أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

يوليو 20، 2008

جدلية العلاقة بين المقاومة والبرنامج الوطني التحرري

المفهوم التاريخي للمقاومة


ارتبطت كلمة المقاومة بالصراع بكل ما يعنيه هذا المصطلح من اقتتال على مناطق النفوذ والسلطة والمصالح وما يتطلبه ذلك من قتل وسفك للدماء وما تثيره في الذاكرة الإنسانية من حروب وضحايا وعذابات وآلام يصعب وصفها بالكلمات ... وترتبط المقاومة أيضا بالسلطة وبالجماعة المسيطرة وبالتهديد بنفي الآخر أو تصفيته، وبالصراعات السياسية ...
حتى أنها بدت أحيانا كلمة مخيفة تطلق في النفس الإنسانية أسوا ما فيها ... فهل هي حقا كذلك ؟ أم أنها بريئة من هذه التهم ؟ وكل ما في الأمر أن السلطة والمعارضة على حد سواء كانا يوظفان هذا المصطلح بما يخدم مصالحهم وسياساتهم، بل وأحيانا كانا يستخدمان ذات الكلمات شونفس الجمل الثورية !!
وفي مداخلته في ندوة لحقوق الإنسان يؤكد د. هيثم مناع أنه طالما وُجد الإنسان كان الصراع، وطالما كان هنالك نظم اجتماعية وسياسية سينشأ حتما تناقضات عديدة فيما بينها ستأخذ شكل الصراع وبالتالي المقاومة، لأن البشر بطبيعتهم لن يتقدموا قبل أن تعبر التناقضات التاريخية فيما بينهم عن نفسها، ولن يألفوا نظاما حاكما مهما بدى لنفسه أو للآخرين عادلا ومستقيما، ولن ينتهي الظلم من حياتهم ولن يتوقف الاستغلال، وبالتالي لن تتوقف مقاومة هذا الظلم والاستغلال، وهذه حقائق تاريخية تجد شواهدها في كل عصر.
وطوال حركة التاريخ الإنساني كان التمرد ثم الإنشقاق سمة طاغية على كل الحركات السياسية والإجتماعية والدينية، وهذه هي طبيعة الحالة الديناميكية للإنسان عامة، كما لو أن الخروج والتمرد والمقاومة هي العلاج الشافي لحياة بني البشر الذي يحميها من فساد الناس وفساد الأنظمة ومن تكرار الأيام القاتل، فهو الحركة في مواجهة السكون والتطور في مواجهة الجمود، وفي المقابل فإن القوى المحافظة المسكونة بالخوف من التغيير والتي لا مصلحة لها فيه كانت دوما تقف في مواجهته وتقاومه بشتى السبل، فكلما كان هنالك تغيير كان من يرفضه، ومع كل ثورة كانت ثورة مضادة، وكل بناء كان يقابله هدم .. وهكذا كان الكل يبحث عن مصالحه ويدافع عنها باستماتة، ولكن التاريخ كان يعطي السلطة لمن امتلك القوة والمجد لمن قاومها، وبقيت صورة كربلاء شاهدة على خسة المنتصر ونُبل المهزوم، وصارت المقاومة في التراث العربي والإسلامي مسكونة في الوجدان مقترنة بقيم التضحية والشهادة تحيطها هالة من القداسة، فكم من الهزائم العسكرية فاقت بقيمتها الإعتبارية أرفع الإنتصارات، وكم من الإنتصارات الحاسمة جُللت بعار الهزيمة.

المقاومة في القانون الدولي

طوال فترات التاريخ وليس في عصرنا الراهن وحسب، كان القوي دوما هو الذي يفرض قواعد الحرب والسلم، وبهذا المعنى سيصيغ القوي مفاهيم الصراع وسيصبح هو المسؤول الأول عن أضفاء الشرعية على الغير أو نزعها عنه، فمثلا عندما كانت أمريكا تناضل ضد الاحتلال الإنجليزي صاغت أول وثيقة حديثة تتحدث بصراحة ووضوح عن حق المقاومة بما في ذلك المقاومة المسلحة، بينما هي الآن تصنف كل قوى المقاومة التي لا تروق لها على أنها إرهابية، وكذلك فعلت أوروبا فبسبب خلفيتها الإستعمارية تأخرت عن الاعتراف بحق الشعوب في المقاومة، واليوم تختلط مفاهيم المقاومة والإرهاب على نحو ملتبس ليس على الحكومات فقط بل وعلى الشعوب والمثقفين أيضا، ويسهم في هذ الإلتباس الحرب الجديدة التي تخوضها الولايات المتحدة للهيمنة على مقدرات العالم تحت اسم مكافحة الإرهاب.
ورغم الاتفاق العالمي على مشروعية الكفاح الشعبي للدفاع عن النفس في مواجهة الظلم والاحتلال، إلا أن دول العالم ما زالت مختلفة على تعريف " الإرهاب " نظرا لاختلاف المعايير والمنطلقات لتلك الدول وتباين الرؤى حولها، فمصطلح العنف واستخدام القوة ( للإرهاب أو للمقاومة ) هو مفهوم نسبي الدلالة تختلف استخداماته باختلاف البيئات والظروف.
ولا شك أن الأزمة الأخلاقية التي يشهدها النظام الدولي بسبب إزدواجية المعايير وسياسة الإنتقاء وتوظيف القانون الدولي والشرعية الدولية بما يخدم مصالح الدول الكبرى المهيمنة على مجلس الأمن، قد ساهمت في زيادة أعمال العنف في مختلف أنحاء العالم.
إلا أن النصوص والقوانين الدولية والمواثيق ذات الصلة تؤكد على الفرق بين المقاومة المشروعة وبين الإرهاب، وذلك في مختلف الجوانب القانونية والسياسية والإجتماعية وفي الوسائل والأهداف، فهنالك العديد من قرارات الهيئة العامة ومجلس الأمن والمواثيق الدولية المعنية بحقوق الإنسان وفي مقدمتها ميثاق جنيف والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية وكذلك العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية، التي تحولت من مجرد مبدأ سياس عام إلى حق طبيعي يكفله القانون، وقد أقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة مشروعية نضال الشعوب في سبيل التحرر من الاستعمار والسيطرة الأجنبية بكافة الوسائل بما فيها القوة المسلحة.
وقد جاء في وثيقة مفهوم الإرهاب والمقاومة الصادرة عن مركز دراسات الشرق الأوسط تعريف المقاومة بأنها استخدام مشروع لكل الوسائل المتاحة بما فيها الكفاح المسلح لدرء الخطر وصد العدوان وإزالة الاحتلال وتحقيق الاستقلال الوطني ورفع الظلم والاستبداد المدعومين بالقوة المسلحة، وهذا يتفق مع القوانين الدولية والشرائع السماوية والحق الطبيعي للشعوب في تقرير مصيرها ونيل حريتها.
أشكال المقاومة

بعيدا عن التوظيف السياسي للمصطلح، سنجد أن المقاومة هي في الأساس رد فعل طبيعي عفوي يمارسه الشعب بكافة فئاته وطبقاته وقواه الحية لمواجهة الاحتلال وللتعبير عن رفضها لسياساته وعدم الرضوخ له، والمقاومة عادة لا تقتصر على شكل واحد ولا تنحصر في قالب محدد، ولأنها فعل جماهيري فهي لا تحتكرها مجموعات مسلحة، وعليه فأساليب المقاومة ومستواها منوط بإمكانيات الشعب المعني وقدرته على التواصل وتحمل تبعاته، مع ضرورة ارتباط المقاومة بهدف سياسي محدد وواضح وقابل للتحقيق.
وتجارب الشعوب المناضلة تخبرنا بضرورة أن يقتصد الطرف الضعيف بقواه وأن لا يُفْرط باستخدامها، وأن يحسن استغلالها على أفضل وجه، حيث تقتضي الحكمة عليه أن لا يخوض حرب الضربة القاضية، لأن هكذا حرب ستكون نتيجتها محسومة فيها لمن يمتلك القوة العسكرية الأكبر، كما أن خبرات حركات التحرر الوطني تفيد بضرورة تحاشي تعريض قواها لضربات قاسية، وتجنب عدوها حين يكون مستنفرا، وأن هذه الحركات خبرت التقدم والتراجع والهجوم والدفاع بتكتيكات مرنة حسب معطيات المرحلة لتجنب دفع أثمان باهظة قد تقصم ظهرها.

الثورة والمقاومة في الساحة الفلسطينية .. ودلالات المصطلح

لطالما اقترن مفهوم المقاومة في مخيلة الشعب الفلسطيني خاصة وكل الشعوب المقهورة عامة بقيم الشجاعة والتضحية والفداء ضمن إطار مفعم بالروحانيات والعاطفة الملتهبة، التي تُعلي من قيمة السلاح والتحدي وتقلل من شأن الموت بل وتجعل منه هدفا بحد ذاته في بعض الأحيان، وطالما أثار هذا المفهوم إلتباسا في أروقة المثقفين والسياسيين وجعلهم يختلفون على تعريفه واشتراطاته وأساليبه، إلا أنه ظل دوما مادة للشعراء وملهما لخيال الشباب وأنشودة تصدح بها النسوة كلما زُفَّ عريس أو أُبِّن شهيد.
في الساحة الفلسطينية التي خبرت المقاومة الشعبية وبكافة أشكالها منذ ما يزيد عن القرن لم يجري استخدام مصطلح " المقاومة " إلا منذ أمد قريب، حيث كان مصطلح " الثورة " هو المهيمن على الخطاب السياسي الفلسطيني، فهل هنالك فرق بين الثورة والمقاومة ؟
الثورة تعني القيام بفعل واعي منظم وموجه ضد حالة معينة بهدف العمل على تغييرها جذرياً، في حين أن المقاومة هي رد فعل طبيعي عفوي ينشأ تحت ضغط ظرف تاريخي معين كحالة من الدفاع عن النفس أو للذود عن الحمى، وتحتاج المقاومة لفترة من الزمن حتى تأخذ شكل العمل المنظم، ولكن في كلا الحالتين تكون النتيجة متمثلة في فتح جبهات المواجهة والصراع على مصراعيها مع الطرف المعتدي.
وحتى لا يكون كفاح الشعب الفلسطيني مجرد رد فعل غريزي محدود، وحتى يبدو كحالة سياسية تقدمية واعية، فقد آثرت القيادة الفلسطينية على استخدام مصطلح "الثورة الفلسطينية" للدلالة على كافة أشكال العمل العسكري والجماهيري والسياسي والإعلامي الموجه ضد الاحتلال الإسرائيلي، كما أن المضامين الأخلاقية والإنسانية للكفاح الشعبي الفلسطيني اقتضت استخدام كلمة الثورة، لأنها في سياق نضالها لطرد الاحتلال وتحرير الأرض تصمم على إحداث التغييرات الجوهرية في المجتمع الفلسطيني، وتسعى إلى بعث القيم الاخلاقية والثورية المنسجمة مع اهداف النضال، وإلى إسترداد الكرامة الانسانية التي أهينت في النكبة، وهي كذلك تسعى إلى تحرير الإنسان من كل ما تسرب اليه من مساوئ المجتمع التي عاشها عبر مراحل الصراع، وخاصة ما تواجهه المرأة من تمييز، وما يواجهه الأطفال من قمع، والطبقات الفقيرة من تهميش، وكل ما يطال المجتمع من سلبيات وأمراض خلفتها سيوف الفاتحين وسنابك خيلهم طوال تاريخ البلاد الطويل.
ما ميز قوى الثورة الفلسطينية بدايةً عن الأحزاب السياسية الأخرى هو ممارستها الكفاح المسلح وامتلاكها نظرية الحرب الشعبية طويلة الأمد، فالأحزاب الشيوعية مثلاً لم تكن تؤمن بالعنف الثوري طريقاً لحل الصراع الطبقي، والأحزاب الإسلاموية كانت تعتقد أن أوانَ الجهاد لم يحن بعـدْ، فيما اعتمدت الأحزاب القومية أسلوب الإنقلابات العسكرية، ومن هنا جاءت فتح أولا ثم بقية الفصائل الفلسطينية بالكفاح المسلح قولا وفعلا، منطلقةً في هذا الطرح من فهمها لطبيعة الإحتلال الإقصائية التي تقيم كيانها على أنقاض الغير، وبالتالي لا تصلح في مواجهته أشكال المقاومة السلمية والمدنية لوحدها، بل تحتاج معها للكفاح المسلح، لأن العالم يسمع من القوي أكثر مما يسمع من الضعيف، ويتفهم المبادر القوي أكثر مما يتفهم الضحية، حتى لو كانت هذه الضحية منطقية في طرحها وعادلة في مطالبها.
وقد مثلت مفاهيم النضال الوطني والعنف الثوري لدى الفلسطينيين تعبيرا عن الرغبة في مسك زمام الأمور والتحرر من الوصاية، وإن مثلت عقيدة العمل العسكري والكفاح المسلح وحرب الشعب طويلة الأمد حجر الزاوية في إطار رؤيته لحل الصراع، وباعتباره وسيلة هامة لتعبئة طاقات الجماهير العربية والشعب الفلسطيني، إلا أنها ظلت وسيلة لا غاية بحد ذاتها تتكامل مع الوسائل الأخرى التي لا تقل أهمية عنها مثل العمل السياسي والنقابي والاجتماعي والجماهيري والإعلامي، وهذا الفهم التقدمي لاستخدام العنف الثوري ارتبط بالثورة منذ أن شهدت المنطقة بواكير نشأتها أواسط الخمسينات، وهو الفهم الذي مثّل مجال الانطلاق والإبداع والخروج من حالة السكون إلى الحركة، وإبداع الوسائل المختلفة في مسيرة الكفاح الوطني.
الثورة الفلسطينية بعد خروجها من لبنان صيف عام 1982، سلمت الراية للقوى الوطنية اللبنانية التي واصلت الكفاح المسلح تحت مسمى القوى الوطنية المشتركة، والتي صارت تعرف لاحقا بقوى المقاومة الوطنية اللبنانية، ولكن حزب الله بعد أن قويت شوكته وسيطر على الجنوب بعد عام 1985 احتكر المنطقة والمصطلح في نفس الوقت، وما لبث أن حوّله إلى مصطلح " المقاومة الإسلامية "، للتعبير عن محتواه السياسي وعن المعادلة الإقليمية الجديدة، ولتسهيل توظيفه سياسيا بما يخدم أهدافه في المرحلة الجديدة.
وقد أدخلت فصائل الثورة الفلسطينية مصطلح " المقاومة " إلى خطابها السياسي تحت إلحاح التغييرات الجذرية التي ألمّت المنطقة والعالم بأسره، والتي نتج عنها سيطرة القوى الإمبريالية على المعادلة الكونية وتفردها بالهيمنة على العالم بلا منازع، بحيث نشأ نظام دولي جديد أحادي القطبية وغابت عن الساحة القوى الدولية التي كانت تحدث نوع من التوازن في موازين القوى، وطالما أن المقاومة كرد فعل في مواجهة الاحتلال أمرٌ يقرَّه القانون الدولي وتجيزه مواثيق الأمم المتحدة، وبالتالي فإن تسمية الكفاح المسلح بالمقاومة سيوفر له الغطاء القانوني الذي يحتاجه وسيعطيه المشروعية التي تحميه من وسـْمِهِ بالإجرام وتنفي عنه صفة الإرهاب .
الأمر الآخر الذي دعى الفصائل الفلسطينية لوسم نفسها بفصائل المقاومة، هو الاستفادة من القوة المعنوية للمصطلح الذي اكتسب زخما إضافيا خاصة بعد إنسحاب إسرائيل من الجنوب تجر أذيال الخيبة، حيث سطع نجم حزب الله، ومعه سطعت مفردات خطابه السياسي، ومن ناحية أخرى فإن هذا التغيير في التسمية - بالنسبة للقوى الإسلاموية - كان أيضا ضرورة لتمييزها عن الفصائل الوطنية وحتى لا تبدو استمرارا لها، حيث أن كلمة الثورة اقترنت باليسار والعلمانية بصورة أو بأخرى، وأيضا لإنشاء خطاب موحد يؤدي في نهاية الأمر إلى إقامة محور سياسي قوامه إيران وسوريا والفصائل التي تدور في فلكها، يجب إظهاره على أنه يمثل جبهة المقاومة الأخيرة في مواجهة محور الشر الذي تمثله أمريكا ومن يدور في فلكها، وبالتالي فكل من يعادي هذا المحور هو عرضة لإتهامه بالخيانة والتبعية، ولكن لو تأملنا فحوى هذا التصنيف لوجدناه مجرد شعار دوغمائي يتم تسويقه لأغراض سياسية ضمن عملية تزييف للوعي، بل أن هذا الشعار – كما هو تاريخيا - مثّلَ الوسيلة الأسهل لابتزاز مشاعر الناس وخداعهم للظفر بالسلطة .
على كل حال، فإن الكفاح الشعبي ومواجهة العدو والتصدي للإحتلال والعمل على تغيير المجتمع نحو الأفضل سواء كان يسمى " مقاومة " أم " ثورة " فلا فرق، لأنها أهداف نبيلة ومشروعة بل هي أساسا واجب وطني، وبالتالي فإن خوض حرب لُغوية للتفريق بين المصطلحين يعد حاليا نوع من الترف الفكري لا حاجة لنا به.

المقاومة الفلسطينية


من البديهي أن مقتضيات العمل السياسي تتطلب براغماتية معينة وقدرة على التأقلم مع المتغيرات، بحيث تمنح القيادة هامشا للمناورة وقدرة على تجاوز المطبات والسير بين حقول الألغام، فالتحجر والتصلب في المواقف السياسية بذريعة الحفاظ على الثوابت ستؤدي إلى الوقوع في شباك العزلة والخروج من دائرة التأثير، والتهاون والخضوع باسم الواقعية يقود إلى التنازل والتفريط، ولهذا يجب توفر ضوابط لهذه البراغماتية تنطلق من مبدأ الواقعية الثورية الذي يتعامل مع الواقع كما هو ولكن بهدف تغييره لا الاستسلام له، بمعنى أنه على القيادة التعاطي مع الشأن السياسي في كل مرحلة وفق معطياتها وتبعاً لموازين القوى التي تحكمها بواقعية وذكاء سياسي يحكمه الانتماء الوطني وتضع نصب أعينها المصلحة العليا للشعب.
والجميع يدرك أن الهدف من الكفاح المسلح هو إبقاء جذوة الصراع متقدة، والحفاظ على القضية من الطي في ملفات النسيان، وتعبئة الأجيال على روح المقاومة، وإعادة ثقة الشعب بنفسه واحترام العالم له، وإشغال العدو وحرمانه من الاستقرار، وإسقاط أو تعطيل كافة مشاريع التسوية التي تنتقص من الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، بمعنى آخر فإن الكفاح المسلح هو استثمار لقوة الضعف التي يمتلكها الطرف الفلسطيني واستخدام لقوة الرفض، فإذا كان لا يستطيع فرض الحل الذي يريد فإنه يستطيع رفض الحل الذي لا يريد، فلا يتوهمن أحدٌ بأن الكفاح المسلح الفلسطيني بإمكاناته المحدودة جدا سيقضي على إسرائيل، لأن ذلك يتطلب تضافر الجهود العربية العسكرية والسياسية والاقتصادية والبشرية وتوظيفها في معركة التحرير وخلق توازنات دولية تكون قادرة على تغيير المعادلة السياسية برمتها، ومن البديهي أن هذه الشروط غير متحققة الآن ولا يبدو في الأفق أنها ستتحقق قريبا.
إذا فمن الحكمة أنه كما على الفلسطيني استثمار قوة الضعف، فإنه يتوجب العمل على تعزيز ضعف القوة الذي يميز إسرائيل، حيث أنها لن تتمكن من استخدام ترسانتها النووية في مواجهة شعب أعزل يطالب بحقوقه بأسلوب يتفق مع القوانين الدولية، أي العمل على جر العدو إلى الساحة التي يكون فيها ضعيفا، وعدم الإستجابة لإستفزازاته التي تعمل على جر الفلسطيني إلى ساحة المواجهة العسكرية التي يمتلك أدواتها بالكامل ويتحكم بها بشكل مطلق.
وطالما أن الشعب الفلسطيني يخوض حربا سياسية طويلة الأمد لا يستطيع حسمها وفق المعطيات الحالية بالضربة القاضية، وبالتالي ينبغي عليه العمل على كسبها بالنقاط، حيث أن إمكانية تسجيل ضربات موجعة للمشروع الصهيوني بالوسائل السياسية والدبلوماسية وبالكفاح الشعبي أكثر بكثير من قدرته على إلحاق خسائر حقيقية به بالوسائل العسكرية فقط.
الثورة الفلسطينية ومنذ انطلاقتها حرصت على رسالتها الحضارية والأخلاقية فطرحت حلا إنسانيا للصراع، ومارست كفاحها بوسائل وأدوات مشروعة كفلتها المواثيق الدولية، وبذلك كسبت الرهان على التاريخ وحصدت التأييد العالمي واستطاعت إقناع العالم بعدالة القضية، وقد مثلت انتفاضات الشعب الفلسطيني المتوالية إنسجاما مع هذا الإرث وتتويجاً لتراكماته النضالية.
وقد تعددت أشكال المقاومة الفلسطينية واختلفت تعبيراتها باختلاف المراحل السياسية والظروف الإقليمية والدولية، بدايةً ظهرت معالم المقاومة المسلحة الفلسطينية عبر العمليات العسكرية الفدائية، ثم ضمن تشكيلات عسكرية وتنظيمية عديدة بدءً من القيادة العامة لقوات العاصفة إلى قوات القسطل وقوات الكرامة وكتيبة الجرمق وقوات ال 17 ثم قوات الأقصى في المنفى، إلى جماعات صقور الفتح والفهد الأسود والنسر الأحمر في الانتفاضة الأولى، فجماعات كتائب شهداء الأقصى والقسام وأبو علي مصطفى وألوية الناصر صلاح الدين وغيرها من التشكيلات المختلفة في إطار انتفاضة الأقصى عام 2000 .
إذاً فالمقاومة الوطنية ليست تشكيلات عسكرية وحسب، إذ أنها تتغير وتتبدل، بل هي إرادة الشعب التي لا تنضب وتوقه للحرية والتصاقه بالأرض وصموده فوقها وهي صناعته للحاضر وتطلّعه نحو المستقبل وتمسكه بحقوقه المشروعة، وفي كل مرحلة من مراحل التاريخ كان الشعب الفلسطيني يجترح أدواته في النضال ويبتكر بعبقريته وسائل المقاومة ويبدع في التضحية والفداء، ولم تعيه الحيلة في أي حقبة مهما اشتد سوادها وضاقت عليه السبل أن يعبر عن ذاته وأن يجِدَ لنفسه السلاح وأن يقاوم بشتى الأساليب، فالحصول على السلاح ليس هو المشكلة بل المهم كيف يستخدم هذا السلاح.

أزمة المقاومة


بالرغم من وضوح عدالة القضية ومشروعية الكفاح الوطني، إلا أنه وللأسف قد اعترى المقاومة في العقد الأخير الكثير من التشويشات ولحق بها بعض التشويهات، وكانت في لحظات معينة تفقد بوصلتها وفي لحظات أخرى تخطيء في أهدافها ومواقيتها وأساليبها.
فسبب تعقيدات القضية الفلسطينية والتداخلات العديدة للأطراف المؤثرة على ساحات الصراع، وتشابك مصالح العالم عند هذا الصراع، فقد تأثرت المقاومة الفلسطينية وللأسف بهذا التعقيد وبالتالي فقدت بعضاً من رونقها وقوتها الأخلاقية الجامعة التي كانت توحد العالم العربي والإسلامي وكل الشعوب الحية والمناضلة، كما خُدشت طهارة سلاحها، واختلطت بالإرهاب تارة وبالفوضى تارة أخرى، وصارت بحاجة ماسة لإعادة تقييمها ومراجعتها.
ومع أن الشعب الفلسطيني حافظ على جوهر المقاومة ومضامينها الإنسانية بالرغم من فداحة الخلل في موازين القوى وبالرغم من حجم الظلم الفاحش والأذى الذي لحق به، إلا أن ما جرى ويجري في الآونة الأخيرة غير ذلك تماما !! فالمقاومة الوطنية فقدت زمام المبادرة وباتت بدون استراتيجية واضحة ومحددة، وصارت مجرد ثأر قبلي تثور وتتصاعد حدتها بعد كل عملية اغتيال ثم لا تلبث أن تخمد بعد أن تسكن ثورة الدم، وأصبحت مجرد ردة فعل على كل عملية اعتداء، ووقوع في الفخ الإسرائيلي واللعب في الساحة التي يستدرجها إليها في الوقت والمكان الذي يحدده، وذلك للاستفادة من المناخ السياسي المواتي الذي ينجم بعد ردة الفعل الفلسطينية، إما لتحقيق مكاسب سياسية أو للخروج من مأزق داخلي أو للتخلص من الضغوطات الدولية.
والقيادات الميدانية والسياسية للمقاومة صار ينحصر دورها في ردود الأفعال وليس صنع الفعل، أي أنها في الواقع لا تمارس من النضال إلا الشكل الخارجي فقط، لأنه ببساطة يتم عمليا وفق التخطيط والظروف الذي رسمته إرادة العدو، وأصبحت ردات الفعل تلك أسيرة للبطولات الفردية التي تبحث عن مجد شخصي وحسب.
وقد اعتمدت في أسلوبها – وبشكل خاص المقاومة الإسلاموية - على الشعارات والتمنيات وإحالة الموضوع إلى القدرة الإلهية؛ وفي التعويل على روح التضحية الشعبية التي تعلي كثيرا من شأن السلاح وتقدس الشهادة، ولكن مع الأسف دون أي ربط لهذه التضحيات بإنجازات سياسية وطنية ملموسة تتناسب وحجم هذه التضحيات.
وصارت المقاومة الوطنية كما لو أنها هدفا بحد ذاته، يجد البعض من قادة المقاومة ذاتهم فيها ومن خلالها، بحيث لا يستطيعون تخيل أنفسهم خارجها، وبالتالي فمن المتوقع أن يبالغ هؤلاء في إعلاء شـأن المقـاومة حتى يجعلوا منها " تابو مقدس " لا يجوز نقده أو مسائلته أو التشكيك فيه، وكلما انغمسوا فيها أكثر كلما صارت أكثر قداسة وتأليها، إذ أن الأمر ارتبط على نحو شخصي يصعب الفكاك منه، فلا نستطيع مثلا تخيل المهلهل خارج حروب الثأر لأخيه كليب رغم أن الأخير قد شبع موتا، هذا التحول الخطير في دور المقاومة يستدعي من القائمين عليها والمسؤولين عن هذا التحول أن يعملوا على تأبيد الصراع وتعطيل كافة الحلول والمبادرات التي قد تسهم في حلحلة الوضع أو التخفيف من معاناة الناس، لأنهم ببساطة عاجزين عن العيش الطبيعي خارج نطاق المقاومة المسلحة.
وبهذا المعنى خرجت المقاومة – بصيغتها الحالية - عن وظيفتها التقليدية كضرورة يقتضيها الظرف التاريخي وكأداة لمواجهة الظلم ووسيلة لصد العدوان وكأسلوب لطرد الاحتلال ،، وصارت غاية ومطلبا، وتجاوزت السياقات المنطقية التي تفرضها معطيات المرحلة، ثم صارت عبئا وثقلا على الشعب، خاصة أنها صارت مقاومة من أجل المقاومة، وصار امتلاك السلاح واستخدامه بعيدا عن الدور الوطني وبدون ضوابط وبشكل فوضوي.
في مقالته في صحيفة الجزيرة يتسائل الكاتب جابر حبيب عن جدوى المقاومة العشوائية التي تتشدق بشعارات الكرامة والكبرياء والشرف وتتشبث بتعريف تقليدي أحادي لكل منها، ويطرح سؤاله الموجع: عن أي كرامة يتحدثون بينما مناطق المقاومة تعاقب بالحصار والقصف والجوع والجهل والمرض وتصادر حرية ابنائها تحت إلحاح تكتيكات المقاومة التي تفجر عبواتها وتطلق نيرانها بين منازل الفقراء، فتحيلهم الى مزيدٍ من الفقر والفاقة والخراب، ثم يضيف: هل من كرامة لإنسان جائع ؟ أو أب يبحث عاجزا عن علاج لابنه الذي جُرح إثر رصاصة «طائشة» اطلقها المقاومون أو عدوهم ؟!
ثم يضيف الكاتب استنتاجه الأليم بأنه طالما كان شرط الاستمرار للمقاومة هو أن تتوقف الحياة الطبيعية في محيطها البشري والجغرافي، وأن يتوقف الزمن وتؤجل كل «الكماليات» كالتعليم والصحة حتى «التحرير» الذي يظل بعيدا ومؤجلا وغامضا، فان كرامة وكبرياء وشرف الفرد يتم التنازل عنها ضمنا لصالح الفصيل المقاوم ومشروعه الغامض.
والمقاومة الوطنية التي تشذ عن الأهداف الوطنية وتصبح رهينة الحزب السياسي وبرنامجه وأيديولوجيته، تفقد مشروعيتها وصدقيتها، لأنها باتت أداة طيعة بيد الغير وتخدم أجندات خارجية وتكرس نفسها لها، ولا تتورع في كثير من الأحيان عن إعلان تبعيتها لتلك الأطراف الخارجية، والحديث هنا ينطبق أكثر على الحركات الجهادية الأصولية، وخطورة هذا التحول ليس في تشويه صورة المقاومة وحسب، بل في فرض القضايا الأممية الكبرى ( المشروع الإسلاموي العالمي ) على حساب المشروع الوطني، ومن ثم فرض برامج قتالية وأنماط معاشية أبعد ما تكون عن القضية المركزية، وجر الشعب إلى معارك جانبية واستنزاف طاقاته بلا طائل.
وهذه النمط من المقاومة الأصولية والذي بدت بوادره كمجموعات صغيرة في قطاع غزة، يحتاج إلى بيئة اجتماعية معينة تفتقر إلى مقومات الحياة الكريمة وتتغذى على الجهل وعلى المفاهيم الغيبية كشرط أساسي لنجاحها وانتشارها وحتى تتمكن من تفقيص الإنتحاريين في معاركها العدمية والعبثية، في حين أن نموذج مقاومة حماس قد بين أنها لا تتورع عن أخذ المجتمع برمته كرهينة لصالح برنامجها السياسي.
في بدايات انتفاضة الأقصى كان للمقاومة الشعبية والمشاركة الجماهيرية دورا هاما كان من المكن أن يحدث تغييرا جذريا في واقع الصراع، ولكن فصائل المقاومة وخصوصاً فصائل الإسلام السياسي عملت على عسكرة الانتفاضة وأوغلت في العمليات التفجيرية حتى وصلت الامور الى اقتران المقاومة بالعمليات الفدائية الاستشهادية، وبعد ذلك دخلت الفصائل المسلحة في تنافس شديد على هذا النمط من العمليات، وبذلك صار سقف النضال والمشاركة في الانتفاضة عاليا ولم يعد بمقدور الجماهير الانخراط في فعاليات الانتفاضة، وبالنتيجة فُرغت الانتفاضة من المحتوى الشعيبي ثم استدرجت الفصائل الى الميدان الوحيد الذي لا تملك فيه القدرة على تحقيق نتائج فاعلة، وبذلك فقد اختزلت كافة النتائج الايجابية التي راكمتها الانتفاضة الأولى، وعاد المجتمع الدولي لأسئلة شرعية العنف وقتل المدنيين بدلاً من اسئلة الاستقلال الوطني وانهاء الاحتلال.

آفاق للحل


لم يكن الخلل في يوم من الأيام في مبدأ المقاومة نفسها، بل الخلل في الإصرار على حشرها في قالب واحد محدد، ثم مصادرة كافة التعبيرات والأساليب الأخرى وإظهارها كما لو أنها نوع من الخنوع أو الإستسلام !! والخلل أيضا في تجاوز الدور الوظيفي للمقاومة المتمثل أساسا في مواجهة الظلم والاحتلال والعمل على ازالته والكفاح من أجل إيجاد حياة كريمة يمكن للناس أن يعيشوها بحرية ورفاهية، أي أنها تستهدف أولا الحياة لا الموت، والبناء لا الهدم، والتقدم بدل التخلف، والمقاومة تفقد كل معنى عندما لا يكون الانسان وكرامته وحياته ورفاهيته غايتها ومنطلقها.
المقاومة الوطنية يجب أن تكون فعل واعي خلاّق ومبادرة ذكية وإقدام شجاع تُحدَّدْ خطواتها وتكتيكاتها وفقا للمصلحة الوطنية العليا أولاً ولا تخضع لحسابات الفصيل الضيقة واعتباراته الداخلية، ومن بديهيات النضال التحرري الوطني وشرط انتصاره هو معرفة نقاط الضعف والقوة في " معسكر الثورة ومعسكر الأعداء " وعدم الانجرار وراء استراتيجية العدو والتأثر باستفزازاته.
ومن منطلق تحليل معطيات المرحلة وموازين القوى، يجب على المقاومة الوطنية أن تعيد النظر في كافة أساليبها وأدواتها وأن تجري تقييما جديا جريئا متحررا من سطوة النص وقداسة المصطلحات، بحيث يكون هذا النقد بناءً ومفيدا يضع النقاط على الحروف ويحدد مواضع الخلل بوضوح ودون خوف.
فإذا كان العالم قد تغير، فمن الأجدر بنا تفهم هذه التغيرات والإستفادة منها، فالحرب الكلايسيكية قد تجاوزها الزمن وحلت مكانها الحرب الإلكترونية التي تعتمد آخر ما تفتقت عنه التكنولوجيا الحديثة، ومن نافل القول أن العرب ليسوا في مكانة تؤهلهم لخوض هكذا نوع من الحروب، على الأقل في هذه المرحلة، والإعلام بات قوة هامة بالغة التأثير ينبغي علينا استخدامه بذكاء، والحرب الاقتصادية هي التي ستحدد معالم النظام الدولي الجديد، والتوازنات الدولية في حالة تغير ديناميكي على الدوام.
وإذا كانت معطيات المرحلة لا تسمح بممارسة الكفاح المسلح وفتح جبهة عسكرية مع العدو فإن ذلك لا يعني الاستكانة والاستسلام بأي حال، فهنالك النضال الشعبي المدني بأشكاله العديدة، والذي أثبت جدواه غير مرة، فسكان "عكا" هم من تصدوا لنابليون لا جيش الجزار، وأهل "رشـيد" هم من صمدوا أمام الجنرال "فريزر" بينما عجز عن ذلك جيش "محمد علي"، والمقاومة الشعبية في "بور سعيد" هي التي حمت الجيش الثالث بعد أن فُتحت "الدفرسوار"، وجماهير "لينينغراد" هي التي انتصرت على "النازيّين"، والمقاومة الشعبية السلمية هي التي حررت "الهند" من الاستعمار الإنجليزي ... والأمثلة كثيرة.
وبناء على ما تقدم على الشعب الفلسطيني استثمار قوته الجماهيرية الهائلة والتي ثبت أنها قادرة على قلب الطاولة وفرض رؤيته للحل، وقدرته على رفض أي حل لا يناسبه، وعليه أيضاً استخدام القوة الأخلاقية والمعنوية للقضية الفلسطينية والاستفادة من عدالتها في كسب التأييد الدولي، وتوظيف تضامن العالم الحر معه وتفهم الرأي العام العالمي لحقوقه المشروعه لصالح معركته السياسية، والإستفادة أيضا من القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية ومن تحالفاته وعلاقاته الجيدة مع العديد من دول العالم.
إذا فهذه مصادر القوة الفلسطينية التي تحتم عليه خوض النضال الوطني بأدوات وأساليب حضارية، وأن يركز جهده في المجالات السياسية والديبلوماسية على الساحة الدولية، وأن يبدع كما هو حاله دوما ومنذ أن فُرض عليه الصراع أن يبدع في المقاومة الشعبية والمدنية بكافة أساليبها، فقد قدم الشعب الفلسطيني نموذجا رائعا في المقاومة الشعبية إبان الانتفاضة الأولى أواخر العام 1987، والتي نجح فيها ومن خلالها في تحويل مشروع المقاومة من مشروع فصائلي يعتمد العمل العسكري، إلى عمل شعبي عارم ومنظم تمكن من إحداث تحولات نوعية عميقة في نهج المقاومة وأساليبها أثبتت نجاعتها، كما أحدثت المقاومة الشعبية تغيرات جوهرية في وعي العالم بالقضية الفلسطينية ونظرته تجاه إسرائيل، وبدأت تعمل في إحداث تغيرات في الوعي اليهودي نفسه في اطار المجتمع الاسرائيلي، وأسست جبهة عربية مساندة للنضال الوطني في المحيط العربي والاسلامي وحتى العالمي.
ولكن هذا من المتعذر تحقيقه اليوم في ظل أجواء الإنقسام والتشرذم وتعدد الأجندات والمرجعيات، فالتعددية السياسية التي يفاخر بها الشعب الفلسطيني أصبحت وبالاً عليه إذْ رافقتها تعددية أمنية وتعددية عسكرية وتعددية في البرامج والمنطلقات والأهداف، فلا يجوز أن تكون المقاومة رهينةً لتقدير الموقف من قبل شخص ما مهما كان عبقريا، ولا يجوز أن يبادر كل طرف من جهته حسب ما يراه مناسبا، ولا يجوز أن تصبح المقاومة وسيلة لتحسين شروط التفاوض - ولكن على المستوى الداخلي – لينال كل طرف حصته مما يعتبره كعكة للتوزيع.
المطلوب أولا الاحتكام إلى شرعية سياسية واحدة كمظلة وطنية ومرجعية عليا، والمطلوب تعزيز الوحدة الوطنية وتوحيد الخطاب السياسي والبرنامج الوطني في خطوطه العريضة والاتفاق على صيغة محددة، فإما أن نقاتل جميعا أو نهادن جميعا بتوقيت واحد وخطاب واحد.
جدلية العلاقة بين المقاومة والمفاوضات
المفاوضات عبارة عن أسلوب قديم حديث مورس تاريخيا لحل الصراعات، وتقتضي عادة وجود طرفين يقومان بالتفاوض من أجل تحقيق أهداف عجزا عن تحقيقها بالوسائل الأخرى، وبالتالي عليهما الوصول إلى نقطة ما في الوسط، وقد تكون المفاوضات أسلوبا لكسب الوقت تعطي أحد الطرفين أو كليهما هامشا من المناورة لتحقيق مكاسب معينة.
ويبين د. عبد المجيد سويلم في مقالته في الأيام أن هنالك علاقة مباشرة على درجة كبيرة من التأثير المتبادل بين المفاوضات والمقاومة، واعتبار أن المفاوضات وحدها أو المقاومة وحدها استراتيجية ناجعة هو اعتبار خاطئ من حيث المبدأ.
والفصل الحاد بين المفاوضات والمقاومة إلى حد القطيعة إنما هو أسلوب دوغمائي وعدمي تلجأ إليه عادة الجهة التي تعتمد أحد الأسلوبين دون الآخر، وقد تكون هذه القطيعة مجرد غطاء لعجز المؤمنين بالتفاوض لوحده عن ممارسة المقاومة، أو عدم امتلاك الجهة التي تمارس المقاومة إمكانية الدخول في مفاوضات، ولو طبقنا هذه الفرضية على الواقع الفلسطيني سنجد تيارا من المفاوضين الفلسطينيين لا يؤمنون بالمقاومة ويديرون المفاوضات دون مرجعيات واضحة وبسقف سياسي منخفض وبآليات خاطئة أسفرت عن تحقيق نتائج متواضعة وقدمت تنازلات كان من الممكن تفاديها، وفي الجانب الآخر سنجد فصائل المقاومة التي لا تؤمن بالمفاوضات تريد إقحام الشعب في معركة مفتوحة بلا نهاية بحيث يقدم تضحيات باهظة دون نتائج ملموسة.
وحجة المفاوضين أن العمل العسكري غير المدروس سيربكهم ويضعف موقفهم ويدفعهم إلى معارك جانبية وبالتالي تقديم تنازلات، أما فصائل المقاومة فجوابها جاهز وحجتها أن الفلسطينيين قد جربوا المفاوضات عشر سنين دون طائل والنتيجة أننا عدنا إلى المربع الأول !!! ( متى بدأت هذه السنوات العشرة ومتى انتهت ؟ وأين جرت هذه المفاوضات ؟! ) والحقيقة التي يتعامى عنها الطرفان ولا يريدون أن يروها هي أن الفلسطينيين قد خاضوا الصراع بأسوأ طريقة ممكنة، فبسبب التنافس والصراع بين الطرفين ( المقاوم والمفاوض ) لم يكن هنالك أي تنسيق أو تناغم أو تكامل بين العمل العسكري وبين العمل السياسي، فلم يأخذ أي منهم فرصته في النجاح.
المفاوضات سابقا أسفرت عن نتائج بالغة الأهمية تمثلت في إخراج م.ت.ف من عزلتها السياسية بعد هزيمة العراق وتفكك الاتحاد السوفياتي ووصول الانتفاضة لحائط مسدود، وبالتالي نجحت في إعادتها إلى الساحة الدولية بقوة وإعادة الاعتبار لها وبالتالي إنقاذ المشروع الوطني الذي كان يتهدده خطر السحق تحت عجلات النظام الدولي الجديد، ثم منح الانتفاضة الأولى إنجازا سياسيا بعد أن كادت تضيع جهودها أدراج الرياح، ثم انتزاع الاعتراف العالمي بحقوق الشعب الفلسطيني عبر اتفاقيات دولية وقرارات من مجلس الأمن، ثم تغيير نظرة العالم تجاه حقوقه السياسية والتي تمخضت عن موافقة الدول الكبرى على إقامة دولة فلسطينية، كل هذه الإنجازات دخلت من بوابة أوسلو، حتى قوى المقاومة التي لا تعترف بأوسلو إنما هي موجودة الآن بفضل هذه الاتفاقية، والسلطة الوطنية التي قاتلت من أجل السيطرة عليها هي نفسها أهم نتائج المفاوضات، ولكن هذه المفاوضات لا يمكن أن تنجح في ظل سلسلة من العمليات التفجيرية، فقوى التطرف في الجانبين حاربتها بكل ضراوة حتى تمكنت من إفشالها وتغيير النتائج لصالح رؤيتها السياسية والأيديولوجية، والتي كانت وللأسف تفتقر للبديل.
وبما ان المطلوب من المفاوضات تغيير الواقع أو الحفاظ عليه لأمد ما ريثما تتغير الظروف، وهو أمر يعتمد على وسائل الضغط وعناصر القوة التي يمتلكها كل طرف، فإن هذا الامر يعطي المقاومة قدرة على تغيير الواقع وبالتالي التأثير في معادلة التفاوض، من هنا فإن اعتماد التفاوض بمعزل عن المقاومة او اعتماد المقاومة بمعزل عن التفاوض أمر يخرج عن سياق المنطق والعقل، وعليه فإن المفاوضات بدون قوة تسندها تصبح ضربا من التسول، والمقاومة التي لا تتوج بمفاوضات تصبح صنما ثم تتحول إلى هدف فكري وثقافي.
إن تلازم المفاوضات مع المقاومة وتسليحها بهدف سياسي يجعل من الأخيرة عملية سياسية بامتياز، بحيث تتحرر من النظرة الإطلاقية التي تجعل من الأشياء مسلمات وثوابت جامدة سرعان ما تتحول إلى " تابو"، بمعنى أن هذا التلازم يضع الأمور في نصابها الموضوعي، فلا يعود هنالك غايات سامية او غير سامية أو حلال وحرام، لأن الموضوع برمته ليس قضية فكرية أو فقهية، وإنما قضية معطيات سياسية ووقائع مادية يتحكم فيها ميزان القوى، وتلعب فيها طريقة إدارة الصراع دورا معينا ينجح في التأثير في تغيير هذا الميزان بقدر ما ينجح في الموائمة بين التفاوض والمقاومة.
ويؤكد د. سويلم في نفس المقالة على أن المقاومة الشعبية المدنية بالمفهوم السلمي أكثر تأثيراً على واقع الصراع من المقاومة المسلحة، وهي حاليا تشكل النمط الوحيد من المقاومة القادرة على التعايش مع مفهوم المفاوضات، حيث أن القيام بالمفاوضات والعمل المسلح في نفس الوقت يعد أمرا متعذرا في ظل الظروف االسياسية الحالية، سيما وأن السلطة الوطنية وكافة مقومات النظام السياسي الفلسطيني ما هي إلا نتاج اتفاق سياسي وتوافق اقليمي ودولي، ومن هنا ستكون المقاومة الشعبية هي الوحيدة التي تستطيع توفير عوامل القوة للمفاوض الفلسطيني.
وحتى لو كانت المقاومة المسلحة حقٌ يكفله القانون الدولي، فهذا ليس كافيا، فالمسألة هي كيف ومتى نستخدم هذا الحق، إذ أن استخدامه يعتمد أولاً على الظروف والمعطيات المتاحة، أما قتل المدنيين فهو مخالف للقانون الدولي ومخالف لمنطق التحرر الوطني وهو العنوان الكبير لمطلوب أخضاعه للمراجعة.

المقاومة وبرنامج التحرر الوطني

بما أن المرحلة التي يمر بها الشعب الفلسطيني مرحلة تحرر وطني، وذلك على ضوء فهمنا للخصوصية الوطنية للقضية وعلى فهمنا للبعد المحلي للدور الوظيفي للكيان الإسرائيلي، واستنادا لتحليلنا للصراع وركائزه الحضارية الحقيقية، وبالتالي يجب أن تكون أداة الحل وطنية من خلال الشعب وقواه الحية والمناضلة بمحتوى وطني وأداة وطنية وأسلوب وطني بحيث تلتقي فيه كافة القوى والشرائح الفلسطينية على برنامج واحد وهدف واحد هو التحرير والعودة.
ومع أن فصائل منظمة التحرير الفلسطينية دخلت السلطة الوطنية قبل أن تبلغ غايتها وتنجز أهدافها الاستراتيجية والوطنية المتمثلة بالتحرير والعودة، وانتقلت دفعة واحدة إلى المشروع السياسي للكيانية الفلسطينية بالمعنى الدولاني، وكادت أن تقترب من مفاوضات الحل النهائي وإنهاء الصراع وهي ما زالت تحت الاحتلال وتخضع لشروط تسوية غير عادلة وبدون ضمانات في ظل اختلال فادح في موازين القوى، ومما لا شك فيه أن هذا النوع من حرق المراحل سيؤدي إلى خلق حالة من التشابك والتداخل بين سمات ومتطلبات مرحلة التحرر الوطني وبين مقتضيات العمل السياسي، وفي النتيجة امَّحَتْ أو كادت أن تضيع الخطوط الفاصلة لكل مرحلة، كما تناقضت وعطلت كل منها على الأخرى، فبناء سلطة ومجتمع ونواة دولة يتطلب من فصائل المقاومة أن تذوب في مشروع السلطة وأن تتماهى في مؤسساتها حتى لو كان ذلك على حساب التنظيم، واستحقاقات العمل السياسي وفق الشروط الدولية الراهنة سيكون أيضاً على حساب صورة العمل الفدائي في الخيال الشعبي.
والخلاصة أن المقاومة وإن كان هدفها التحرير إلا أن ديدنها يجب أن يكون الإنسان كمنطلق وغاية، وكرامته هي حجر الزاوية في تكتيكاته وأساليبه، إلا أنها وللأسف حادت عن هذه الرؤية واعتراها الكثير من التشويش في الآونة الأخيرة، الأمر الآخر هو أن إزدواجية الخطاب السياسي لقوى المقاومة الفلسطينية وتعدد مرجعياتها وتباين منطلقاتها وأهدافها والأخطاء التي وقعت فيها والتي تزامنت مع مرحلة بالغة الصعوبة والتعقيد والتشابك أدت في نهاية المطاف إلى تكريس حالة الانقسام والتشرذم، الأمر الذي ترك آثارا بالغة السوء على إمكانية نجاح المشروع الوطني بالتحرر والاستقلال.

تموز - 08
المراجع

1. مركز دراسات الشرق الأوسط، وثيقة مفهوم الإرهاب والمقاومة، تموز 2003 ، عمان – الأردن، نخبة من المفكرين العرب.
2. جابر حبيب جابر، عندما تكون المقاومة مشروع استعباد لا تحرير، جريدة الشرق الأوسط، العدد 10772، 26-5-2008، المملكة العربية السعودية.
3. د. هيثم مناع، حق المقاومة من حقوق الإنسان، ندوة اللجنة العربية لحقوق الإنسان، باريس 10-2006 .
4. د. عبد المجيد سويلم، قضية المقاومة والمراجعة المطلوبة، صحيفة الأيام الفلسطينية 22/5/2008.
5. هيكل البناء الثوري، حركة التحرير الوطني الفلسطيني – فتح، إصدارات الشؤون الفكرية والدراسات.

هناك تعليق واحد:

  1. هو أن إزدواجية الخطاب السياسي لقوى المقاومة الفلسطينية وتعدد مرجعياتها وتباين منطلقاتها وأهدافها والأخطاء التي وقعت فيها والتي تزامنت مع مرحلة بالغة الصعوبة والتعقيد والتشابك أدت في نهاية المطاف إلى تكريس حالة الانقسام والتشرذم، الأمر الذي ترك آثارا بالغة السوء على إمكانية نجاح المشروع الوطني بالتحرر والاستقلال.

    هذا هو الحق بعينه قد صدقت وأجدت وصف الواقع المعاش
    للأسف هذا ه واقع حالنا
    كل الشكر لك

    ردحذف