أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

يوليو 20، 2008

من حي البلديات إلى تشيلي

"جبع إجزم وعين غزال"، ثلاث قرى فلسطينية، كان يعيش سكانها حياة وادعة عادية بالقرب من حيفا، ولكن هذه الحياة ستنقلب رأسا على عقب مرات ومرات، فلأهل هذه القرى الذين سيشكلون أغلبية فلسطينيي العراق حكاية غريبة معه، بدأت مع نوري السعيد رئيس الوزارء أيام العهد الملكي، حين أمر بجلب سكان هذه القرى إلى العراق لحمايتهم من القصف الإسرائيلي، حسب زعمه !!
وامتدت حكايتهم في عهد قاسم والأخوين عارف ثم حزب البعث فيما بعد حيث تعامل الجميع معهم كضيوف كرام، لذلك لم يتم تسجيلهم في سجلات وكالة الغوث كلاجئين مهجرين طُردوا من ديارهم رغما عنهم، فكرم الضيافة العربية يقتضي معاملتهم كأهل البيت، ولكن هذا الكرم سينقلب حقدا وقتلا بمجرد سقوط تمثال صدام في ساحة الفردوس، إذ هاجم في اليوم التالي مباشرة نفرٌ ممن أعمتهم الطائفية بيوت الفلسطينيين في حي البلديات والزعفرانية والعدل وأجبروهم على مغادرة بيوتهم، وهكذا بدون ذنب اقترفوه، وكما أدخلوا إلى البلاد رغما عنهم أخرجوا منها كذلك، ولكن الحكاية لا تنتهي هنا بهذه البساطة.
عصابات الحقد الطائفي حمّلت " فلسطينيي القُطر " كل أوزار النظام السابق، بل وحملتهم كل آلام الشيعة منذ دخول المهدي نفق الغياب وحتى سقوط صدام، وأجبرتهم على دفع فاتورة التمييز الطائفي والطبقي الذي عانى منه العراق قرونا طويلة !! فبدأ مسلسل من القتل والخطف والطرد والتهديد لا يخطر على بال الشيطان، ولم تمارسه حتى أعتى الأنظمة النازية والقمعية طوال تاريخ الإنسانية الحافل بالحروب والثارات، فبكل بساطة وبمنتهى الحقد كانت تدخل تلك العصابات الغوغائية أحياء الفلسطينيين وبيوتهم فتنهب وتغتصب وتقتل وتدمر تحت مرأى ومسمع مغاوير الداخلية وقوات الاحتلال الأمريكي !!
وبعد أن كابدوا القهر والخوف وبعد أن عاشوا حياة الذل والهوان في خيام مهترئة مقابل بيوتهم التي طردوا منها، وفي البرد والحر وفي أجواء التهديد والإرهاب هرب من تمكن من الهرب إلى أحياء سنية بحثا عن قليل من أمان يفتقر له جل العراق، والبقية الباقية نزحت إلى مخيمات نائية على حدود الأردن وسوريا على أمل الانتقال للعيش في تلك الدول بعد أن ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، ولكن العروبة والوطنية التي أتخمت الخطاب السياسي العربي هي نفسها كانت حائلا دون دخولهم أراضي تلك الدول !!
وهناك على تخوم العروبة عند حدود وهمية طالما كانت مستباحة للأعداء ثم صارت منيعة بين ليلة وضحاها ! أطلق المهجرون صرخات الاستغاثة ،، نادوا على العروبة، الضمير العربي، القيم الإنسانية، المواثيق الدولية، نادوا على كل العالم .. ولكن لا حياة لمن تنادي، وهناك في وسط الصحراء وفي لجة الليل البهيم تكشفت كل الحقائق وبانت عورة النظام العربي بل والدولي، إيران التي تدعي معاداة إسرائيل هي من دفع عصابات المهدي لإقتراف جريمتها، سوريا قلعة العروبة ذات الخطاب الثوري تمنع بضع مئات ممن ظلت سنين طويلة تتاجر بدمهم تمنعهم من دخول اراضيها ! كل البلاد العربية صارت ضيقة ولا تتسع لهم !
لم يخطر على بال الأطفال أن مأساتهم ستطول كل هذه السنين، وأنهم سيكبرون داخل هذه المخيمات، وأنهم سيصدمون بالكذبة الكبرى التي تربوا عليها بأن علاقات الدم والأخوة ستنقذهم وأن العرب لن يتخلوا عنهم، بل وأنهم في كل هذا البؤس سيتطاول عليهم لصوص الليل وعصابات التكفير، وأن كل شيء سيتحالف ضدهم : الجغرافيا والسياسة والفقر والجوع والحرمان من كل شيء، وأن دخول الحمام سيصير أمنية ونسمة الهواء حلما وكاس الماء البارد في قيظ الحر سيصبح أمرا مستحيلا، وأنهم سيعيشون بين العقارب والذباب لا يسمعون في ليلهم سوى نحيب الرياح وعواء الذئاب ولن يروا سوى رمال الصحراء تحرق كل أمل بالنجاة وتذري بما تبقى من إنسانية .
هل كانت صدمة لهم أن من سمع ندائهم ليس من هو على بعد خطوة ويرى مأساتهم تكبر يوما بعد يوم، بل من هو في أقاصي الأرض في أبعد نقطة مسكونة حيث بعدها المحيط والقطب الجنوبي ولا شيء آخر ؟؟ نعم " تشيلي " هي الدولة الوحيدة التي رق قلبها لهؤلاء المساكين وقررت استضافتهم بما يفوق كل الخرافات عن الكرم العربي، وبما هو أقوى من كل العبارات الملتهبة التي كانت تقصفنا بها " دول الممانعة " !!
درسان ستعلمنا إياهن " تشيلي" الأول كيف نحترم عزيز قوم ذل حتى لو كان في قفص محكمة دولية، والثاني كيف نشعر بحجم مأساة طفل لا يجد حماما يغتسل فيه ولا مدرسة يذهب إليها ولا فراشا يأوي إليه.
وهناك في تشيلي بعيدا عن جو الشحن الطائفي والمذهبي وبعيدا عن المزايدات والمهاترات وبعيدا عن السياسة والفصائل المتناحرة، سيجد هؤلاء الأطفال مدرسة آمنة ودكانا يبيع ثلجا محرما وشارعا نظيفا وأناس يحترمون بعضهم .. وبعد كل هذا لا يحق لأحد أن يلوم هؤلاء إذا كفروا بنا وبخطاباتنا .. وبكل شيء .


أيار 08

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق