقة، وبالتالي سيدورون حول الحقيقة بدلا من رؤيتها، وسيختبئون وراء تسعة وثلاثين سفراً من " الكتاب المقدس " حتى لا يروا أمامهم إلا الوهم والخيال .

فالتاريخ لا يُفهم بالعقلية الغيبية التي لا تعرف سوى حفظ النصوص وترديدها ونقل الأخبار والمرويات وتوريثها من جيل إلى آخر دون أن تكلف نفسها عناء التفكير الجدي بها، بل هو عملية تدوين أمينة لحركة المجتمعات والشعوب في صراعها وتصالحها ونموها وتطورها كانعكاس للتناقضات الموضوعية والتفاعلات التي تعصف بها، وتعبيرا عن نضوج عواملها الذاتية التي تنقلها من مرحلة إلى أخرى، أي أن عملية التأريخ لم تكن في يوم من الأيام عبارة عن سرد حكاية بطل أسطوري معين أو مجرد إسقاطات فكرية جاهزة وفقا لأحكام مسبقة .

وقد توهم هؤلاء الصهاينة أنه بمجرد إعادة رسم الخرائط وإطلاق الأسماء التوراتية على الأماكن سيعطيهم ذلك الحق بملكيتها، واليوم نرى بوضوح كيف أن الإسرائيليين يحاولون إضفاء شرعية دينية تاريخية لإحتلالهم فلسطين، وذلك عن طريق تغيير أسماء القرى العربية وإعطائها أسماء توراتية في محاولة مكشوفة لإثبات أن لهم حق تاريخي بها، ولكن الحقيقة التي يجهلها الكثير أن هذه الأسماء هي أصلا أسماء فلسطينية كنعانية كانت سائدة قبل وأثناء وبعد الوجود الإسرائيلي في فلسطين القديمة .

وإذا كانت خرافات وأوهام الرواية اليهودية قد انطلت على الكثيرين ولمدة طويلة، حين كان المؤرخون يستمدون معلوماتهم من قصص التوراة التي كان تدوينها لا يعتمد المنهج العلمي في التدقيق والتمحيص وتقصي الحقائق كما هو شأن علم التاريخ الحديث، بل اعتمد الأخبار المنقولة والقصص المتداولة والمشاهدات الشخصية العابرة التي تتداخل فيها الأهواء الشخصية للمؤلفين والرواة، فإن التنقيبات الاركيولوجية التي تلت حملة نابليون على الشرق وما نتج عنها من فك رموز الكتابات الشرقية القديمة قد نقلتنا مباشرة إلى العصور الموغلة في القدم لنفهم التاريخ كما هو بالضبط لا كما يصوره خيال الحالمين، ولتمدنا بحقائق لا يرقى إليها الشك ولتتضح تلك الصورة الغامضة والمشوهة التي طالما دأبت الحركة الصهيونية على ترسيخها في الذاكرة البشرية وعملت على إحاطتها بهالة من القداسة والسحر ليصعب على العالم فهم الحقيقة التاريخية المجردة عن تاريخ بني إسرائيل.

والآن بعد أكثر من قرنين من عمليات التنقيب والجمع والتحليل التي بذلها علماء كبار في علوم التاريخ والآثار واللغات القديمة وبشكل خاص في تفسير الوثائق التاريخية التي دونتها تلك الشعوب التي صنعت أحداث وتاريخ المنطقة، تكون قد تكونت لدينا صورة واضحة عن تاريخ المنطقة التي يدعي اليهود أن لهم أصول فيها، وعليه فقد بدأت تتهاوى شيئا فشيئا تلك الإدعاءات الكاذبة عن وحدة الشعب اليهودي وأصوله وتاريخه المتسلسل ونقاء عرقه وحقوقه الدينية والقومية ....

وسيتضح لنا عبر هذه الدراسة المختصرة بصورة جلية أن الديانة اليهودية قد نشأت إبان السبي البابلي وليس في زمن موسى وأن تاريخ هذه الطائفة قد بدأ للمرة الأولى في التاريخ فقط بعد عودة المسبيين من بابل في زمن كورش الفارسي وليس قبل ذلك بأي حال، وأن قصة وجود بني إسرائيل على أرض مصر 430 سنة ما هي إلا أخيولة تجاهلتها حتى التوراة نفسها ولم تفلح بسرد حكاية واحدة صحيحة عنها، وأن أسطورة الخروج لم تجد أي سند تاريخي مادي يدعمها من خارج التوراة، وأن المملكة الموحدة أي مملكة داوود وسليمان لم تكن موجودة في يوم من الأيام على أرض فلسطين، وأن جميع الأنبياء والشخصيات التاريخية بدء ًمن إبراهيم مرورا بإسحاق ويعقوب ويوسف وسليمان وداوود وانتهاءً بموسى نفسه ليس لهم أي علاقة بالتاريخ اليهودي، بل أن مملكتي يهوذا وإسرائيل التي تدعي الحركة الصهيونية أنهما جزء من التاريخ اليهودي لم تشكلان يوما قوة سياسية يعتد بها ولم تقدما إسهاما حضاريا يمكن وصفه بالإسهام الإسرائيلي المتميز بخصائص واضحة، بل كان وجودهما طيلة تاريخهما القصير كجزء من التاريخ الكنعاني، وقد انتهتا تماما وصارتا إرثا وملكا للذاكرة الإنسانية جمعاء وذلك بعد تدميرهما وسبي سكانهما تباعا على يد سرجون الثاني الأشوري ونبوخذ نصر البابلي في النصف الأول من القـرن الخامس قبل الميلاد .

وسنعرف كيف أن الوجود السياسي للإسرائيليين على أرض كنعان لم يزد عن كونه خيطا رفيعا في نسيج التاريخ الفلسطيني الغني وهو لم يدم أكثر من ثلاثة قرون ونصف القرن، في حين أن تاريخ كنعان يضرب في مطالع التاريخ إبان الألف الرابع قبل الميلاد، ومأثرة الإسرائيليين الثقافية الوحيدة كانت هي التوراة التي بدأ أحبار اليهود بتحريرها نقلا عن وثائق متفرقة وروايات متناقلة بدئوا بها في فترة السبي البابلي وأنهـوا عملهم بعد العودة من السبي بأمر من الحاكم الفارسي نفسه ولأغراض سياسية استعمارية، وهذه المأثرة الوحيدة هي في الواقع ظاهرة ثقافية لا يمكن فهمها ودراستها إلا في السياق العام للحضارة الكنعانية إجمالاً واعتبارها انجازا من انجازاتها تم على يد فئة لم تكن أكثر من فئة كنعانية بالمعنى الثقافي والعرقي.

واللغة العبرية ذاتها لم تكن سوى لهجة آرامية أدخلت إليها مفردات من اللغات الأخرى ولم تصبح لغة مكتوبة أو محكية إلا في فترة المكابيين في القرن الثاني ق.م ، وأول نص عبري تم اكتشافه هو وثائق قمران قرب البحر الميت والتي تعود للقرن الثاني ق.م، ولم يعثر على أي نص عبري قبل هذا التاريخ، وقد جرى تطوير هذه اللغة في القرن الرابع ق.م ولكنها لم تصبح لغة كاملة إلا بعد القرن السادس الميلادي، وقد ظلت لغة دينية حكرا على رجال الدين وتستعمل في الصلوات والطقوس الدينية فقط حتى جرى إنعاشها وبعث الحياة فيها من جديد في القرن العشرين .

إذاً فقد نشأت اليهودية كطائفة دينية حين جاء الفرس على أنقاض الدولة البابلية وأعادوا المسبيين إلى أورشالم وبنوا لهم معبداً وجعلوا منهم كيانا سياسيا هو في حقيقته أداة ورأس حربة لحراسة حدود الإمبراطورية الفارسية ولتنفيذ سياستها بأدوات محلية، وقد وظف هذا الكيان نفسه كليا لخدمة الحاكم الجديد إلى درجة اعتبرت التوراة أن كورش الفارسي هو المسيح المنتظر، ولما قضى اليونان على الدولة الفارسية أصبح هذا الكيان فيلقا متقدما في الجيش اليوناني، بل أن المكابيين الذين يفتخر بهم اليهود على أساس أنهم أنشئوا دولة يهودية في القرن الثاني قبل الميلاد لم يكونوا سوى ممثلين لليونان ثم للرومان في فلسطين .

وللوصول إلى الحقيقة التاريخية لا بد لنا أن نتناول تاريخ فلسطين القديم كموضوع مستقل وقائم بذاته ومتحرر من سطوة الدراسات التوراتية، وليس كخلفية لتاريخ هذه الفئة التي لم تمثل أكثر من لحظة عابرة من التاريخ الطويل لفلسطين القديمة ، والتي مر عليها عشرات الأقوام والشعوب والغزاة والطامعين، كان لبعضهم آثارا أكثر وضوحا وأهمية من آثار الوجود الإسرائيلي، أي بعبارة أخرى ليس من العدالة ولا من الموضوعية استمرار النهج التوراتي / الغربي في قراءة تاريخ هذه المنطقة واستمرار تلك الدراسات التي أسكتت التاريخ الفلسطيني القديم ومنعته من التعبير عن نفسه بل وشوهته وصادرته .

وكتابة التاريخ الفلسطيني من منظار فلسطيني ستؤدي إلى تقويض دعامة أساسية من دعائم الصهيونية وهي إدعاء امتلاك التاريخ القديم، وتفنيد مزاعمها وادعاءاتها الباطلة بحق احتلال الغير، وهي أيضا تعني إعادة الاعتبار لجزء مهم وأساسي من التاريخ العربي القديم.

كما أن رد الاعتبار للتاريخ الفلسطيني من شأنه أن يقوض الركائز الأساسية التي تقوم عليها الدعاية الصهيونية، وبالتالي ستحرمها من استغلال البعدين التاريخي والديني " اللذان يمثلان دعامتا المشروع الصهيوني " والتي لولاهما لبقي المشروع الصهيوني يزحف على بطنه، فضلاً على أن وضوح رؤية التاريخ الفلسطيني ستؤدي إلى إنشاء أرضية صلبة تبنى عليها الحقائق التاريخية لتكون منصة انطلاق للمطالبة بالحقوق الثابتة للشعب الفلسطيني، فمن دون فهمنا لتاريخنا ومن دون إيماننا بعدالة قضيتنا لن نتمكن من إيصال رسالتنا للعالم ولن ننتصر في معركتنا الحضارية على الرغم من نزاهتها وعدالة مطالبها .

هذه القراءة التاريخية لا تعني بالضرورة نفي التاريخ اليهودي ومصادرة حق أي كان بإتباع هذه الديانة، ولا ينبغي لها أن تكون كذلك، إذ أنها ليست مجرد رؤية طائفية ضيقة ولا هي فلسفة فقهية / مذهبية ولم يكن الهدف منها بأي حال وضع مقارنة من أي نوع بين الديانات السماوية، ولا تعني أيضاً مصادرة الحق الطبيعي لأي كان بالحق بالعيش بحرية وكرامة، بل هي محاولة لتصحيح الفهم الخاطئ للتاريخ التي ارتكزت عليه الحركة الصهيونية في إقامة دعاويها، وتفنيد لكل مزاعمها بإيجاد الصلة التاريخية بين دولة إسرائيل الحالية وبين التاريخ القديم للمنطقة، وبين التجمع البشري الذي يحكم إسرائيل وبين المؤمنين الذي اتبعوا الأنبياء من إبراهيم إلى موسى ومن بعده، لتتضح الصورة ونعلن بعدها بكل ثقة :

أن التجمع البشري الذي يسكن ويحكم ويشكل دولة إسرائيل حاليا لا صلة له بما عرف تاريخيا بالموسويين، وإن كل إدعاءاتهم بالحق التاريخي إنما هي باطلة، وهم مجرد أداة استعمارية وجدت ونمت على هامش المشروع الإمبريالي / الكولونيالي العالمي ليكونوا رأس حربة له وموقع متقدم يحمي مصالحه وينفذ سياساته ويؤدي دوره الوظيفي كما رسم له بالضبط، وقد تم تغليف هذا المشروع بمزاعم دينية/ تاريخية واهية، ولذلك ومن منطلق وعينا بحقوقنا الطبيعية والتاريخية وقناعتنا بزيف وبطلان المزاعم الصهيونية فإننا نرى نهاية هذا المشروع وانهياره الحتمي، تماما كما انهارت كل التجمعات المصطنعة والدول الكرتونية في التاريخ، لأنه ببساطة في النهاية لا يصح إلا الصحيح.


الرواية اليهودية لتاريخ المنطقة

ترتكز فلسفة الحركة الصهيونية على مجموعة من الشعارات والأساطير شكلت منها صلب خطابها السياسي وبنيتها الفكرية، ومن أهمها أسطورة أرض الميعاد وشعب الله المختار وشعار أرض بلا شعب لشعب بلا أرض، والإدعاء بنقاء الجنس اليهودي وتفوقه وتسلسل تاريخه عبر حقب تاريخية متصلة، وتستمد هذه الشعارات قوتها من فكرة المملكة الموحدة وإسرائيل القديمة والأصول النبيلة لليهود التي ترجعها نصوص التوراة إلى إبراهيم فيما تحاول نصوص أخرى ربطها بطوفان نوح وقصة الخليقة.

وتعتمد الرواية الدينية لتاريخ فلسطين - التي ستصوره على أنه تاريخ لليهود - على أسفار التوراة الخمسة وهي التكوين والخروج ويوشع وصموئيل وسفر الملوك، فنجد بداية أن سفر التكوين قد حاول محرروه إيجاد صلة ما بين من تم سبيهم إلى بابل من رعايا مملكة إسرائيل وبين النبي " إبراهيم " وبنيه " إسحاق ويعقوب " بغية ربط هؤلاء المسبيين مع تلك الشخصيات المرموقة في التاريخ القديم، والالتفاف على حقيقة أصولهم المتعددة والمجهولة ومن تثبيت أسطورة أرض الميعاد على لسانهم على الرغم من ألف وثلاثمائة عام تفصل فيما بينهم، فعصر الآباء الذي تزعم التوراة أنه العصرالذي شهد إرهاصات تأسيس اليهودية هو حقبة تاريخية مستقلة ومنفصلة عن تلك الحقبة التي ظهر فيها النبي موسى وبينهما ثلاثة عشر قرنا من الزمان .

ومع أن الرأي السائد ينظر إلى عصر البرونز الوسيط ( 1950 ~ 1550 ق.م ) كمسرح لأحداث عصر الآباء، إلا أن النص التوراتي لا يزودنا بأي مفاتيح لحل رموز تلك الحقبة التاريخية، ويعجز عن تقديم دليل مقنع يربط بين هذا العصر وعصر كتابة التوراة في القرن الخامس ق.م، فنجد أن سفر التكوين يختزل التاريخ بمسائل عائلية قبلية بحتة معلقة في الفضاء لا تمت للواقع التاريخي بصلة ولا نجد فيها تقاطعات مع شخصيات ذلك العصر أو صدى لأحداث كبرى معروفة كانت قد حدثت في تلك الحقبة.

ثم يأتي بعد ذلك سفر الخروج الذي يحكي أسطورة العبودية في مصر وخروج بني إسرائيل منها، وتمثل هنا قصة يوسف نقطة الاتصال بين عصر الآباء وعصر العبودية، وقد تم التقاط هذه القصة بعناية من قبل المحرر التوراتي بكل براعة من أجل إغلاق عصر الآباء وافتتاح عصر العبودية الذي مهد لملحمة الخروج .

بعد اكتمال حقبة تاريخية كاملة دامت قرابة الأربعة قرون ولد النبي موسى بن عمران ( 1350 ق.م ) ومع أنه مصري فقد أبرزته نصوص التوراة ( العهد القديم ) على أنه أحد أحفاد يعقوب ومن عشيرة اللاوي العبرانية الأصل التي استوطنت مصر طوال هذه القرون، وقائدا أخرج بني إسرائيل من مصر وأعطاهم شريعة أودعها التوراة .

وما يثير الاستغراب هنا أن سفر الخروج يصمت صمتا مطبقا عن تلك الفترة الممتدة بين وفاة يوسف وميلاد موسى والمسماة فترة العبودية والتي يفترض أنها امتدت أربع مائة وثلاثين عاما حسب سفر الخروج، ولا نجد أيضا أي ذكر لما كان يفعله هؤلاء الإسرائيليون قبل العبودية، ومن هم شخصيات تلك الحقبة، وكيف لهؤلاء الأجراء المسخرين أن يخرجوا من مصر ومعهم أغناما ومواشي كثيرة !

كما أن المصادر المصرية لا تذكر شيئا عن وجود إسرائيليين في مصر ولا عن خروجهم ولا التوراة أيضاً أوردت ما يفيد عن الأوضاع في مصر والأحداث التي جرت آنذاك بحيث يمكن مقاطعتها مع ما نعرفه تاريخيا عن تلك الحقبة التاريخية.

ومن المعروف أن الزمن المفترض للخروج هو نفس الزمن ألذي شهد أوج قوة الأسرتين الثامنة عشر والتاسعة عشر بما يعني أن قصة الخروج بالصيغة المذكورة استحالة مطلقة، حيث كانت جميع بلاد الشام تحت القبضة الحديدية للفراعنة الذين ضاقوا ذرعا بالتمردات التي كانت تحدث بين فترة وأخرى هناك، ثم كيف غفل المصريين عن ذكر حدث بهذه الضخامة وهم الذين كتبوا على مسلاتهم جميع انتصاراتهم وحروبهم الكبيرة والصغيرة !!

الهدف من قصة الخروج هو اختلاق نقطة مفصلية في التاريخ اليهودي بمسحة درامية مع محاولة إضفاء شيء من القداسة عليها وتصوير حادثة الخروج كانبعاث لشعب إسرائيل وكسره لقيود العبودية، وحقيقة الأمر فإن الاندماج الذي حصل بين ذرية يعقوب والمجتمع المصري سواء في زمن الهكسوس أم في زمن الفراعنة قد قطع كل صلة ممكنة لهم دينية أم تاريخية مع فلسطين ، وجعل منهم جزء من النسيج الاجتماعي المصري، أما بخصوص الخروج فالرأي المرجح المبني على حقائق مادية هو أن هؤلاء الموسويين هم فصيل من الجيش المصري لهم دور خاص هو الاستيطان على الحدود الشرقية لقمع حركات التمرد دائمة الوقوع في بلاد الشام .

أما الأسطورة الكبرى في الرواية اليهودية فهي محاولة احتكار النبي موسى والإدعاء بأنه مؤسس الديانة اليهودية، وحقيقة الموسويين "نسبة إلى موسى" أنهم لم يكونوا شعبا مستقلا بذاته بدليل عدم وجود أية آثار تاريخية خاصة بهم، وكل الدلائل تشير أنهم كانوا مصريين بالانتماء والهوى والسياسة، وأحيانا جنودا للفراعنة، وليس هناك ما يدعونا للقول بأن الذين اتبعوا موسى في دعوته ليسوا مصريين، بل هم كذلك قلبا وقالبا، يضاف إليهم العبيد والأحباش وبقايا الهكسوس وكل المستضعفين من شتى الأصول والأعراق وهؤلاء لم يشكلوا أمة أو شعبا أو ثقافة خاصة بهم ولم ينسلخوا عن مجتمعهم الأم في مصر، وليس لهم أي علاقة تاريخية أو إثنية أو ثقافية بما يدعونه من ديانة يهودية نشأت بعدهم بقرون عديدة في بيئة مختلفة تماما ومكان لم يروه أبدا .

أما إطلاق تسمية العبرانيين على الموسويين فهي باطلة ولا تنسجم مع المنطق، فبما أن اللغة العبرية ولدت في القرن الثاني ق.م وأقدم نص كتب في العبرانية يعود للقرن الأول ق.م وأن العبرية لم تنضج كلغة إلا في القرن السادس للميلاد فكيف نطلق تسمية عبرانيين نسبة للغة العبرية على الموسويين الذين عاشوا وماتوا قبل ميلاد هذه اللغة بألف سنة !! إلا إذا كانت قراءة التاريخ تتم بأثر رجعي!

ثم تأتي أسطورة اقتحام أرض كنعان كما وردت في سفر يشوع كما يلي : بعد وفاة موسى خلفه يوشع بن نون فواصل المسير بقومه باتجاه الشرق فعبروا وادي عربة وتقاتلوا مع الأدوميين ثم مع سيمون ملك العموريين ومع عوج ملك أرض حوران ثم احتلوا أريحا عام ( 1186 ق.م ) وقتلوا أهلها ثم توجهوا إلى القدس ولكن اليبوسيين دافعوا عنها ببسالة، ومن بعد موت يشوع تولى القيادة أربعة عشر قاضيا عرف عهدهم بعهد القضاة واستمر حتى العام 1020 ق.م وقد استمرت المعارك مع أهل البلاد حتى تمكن الفلسطينيون من هزيمتهم عندما قتل طالوت شاؤول عام ( 1004 ق.م ) فتولى القيادة من بعده الملك داوود الذي تمكن من تسجيل انتصارات عديدة على الفلسطينيين واتخذ من حبرون مقراً لحكمه حتى العام ( 1000 ق.م ) حينما تمكن من احتلال القدس وجعلها عاصمة لمملكته ..

ويلخص عالم الآثار فرانكن في موسوعة كامبرج للتاريخ القديم الموقف بخصوص الفترة المفترضة للفتح الإسرائيلي والاستيلاء على كنعان على النحو التالي :

إذا وضعنا التوراة جانبا فإن علم الآثار ينفي قطعيا بأن القرن الثالث عشر قبل الميلاد قد شهد تشكل شعب جديد في فلسطين وانه اتخذ وضع الأمة مع حلول القرن الحادي عشر قبل الميلاد، وانه لمن المتعذر على التقنيات الأركيولوجية الحالية تلمس أية آثار تدل على وصول عناصر إثـنية جديدة إلى أي موقع في فلسطين في تلك الحقبة من التاريخ.

والادعاء بتدمير أريحا في نهاية لقرن الثالث عشر ق.م على يد يوشع لا يقوم على أرضية صلبة، فعلم الآثار يبرهن على أن المدينة كانت قد دمرت نحو 1550 ق.م ثم هجرت بعد ذلك ولا توجد آثار تنتمي للفترة المفترضة للاقتحام ، أي أن الرواية تتحدث عن هجوم على مدينة كانت قد دمرت قبل ذلك بنحو خمسمائة سنة .

والرواية اليهودية تعتبر أن كلا من فترتي عهد القضاة وفترة المملكة الموحدة التي يفترض أن تكون إسرائيل قد سيطرت خلالهما على فلسطين بالغتا الأهمية بما يمكن اعتبارهما تمثلان اللحظتين الحاسمتين من التاريخ الإسرائيلي، وهي الفترة التي يطلق عليها في الدراسات التوراتية فترة النشوء وأصول إسرائيل، وهما تقعان في فترة التحول من العصر البرونزي المتأخر إلى العصر الحديدي الأول .

حسب الرواية التوراتية فقد تم تأسيس مملكة داوود وسليمان والتي اصطلح عـلى تسـميتها بالمملـكة الموحـدة وأن هذه المملكة عمرت 81 عاما ( 1004 ~ 923 ق.م ) وانتهت بموت سليمان ثم انقسمت المملكة إلى مملكتين متصارعتين:

الأولى : مملكة إسرائيل وقد عاشت 201 سنة ( 923 ~ 722 ق.م ) وكانت عاصمتها شكيم ثم السامرة وقد انتهت بهزيمتها على يد سرجون الثاني الأشوري الذي بدوره سبى أهلها إلى ميديا شمال العراق .

الثانية : مملكة يهوذا : وقد عاشت 337 سنة ( 923 ~ 586 ق.م ) وكانت عاصمتها أورشالم وقد انتهت بهزيمتها على يد الملك الكلداني نبـوخذ نصر الذي سباهم إلى بابـل عام ( 586 ق.م ) بعد أن دمر الهيكل .

ونلاحظ هنا أن في سفر الملوك تصل قصة إسرائيل التوراتية ذروتها عند أخبار الملك سليمان، فنجدها مليئة بالمبالغات غير المعقولة كما هو الحال عند الحديث عن العصر الذهبي في أساطير وخرافات الشعوب، بحيث نرى كل ما هو عجيب ومدهش وخارق، وتصف المملكة بيوتوبيا الأرض التي تنعم بالأمن والخيرات، ومن الطبيعي أن لا يكون على رأس هذه اليويتوبيا إنسانا عاديا بل رجل حكمة وعقل تفوق قدراته العقلية والروحية والجسمية ما نعرفه عن البشر .

الرواية التاريخية

إن الاعتماد على التوراة في عملية التأريخ للمنطقة هو عمل عبثي لا طائل منه، ذلك لأن النص التوراتي بحد ذاته ليس نصاً تاريخيا بأي معيار ولا يمكن له أن يكون كذلك، وهو مليء بالتناقضات والتعقيدات والفجوات التي يصعب ردمها والأحداث التي يتعذر التوفيق فيما بينها والأساطير التي لا يصدقها عاقل، وعندما يحوي على بعض الأخبار التاريخية فإنه لا يضعها ضمن سياقها التاريخي الصحيح ولا يعمد إلى فهمها من خلال الإطار العام للأحداث الجارية في المنطقة، بل يوردها بشكل إما غامض أو مقتضب ومن منظور أيديولوجي لاهوتي لا يرى في الحدث المرصود إلا من خلال ردة الفعل بين الإله وشعبه المختار .

والرواية التوراتية ما هي إلا قصة أصول مبتكرة لدين جديد ومجتمع جديد يحاول أن يثبت أقدميته وتجذره في المنطقة وأن يقحم نفسه في صلب التاريخ من خلال جمع وتصنيف وإعادة صياغة لتركة ثقافية شعبية متعددة النشأة والأصول والإدعاء بأنها هي تاريخ هذه الجماعة ، وإن الذين صاغوا هذه القصة بدعوى التأريخ لهذه الجماعة إنما كانوا يكتبون بتأثير أيديولوجيا ضيقة وبهدف محدد أبعـد ما يكون عن التأريخ الأمين، وهم مدفوعين بهاجس تراثي يتركز حول إختلاق أصول وجذور لهذه الجماعة وتبرير لوجودها المصطنع ورسم صورة معينة لمستقبلها، وقد استخدموا لهذه الغاية أسلوب الجمع التراثي واقتطاف خبر من هنا وقصة من هناك وتجميعها بحيث تبدو للوهلة الأولى وكأن تسلسلا منطقيا يربطها، ولكن هذا الترابط سرعان ما يهوي ويتعرى أمام ضعفه.

وفي نهاية هذه العملية ظهرت رواية خيالية ونوعا من القصص الشعبية والحكايا والأساطير أحداثها لا تتقاطع مع التاريخ الفلسطيني ولا مع تاريخ الشرق القديم ولا تمت للحقيقة بصلة .

واستنادا للنقد النصي للأسفار التوراتية نفسها وتبيان تناقض الرواية مع ذاتها وضعف حبكتها والترتيب الزمني المفروض عليها فرضا وعدم ترابط أجزاءها، وما حوته من أساطير وخرافات وقصص خيالية تجد مثيلا لها في الأدب الفلكلوري الشعبي في معظم حضارات الشرق القديمة، يضاف إلى ذلك خلو النص التوراتي من أي ذكر للأحداث التاريخية التي نعرفها عن تلك الحقب التاريخية والواردة في النصوص الآشورية والفرعونية والبابلية وغيرها وعدم انسجام أحداث هذه الرواية معها، واستنادا للنقيبات الأركيولوجية ونتائج تحليلها التي تمت بأدوات علمية محايدة متحررة من سطوة النصوص، يمكننا القول أن روايات عصر الآباء وعصر العبودية والخروج من مصر والتيه في الصحراء واقتحام كنعان وأمجاد المملكة الموحدة كما وردت في أسفار التوراة، قد سقطت وإلى غير رجعة.

إذاً فالنقد النصي إلى جانب الشواهد التاريخية والبيانات الأركيولوجية تنفيان نفيا قاطعا هذه الرواية في معظم أجزاءها، وتؤكدان أنه لا يوجد خارج النص التوراتي أي شاهد تاريخي يمكن أن يدعم هذه الرواية أو يثبتها .

أما فيما يتعلق بالأنبياء والقادة والحكماء وغيرهم من الشخصيات الاعتبارية التاريخية الذين ورد ذكرهم في أسفار التوراة، فإن زج أسماؤهم يأتي في سياق المحاولات الدءوبة التي عمد إليها محررو التوراة في محاولة منهم اختلاق أصول نبيلة لليهود وابتكار تاريخ خاص بهم ومن ثم إدماج تلك الشخصيات في هذا التاريخ لإعطاء مبررات إضافية لكيانهم وإكسابه المصداقية والاحترام، وإضفاء صبغة من القداسة على تاريخهم وادعاء أسطورة الأرض الموعودة على لسانهم، وما محاولات جمع القصص والمأثورات الشعبية من معظم المصادر المتوفرة آنذاك من ثقافات الشعوب الأخرى إلا لزيادة حجم ما أرادت أن تطلق عليه معنى " التراث الثقافي لليهود " .

ومع ذلك فإن بعض القصص التي وردت في التوراة من الممكن أن تكون قد حصلت فعلا ولكن في زمان آخر ومكان آخر غير الذي ذكر في التوراة ولا علاقة للتاريخ اليهودي به من قريب أو بعيد .

وقد كانت حصيلة هذه العملية المعقدة من الجمع والتوليف والتدوين هو تراث مركب مصطنع غير متناسق لم يفلح أبدا في ردم الفجوات الزمنية الهائلة التي تفصل فيما بينها وبالتالي إمكانية إقناعنا بالعلاقة التي تربط هؤلاء باليهود .

وكما دمج محررو التوراة بين إبراهيم الذي ظهر للوجود في عصر البرونز الوسيط وبين موسى الذي ظهر قبيل عصر الحديد الأول أي بعده بنحو خمسة قرون، وبين مملكة إسرائيل التي أقيمت في العصر الحديدي الثاني أي بعد موسى بنحو أربعة قرون، فضلا عن كل هذا الخلط التاريخي هنالك تجاهل تام لكافة التغيرات والتحولات العميقة والجذرية التي ألمت بالمنطقة وبنيتها السكانية وتركيبتها الإثنية، وللتغطية على هذا الخلل عمدوا إلى الخلط بين المصطلحات والمسميات التي لكل واحد منها معنى ومدلول مختلف ومستقل ويعبر عن مرحلة تاريخية معينة، وهكذا صارت تلك المصطلحات تعطي نفس الدلالة وتستخدم للتعريف على نفس الجماعة، وهذه المصطلحات هي ( العبرانيون، بني إسرائيل، الموسويون، اليهود )، وهنا نجد أنفسنا مدعوون للتمييز بين هذه المسميات كشرط لازم للوصول إلى فهم الحقيقة.

العبرانيون : استعمل مصطلح " عبري " في نحو الألف الثانية قبل الميلاد على طائفة من القبائل العـربية في شمال الجـزيرة وبادية الشام وكانت كلمة مرادفة " لإبن الصحراء " الذي يعبر البوادي، كما وردت تسميات " الخبيرو " في المصادر المسمارية والفرعونية وكذلك رسائل تل العمارنة ومدونات أوغاريت ، وقد وردت للدلالة على تحـركات واسعة النطاق لجماعات " الخابيرو " وهم لم يكونو جماعة عرقية متميزة، بل أخلاطا من أجناس شتى لا يوجد نمط حياة موحد لها، إذن فالخابيرو فئة اجتماعية وليسو فئة عرقية، إنهم شتات من الجماعات التي لم تجد لها مكانا في الهيكل الاجتماعي والسياسي لدويلات وممالك عصر البرونز الوسيط فآل بها المطاف إلى حالة هامشية تعيش وضعا غير مستقر، فبعض هؤلاء الخابيرو وفدو إلى المنطقة من وراء البوادي والجبال ومن مناطق مجهولة والأغلبية كانت من نفس المنطقة من بدو الصحارى الداخلية.

هؤلاء هم الخابيرو الذين وجدوا وانتهوا في العصر البرونزي الوسيط أي قبل أن يكون لليهود أي وجود ، والذين ترافقت حركتهم في نفس فترة هجرة " إبراهيم " إلى الشام وفلسطين ومن الجدير ذكره في هذا الصدد أن محرري التوراة قد عمدوا إلى استعمال مصطلح عبري للدلالة على اليهود بقصد إرجاع تاريخهم إلى حقبة عصر الآباء، وذلك على الرغم من وجود نصوص توراتية تتحدث عن العبرانيين بصفة الغرباء الذين هم أقل درجة من اليهود أنفسهم ، وبطبيعة الحال فليس هو هذا التناقض الوحيد الذي سيظهر في التوراة .

بني إسرائيل مصطلح أطلق على أحفاد وذرية إسرائيل ( يعقوب بن إسحق بن إبراهيم ) وقد هاجر هؤلاء إلى مصر في زمن القحط في القرن السابع عشر ق.م في زمن الهكسوس، وقد واستقروا هناك واندمجوا في المجتمع المصري وذابوا في نسيجه الاجتماعي ولم يعد هنالك ما يربطهم بفلسطين التي لم تكن بالنسبة إليهم أكثر من مجرد ممر.

الموسويين وهم أتباع النبي موسى الذي ظهر للوجود 1350 ق.م وأسس ديانة تدعو للتوحيد كانت امتدادا لدعوة اخناتون من قبله وتطويرا لها ، وهذه الديانة نشأت في البيئة المصرية، وأتباع هذه الديانة أغلبهم من الجنود المصريين وتبعهم فئات اجتماعية أخرى، ولم يتمكن الموسويون الذين سرعان ما انقلبوا على موسى حتى في أثناء عهده من تشكيل إطار واضح ومحدد المعالم لهذه الديانة ولم يرسخوا تقاليد وطقوسا متكاملة لها وبقي بناء هذا الدين غير مكتمل النضوج في الفكر والمنهج والأهداف وذابت معالمه شيئا فشيئا مع دخول الموسويين مرحلة التيه بالمعنى الفكري / الاجتماعي / الديني.

اليهود واليهودية: مصطلح " يهودي " استعمل لأول مرة من قبل البابليين في إشارة إلى من جيء بهم من يهوذا ( الاسم الكنعاني لمنطقة أورشاليم )، كما ورد مصطلح يهودي على لسان سنحاريب الأشوري ( 705 ~ 681 ق.م ) حيث أشار إلى حزقيا اليهودي أي الذي أحضر من يهوذا، ولم تستعمل لفظة " ديانة يهودية " في المراحل الأولى من الأسفار ولم يبدأ الحديث عن الديانة اليهودية إلا في القرن الرابع ق.م بعد أن طورت هذه الديانة أفكارها وطقوسها المتكاملة وأسست لنفسها إطارا موضوعيا، أي بعد مرحلة السبي إلى بابل حيث بدء بكتابة التوراة وبناء إطار مادي لليهودية واستكمل في أورشاليم على يد العائدين من بابل.

أي أن ما تم إحياؤه في أورشليم كان بناء كيان يهودي موالي وتابع للحاكم الجـديد ( الإمبراطورية الفارسية ) ولم يكن بأي حال من الأحوال على صلة بديانة موسى أو إحياءً ليهوذا ولا لإسرائيل القديمة، بل خلقا من جديد لمجتمع ودين جديدين قوامهما فئات اجتماعية متعددة الأعراق والمنابت، وكان انتماؤهم إلى تلك الإسرائيل بمجرد تصور جذورهم في المنفى البابلي وإقحامهم لأنفسهم في التاريخ القديم للمنطقة بغض النظر إذا ما كانوا يتحدرون من بقية يهوذا المسبية أم من أي منطقة أخرى، فالديانة اليهودية التي نعرفها الآن تكونت فعليا في بابل وتطورت بعد ذلك في القدس فترة الحكم الفارسي وبأمر منه ووصلت مرحلة النضوج شبه الكامل في الفترة اليونانية والرومانية وهي الفترة المعروفة بمرحلة المكابيين.

ما قبل بداية التاريخ اليهودي

إن كل ما بذلته التوراة من رسم صورة محددة لإسرائيل التوراتية أو شعب إسرائيل وتاريخهم وقصصهم منذ العصر البرونزي الوسيط حتى عصر الحديد، أي منذ ولادة النبي إبراهيم ( عصر الآباء ) وحتى قيام دولة السامرة لم تكن أكثر من رواية خيالية معلقة في الفضاء لا تجد لها أي سند مادي من خارجها أو دليل تاريخي يسندها، بل إن جميع الشواهد والبينات والتنقيبات الأثرية تنفي بشكل نهائي أي إمكانية لظهور كيان سياسي أو إثني من أي نوع يمكن أن نطلق عليه اسم إسرائيل قبل أواسط القرن التاسع قبل الميلاد ، أي عقب بناء دولة السامرة والتي سميت حينها مملكة إسرائيل .

وكما تنفي الشواهد الأركيولوجية من الفترة الانتقالية بين عصري البرونز والحديد رواية سفر القضاة وسفر يوشع واقتحام كنعان ذلك لأن نتائج التنقيب الأثري في مواقع المدن التي يدعي النص التوراتي تدميرها كأريحا وعاي تظهر عدم تطابق تاريخ تدمير تلك المدن مع التاريخ المزعوم في أسفار التوراة، ونتائج المسح الأركيولوجي الشامل لمنطقة فلسطين وتحديدا الهضاب المركزية التي قامت عليها فيما بعد مملكة إسرائيل وكذلك منطقة يهوذا، تنفي بشكل نهائي أي إمكانية لظهور مجموعة إثنية واحدة في تلك المفترضة لعصر القضاة حتى نهاية القرن العاشر قبل الميلاد أو وفود مجموعة إثنية من الخارج أثرت في ثقافة المنطقة وتراثها، وجميع المواقع في فلسطين تظهر استمرارية ثقافية محلية غير منقطعة ولا تشوبها شائبة فيما بين عصري البرونز والحديد، فجميع القرى في ذلك العصر إنما هي كنعانية، وأنه حتى ذلك التاريخ لم تتوفر القاعدة السكانية اللازمة والأساس الاقتصادي لقيام مملكة قوية، فإضافة للفقر المدقع في منطقة السامرة فإن منطقة يهوذا كانت خالية من السكان تقريبا آنذاك أما القدس فقد كانت مجرد بلدة متواضعة لا تصلح لأن تكون عاصمة مملكة قوية .

أما دولة السامرة ( إسرائيل ) فقد قامت حقيقة عام 880 ق.م ، وكذلك دولة يهوذا فقد تأسست عام 735 ق.م وكان نشوئهما بعد نضوج الظروف الذاتية اللازمة لقيامهما كعودة المناخ المطري لمنطقة الهضاب واستمرار النـزوح الداخلي للقبائل باتجاه مناطق السامرة ويهوذا، حتى اكتملت أخيرا القاعدة الاقتصادية لهما وتهيأت الظروف الموضوعية والتي ساهم في إنضاجها السياسة العليا للإمبراطورية الآشورية .

هاتان الدويلتان إنما كانتا دويلات فلسطينية محلية، نشأتا في البيئة الكنعانية وكانت لهجتهما هي الكنعانية وتكتبان بالحروف الآرامية وجميع آثارهما وفنونها ومخلفاتهما إنما تعكس نمطا كنعانيا، وحتى آلهتهما كنعانية بما في ذلك يهوه، وطوال عمر هاتين الدولتين لم يكن أي أثر لأي معتقد توراتي أو ما يمكن تسميته ديانة يهودية، وهاتين الدولتين لا يربط بينهما إلا أوهى الروابط وقد عاصرتا بعضهما البعض لفترة قصيرة جدا من الزمن، إذ قامت يهوذا على أنقاض إسرائيل، ولم يسبق وجودهما أي مملكة موحدة، كما أنهما لا علاقة لهما بإسرائيل التوراتية، وكما نشأتا تباعا فقد دمرتا تباعا أيضاً واختلفت مصائرهما التاريخية أيما اختلاف .

ولم يعثر على ذكر لكيان سياسي اسمه إسرائيل في جميع وثائق الشرق القديم قبل أواسط القرن التاسع ق.م، وقد بدأ هذا الاسم للظهور لأول مرة في السجلات العسكرية الآشورية للدلالة حصرا على دولة السامرة، وكذلك مملكة يهوذا لم يرد اسمها إلا في نهاية القرن الثامن ق.م أي بعد أفول نجم إسرائيل، كما لا يوجد أي ذكر لهما بعد تدميرهما تباعا على يد الآشوريين والبابليين ، إذ لم تقم لهما قائمة بعدها وتم ضمهما إلى أرشيف التاريخ .

أما عن المملكة الموحدة ( مملكة داوود وسليمان ) فإن المسح الاركيولوجي للمناطق الهضبية التي كانت نواة المملكة ينفي وجود قاعدة سكانية / اقتصادية في هذه المناطق خلال القرن العاشر ق.م تسمح بقيام مثل هذه المملكة، فمملكة داود وسليمان ليست مستبعدة تاريخيا فقط إنما مستحيلة الوجود، ناهيك عن نتائج التنقيب الأثرى في القدس نفسها الذي أكد أن المدينة كانت حينها مجرد بلدة متواضعة، يضاف إلى هذا عدم العثور على أي حجر أو أثر يدل على قيام هذه المملكة في يوم من الأيام.

وفيما يتعلق بالتنقيبات الأثرية في أورشليم فقد تبين وجود سور يعود إلى العام 1800 ق.م وهو تاريخ بناء أورشليم لأول مرة زمن اليبوسيين وقبل الزمن المفترض للملكة سليمان بثمانية قرون، كما عثرت التنقيبات على آثار هـدم وإصلاح للسور تعـود للعام 587 ق.م أي زمن السبي البابلي على يد نبوخذ نصر وما بين هذين التاريخين فهو مفقود تماما، ولم يتم العثور على بنية واحدة أو حجر أو أية آثار تدل على وجود ما يسمى بمملكة سليمان أو أي هيكل أو معبد ... فالهيكل الذي بناه زربال قائد الدفعة الثانية التي رجعت من السبي البابلي عام 520 ق.م في عهد كورش الفارسي، فقد دمره القائد الروماني تيطس عام 70 للميلاد ولم تعد له قائمة بعد ذلك التاريخ، والحقيقة المرة التي تتجاهلها الصهيونية هي أن مملكة داود التي امتدت من الفرات حتى البحر المتوسط لم تكن أكثر من شبح تاريخي لم يعد يعني إلا أولئك الذين يستمدون آرائهم من النصوص التوراتية فقط وما زالوا يحلمون بالعثور على وثيقة واحدة تدعم آرائهم، ولكن دون جدوى.

بداية تشكل التاريخ اليهودي

مع تشكيل الكيان اليهودي لأول مرة في أورشليم عقب عودة المسبيين من بابل في الفترة الفارسية تكون القصة التوراتية قد دخلت عتبة التاريخ ، من هذا المنطلق يكون فهمنا لحادثة السبي البابلي على يد الملك الكلداني نبوخذ نصر عام 586 ق.م لرعايا مملكة يهوذا كحادثة تاريخية من جهة وكفكرة ملهمة في سياق القصة التوراتية من جهة أخرى .

فالقـوى الكبرى ( الإمبراطورية الآشورية ومن بعدها البابلية والفارسية ) كانت قد دأبت على التحكم بحركة الشعوب وتهجيرها وإعادة إسكانها لتحقيق جملة أهداف من ضمنها تأمين الوصول إلى شواطئ المتوسط وضمان أمن حدودها وبشكل خاص أمام المصريين وخلق كيانات موالية وتابعة ومنفذة لسياساتها العليا، في هذا السياق يمكننا تفهم اهتمام كورش ومن بعده داريوس الفارسي بعودة المسبيين إلى أورشليم وبناء هيكل لهم .

وسواء كان مع العائدين بعض المسبيين من يهوذا أو بقايا من رعايا المسبيين من إسرائيل إلى جانب شعوب أخرى فقدت ارتباطها بأوطانها الأصلية بعد مرور وقت طويل على اقتلاعها منها وقبائل أخرى كانت تبحث عن حظوظ جديدة في المناطق التي تخطط الإمبراطورية لإعادة تعميرها، فضلا عن القبائل التي كانت ما زالت تسكن فلسطين وتعاني من أوضاع اقتصادية ومعاشية مزرية ولا تمانع في العيش في ظروف أفضل، ومهما كان الشعب الذي نقل أو أعيد إلى فلسطين قصرا أو طوعا فهم بكل تاكيد لم يكونوا إسرائيليين ( بالمعنى التوراتي ) لا إثنيا ولا روحياً، ورغم ذلك أصبح الفرس يعتبرونهم إسرائيليين وأصبحوا هم يعتبرون أنفسهم سكان إسرائيل المفقودة منذ زمن والعائدين إلى أرض إسرائيل من منفى مرير بعد أن خلصهم سيدهم ومنقذهم " كورش " ، وهكذا بمساعدة الفرس تم تحديد الهدف : إعادة ديانة يهوه القديمة.

هذا الخليط غير المتجانس عرقيا ولا إثنيا ولا حتى ثقافيا وجد نفسه أمام خيارين : إما القبول بشريعة الملك الفارسي والتكيف مع القوانين الجديدة أو مواجهة أقصى العقوبات – كما ورد في رسالة داريوس إلى أهل أورشليم – ولا شك بأن المجتمع الأورشليمي الجديد قد أخذ بالخيار الأول .

وكعادة رجال الدين على مر العصور الذين يجدون مبرر وجودهم ويستمدون امتيازاتهم ومكتسباتهم من خلال التركيز على وحدة الطائفة والعزف على الوتر الديني والفكر اللاهوتي الغيببي، فقد أخذ كهنة أورشليم المهمة على عاتقهم في ابتكار رابطة طائفية لهذه الجماعة الجديدة وابتكار أصل وتاريخ وتراث لها وغيرها من المبررات الأيديولوجية اللازمة لنشوء مجتمع ودين جديدين، وبذلك انكبوا على تدوين التوراة وابتداع هذا الدين اليهودي الجديد، فهذا الذي تم إحياؤه في أورشليم لم يكن إحياء ليهوذا القديمة أو لإسرائيل القديمة ولا استمرارا لهما بأي حال من الأحوال، بل هو خلق جديد لمجتمع قوامه فئات اجتماعية مختلفة ومتعددة تحاول أن تخلق لنفسها كيانا بدعم من الإمبراطورية الفارسية بعد أن تقاطعت مصالح الطرفين .

ومنذ نشأتها وضعت دولة يهوذا نفسها في إطار الدور الوظيفي كمحمية فارسية تؤدي دورا معينا، وفيما بعد متحالفة مع كل الغزاة الذين تعاقبوا على البلاد الأمر الذي جعل منها كيانا غريبا وطارئا يفتقر للعمق الحضاري وذو تركيبة سكانية غير منسجمة مع النسيج الاجتماعي ومتقاطعة مع الدور الحضاري للسكان الأصليين وبالتالي ضعفت الأواصر التي تربطها بالأرض وتلاشت بسهولة فيما بعـد .

والآن نستطيع التأكيد بكل ثقة بأن اليهودية التوراتية التي نشأت في العهد الفارسي في بابل واستكملت في القدس على يد كهنة أورشليم لا تمت بأي صلة من قريب أو بعيد بديانة التوحيد التي جاء بها النبي موسى قبل هذا التاريخ بنحو ثمانية قرون من الزمان، وأن ديانة موسى كانت امتدادا طبيعيا لدعوة الفرعون اخناتون للتوحيد وقد نشأت في بيئة مصرية خالصة على يد نبي مصري وكتبت تعاليمها بالحروف المصرية الهيروغليفية ولم تكن حكرا لطائفة معينة دون أخرى والألواح التي نزلت عليه لم تحفظ واختفت تماما ولا يوجد لها الآن أي أثر، أما التوراة البابلية فقد كتبها البشر ولم تكن أبدا كتابا سماويا .

فيما يخص شعار " شعـب الله المختار " فإن السياقات التاريخية التي دفعت محرري التوراة لإطلاق هذا الشعار وتثبيته على لسان أنبياء عصر الآباء، وهو شعار استفزازي استعلائي عنصري ينم عن عقلية متعصبة أنتجتها فئة منغلقة على ذاتها وضعت نفسها فوق باقي الأمم ، والله سبحانه أسمى من أن ينحاز إلى عرق أو أن يفضل ملة على أخرى، وقد قال سبحانه في محكم التنـزيل " إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم " صدق الله العظيم .

وفي نهاية القرن التاسع عشر الميلادي يتم إنتاج أسطورة التاريخ اليهودي مرة أخرى، وذلك بعد تفاقم المسألة اليهودية وتقاطع ذلك مع التحول الكولونيالي في الفكر السياسي الأوروبي الذي دفع بها إلى احتلال أجزاء واسعة من العالم والتفكير جديا بإنشاء كيان موالي لها في وسط الوطن العربي ذو دور وظيفي محدد.

ومن الجدير بالذكر أن إنشاء الحركة الصهيونية كان استجابة لهذا التحول الأوروبي بالدرجة الأولى ولم يكن تعبيرا عن مصالح اليهود ولا عن آلامهم ومأساتهم ولم يكن حلا لمشكلتهم المتفاقمة، إذ أن التصور اليهودي للحل كان يتراوح بين اتجاهات عدة من بينها الاندماج أو التدين أو الهجرة أو انتظار المسيح أو بعث القومية اليهودية ... ويبدو أن حلول الاندماج والهجرة كانت الأكثر عملية إذ هاجر إلى أوروبا الغربية والولايات المتحدة وأمريكا الجنوبية ملايين اليهود، والقلة القليلة هاجرت إلى فلسطين، وتيار الاندماج كان في البداية كاسحا بشكل ملحوظ.

دلالة على وهن العلاقة العضوية بين اليهود وأرض فلسطين فإن موضوع الهجرة إلى فلسطين بقي ولقرون عديدة خارج نطاق التفكير الجماعي لليهود ومقتصرا على المستوى الفردي فقط، على الرغم من أنها ظلت مفتوحة للحجيج ومتاحة للراغبين من اليهود للإقامة فيها طوال عهـد الدولة الإسلامية إلا أن عدد اليهود المقيمين فيها عام 1880 بلغ 25 ألف فقط مقابل ملايين اليهود في العالم .

بقي أن نقول أن أسطورة " نقاء الشعـب اليهودي عـرقيا " و " وحـدة الأصل " و " التاريخ المتصل " ما هي إلا خدعة ابتكرتها الدعاية الصهيونية ولا يمكن لها أن تصمد في وجه حقائق التاريخ أو أبجديات المنطق وعلوم الاجتماع أو حتى العلوم البيولوجية، فكيف لطائفة متعددة الأصول والمنابت أن تصبح فجأة ذات أصل نبيل وكيف لها أن تحافظ على هذا النقاء في منطقة خبرت الفاتحين والغزاة حيث كانوا يتعاقبونها تباعا، وبالتالي ستتداخل البنى الاجتماعية وستذوب حدود لأعراق البيولوجية على مذبح حركة التاريخ التي تبقى دوما في دينامية لا تعرف التوقف.

أما الكذبة الممجوجة التي سرعان ما تشهر الصهيونية سيفها في وجه كل باحث عن الحقيقة أو شاهدا للحق والتي يسمونها " اللاسامية " فإذا ما صح هذا التصنيف فالعرب هم أصل السامية وهم ساميون قبل اليهود بآلاف السنين وبالتالي كيف لهم أن يعادوا عرقهم ! واليوم في عصر العولمة وانفتاح الشعوب على بعضها فإنه لمن العار أن تبقى هذه الكذبة تنطلي على عقول البعض ونحن في مستهل الألفية الثالثة من عمر الحضارة الإنسانية .


> إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون < المائدة 69
صدق الله العظيم


عبد الغني سلامه
sabdelghani@hotmail.com



المصادر :

1. الكتاب المقدس ( العهد القديم، العهد الجديد )
2. الموسوعة الفلسطينية، هيئة الموسوعة الفلسطينية ، دمشق 1985 ج 1 ~ ج 4
3. آرام دمشق وإسرائيل ، فراس السواح، دار علاء الدين ،ط 1 ، دمشق 1995
4. الحدث التوراتي والشرق الأدنى القديم، فراس السواح ، دار علاء الدين ط2 1993
5. الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية، روجيه جارودي، دار الغد العربي، ط 1 ، القاهرة 1996
6. اختلاق إسرائيل القديمة، كيث وايتلام، ترجمة د. سحر الهنيدي،عالم المعرفة،الكويت 1999
7. التاريخ القديم للشعب الإسرائيلي، توماس طومسون، ترجمة صالح سوداح، بيسان للتوزيع، ط 1 ، بيروت 1995
8. أوهام التاريخ اليهودي، جودت السعد، الأهلية للتوزيع، ط 1، عمان 1998
9. العرب واليهود في التاريخ، د. أحمد سوسة، العربي للطباعة والتوزيع، ط 6 دمشق
10. إسرائيل/ فلسطين الواقع وما وراء الأساطير، ميخائيل هرسيغور، موريس سترون، مشاعل للصحافة والدراسات، ط1، رام الله 2000
11. اللغة والهوية في إسرائيل، تحرير د. محمد أمارة، مدار للدراسات الإسرائيلية ، ط1 ، رام الله، 2002
12. القضية الفلسطينية والصراع العربي الصهيوني، اتحاد الجامعات العربية، د. شاكر مصطفى ج 1
13. أورشليم وأرض كنعان د. إبراهيم الشريقي
14. فلسطين تاريخا ونضالا، نجيب الأحمد ، عمان
15. عروبة فلسطين في التاريخ ، محمد أديب العامري
16. شؤون فلسطينية العدد 76 دراسة أحمد صدقي الدجاني
17. الهجرة اليهودية والمشروع الصهيوني، ندوة فكرية، منشورات المجلس القومي للثقافة العربية، عمان 1991 ط 1 .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق