أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

يوليو 20، 2008

أنماط التفكير لدى العقل السياسي العربي


تحتل العقيدة مساحات شاسعة من عقل الإنسان الباطني وضميره وتلعب دوراً محورياً في حياة الشعوب، وعليه فقد كانت محركاً لأحداث التاريخ وتدافع الشعوب صوب بعضها للحرب أو السلام، للتناقض أو التقاء المصالح، وشكلت العقائد أيضاً وعي الشعوب وذاكرتها الجماعية وصاغت عقلها وفكرها وحددت أنماط سلوكها، وكانت نقطة جذب واستقطاب للفئات الاجتماعية من مختلف الشرائح والطبقات ومحوراً تلتف من حوله مشكلة بذلك الطوائف والملل والمذاهب الفكرية والتيارات السياسية .


وتستطيع العقيدة أن تدفع بالإنسان نحو أي عمل يمليه عليه انتماؤه العقائدي اندفاعاً قوياً طاغياً، يُقبل من خلاله حتى على الموت دون تردد، ويصعب على أي قوة ثانية أن تهيمن على الإنسان بنفس الدرجة أو أن تشكل حافزاً ودافعاً تماماً كما تفعل العقيدة .

هذه الحقيقة أدركتها السلطة واستغلتها إلى أقصى الحدود، وعرفت ما لها من قوة وسحر على عقول الناس واتجاهاتهم، ومن أجل استثمار هذه القوة وتأطيرها كانت تضم تحت جناحها رجالاً يعرفون كيف يحركون هذا الوازع الديني ويخرجون مارده من القمقم، لتستغل طاقة الملايين من البشر بل ودماؤهم أيضاً للوصول إلى الأهداف السياسية التي تبتغيها، هؤلاء الرجال يطلق عليهم تسمية "رجال الدين"، وهم إما سحرة ومشعوذين كما هو الحال عند القبائل البدائية، أو رهبان وحاخامات ومشايخ عند الديانات السماوية أو موظفون رسميون ووعاظاً للسلاطين، يتشابهون تماماً في خصائص معينة رغم اختلاف لون العمامات والزي ويتفقون فيما بينهم على أمور أربع : محاربة التقدم والتغيير، محاباة السلطة والتملق لها، التعيش من وراء الدين، استغلال بساطة الناس وسذاجتهم، وبعد ذلك يبررون للسلطة مفاسدها ويجمّلون صورتها.

أما الإسلام فقد حارب ومنذ بداياته مبدأ رجال الدين، ومنع أن يكون لهم زياً خاصاً، كما حرّم فكرة التعيش من وراء الدين، وساوى بين الناس في الحقوق والواجبات وفاضل بينهم على أساس التقوى وكرم العلماء وشرفهم، حيث لا يوجد في الإسلام كهنوت أو رجال دين ولم يدعو في جوهره لدولة ثيوقراطية.

وقد برزت ظاهرة رجال الدين في التاريخ الإسلامي في بدايات العصر الأموي وتحديداً في أروقة السلطان وديوانه فنمت في ظله وتقوت بماله وأكلت من موائده، فكان الجندرمة والجباة والعسس يتعسفون بالشعب ويعملون السيف على رقاب الناس ويملئون بمن نجا منهم السجون، والسلطان يلهو بملذاته ويتفرد بالسلطة ويتفرغ لسماع قصائد المدح، أما وعاظ السلاطين فكانت مهمتهم تبرير كل هذه الممارسات، فأسسوا من أجل ذلك خطاباً متميزاً لم يختلف في جوهره رغم مر العصور وتبدل السلاطين والأنظمة، والمواطن العربي ما زال واقعا تحت تأثير هذا الخطاب .

ومن الجدير بالذكر أن الخطاب الديني السياسي سواء أكان منطلقاً من المؤسسات الرسمية، أو منطلقاً من الجماعات الدينية والمعارضة هو خطاب واحد متشابه لا يختلف من حيث المضمون والمنطلقات بل يختلف فقط في الكم والأسلوب اختلافاً شكليا لا غير.
وإلى جانب الخطاب الديني كان الخطاب السياسي يبني ويؤسس نماذج وطرائق للتفكير السياسي ويؤثر في كيفية تعامل المواطن العربي مع السياسة وكيفية تشكل وعيه السياسي، وفي صياغة وعيه العام.

من المعروف أن السياسية ظلت طوال العصور الماضية جزءاً من الثالوث المحرم يحظر على المواطن الاقتراب منها أو التحدث فيها، فبمقدار ما كانت السياسة تحيط بالمواطن من كل الجوانب وتتسلل إليه من كل النوافذ بمقدار ما كان المواطن بعيداً عنها أو بعبارة أخرى بعيداً عن فهمها، وبقي معتقداً أنها من اختصاص علية القوم وليس من صلاحيات الشعب ولا بمقدورهم التدخل فيها أو التأثير على مجرياتها، فصار المواطن يتناولها كشيء مجرد وخيالي ويتعامل معها بسطحية وسذاجة تأخذ صيغة الهبات العاطفية وردود الفعل الآنية وأحياناً المشاركة الخجولة بالشكل التي تضمن له السلامة الشخصية، أو الاكتفاء بالنقد وتوجيه اللوم على الأطراف كنوع من تبرئة الذات والتخلص من عبء المسؤولية.

لهذا كانت السجالات السياسية بين الأفراد بما فيهم المثقفين تأخذ شكل المناظرات والاستعراضات اللفظية والحدة والتطرف في الطرح دون أن يخرج المتحدثون برؤية جديدة أو يقدموا حلاً ما، والمثقفين أيضاً ساهموا في تعميق هذه الأزمة وتناولوا السياسة كممارسة مترفة مترفعة لا تتصل بالواقع ولا تنزل إلى مستوى الجماهير، منطلقين في تحليلهم السياسي من مفاهيم سلبية عقيمة مستخدمين آليات تفكير عدمية كانت توصل على الدوام إلى المجهول والغامض أو تعود إلى نقطة الصفر وتعجز عن تقديم الحلول العملية أو تنوير الجماهير، وإليكم نماذج وأنماط من العقل السياسي العربي:


1. الخـطاب المغـلق
حين يقوم الأب أو المعلم أو أي سلطة صغر شأنها أم عظم بالادعاء باحتكار الصواب وامتلاك الحقيقة المطلقة التي لا يتجادل عليها اثنان ولا يتناطح عليها عنزان !! باعتبار أنهم أصحاب الخبرة والمعرفة فإنهم بذلك يؤسسون لخطاب مغلق، أي لخطاب من طرف واحد حيث يغيب تماماً أو يُغيّب الطرف الآخر فلا يحسب له حساب ولا يؤخذ له برأي .

الخطاب الإسلاموي المعاصر هو كغيره من الخطابات المغلقة الديكتاتورية التي ابتلي بها مجتمعنا وعانى منها الكثير، وأصحاب هذا الخطاب يلتجئون خلف نصوص مقدسة ويحتمون بها، وينتحلون لأنفسهم الحق بأن يكونوا مفسريها الوحيدون، أي أنهم يعملون على مصادرة كل معاني الإسلام لصالحهم بأن يجعلوا من أنفسهم مفسريه والقيمين عليه، ويَشْرَعون بتنشيب أسلحتهم من فوق هذه النصوص وتصويبها على رقاب الآخرين، فالاحتماء خلف نصوص جاهزة محفوظة وتحظى باحترام الأغلبية هو أسهل بكثير من اجتراح نصوص جديدة قد تكون مثاراً للجدل وموضعا للنقد، وأسلم بكثير من عملية البحث والتقصي لما في ذلك من صعوبات ومغامرة غير مضمونة النتائج .

ولم يدرك هؤلاء بأن الحقيقة المطلقة لا وجود لها إلا في الفكر المثالي المترف، وأن تطور أدوات المعرفة قد جرد الحقيقة المطلقة من ثوبها الزائف وأنزلها من السماء إلى الأرض وأزال قناعها ليظهر وجهها الأصيل، وأخضع كل النصوص لمحاكمة عنيفة ونقد لا يرحم بعد أن نزع عنها هالة القداسة ولتبدو كما هي لا كما نتمنى رؤيتها: محدودة ، نسبية ، قابلة للتطوير والنفي والاستبدال.

وفي عصرنا الراهن عصر المتغيرات والانقلابات المدهشة يتوجب علينا أن لا نقبع في نسيج من الأوهام ظانين بأننا على قمة الصواب وفي كبد الحقيقة، بل أن نمتلك وسائل البحث العلمي وفق مبدأ التجربة والبرهان، وبعقلية نقدية بناءة وذهن مفتوح نجوب في فضاءات المعرفة والاستكشاف بدون تحجر أو تصلب.

والإسلامويون من ممثلي الإسلام السياسي وهم يؤسسون لخطابهم الديني وفي سبيل إثبات حضورهم فإن أول ما يقومون به هو حمل المصاحف على أسنة الرماح كما فعل أصحاب معاوية، والادعاء بأنهم ظل الله الممدود على الأرض والأوصياء على عقول الناس والقائمين على الإسلام الحافظين له والممثلين لنهجه الصحيح، وخلف هذه الدعاوي يواصلون جهودهم للظفر بالسلطة والنيل من خصومهم وتكفيرهم، ثم يختفون تحتها لممارسة النزوات والشهوات ظانين بأنهم في المكان الأبعد عن الشبهات حيث لا يجرؤ أحد على الاقتراب منه مرددين صيحتهم الشهيرة " لا اجتهاد في النص "، فإذا مُنع الاجتهاد في النص فأين يكون إذن ؟!

وهذا يؤكد على أهمية مراجعة هذا الخطاب وإعادة قراءته على أسس هادئة موضوعية، خاصة وأنه قد دأب في العقود الأخيرة على ممارسة نهج غريب لإثبات تفوقه وتأكيد حضوره ونسفه للآخر من خلال آليات عديدة : فهو أولاً يبدأ بتكفير الآخر وتخوينه وإخراجه من دار الإسلام لمجرد الاختلاف معه في وجهات النظر، ثم لا يكف عن توجيه أية اتهامات أخرى قد تفيده في معركته الجدلية، فيبدأ النقاش بذهنية مغلقة وأفق ضيق حاملاً وجهة نظر مسبقة من خلال طرح المأثورات المحفوظة عن ظهر قلب وترديدها في كل مناسبة، والتعامل بقوالب فكرية جامدة تحيطها هالة من القداسة ظاناً أنه "جهيزة التي قطعت قول كل خطيب"، ولن يتورع عن الخروج عن أدب الحوار وتقاليد الإسلام الأصيلة في الجدل والتي أمر بها الله سبحانه حين قال سبحانه: " وجادلوهم بالتي هي أحسن “، وسرعان ما يثور ويزمجر معتقداً بأن عرش السماء قد اهتز من هول ما يقوله الخصم من كفر وإلحاد ووقاحة ما بعدها وقاحة، وإذا ما صبر على نفسه واستمع لمحاورة فإنه حتماً لن يكون بعقل صافي وذهن مفتوح بل ينتظره لإكمال جملته ليبدأ بعدها بترديد ما تم حفظه من قبل، وكأنه لم يسمع شيئاً أو كمن يحاور نفسه .

وأخطر ما قد يمارسه أصحاب هذا النهج المستفز على الدوام، هو ما يعرف بالقراءة الانتقائية لخطاب الطرف الآخر، فيأخذ منه ما يريد ويترك ما يريد، وينتزع الجمل من سياقاتها ويشوهها ويشوه دلالاتها ويقوّلها ما لم تقله وينسب إليها ما هو موجود أصلاً في ذهنه من أحكام صادرة ضد هذا الخصم أو ذاك، على مبدأ " ويل للمصلين "، وسيضطر حينها لتقمص دور المظلوم الباحث عن الحق، وسيضع الغرب جميعهم في سلة واحدة ويصوره على أنه معادي للإسلام وحاقد عليه، معتمداً في ذلك على المبدأ الفاشي "من كان معي فهو صديقي أما من هو ضدي فهو عدوي" .

وهذا هو التعصب والغلو بعينه، فطبيعة هذه العقلية المتطرفة أنها تؤمن بالفكرة إيماناً مطلقاً مع استحالة أي إمكانية لتغييرها أو تطويرها على اعتبار أنها مقدسة ونهائية ومنزلة من السماء، وأن تكون متصلبة وعنيدة في أعماقها لأن الأمر يتعلق بقراءة معينة للإسلام مندفعة إلى حدها الأقصى، فتتعمق بالدين إلى حد أنها تخرج منه مثلما يخرج السهم من الرمية، وبذلك فإن هذا الغلو الديني والتعصب الأعمى سيقود في نهاية المطاف إلى عدم فهم الدين فهماً صحيحاً أو تمثّل روحه أو إدراك أي شيء منه، أي إلى عبور الإسلام دون أن تأخذ منه شيئاً .

والغلو والتطرف ظاهرة موجودة تاريخيا منذ القدم، ولم يكتب لها النجاح ولم تحظى بشرف التغيير إلا في فترات استثنائية قصيرة كانت سرعان ما تنقضي وتزول، والخوارج هم التعبير الصارخ عن هذه الظاهرة في صدر الإسـلام، وفي حربهم ضد جيش علي بن أبي طالب كانوا يرددون صرختهم الحربية " الرواح ، الرواح إلى الجنة " .

ومن الملفت للنظر أن هذه الظاهرة تبرز أكثر في المجتمعات البدائية وتقل حدتها كلما تعمقت الحياة المدنية وأرست دعائمها، وقد استغلت السلطة هذه الظاهرة في مختلف العصور أبشع استغلال فكانت الكنيسة إبان الحروب الصليبية تُنشيء دوراً لطباعة صكوك الغفران، أما إيران فقد بنت أثناء حربها ضد العراق معامل لإنتاج مفاتيح الجنة، والجماعات الإسلامية المتطرفة تشحن أعضائها - المكبوتين أصلاً - بالتعصب والغلو وتعودهم على الطاعة العمياء وتدفع بهم إلى القتل والتخريب والانتحار وتبني لهم قصوراً في الجنة .

إن الخطاب المغلق سيُنشيء جيلاً مقلداً بذهنية مغلقة متعصبة، وهذه الذهنية من فرط أنانيتها لن ترى إلا نفسها وستتجاهل وجود الآخرين وتنكر عليهم حقهم في الاجتهاد وحرية الرأي، وستعمل بكل قوتها على نفيهم وتسفيه أفكارهم وإقصائهم، وهي بلا شك ستوفر المناخ الملائم لبروز الجماعات المسلحة المتطرفة المعادية للمجتمع الرافضة لتطوره، بل هي التي وفرت المناخ والظروف لبروز الأنظمة الديكتاتورية التي ملئت البلاد بالسجون والمقهورين، لتبقى تفرخ على الدوام شخصيات مضطربة قلقة يتعايش فيها الخنوع والاستبداد جنباً إلى جنب : الخنوع أمام القوي الظالم والاستبداد والتعالي أمام الضعيف والفقير .

إن الخطاب المغلق مهما كان نوعه إسلامياً أم علمانياً ثورياً أم محافظاً لن يفسح المجال أمام التقدم والتجديد وسينتج أجيالاً مشوهة ومشوشة ومتوترة بحيث تبقى تنتظر الوقت الملائم للانتقام وتفريغ شحنات القهر والكبت، وحتى تتاح لها تلك الفرصة ستبقى تعاني من الازدواج والانفصام والكذب والنفاق لأنها لم تتعلم في يوم من الأيام كيف تحترم الآخر وتتقبل النقد وتحتمل الرأي المخالف.

2. الاستلاب الفكري والعقلية السوداوية

ينشأ مرض " الإيدز " في حالة تعرض الجسم لهجوم مباغت من قبل فيروس معين يؤدي إلى تحطيم نظام المناعة وشل خطوط الدفاع، وعندها سيكون الموت هو النتيجة المنتظرة لأي مرض قد يصيب الجسم حتى لو كان مرضـاً عـادياً، إذ أن الجسم بات عاجزا عن الدفاع عن نفسه.

من هذا المثال سننطلق في تعريفنا للإستلاب الفكري نظرا للتشابه الكبير بين الحالتين، فكما أن الإيـدز يؤدي إلى موت الجسد، فإن الإستلاب الفكري أو نقص " المناعة الفكرية " سيؤدي أيضا إلى موت الروح، وكما أن الدم يشكل مناعة الجسم فإن قيم الأمة وتراثها تشكلان حصنها المنيع المدافع عن وجودها ومستقبلها، ولذلك فهي أول ما يستهدفه الأعداء في غزوهم الثقافي، وهي ساحة النزال في معترك الأمة الحضاري وجبهتها الرئيسية، وبمقدار تجذر هذه القيم والمبادئ في عقل الأمة وضميرها بمقدار ما ستصمد وتخوض حربها وهي واثقة مؤمنة بحتمية النصر، ولكن دون أن يكون هذا التجذر ذريعة للقوى المحافظة والرجعية وسندا لها في صراعها مع قوى التغيير، أو قناعا تخفي ورائه وجهها المتخلف الرافض لأي تطور .

فالشجرة المتجذرة تورق وتبرعم كل عام وتطلق أغصانها إلى عنان السماء وهي تنبض بالحياة، أما الشجرة المتصلبة فتعطي حطبا سرعان ما يتكسر ويتعفن ويتجاوزه الزمن، والفرق بين الأصالة والرجعية هو الفرق بين الإبداع والتقليد، الأول يعني الاستمرارية والتطور في حين أن الثاني سيؤدي إلى فقدان الملامح وضياع الهوية، والذين يحاربون التقدم والتجديد بحجة المحافظة على التراث ليسوا أشد خطرا ممن يجارون الغرب ويحاكونه بالتقليد والانبهار بالشكليات بحجة الحداثة والولوج إلى المستقبل، لأن الحداثة هنا ستعني التبعية وطالما أنها انطلقت من مجتمع تابع فهي لن تؤدي إلى مجتمع حديث بل إلى مجتمع بطركي تقليدي ملقح بالحداثة، بحيث أن عملية التحديث تصبح نوعا من الحداثة المعكوسة، وتلك معضلة تاريخية / فكرية ما زلنا نعاني منها وندفع ثمنها، وكما أن الحداثة هي نقيض الرجعية فإن الإنتماء هو نقيض الاستلاب الفكري، والانتماء موجود في الإنسان بشكل غريزي وفطري ولكنه ينمو ويتعزز أو يضرب ويشوه نتيجة عوامل معينة.

هنالك فئة من الناس تجري وراء الإشاعات وتلهث خلف كل جديد وتعمي عيونها الأضواء، وتنزع القديم كما تنزع الحية ثوبها، وتعتبر أصالتها تخلفا ومبدئيتها قيدا، لذلك هؤلاء هم أول ضحايا الغزو الأجنبي وأدواته في معركته الثقافية .

ومن نافل القول أن للإستعمار أشكالا مختلفة تتفاوت في بشاعتها وتتنوع في أساليبها :
: الاستعمار العسكري الكولونيالي وقد بات من مخلفات الماضي ولم يبقى من أمثلته القميئة سوى إسرائيل .
: الاستعمار الاقتصادي الذي يكبل الأمة ويحول دون استقلالها السياسي وامتلاكها لسيادتها الكاملة .
: الاستعمار الثقافي وهو الأخطر لأنه يحاصر ليس فقط واقع الأمة وحاضرها بل ومستقبلها وأجيالها القادمة ويبقيها مرتبطة به، فإذا كانت الحملات التبشيرية قديما في مجاهل إفريقيا وأقاصي آسيا مقدمة ضرورية تسبق الجيوش الغازية وتعبد الطريق أمامها لأسباب أبعد ما تكون عن الدين، بل لتجعل الشعوب مستعدة لاستقبال الغزاة ومهيأة للتعامل معهم ومحاكاتهم والقبول بهم دون مقاومة، أي بعد أن تم تطبيع عقولها بلغة ودين الغزاة اللتان حملاها المبشرون من قبل، فإن هذا الشكل التقليدي لم يعد مقبولا وتم إستبداله بأدوات وأساليب متنوعة تعتمد على التكنولوجيا الحديثة وإمكانيات الإعلام الهائلة .

فبعد انسحاب الجيوش وعودتها إلى بلدانها الأصلية لم تعد التحالفات الاقتصادية ولا المعاهدات العسكرية تشكل ضمانات أبدية للمستعمر لكي يحفظ مصالحه ويبقي البلاد مجالا حيويا له، خاصة في عالم الإنفتاح الاقتصادي وثورة نقل المعلومات، فكان لابد من الغزو الثقافي كضرورة استعمارية تؤمن مصالح الدول الكبرى وتضمن استمرار هيمنتها، وهي – أي الدول الإستعمارية – لا تعتمد في حربها غير المقدسة هذه على تشويه التاريخ وإعادة كتابته كما فعل بعض المستشرقين، أو ضرب اللغة وتطعيمها بالمصطلحات الأجنبية أو إستبدالها بلغة المستعمر كما حدث في أمريكا اللاتينية والجزائر، أو إستخدام الأساليب غير الإنسانية كالمخدرات كما فعلت في الصين وغيرها، ليس هذا فحسب بل وأيضا عمدت إلى خلق ثقافة جديدة قوامها الكوكاكولا وماكدونالد والكاوبوي وصرعات الموضة وتقليعاتها المثيرة وذلك من خلال الإعلام والدعايات والسينما الأمريكية التي تقدم نفسها كنموذج يبهر الأبصار وينفذ إلى القلوب ويشكّل وعي جيل كامل .

في خضم هذا الصراع الحضاري دأب الغزو الثقافي على ممارسة أساليب خطيرة تقوم على الإستغلال ونفي الآخر وذلك في سياق محاولاته المحمومة في الاعتداء على حاضر الأمة ومستقبلها، سواء في خلق ركائز مادية تدعمه، أو في البحث عن شرائح اجتماعية موالية، أو تثبيت الصيغ السياسية السائدة والتركيبات الاجتماعية المتخلفة، أو في تفريغ ثقافة الأمة من محتواها الحضاري بالتطاول على الدين وتحريفه وتشويه صورته وربطه بالإرهاب والتخلف، أو في سرقة التراث والفولكلور الشعبي، ليتمكن في النهاية من إنتاج جيل مشوه لا منتمي وبلا هدف، يعيش مخنوقا بين الأزمات ومحتقنا بكل محفزات الانحراف، ومستعدا للهجرة والهروب ساعيا نحو الخلاص الفردي .

ومن البديهي أن هذه العملية لا تتم من طرف واحد، فالطرف الأول هو العدو المتفوق الذي يخطط وينفذ، والطرف الثاني هي الفئات الاجتماعية المحتلة عقولها المستلبة إرادتها التي تعيش الى جانب ذلك في جو من التخلف والكبت والانكسار .

والصورة ليست على هذه الدرجة من القتامة وهناك حيز للتفاؤل، فإذا كانت أمتنا قد منيت بهزائم عسكرية فهي ما زالت تقاوم وتحاول أن تأخذ مكانتها بين الأمم، وما يعيق من تقدمها هو بعض الشرائح الإجتماعية التي منيت بهزيمة في روحها وعقلها، إذ آمنت بالهزيمة وأقرت بها في عقلها الباطن ومارست نتائجها في عقلها الظاهر وتعاملت معها كواقع لا يتغير وقدر لا فكاك منه، حتى باتت الهزيمة جزءا أصيلا من فكرها ومنطلقا لآلية تفكيرها.

هذه العقلية المهزومة والروح المنكسرة التي ملأ عيونها السواد وخيم على قلبها التشاؤم لن ترى إلا إنتصارات العدو وانجازاته وديمقراطيته الزائفة وقد بهرت به فبدأت بمحاباته وتقليده وتهيأت نفسيا لمساعدته، ووصل بها حد التطبيع أنها صارت تؤمن بأن هذا العدو هو من يستحق الحياة بل أن الحياة ذاتها وُجدت من أجله بينما نحن خلقنا على هامشها.

ومن الطبيعي أن تكون لهذه العقلية المستلبة درجات ومراحل عديدة : أولها وأبسطها ما ينطبق على كثير من الناس البسطاء بحيث تجعل منهم سطحيين أو سلبيين ومتفرجين، أما أعلى هذه الدرجات وأكثرها خطورة ما يصل بالإنسان إلى حد العمالة والجاسوسية بالمعنى المهني للكلمة .

وبين هذه الدرجات تتفاوت ثقافات الناس ومقدار انتمائهم، والأكثرية الساحقة منهم تتخلص من حالة الاستلاب هذه بسهولة ويعودون إلى جادة الصواب ممتلئين ثقة بالنفس وأملا بالمستقبل، وذلك بمجرد أن يهب الشعب أو يتحقق إنجازا ما أو نصرا معينا، والأهم من ذلك كله هو عندما تمتلك القيادة برنامجا وطنيا واضحا صادقا تلتف من حوله الجماهير وتتمسك به القيادة وتبدأ بتنفيذه، وكلما تقدمت الطليعة وغلت تضحياتها كلما تحرر البسطاء من الاستلاب الفكري وارتفعت روحهم المعنوية .

إن العقلية المستلبة هي العقلية التي فقدت بوصلتها واهتزت ثقتها بنفسها وانعدم لديها الأمل بالمستقبل، وهي عقلية إنتهازية غير مضحية مزاودة على الدوام، فهي تنطلق من واقع مأزوم وتكونت في ظروف الكبت والاستبداد ونمت مع الأزمات والهزائم، فهي عقلية تستمد ثقافتها من الخارج، وتبني مواقفها استنادا إلى تصريحات الأعداء، وانهارت دفاعاتها وفقدت أي مناعة فكرية قد تحميها من التقلبات السياسية، وتشكل قناعتها الأخيرة حسب الوضع السياسي والمصلحة الذاتية .

والعقلية المستلبة تدفع صاحبها لأن يصدق كل تصريحات العدو ويأخذها على محمل الجد، وينظر إلى تهديداته بخوف واحترام، بينما سينظر إلى تصريحات الزعماء الوطنيين ونواياهم وخططهم باستخفاف وإهمال، وهذا ليس غريبا فقد إمتلأ قلبها بالتشاؤم ولم تعد ترى سوى الجزء الفارغ من الكأس، وبهذا المعنى ستكون العقلية السوداوية هي الوجه الآخر للإستلاب الفكري ونتيجة له .

والعقلية السوداوية لا يكمن خطرها على صاحبها فقط بحيث تدمره، بل ويتعدى ذلك إلى بقية أفراد المجتمع ، فهي لن تتوقف عن نشر الإشاعات وتهويل قوة العدو والحط من شأن الذات، فهي عقلية عمياء لن ترى إلا نفسها وفي صورتها الشاحبة، بحيث تمتنع عن العطاء إذا لم يكن هناك مقابل وتلمس نتائجه الفورية، وسوف تبرر تشاؤمها بعدم إمكانية التغيير ضمن الظروف والمعطيات الحالية، وهذه العقلية ستدفع أصحابها للهروب بعد أن امتلأت سوادا ويأسا والهاربون لا يصنعون نصرا بطبيعة الحال .

3. الذهـنية الغـيبية

منذ أقدم العصور حين كان الإنسان على غير وفاق مع الطبيعة كان كلما حلت به كارثة بسبب إحدى ظواهرها، بدلاً من أن يعمل على دراسة أسباب الظاهرة وكيفية مواجهتها كان يمتلئ رعباً وخوفاً، ليس فقط من الظاهرة نفسها بل من أن تتكرر ثانية، أو أنه على الأرجح كان يظن بأن قوة خارقة مجهولة هي التي تسلط عليه الكوارث والمحن لتعاقبه على تقصير ما أو على ذنب قد اقترفه فيلجأ إلى التقرب منها ومناجاتها، وشيئاً فشيئاً أخذت تسيطر عليه لتجعله يعبدها ويبتهل إليها ويقدم لها القرابين حتى ترحمه في المرة القادمة، وبما أن العقل البشري في تلك الأزمنة كان عاجزاً على الربط بين الأشياء وتوحيدها وإدراك ما هو مجرد، فكان يعبد عدة مظاهر ويشرك بخالقه ويسعى جاهداً للإكثار من أربابه وآلهته في دأبه لتفسير ما يجري حوله أو في سياق رحلته في البحث عن الحقيقة.

ربما كانت الطوطمية هذه سبباً في نشوء الديانات والعقائد على عكس ما يجزم كثير من رجال الدين المثالين : من أن غريزة التدين قد أودعها الله في كل مخلوقاته، على أية حال فإن فئة من الناس قد أخذت على عاتقها مهمة التقريب بين العباد وآلهتهم، وتقديم الحكمة على طبق من الشعوذة .

فكان السحرة والكهنة وسدنة المعابد، إضافة إلى مهمة كتابة الحجب والوصفات يؤسسون " الذهنية الغيبية " ، ليس فقط لعجزهم عن تفسير ظواهر الطبيعة على أسس علمية - إذ أن البشرية لم تكن قد امتلكت أدوات المعرفة بعد - بل لطموحهم في مكانة اجتماعية وموقع قيادي، وقد استماتوا في الدفاع عن هذه المدرسة - مبرر وجودهم وضمان استمرارهم - أمام الأنبياء والعلماء والفلاسفة، مستغلين سذاجة الناس وسطحية تفكيرهم.

ومنذ ذلك الحين لم يتوقف الصراع ما بين المنطق العلمي والذهنية الغيبية، ولم يحسم أي من الفريقين المعركة لصالحه ولم يُحسم أيضاً صراع الإنسان في داخله، فكان في حالات الرخاء والدّعة يُعمل عقله في التفكير وعيناه في البحث عن الخالق، وعندما تشتد به الأزمات وتنسدُّ في وجهه الطرقات يلجأ إلى الغيبيات والأوهام والحلول النظرية ويؤجل معركته ويرتاح من وطأة الصراع في واحة اليقين الخيالي الذي تعشعش في دماغه، فكان الرسل والعلماء يعيدونه أو يحاولون إعادته إلى جادة الصواب، إلى اليقين الحقيقي في كنف الخالق عز وجل، لكن على أسس موضوعية بعيدة عن الخيال، ولكن أنّى لهذه العقلية البدائية أن تستوعب فكرة " نبي " من دم ولحم و يمشي في الأسواق ! فهي تريده ملاكاً من السماء مخلصاً من العذابات بضربة سحرية، ذو قوة خارقة تحميه من تقلبات الطبيعة، فكان الرفض لسببين: الأول الآدمية القائمة على الخطأ والأنانية، والثاني مرتبط بالذهنية الغيبية المسيطرة عليه .

وبما أن تطور العقل البشري قد ترافق مع تطور أدوات المعرفة والبحث، وأن إدراك الناس ووعيهم مرّ بمراحل مختلفة كانت تتراكم في سلة التجربة الإنسانية، فبعد أن كان الوعي البشري قبل مرحلة الأنسنة يدرك بُعداً واحداً إمـا أفقي أو عامودي أخذ يكتشف البعدين كما عبّر عنها في هندسة اقليدس وعلم المثلثات ثم ديكارت بمحوريه فيما بعد وصولاً إلى البعد الثالث كما بينت قوانين نيوتن الفيزيائية وأخيراً اهتدائه للبعد الرابع - الزمن - في نظرية انشتاين النسبية، وخلال هذه الحقبة التاريخية الطويلة كانت الذهنية الغيبية تتفشى في أذهان العامة والبسطاء.
وكان أتباع الديانات أنفسهم سرعان ما ينحرفون عن جوهر الدين وحقيقته، فهم في البداية يطالبون بمعجزة مادية وعندما تتحقق يؤمنون، وبعد ذلك تعجز عقولهم عن الملائمة بين المحسوس والملموس وبين المدرك والغيبي فيتسلل الكهنة وسدنة المعابد من هذه الثغرة ليحتلوا المسافة بين عقل الإنسان وخياله، ولكنهم يعودون هذه المرة بمظهر جديد وإن كانت عودتهم مبنية على نفس المنطق القديم وعلى ذات الأسس الميتافيزيقية .

ثم جاء الدين الإسلامي الحنيف ليوجه ضربة قوية لهذا الفكر الغيبي المتخلف، إذ رفض منذ البداية أن يأتي بمعجزة مادية ملموسة يشهدها فقط من رآها في بقعة وزمان محددين - لأن الإسلام جاء للأزمان ولكافة الأقوام - فكانت معجزته القرآنية تعتمد على العقل وتستند إلى المنطق وتحث الإنسان على التفكير والتأمل، على قاعدة ثبات النص وتحرك المحتوى بتغير التأويل والتفسير تبعاً لكل بيئة ومجتمع، بما يضمن تحقيق مصالح الناس في الدنيا والآخرة .

ولكن مع الأسف فإن الأعراب الذين لمّا يدخل الإيمان في قلوبهم وعامة الناس من الرعاع الذين ينعقون مع كل ناعق وعلية القوم ممّن أدخلوا الأمة في صراعات سياسية / اقتصادية / قبلية تحت حجج وذرائع عقائدية، سرعان ما زاغت قلوبهم وشطت عقولهم، فكان كل حزب بما لديهم فرحين: يؤلفون الأحاديث وينسبونها إلى النبي كسند أيديولوجي في معركة سياسية، وتتعدد التفاسير والتأويلات بتعدد المصالح والفِرق، ويكتبون بأيديهم نصوصاً على أنها مقدسة ومطلقة ثم نصوصاً لتفسير النصوص ثم هوامش لتفسير الأخيرة وهكذا حتى بنوا جدارا سميكا من النصوص المقدسة يصعب اختراقه، ولكنها في النهاية تكون قد ابتعدت عن الأصل وانحرفت كلياً عن الجوهر لما جاء في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن هنا برزت التفسيرات المشوهة للإسلام والممارسات الشاذة خاصة من الحكام وعلماء السلاطين وحاشيتهم والتي شكلت مناخاً ملائماً لتطور الذهنية الغيبية وظهورها بمظهر جديد يستند إلى أيديولوجيا سلطانية وتستمد قوتها من نصوص تدّعي القدسية والحقيقية المطلقة.

إن حاجة الإنسان للذهنية الغيبية هي حاجته لليقين والأمان على شاطئ حتى لو كان وهميا، وهي تريحه من عناء التفكير ومشقة البحث، وتتلائم مع رغبته في اختيار أهون الحلول وأقلها تعقيداً وتكلفة، وهي أيضاً تُسـْعِدُه عندما يقرر تأجيل معركته ومواجهته للحقيقة المرة والواقع الصعب، فيركن إلى التسليم والرضوخ والقبول بالأمر الواقع حتى يُحدثَ اللهُ أمراً كان مكتوباً ثم يحمده على سلامته، وهي أيضاً ذهنية تناسب العامة والبسطاء وأدعياء الثقافة ذلك لأن قدراتهم المحدودة لا تمكنهم من الغوص في الأعماق والبحث عما وراء الأشياء، وهي في النهاية ستعفيهم من تحمل مسؤولياتهم وتجد لهم العذر في ذلك .

وقد ارتبطت الذهنية الغيبية وأصحابها بالسلطة منذ أقدم العصور، فكانت الكنيسة في القرون الوسطى قد مارست نفس الدور في التحالف مع السلطة وتبرير ممارساتها بدعاوى دينية / غيبية، والتاريخ الإسلامي أيضاً ومنذ بواكيره لم يشذ عن هذه القاعـدة، إذ أسّس سلاطين بني أمية مذهب المرجئة كمرجع ديني يحول دون خروج الناس على السلطان أو محاسبته أو اتهامه بالكفر، فهم بهذا الطرح سيتذرعون بأنهم لم يشقّوا على صدر الخليفة ليتأكدوا من خلّوه من الإيمان أو امتلاءه بالمعاصي والآثام، فاعتبر هذا المذهب أن محاسبة السلطان هي من اختصاص السماء فقط وذلك في يوم الحساب الكبير وبذلك فقد أجلوا المواجهة والحساب إلى أمد غير معلوم .

والجبرية كمذهب آخر في الفكر الإسلامي - و هو على نقيض القدرية - كان يؤمن أتباع هذا المذهب الغيبي بأن حياة الإنسان بأكملها ورزقه وأجله وكافة تصرفاته ومصيره ومستقبله واتجاهاته في الدنيا هي محددة سلفاً في اللوح المحفوظ قدرها الله عز وجل، والإنسان لا يملك إي إمكانية للتغيير والاختيار فهو غير مؤهل لخلق أفعاله، ومن هنا تأسست عقلية التواكل والعجز والكسل .

في حين أن القدرية وهو أيضاً تيار أصيل في الفكر الإسلامي يرى عكس ذلك، ويؤمن بأن الإنسان قادر على خلق أفعاله واختيار اتجاهاته وتحديد أنماط معيشته، فإذا سلمنا بالجبرية على اعتبار أن كل شيء مقدر ومكتوب، إذاً فما الفائدة من العمل والتحدي والتعب ؟ كما أن الجبرية ستعجز تماماً على إجابة بعض الأسئلة وتفسير بعض الظواهر مثل المجاعات في إفريقيا التي تذهب بأرواح الآلاف من الأطفال والشيوخ، بينما في أوروبا ينعمون بأطيب الأطعمة وأشهي المأكولات ؟ والفقر والبطالة في دول العالم الثالث بينما تنعم دولة مثل اليابان بأعلى معدلات دخل الفرد ؟ وأيضا معدل الوفيات لأطفال دول الجنوب المرتفع جداً مقارنة مع معدل وفيات الأطفال في دول الشمال ؟ كذلك متوسط عمر الإنسان الذي يختلف في السويد عن الهند مثلاً أو الذي ازداد بشكل ملحوظ في الدول التي اتبعت برامج صحية وتغذوية معينة .... إلخ .

إن الذهنية الغيبية ستقتل روح المبادرة وحب الاستكشاف وستقوض ركائز وأسس البحث العلمي وستبعد الناس عن مواجهة مشاكلهم الآخذة بالتعقيد يوماً بعد آخر، وستعزل الناس في صوامعهم بدلاً من الحقول والمصانع والمخـتبرات،
ونحن كأمة عربية وفي هذا الزمن بالذات فإن أخطر ما يحل بنا هو أن تسيطر الذهنية الغيبية على عقول أجيالنا، فنبدأ بقلب الحقائق والاستسلام للخرافات والإيمان بالأبطال الوهميين الذين يملئون كتبنا الصفراء، والتعامل مع القادة والرموز الوطنية ورجال الدين على أنهم قديسون وملائكة لا يأتيهم الباطل من أمامهم ولا من خلفهم، فنسلم لهم رقابنا وعقولنا على مبدأ الطاعة العمياء.

إن الذهنية الغيبية هي التي أرتنا صورة صدام على وجه القمر إبان أزمة الخليج في أوج نشوتنا وحاجتنا إلى النصر السريع على طبق من ذهب دون أن نخسر قطرة دم أو أي تضحية مهما صغر شأنها، هي التي أوجدت لنا العزاء بأن نظل متفرجين، وهي التي تجعلنا بأمسّ الحاجة إلى زعيم مخلص يعيد لنا كبريائنا المكسور فنتكيء عليه ونحمّله أوزارنا ، فكان عقلنا الباطن يصور لنا ما نتمنى رؤيته ويعمينا عن الحقيقة فيمتزج الحلم بالواقع وتنقلب الأمور رأساً على عقب وتكون النتيجة الحتمية هزيمة أخرى تضاف إلى مسلسل هزائمنا ببساطة لأننا لا نريد أن نضحي ولا نريد أن نفهم .

وهي نفس العقلية التي اخترعت الأحاديث ونسبتها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم على أن الله سيبدل حالنا بأحسن حال ونحن نيام وسيبعث لنا رجلاً صالحاً يقود الأمة إلى النصر والسؤدد وسيادة العالم، فما علينا إلا الإنتظار ! وهي نفس العقلية التي اتهمت الفدائي الفلسطيني بالكفر والإلحاد لأنه بدأ المعركة قبل أوانها أي قبل ظهور علامات الساعة حين يقاتل المسلمون اليهود فيقتلوهم حتى ينطق الحجر والشجر ! نعم هذه العقلية لا تريد مواجهة إسرائيل بل تريد تأجيل الجهاد إلى ما قبيل يوم القيامة، أو بعيد قيام دولة الخلافة العتيدة، هذه العقلية هي التي تفسر سقوط طائرة أمريكية بأن الله قد أرسل ملائكة لتسحقها، وهي التي سمت الحرب الأهلية القذرة في أفغانستان حرباً مقدسة تشترك فيها الملائكة وتحظى بتأييد السماء .

وهي نفسها فكرة “ المخلص “ أو المسيح المنتظر أو المهدي المنتظر وهي عقيدة موجودة لدى كل الديانات والمذاهب وعند كل شعوب الأرض الذين يمنون النفس وينتظرون الفرج .. وهي تصلح لأن تكون عزاءً في انتظار ذلك اليوم الموعود .

هذه العقلية الغيبية هي النقيض المباشر للعلم والمنطق والإيمان الحقيقي المستند إلى العقل والحجة، فهي لا تضع الأمور في مكانها الطبيعي والأحداث في سياقها التاريخي وكأن الأشياء معلقة في الفراغ أو ولدت من العدم أو ماضية إلى المطلق واللامنتهي، وهي لا تؤمن بالنسبية والتاريخية وقوانين الطبيعية وتعزل الأمور عن بعضها البعض وفق أهوائها وكأنه لا وجود لقوانين ناظمة تحكمها وتسيرها، إنها عقلية فاشلة لا محالة لأنها ستبقى تنتظر المعجزة التي لن تأتي أبداً : " إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم " صدق الله العظيم .

4. العقلية النصوصية
في حجة الوداع في السنة العاشرة للهجرة وفي أحضان الكعبة وقف الرسول الكريم وألقى خطبته الشهيرة أمام أمة الإسلام قائلاً " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي رضيت لكم الإسلام ديناً “، وبهذه الآية الكريمة يعلن الرسول بأن الإطار النظري للإسلام كبنيان نصي ومرجعي يكون قد اكتمل، وأن جميع النصوص الأساسية الناظمة للإسلام والمعرفة به كجوهر ومضمون وتعاليم وتشريعات قد تضمنها القرآن الكريم بين دفتيه، ومع نزول آخر آية قرآنية من السماء وتدوينها يكون بذلك قد تحدد الإطار المرجعي الرئيسي للإسلام - وهو القرآن الكريم - كمنهل ومعين ومصدر رئيسي وأساسي للتشريع وتبيان حدود الله، وبهذا المعنى فإن الله سبحانه يكون قد بين حدوده وشرعها بنفسه ومن خلال القرآن الكريم ولـم يسمح لأي مخلوق آخر بأن ينوب عنه بتحديد حدوده حتى الرسول الكريم شخصياً، ولكن الإسلام ترك المجال مفتوحاً للعلماء والمجتهدين أن يدوروا في فلك نصوص القرآن - وفق قواعد معينة - فمن اجتهد وأخطأ فله أجر ومن اجتهد وأصاب فله أجران.

أما تدوين الحديث فقد جاء بعد وفاة الرسول بمائتي عام، ولم يكن نهي الرسول عن تدوين أحاديثه لمجرد منع الالتباس والخلط بين الحديث والقرآن، كما يبدو للوهلة الأولى أو كما يدعي بعض أهل الحديث، إذ أنه ليس من الصعب إطلاقاً التميز بين النص الإلهي والنص البشري لما لكل واحد منهما من خصائص ومزايا، والقرآن كنص إلهي تعهد الله سبحانه بحفظه من الزوال والتحريف _ “ إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون “ _ في حين أن الحديث الشريف كنص إنساني تعرض فيما بعد للتزوير والتحريف، فهنالك الأحاديث الضعيفة والموضوعة وغيرها، كما أن العملية من الناحية المهنية والفنية لا تحتاج إلى عبقرية أو جهود جبارة، ومن الجدير بالذكر أن البخاري حينما شرع في جمع الأحاديث في صحيحه كان قد جمع مئات الآلآف منها ثم طرح معظمها واكتفى ببضعة آلاف فقط !! مما يدل على حجم التزوير والتأليف الذي جرى على قدم وساق في المائتي سنة التي تلت وفاة النبي ( ص ).

إذ جاء التابعون وتابعيهم وتابع تابعيهم ثم الفقهاء والعلماء، وبطبيعة الحال سيكون لكل منهم فهمه ورؤيته الخاصة، وهذا التنوع والاختلاف سينشأ حتماً نظراً لاختلاف طبيعة البشر، إذاً سيتشكل لدينا شبكة معقدة من النصوص في التفسير والتأويل والفقه سيرافقها هوامش لتفسيرها وحواشي لشرحها .... إلخ ،حتى يبُنى حاجزاً هائلاً من النصوص يصعب علينا تجاوزه أو اختراقه، وقد تعقدت المشكلة وتشعبت حلقاتها مع التطورات الدراماتيكية التي عصفت بالمجتمع الإسلامي في تلك الحقبة من التاريخ، بدءاً من سقيفة بني ساعد وحصار عثمان ومعارك الجمل وصفين والنهروان وكربلاء والفتنة التي صاحبتها وانتهاءً بانقسام المسلمين وتنازعهم وتشتتهم إلى أحزاب وتيارات ومذاهب كالخوارج والمعتزلة والشيعة وصولاً إلى من يسمون أنفسهم أهل السنة والحديث، فقد كان كل فريق يجمع من النصوص ما يدعم موقفه ويدحض به الآخرين وأحياناً كانوا يعتمدون على نفس النص مع اختلاف في التأويل والفهم وربما إزاحة كلمة من هنا أو هناك واستبدالها بأخرى لتفي بالغرض .

والمشكلة هنا ليست في النصوص بحد ذاتها بل المشكلة في فهمها وآلية التعامل معها، فالعقلية النصوصية تفـهم النص - الذي تؤمن به ويتمشى مع قناعاتها - فهماً مطلقاً جامداً وكأنه معلق في الهواء ولم ينـشأ في بيئـة معـينة ولم تكن له ظروف سياسية اجتماعية اقتصادية أحاطت به في زمن تشـكله - أسباب النزول مثلاً - وتُبقي على هذا النص كجثة هامدة بلا حراك تتناقلها من جيل إلى جيل، وتعتقد بأن هذا النص يصلح لكل زمان ومكان، وبذلك يصبح عندها نصاً مقدساً لا يجوز المساس به أو تعريضه للنقد والمراجعة، وتستخدمه كإسقاط فكري في كل حدث وفي كل مناسبة، وبهذا الفهم الميتاتاريخي يصبح النص خارج الواقع، تفصله هوة واسعة يصعب ردمها عن المعطيات والاحداثيات في زمن آخر أو مكان مختلف.

هذه القراءة السطحية للنص تجعلنا نفهمه فهماً خيالياً وهمياً ليصبح غير عملي فتعطيه إطلاقية لا متناهية وتنشؤه من الفراغ وتعلقه في فضاء الأحلام والمثاليات، وبالتالي تمنعه من التطور والتكيف مع الأحداث والمتغيرات، هذا الفهم مرده أن العقلية النصوصية فهمت الإسلام نفسه فهماً ميتاتاريخياً وكأنه نزل دفعة واحدة في قوالب محددة وانقضى الأمر .

فكما أن الإسلام جاء ضمن سياقات تاريخية معروفة أملتها ظروف سياسية اجتماعية اقتصادية سبقت قدومه وترافقت معه وكانت نتاجاً لها وتعبيراً عن مقتضياتها ومؤثراً فيها بعد ذلك محدثاً انقلاباً شاملاً، فإن الإسلام أيضاً نمى وانتشر في ربوع الأرض وفق ظروف وسياقات واقعية حقيقية تفاعل معها تفاعلاً حياً ديناميكياً، ولم يكن انتصاره الكبير في نهاية المطاف مجرد صدفة، أو تحقيقاً لأماني حالمة، أو أن الله أراد له ذلك بالمفهوم الغيبي والسطحي المباشر للكلمة، والصحيح أن انتشار الإسلام ومن ثم انتصاره كان بفضل الجهود الجبارة غير العادية التي بذلها النبي شخصياً وتكبد خلالها المصاعب والمشقات وسال دمه وعرقه وتعرض للأذى والإهانات، وكان صبره وذكائه العبقري وإيمانه الصادق وجهوده الحثيثة الموصولة ليلاً نهاراً هما الضمانة الحقيقية والعامل الأكيد الذي أوصل إلى هذه النتائج، كما كان للصحابة دوراً ريادياً فاعلاً لا يقل أهمية، فبفضل صدقهم ومثابرتهم ودمائهم كان للإسلام هذا النصر والسؤدد، ولم يكن الأمر هيناً أو مثالياً أو نزهة بين الورود، فقد رافقت هذه المسيرة أخطاء وعثرات وانتصارات وهزائم وتقدم وإخفاق ومحن و بلاء وحـصار - كما كان نفاق ورِدّة وغدر - وكانت تمر على الصحابة لحظات يوشكون خلالها على اليأس ويصلون حافة القنوط وتُزلزل قلوبهم وتصل إلى الحناجر ويظنون بالله الظنونا .

وفي معركة بدر وقبيل بدئها وقف الرسول رافعاً يديه حتى انسدلت عبائته عن كتفه وكأنه ممسك بأهداب السماء داعياً مبتهلاً خائفاً يشوب صوته القلق والتوتر وهو يدعو ربه ويطلب العون قائلاً " يا رب إن تهلك هذه الطائفة فلن تدعى بعد اليوم في الأرض "، بمعنى أن الرسول نفسه فهم الإسلام الفهم التاريخي الواقعي وأيقن أن شجاعة جنوده وصبرهم وتنفيذهم للخطط العسكرية وفق قواعد الصراع هما ضمانة النصر والاستمرار، وحدث نفس الشيء في الخندق وأُحد وحُـنَيْن، صحيح أن رعاية الله كانت تنقذ الموقف ولكن المطلوب أخذ العبر، فالأمور لم تكن تمشي على منوال واحد كخط تصاعدي متراكم بلا أي انحناءات بل كانت بين مـد وجزر وتقدم وتأخر وفقاً لقوانين الطبيعة ونواميس الكون.

فلم يكن مسار التاريخ في يوم من الأيام معد سلفاً وكأنه رسمة على ورقة بيضاء وتمشي وفق مخطط محكم بأدق التفاصيل ومضمون النتائج، ولو أراد الله ذلك لبعث مع النبي ملائكة تريحه من العناء وتوفر عليه المشقة والهوان وكفى الله المؤمنين شر القتال .

وبما أن الإسلام هو ظاهرة حقيقية تكونت تاريخياً في بيئة وزمن معلومين وتفاعلت معها وفقاً للقوانين والقواعد التي تجري عليها الأحداث والظواهر الأخرى وتنطبق عليها نفس الأسس الناظمة لحركة الكون ومسار التاريخ، وأن الصحابة هم بشر قبل أي شيء آخر معرضون للخطأ والصواب وأن العلماء والفقهاء أيضاً هم بشر لا يعقل أن يكون كل اجتهادهم صائباً، وأن نصوصهم تصلح لكل زمان ومكان، فإنه يتوجب علينا إعادة النظر في كل النصوص وتجريدها من هالتها المقدسة وإنزالها إلى أرض الواقع وفهمها فهماً موضوعياً علمياً متحركاً دون أن يكون لدينا وجهات نظر مسبقة أو قوالب فكرية جامدة فنأخذ العبرة من النص ونفهم أسباب نزوله أو قوله ونقيسه على واقعنا لنأخذ منه ما يصلح لزماننا وظرفنا وندع الباقي، بمعنى أنه يجب أن لا ننسى أن هنالك مئات من السنين تفصل بيننا وبين زمن تشكل هذه النصوص جرى خلالها تطورات وانقلابات مذهلة على كافة الصعد وفي كل المجالات وطالت كل شيء، من غير الجائز أن نهملها ونعيش خارج التاريخ وفوق الواقع .

إن العقلية النصوصية تطلب منا أن نعيش واقعنا الحالي وكأننا ما زلنا في القرن الأول الهجري، وأن ننظر إلى الفقهاء كملائكة وإلى النصوص كحقائق مطلقة، وأن نطبق هذه النصوص تطبيقاً حرفياً حتى لو أدى ذلك إلى التخاصم مع الواقع والانفصام عنه والقفز فوق حقائقه لندخل في اللاتاريخ واللاواقع وهذا أمر لا يمكن تحقيقه إلا في عالم الأحلام وعلى صفحات الكتب لأنه سيكون بمثابة قفزة في الظلام قد تنشأ من جراءها إشكاليات لا حصر لها .

وتطالبنا العقلية النصوصية المثالية بأن نقتدي بالمسلمين الأوائل ونتبع طريقهم بحذافيره لكي ننال النجاح مثلهم وأن ندرس منشأ الإسلام ونبارك حركته الأولى باعتبار أنها الحركة الخالدة والنموذج المثالي الذي لا يحتاج إلى تبديل أو تطوير، وهذا المنطق الخاطئ تناسى أن المسلمين الأوائل نجحوا ثم فشلوا، وليس لنا إلا أن ندرس عبرة النجاح والفشل في تاريخهم لكي نتعظ بها، فالرسول الكريم جاء للناس بخطوة اجتماعية كبرى وهو يعلم أن التاريخ يسير بخطوات متتابعة، فلا بد إذن أن تعقب خطوته خطوات أخرى على توالي الأجيال من غير توقف، فكل حركة اجتماعية لا تكاد تنجح حتى تفشل وهذه سنة الخلق في جميع الأزمان، وليس في ذلك ذم للمسلمين الأوائل، فهم بشر كغيرهم من الناس تنطبق عليهم النواميس الاجتماعية وتجرفهم في تيارها، أرادوا ذلك أم كرهوا، وهو قانون عام لا يستثني منه إلا من شذ وندر، فالمسلمون الأوائل كانوا يكافحون الظلم والترف في أيام الرسول والخلفاء الراشدين، فلما علوا هم في الأرض وجاءهم المال والترف أصبحوا بحاجة إلى من يكافحهم.

كما تناسى منطق العقلية النصوصية وهو إذ يأمرنا أن نتبع طريق الصحابة بأن الصحابة أنفسهم كانوا في أيام عثمان وما بعده يتبعون طريقين متعاكسين: طريق عثمان وطريق أبو ذر، هذا أراد أن يصادر أموال الأغنياء وذاك أراد أن يبقي عليها وينميها، وطريق علي وطريق معاوية الأول يريد تحقيق العدالة الاجتماعية والثاني أراد أن ينشأ مملكة عائلية وهما طريقان متناقضان لا يمكن التوفيق بينهما .

والعقلية النصوصية تصور تاريخنا على أنه حقبة وردية مثالية، وبذلك ستتعامى عن التصفيات الدموية والمظالم التي عاشها المجتمع الإسلامي وستبرر الظاهر والمشهور منها وتلوي ذراع الحقيقة وتمّوه عليها باسقاطات فكرية أو حجج واهية، وستضطر لخلق شخصيات وهمية لإسناد كل الجرائم والأخطاء إليهـا ( كعبد الله بن سبأ ) وتجعل منها شماعة للأخطاء التي اقترفها الصحابة والخلفاء وعامة المسلمين، وستضطر أيضاً لخلق أعداء وهميون يتربصون بالإسلام ويكيدون للمسلمين ...

إن العقلية النصوصية فضلاً عن تشويهها للحقائق فإنها ستعمل على خنق روح الاجتهاد ومحاربة التجديد ومحاصرة الإبداع تحت ذريعة التمسك بالسنة والمحافظة على القيم الإسلامية، وبالتالي ستجعل من التدريس مهمة تنحصر في التلقين والإملاء، والمرء بذلك سيتحول إلى متلقي ومقلد ومستمع، يحفظ الجمل ويرددها عن ظهر قلب ويتباهى بها أمام الآخرين وستُقتل لديه روح المثابرة والاجتهاد وحب الاكتشاف والبحث عما وراء الأشياء والتحليل على أسس علمية والربط بين الظواهر وأسبابها وستلقي بالعلم إلى القاع وتهوي به إلى الحضيض بعد أن تقوض ركائزه وأسسه.

وليس أخطر من أمة تدعي العلم وتحارب التجديد وتتمسك بالقشور والشكليات، والعقلية النصوصية أيضاً ستشوه الإسلام وتفرغه من مضمونه وتحوله إلى طقوس وشكليات وشعارات زائفة وعنوان بلا محتوى ونداءات يصعب استجابتها ونصوص يستحيل تطبيقها.

العقلية النصوصية ازدهرت فقط في مراحل سقوط الأمة وتراجعها أيام حكم العسكر والجندرمة وانتشار العسس، يوم قُضي على المعتزلة وعلى علماء الكلام والفلسفة وتعطل الاجتهاد وتراجعت العلوم والفنون واقتصرت على التنميقات اللغوية مثل الجناس والطباق والسجع وغيرها، ويوم تحول المسجد عن رسالته العظيمة إلى مجرد زخارف ومنابر ومآذن طويلة، وتحول القرآن إلى الحجب والمداواة والشعوذة، أي بالضبط حينما انتصر المظهر على الجوهر والتقليد على التجديد والشكل على المضمون وعم الخواء والجمود الفكري .


5. ذهـنية التحـريم

للعقل البشري قدرات متفاوتة تبعاً لتطور الوعي الإنساني من ناحية ولتأثره بالظروف المحيطة من ناحية ثانية، فتبدأ من إدراك المحسوس والملموس وصولاً إلى تصوير المجرد والغيبي، والنفس البشرية تتأثر بما هو واقع ومحسوس أكثر من تأثرها بما هو بعيد ومؤجل، بمعنى أنها تكون معنيّة بيومها وحاضرها وتهمل المستقبل البعيد، ومن هذا المنطلق كان الأنبياء الأوائل وبعد أن يكملوا دعوتهم ويصطدمون بجدار الرفض من قبل أقوامهم يبدأون بتهديدهم بالعقاب الإلهي والذي كان في تلك الأزمان عبارة عن ريح صرصر عاتية أو خسف للأرض أو طوفان جارف وغيرها من العذابات التي تتحقق في الدنيا، ومع تطور الوعي الإنساني وتأهل عقله لإدراك المجرد وما وراء الطبيعة صار الوعيد بالعذاب لمن عصى متحقق في الحياة الآخرة وبعد الموت، وهكذا فإن القرآن الكريم في آياته المخصصة لشرح العقاب والموجهة إلى العالمين كانت جميعها تتحدث عن عقاب سيقع في الحياة الآخرة وبعد الموت وزوال الدنيا بأسرها، ولهذا السبب لم يكن تأثر الناس بها كبيراً، فالبعض يستمع لآيات الويل وسعير وأهوال جهنم بينما يمضي قدماً في معاصيه وكأنه لم يسمع شيئاً، في الوقت الذي سيرتعد خوفاً ويحسب ألف حساب للعقاب في الدنيا تقيمه الدولة أو المجتمع قد لا يتعدى السجن لبضعة أشهر أو غرامة مالية معينة، والسبب في ذلك لكون العقاب الأخير محسوس وقريب بينما العقاب الأول مؤجل وغيبي .

وفي مرحلة ما من العصور الإسلامية الماضية ابتعد الناس عن الدين وملئوا الأرض بالمعاصي والآثام، وفقد الوعاظ مكانتهم وحظوتهم الاجتماعية وانفضت مجالسهم، فالناس قد حفظت عن ظهر قلب جميع الآيات التي تصور أهوال جهنم دون أن تغير من مسلكها شيئا يُذكر، وفي خطوة دفاعية تعيد للوعاظ مكانتهم وتجعل الناس يلتفون من حولهم ويستمعون بآذان صاغية ودموع سخية وأنفاس مقطوعة، بدأ هؤلاء الوعاظ بإعادة صياغة خطاب الترغيب والترهيب، فابتدعوا ألواناً جديدة من العذاب وأشكالاً متنوعة للانتقام الإلهي، ستكون طبعاً أكثر واقعية وقرباً من خيالات المستمعين، ضمن خطاب عاطفي موجه للقلوب لا للعقول ويثير العواطف بدلاً من تحفيز العقل، فتفتق وعيهم عن عذاب القبر والأفاعي الضخمة والانتقام الإلهي في الدنيا بنزع البركة وخسف الأرض وحبس المطر ..... إلخ .

في هذا المناخ نمت ذهنية التحريم وترسخت في الذاكرة الجماعية وملئت صفحات الكتب ومنابر الوعاظ، فالوعاظ هم أصحاب الفضل في تأسيس وترسيخ هذه الذهنية لأنهم من خلالها سيحققون أمرين - حتى لو كان ذلك بشكل عفوي وغير مقصود - فهم أولاً سيعيدون لأنفسهم مكانتهم الأولى ويزيدون أعداد المريدين، وثانياً سيخدمون السلطة ويطيلون من عمرها، وهم بذلك يحرفون الإسلام ويفرغونه من مضمونه، فالمجتمع الذي سيتشبع بذهنية التحريم سيتجاهل أعداءه الحقيقيين وسيتعامى عن احتلال الأوطان، وسيمرر كل سياسات السلطة طالما أنهالم تعتدي على الشكليات، وفي المقابل سيعوض عن هذا التناقض ببناء المساجد وسيعلق المصاحف زينة للبيت، وسيدعو للسلطان الحاكم بأمر الله بطول العمر ودوام النعم !! ولا ريب في ذلك فهذا المجتمع لم يفهم من الإسلام إلا اسمه ومن القرآن إلا رسمه واكتفى بالطلاء والقشور وأهمل الجوهر وبالتالي سيكافح التجديد ويعتبره بدعة وضلالة تؤدي إلى النار، وسـيحارب الفـن والإبـداع ويعتبره فسق ومجون، وسيكون الاعتبار الوحيد إزاء أي تصرف أو ظاهرة أو فكرة هو الحرام والتحريم وسيملأ قلبها الخوف الزائف المؤقت .

ومن الطرق المتبعة في التخويف التهديد بواسطة قوى خفية سيسلطها الله على من يخرج عن تعاليمه، بحيث تصبح هذه القوى الخفية جزء من عالم الإنسان ومن تجربته اليومية، وهكذا ينمو معه الخوف من أشياء لا يراها، كما أنه يجري تعزيز هذا الخوف بصورة مستمرة، ومن نتائج هذا النوع من التخويف تقوية النزعات اللاعقلية للإنسان بحيث يصبح خاضعاً لتأثيرات لا يدركها، مما يؤدي إلى تشويه في اختباراته اليومية وصعوبة التمييز بين الحلال والحرام وبين البدعة الضالة والابتكار، كما أنه يرى وراء الأعمال دوافع لا دليل واضح على وجودها، ثم تأخذ هذه التشوهات في المجتمع أشكالاً متطرفة كالشك المفرط وعقلية التآمر، وكما أن الخوف سيجعل الإنسان أكثر ميلاً للطاعة فإنه سيفقده القدرة على التمييز بين الشعور بالخجل والخوف والشعور بالذنب والخطيئة، وذهنية التحريم ستجعل الإنسان يشعر بالخوف والخجل أكثر من شعوره بالذنب، والدافع إلى الخوف والخجل هو أن الآخرين يشاهدون ما ارتكبه من عمل سيء بينما الشعور بالذنب سيجعله يشعر داخلياً بالندم ويعترف أمام نفسه بخطأه ويحكم عليها ما يجب أن يحكم، وفي شروط كهذه تتفشى فيها ذهنية التحريم ستنعدم القدرة على نقد الذات وإدانتها، وينشأ مقابل ذلك مجرد رد فعل للضغط والنقد الاجتماعيين يتكون بتأثير ما يتصوره الفرد عن رأي الآخرين به أكثر مما يتكون بسبب رأيه في نفسه بمعنى أن الشعور بالخوف أو الخجل نتيجة أثر خارجي .

ويقول د. هشام شرابي في كتابه الهام مقدمات لدراسة المجتمع العربي أن المحرم في نظر الإنسان العربي هو ما يحرمه الناس، بمعنى أنه لا ضرر في ما لا يراه الناس ولا يسمعونه، وبالتالي سيتحول هذا الفهم المشوه للمحرّم إلى عادة الكتمان وإخفاء النوايا والحذر فيما يقول هو أو يقوله الآخرون، وبذلك تصبح أعمال الناس على عكس ما تبدو عليه، بحيث أن هناك دوماً معنى مبطناً ونية مكتومة وراء كل كلمة يقولها، وفي الواقع فإن عادة التخفي والكتمان الناشئة عن الخوف المؤقت تقرر بأنه لا مانع من فعل ما هو محرم طالما أن عيون الآخرين لا تراه، ولذلك لن ينظر المرء إلى الأمور المحرمة نظرة جدية بل ستكون نظرة زائفة شكلية، والخوف المرتبط هنا بالتحريم سيؤدي للإخضاع وتنمية أشخاص خائفين يتقبلون النظام السلطوي وقيمه دون تردد ويتكيفون معه دون مقاومة، رغم الألم والإهانة اللذين يكبدهم إياها هذا النظام وقيمه .

وسنرى كيف استطاعت ذهنية التحريم أن تحدث تشوهات وقلق في شخصية الإنسان العربي وتعمق من شرخه وازدواجيته، فعلى سبيل المثال فإن المرأة التي ستخبرها بأن بعض العلماء المسلمين قد قللوا من أهمية الحجاب واختلفوا في تعريف الزينة وما يحل لها إظهاره ... ستجدها تأخذ الموقف المتزمت الداعي إلى تغطية الوجه والكفين بينما تمضي قدماً تختال بزينتها وإبراز مفاتنها والتباهي بآخر صرعات الموضة، ومثال آخر نسوقه فإذا حدثت مستثمراً بأن شيخ الأزهر قد أحل التعامل مع البنوك ولم يعتبر أن الفائدة هي ربا ... انتفض في وجهك وبدأ بتلاوة الآيات والأحاديث التي تحرم الربا وبعد ذلك يشرع بالتفتيش بين البنوك ويتسائل من منها يعطي أعلى فائدة ويقدم أفضل خدمة، فذهنية التحريم ستدفع بالمجتمع نحو إعاقة تقدمه ونموه وتجعله يأخذ الموقف المتطرف والمتزمت على الدوام وتعقّد الدين بدلاً من تبسيطه وتصعب الحياة وتختلق العقبات .. فمثلاً ستهاجم ذهنية التحريم أي كاتب مستنير قبل أن تقرأ كتابه، وتحاكم أي موقف قبل أن تسمع وتفهم دوافعه ..
وعقلية التحريم إلى جانب ذلك وهي لا تنفك عن الحديث عن أهوال يوم القيامة وضيق القبر والثعبان الأقرع وغيرها من مفردات خطاب الإرهاب والترهيب ستترك أبلغ الأثر وأسوأ النتائج على أطفالنا ومراهقينا بشكل خاص، فهي ستشوه خيالهم وتعقد نفسياتهم وتنمي عقدة الخوف لديهم وتقضي على النزعة العقلانية من تفكيرهم وتستبدلها بالخرافات والأوهام، حتى تحل في أحلامهم وكوابيسهم وتفاصيل حياتهم اليومية وتجعل منهم خائفين سلبيين .

وأخيراً نقول بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن قيامه الليل وصومه النهار خوفاً ورهبة من عذاب الآخرة، بل كان حباً في الله وحمداً على نعمه وشكراً له على عطاياه، على عكس ما يمارس أصحاب ذهنية التحريم فهم في تحريمهم لا يرتكزون على أسس الحق والخير ومصلحة الإنسان والتيسير عليه وتحقيق سعادته وتفهم غرائزه وفطرته، بل هم عبارة عن الوجه الآخر للسلطة، فمن خلال التصاقهم التاريخي بها وبالطبقات المسيطرة في المجتمع يمارسون الإرهاب الفكري والديني كغطاء لإرهاب السلطة واستمرار للوضع الراهن .

بمعنى أن أصحاب ذهنية التحريم يستخدمون الدين كأداة قمع داخلية لا شعورية فمن ناحية فإنهم يوجهون أنظار الناس بدلاً من الخلاص المادي الدنيوي إلى الخلاص الروحي الأخروي، فيصورون الدنيا في أعين العامة والبسطاء على أنها فانية ودار ابتلاء ومـمر إلى الآخرة ليس لهم فيها إلا الزهد والاعتكاف في الجوامع، ومن ناحية ثانية فإنهم يبررون للسلطة وجودها كمستغلة لدم الشعب وتبرر للأغنياء والطبقات السائدة سلوكهم وثراهم، فإذا كان فقر الناس هو ابتلاء من الله واختباراً لإيمانهم، أو قصاصاً لذنوبهم فإن أموال الأغنياء هي فتنة وأن الله يعطيهم ويزيد من عطاياه لكي لا تكون لهم على الله حجة، وبهذا المعنى فإن ذهنية التحريم لا تطالب الفقراء بالعبادة فحسب بل بأشياء كثيرة تمثل نمطاً لحياتهم ليكون ركيزة للتسلط الطبقي ودعامة له، فهي تطالبهم بالصبر لأنه مفتاح الفرج، بالقناعة وعدم الاعتداء على أموال الأغنياء فالله هو مقسم الأرزاق ومانح الأموال، تطالبهم أيضاً بطاعة أولي الأمر، وعدم الخروج على السلطان، وفي المقابل تطالب الأغنياء بما يثبت امتيازاتهم: التصدق على المساكين ، الحج ، وإذا ابتليتم فاستتروا، دفع الفدية مقابل المعاصي، التصدق للتكفير عن الخطايا، الاستغفار عن الذنوب ... كما أن ذهنية التحريم تصرف الناس عن الاهتمام بالمسائل الدنيوية والمصيرية وتشغلهم بتوافه الأمور، فهي لا تقيم شأناً لقضايا الناس وهمومهم مثل البطالة، الضمان الاجتماعي، حقوق الإنسان، الحريات العامة، مجانية التعليم والعلاج، النظام الإداري والسياسي للدولة، حقوق العمال، احتكار التجار واستغلالهم، مظالم السلطة .... وتعطي الأهمية القصوى للأمور الثانوية .

وإليكم بعض الأمثلة للتحريمات المجانية من كتاب رياض الصالحين التي تضيع بينها المحرمات الحقيقية: " تحريم الكبر والإعجاب، لبس الحرير، سفر المرأة وحدها، النظر للمرأة والاختلاء بها، وصل الشعر بالوشم، النياحة على الميت، تصوير الحيوان، تربية الكلب، امتناع المرأة عن فراش زوجها، صوم المرأة تطوعاً دون إذن زوجها، المرور بين يدي المصلين، الجلوس على القبر وفي الأسواق، تغليظ تحريم إباق العبد من سيده، هجرة الأقارب، التعلم للدنيا وكتمان العلم، إسبال الإزار، حلق اللحية، حداد المرأة على زوجها الميت، لبس الثوب المزعفر، سماع الأغاني والموسيقى، النحت والتصوير .... إلخ .


6. عقلية الوعظ والإرشاد
إن طبيعة البشر واحدة في كل زمان ومكان والاختلاف فيما بينهم يرجع في الغالب إلى اختلاف في تكوين المجتمع الذي ينشأون فيه، وفي هذا الصدد يقول د. علي الوردي في كتابيه الهامين مهزلة العقل البشري ووعـاظ السـلاطين: " ومن خصائص الطبيعة البشرية أنها شديدة التأثر بما يوحي العرف الاجتماعي إليها من قيم و اعتبارات فالإنسان يود أن يظهر بين الناس بالمظهر الذي يروق في أعينهم، وشر المجتمعات هو ذلك المجتمع الذي يحترم طريقةً معينةً في الحياة في الوقت الذي ينصح الواعظون فيه باتباع طريق آخر معاكس له".

ومن نافل القول أن للإنسان عقلين: ظاهر وباطن، أي ثقافة وضمير الأول ينعكس على أقواله والثاني تترجمه الأفعال، وكثير من الناس ما يمارس عكس قناعاته ويقول ما لا يفعل، ويفعل ما لا يقول، بمعنى أنه واقع تحت تأثير التناقض بين ما يؤمن به وما يتمناه بين ما يسمع من مواعظ وما يرى من حقائق، هذا التناقض أدى إلى الازدواجية في الشخصية.

ويقول د. الوردي " وإننا حين نعِظُ الإنسان في مثل هذه الحالة لا نؤثر إلا في عقله الظاهر فقط، أما عقله الباطن فهو لا يفهم من مواعظنا شيئاً إذ هو مشغول بما يوحي إليه العرف الاجتماعي من قيم واعتبارات، فعقله الظاهر قد امتلأ بهذه المواعظ منذ صغره فهو يحفظها ويلقيها على غيره ولكنه لا يتأثر بها ما دامت معاكسة لقيم العرف الاجتماعي الذي نشأ فيه، إن الازدواج هنا أمر لا بد منه، فتنشق الشخصية إلى شقين: أحدهما يخصص لسماع المواعظ فيما يبقى الشق الآخر حراً للجري وراء أهداف الحياة، ومشكلة الواعظين أنهم لم يدركوا طبيعة البشر على حقيقتها وعزوا لها صفات ملائكية هم منها براء، وطالبوهم بما لا طاقة لهم به ونصحوهم بما يتناقض مع فطرتهم، وأمروهم أن ينزعوا عنهم ثوبهم الآدمي ويتقمصوا ثوباً آخر لا وجود له إلا في عالم الأحلام والمطلق والمثاليات، وكان ضرر الوعظ بليغاً في تكوين الشخصية الإسلامية إذ كان ينشد أهدافاً معاكسة لقيم العرف الاجتماعي، فالإنسان يحب الدنيا من أعماق قلبه ويود الاغتراف من مناهلها بكلتا يديه ويتشبث بالحياة إلى أبعد الحدود وهذه صفة طبيعية ونزعة بشرية لا جدال فيها، بينما يأتي الواعظون فيحضونه على ترك الدنيا والزهد فيها والترفع عن ملذاتها، وهو بذلك يمسي حائراً فضميره يأمره بإطاعة الواعظ من ناحية ونفسه تجذبه إلى الناحية الثانية نحو الدنيا جذباً لا خلاص منه، فهو إذن بين حجري الرحى لا يستطيع ترك الدنيا ولا يستطيع مخالفة الواعظ، والإنسان أيضاً يحب المال والجاه والثراء بينما الواعظون يتشددون في احتقاره وفي ذم الساعين إليه ويعتبرون جمع المال رذيلة وحب الجاه ذنب فظيع، والمرأة التي أقنعها الواعظون بأن الجنس حق الرجل وهو حكر له ستقع تحت تأثير دافعين متعاكسين، فهي تؤمن بأن رغبتها الجنسية إثم كبير بينما في الجهة المقابلة تكون مندفعـة نحو إشباع تلك الرغبة اندفاعاً لا شعورياً عنيفاً، والإنسان يحب الرئاسة ويسعى للزعامة والقيادة بينما الواعظون يقولون من طلب الإمارة لا يؤمّر، وأن السعي نحوها ظلم للبشر وانقطاع عن العبادة" .

من الطبيعي أن الطفل يحب اللهو والتمرد والمغامرة ولكن المشكلة أن الأب في البيت يأمره بالطاعة والهدوء وعدم الإزعاج والمعلم في المدرسة والشيخ في الجامع يأمرانه بما يتناقض على ما فطر عليه، فهما لا ينفكان يأمرانه وينصحانه بالالتزام والانضباط وأن ينكب على دروسه فلا يلتفت يمنة ويسرة ولا يتكلم ولا يلعب ولا يلهو ولو استطاعا أن يقطعا أنفاسه لفعلا، وهما بذلك يدفعانه نحو العصيان دفعاً، فالتلميذ هنا سيشعر أن ساعة الدرس بمثابة السجن له، ولذا تجده لا يكاد يخرج من بين يدي معلمه حتى ينفجر راكضاً معربداً مؤذياً ولا يكاد يلمح معلمه من بعيد حتى يعود ليتقمص زي التزمت والوقار ويتخذ له شخصية أخرى، إنه مضطر أن يكون مزدوج الشخصية فهو لا يستطيع أن يكون وقوراً ملتزماً خارج المدرسة وداخلها فيجري على غير طبيعته الصاخبة فهو يتطرف في حركته آناً ويتطرف في سكونه آناً آخر .

والفتاة تحب أن تتزين وتتجمل وتبدو حلوة في أعين الآخرين بينما الواعظون يأمرونها أن تتقوقع داخل خيمة متحركة لا يبدو منها ولا من زينتها شيئاً، والمراهق يقبل على الحياة بتفاؤل واندفاع ونفس بريئة وأحلام وردية بينما يصورها له الواعظون على أنها فتنة واختبار وبلاء ومحنة كلما اغترف منها قليلاً كلما زاد شقاؤه وإذا غرق فيها كانت تعاسته ثم يملئون عقله بالحديث عن عذاب القبر والأفاعي والويل وسعير ونيران جهنم وصنوف العذابات والانتقام الإلهي لمن يقبل على الدنيا وينسى الآخرة .

ويضيف د. الوردي: "وقد أدى منهج الواعظين هذا إلى وضع متناقض فقد أدى إلى صراع نفسي من ناحية وإلى قلق اجتماعي من ناحية أخرى، وهذا الوضع لا يمكن أن يدوم على هذا المنوال إلى الأبد، فهو تأزم لا بد أن ينتهي إلى حل عاجلاً أم آجلاً، أي أنه سيؤدي إلى التطرف والغلو أو إلى ازدواجية الشخصية، كي تستريح النفس من عذابات الضمير ونداءات العقل، والحل الأكثر رواجاً في المجتمع العربي كان ازدواج الشخصية، ولعل العرب مصابون أكثر من غيرهم من الأمم بهذا الداء والسبب في ذلك أنهم وقعوا أثناء تطورهم الحضاري تحت تأثير عاملين متناقضين هما البداوة والإسلام وبين الدين والدولة : إن قيم البداوة تحرض على الكبرياء وحب الرئاسة وتفتخر بالأنساب أما الإسلام فهو دين الخضوع والتقوى والعدالة والمساواة، والدولة تقوم على أساس القهر والتسلط والاستغلال بينما يقوم الدين على أساس الرحمة والعدل والتواضع وإحقاق الحق" .

وقد عمق الواعظون من هذه الأزمة، فلم يقربوا أسلوب وعظهم من أسلوب الواقع الذي يعيش الناس فيه، وخاطبوا الناس من أبراجهم العاجية، ولم ينزلوا إلى مستوى الناس ومشاكلهم وقضاياهم المعاشية والدنيوية ولم يحفلوا بها، وبهذا تكونت فجوة واسعة بين واقعية الحياة ومثالية الفكر عندهم، كما أن الواعظون لا يتبعون النصائح التي ينادون بها، ومشكلة الواعظون أيضاً أنهم وضعوا للأخلاق مقياساً صعباً لا يستطيع تحقيقه إلا من شذ وندر، كما تناسى الوعاظ أن طبيعة الإنسان خطاءة وأن غروره يزين له كل تصرفاته وعقله يبررها .

فالظالم يحسب نفسه أكثر الناس عدلاً، والسارق يبرر لنفسه سرقته، والوعظ مع هؤلاء كمن يقول للمجنون كن عاقلاً، أو ينبه الذئب بأن لا يأكل الغنم، فالوعظ والإرشاد لن يردعا الظالم عن ظلمه ولا المخطئ عن خطئه فهو حينما يخطئ لا يدري أنه أخطأ إذ هو يسوغ خطأه ويبرره ويجمّله ويجعله قمة الصواب .

ويؤكد د. الوردي على إن قيم الإسلام وقيم البداوة متناقضة بطبيعتها ولكنه يبين أن هذا التناقض لم يظهر في عهد النبي وفي عهد أبي بكر وعمر من بعده ويعزي ذلك إلى أن الكفاح المتواصل ضد الأجانب وحّد الهدف وشغل الناس بمآثر الغزو والفتح وتأسيس الدولة، وبهذا لم يجد البدو تناقضاً بين طبيعتهم القديمة وطبيعة الإسلام الجديدة، إذ شُغلوا بالفتح فنسوا عاداتهم الأولى ووجدوا فيها متنفساً في حرب ضد عدو مشترك، أما حين وقف الفتح فقد رجع البدو يتنازعون فيما بينهم على الطريقة القديمة، ثم تأزم هذا الصراع النفسي واستفحل في عهد الأمويين والعباسين من بعدهم إذ حاولوا أن يقحموا الإسلام بالسياسة وأن يجمعوا الـدين مع الدولة بما فيهما من خصائص متناقضة، فحاول العباسيون أن يجدوا الحل لهذه الأزمة النفسية التي كانت تؤرق المسلم وتقض مضاجعه وتقسمه إلى قسمين، بمعنى أنهم كانوا يحاولون ردم الهوة بين الدين والدولة، أي الحفاظ على الدين كمظهر وطقوس وتقوى وتسامح وعدالة واستقامة ولحفاظ على الدولة بمكاسبها وامتيازاتها وإغراءاتها وهو أمر يكاد يكون مستحيلاً، فلم يوفّقوا إلى هذا السبيل إلا ظاهراً، أي أنهم قربوا الفقهاء وأهل الحديث وأجزلوا لهم العطاء وتظاهروا لهم بالخشوع والورع واستمعوا إلى مواعظهم .

لقد كان الخليفة الأموي بدوياً صريحاً يعمل ما يشاء ما دامت القوة بيده - حتى قصف الكعبة - أما الخليفة العباسي فقد أخذ يتبع طريق الازدواج، إذا جاء وقت الموعظة بكى وإذا جاء وقت السياسة طغى، فهو في وقت الموعظة من أشد الناس خشوعاً وتعففاً وزهداً أما حين يجلس في الديوان ينظر في أمر الخراج وتعيين الولاة وشراء الجواري فهو لا يختلف عن قيصر وكسرى ونيرون بشيء .

ويبين د. الوردي أن هذا الأمر انسحب على عامة الناس وأصبحت مشكلة الدين هيّنة وأنهم استراحوا من التأزم النفسي، فالفرد يجوز له أن يعمل ما يشاء وينهب من يشاء ويكذب ويزور ويحتال ويقترف المعاصي والآثام ... ولكي يرضي الله يعطي جزءاً من وقته للاستغفار والبكاء والخشوع وبعد انقضاء الصلاة يعود إلى طبيعته ومعاصيه، فيطبق مقولة ( بعد صلاة العشاء افعل ما تشاء ) أو يعطي جزءاً مما ينهب إلى العبّاد والزهاد لينوبوا عنه بالاستغفار والتوبة ولا ينسى أن يتبرع لبناء المساجد وتشجيع الوعاظ، فهو يعتقد أنه إذا بنى الظالم مسجداً بنى له الله قصراً في الجنة .

ويؤكد أيضا على أن الدين لا يردع الإنسان عن عمل يشتهي أن يقوم به إلا بمقدار ضئيل، فتعاليم الدين يفسرها الإنسان حسب ما تشتهي نفسه، ويبيبن أن القرآن أو الحديث شكلا مرجعاً وحجة لكثير من الأعمال المتناقضة، خاصة حينما تنازع المسلمون في صدر الإسلام، ويُذّكر كيف كان يقتل بعضهم بعضا ويكفر بعضهم بعضاً ثم يستندون في ذلك على نفس الآية والحديث، وأنه لا تزال الفرق الإسلامية تتحارب بالآيات والأحاديث وكل حزب بما لديهم فرحون وكل فرقة تملك في جعبتها أسلحة شتى مما قال الله أو قال الرسول ... ويقول علي بن أبي طالب ( القرآن حمّال أوجه ) وهو بذلك يعني أن القرآن يحمل تفاسير متنوعة وكل حزب يستطيع أن يجد له في القرآن ما يريد من دليل أو سند لعمل سيقوم به .

وأخيراً يقول د. الوردي للوعاظ بأن العدالة الاجتماعية لا يمكن تحقيقها بمجرد أن تعظ الحاكم أو تخوفه من الله، لأن العدالة ظاهرة اجتماعية لا تتأتى في مجتمع إلا بعد ثورة اجتماعية ونضال مرير وتضحيات جسام، وهي أيضا بحاجة لضمانات لاستمرارها تتمثل بأشكال الرقابة والضبط والنقد والمحاسبة على أسس موضوعية، فالحاكم لا يمكن أن يكون عادلاً من تلقاء نفسه، إذ هو قبل كل شيء إنسان فيه من نقائض الطبيعة البشرية ما في غيره، وهو مهما كان تقياً في أعماق نفسه ومستقيماً في سلوكه فإنه لا يفهم العدل كما يفهمه القابعون في العشوائيات أو العاطلون عن العمل، والوعاظ الذين يتباكون على أمجاد دولة الخلافة ويدعوننا إلى العودة للوراء ويتباهون بإنجازاتها ومآثرها وعدل حكامها نسوا أن هذه الآثار الضخمة أقيمت بدموع البائسين وعُجنت بدمائهم، ولم يقم أثر واحد منها إلا بعد أن انهالت السياط على آلاف المستعبديـن وتمزقت بها جلودهم .
7. عقـليــة المـؤامــرة

" التاريخ ليس مؤامرة كبرى ، ولكنه لا يخـلو من المؤامرات الكبيرة "، الفرق بين المقولتين جلي وواضح ؛ فالأولى تنفي أن يكون التاريخ حلقة متصلة من مؤامرة كبرى أعدتها قوة عظمى ذات عقلية رهيبة - قوى الشر والطغيان - بينما تؤكد المقولة الثانية أن المؤامرة مورست تاريخيا عندما كانت تلتقي مصالح مجموعة قوى مسيطرة عند نقطة معينة، كمحاربة طرف آخر أو الوصول الى هدف ما بوسائل ملتوية وطرق لا تخلو من الشر والمكيدة بالخفاء والعلن لتحقيق أغراضها .

إن الذهنية التي تربط دوما بين الأحداث وبين مؤامرة أعدها الأعداء، يطلـق عليهـا " ذهنية المؤامرة "، وأصحاب هذه العقلية يؤمنون بوجود مثل هذه القوى القادرة على التخطيط والتنفيذ والتحكم بالنتائج بما يحقق مصالحها، ويطلقون على هذه القوى تسميات عديدة مثل الماسونية العالمية، حكومة العالم الخفية، الصهيونية، الموساد، الاستعمار، المخابرات … الخ ، ويعتقدون أن هذه القوى تجتمع في غرفة مقفلة وتقرر وتخطط وترسم الخطوط العريضة لأحداث المنطقة، وبكبسة زر تستطيع أن تتحكم بمصائر الشعوب، فهي تفتعل الأحداث والحروب والمعاهدات وتهدم دولا وتبني أخرى وتنصب الرؤساء، وتعزل من يخالف أمرها وتعز من تشاء وتذل من تشاء، فهي بيدها القوة والملكوت وتلعب بالمنطقة كأنها رقعة شطرنج .

وهنا لا نبالغ في تصوير هذه الذهنية، فهناك فئة من الناس من فرط تهويلهم للأمور يفسرون التاريخ ويفهمونه انطلاقا من عقلية المؤامرة، فيعتقدون مثلا أن هذه القوى هي التي أسست الشيوعيـة وبنت الاتحاد السوفييتي وهي التي أمرت بهدمه، ويعتقدون أيضا أن هذه القوى هي التي تسببت بالحربين العالميتين وغيرها من الحروب الإقليمية وهي التي أوقفتها عندما تحقق لها مرادها، وهذه القوى هي التي صنعت الثورة الفرنسيـة والحرب الأهلية الأسبانية، وهي التي بنت الدول ورسمت الخارطة السياسية الكونية وما زالت تتحكم بها، وهي التي صنعت إسرائيل وتسيطر على أمريكا وأوروبا، وإن جميع حكام العالم الثالث وبشكل خاص حكام العرب ما هم إلا ممثلين بارعين لأدوار محددة سلفا لا يستطيعون تجاوز النص، ومنهم من يذهب إلى أبعد من ذلك ، فيجزم بأن هذه القوى هي التي صنعت منظمة التحرير الفلسطينية وهي التي أشعلت الانتفاضة ثم أوقفتها لتوصلنا الى اتفاق أوسلو حتى يتسنى لها تصفية القضية الفلسطينية بشكل نهائي ! وحتى الثورة الجزائرية وثورة يوليو في مصر واستقلال البلاد العربية من الاستعمار الأجنبي المباشر وكل أحداث المنطقة العربية في القرن الأخير ما هي إلا نتائج مخططات هذه القوى العجيبة الرهيبة !!

بمعنى أن هذه القوى لها القدرة الخارقة على نقل الأمم من مرحلة إلى أخرى وتسيير دفة التاريخ والتخطيط المسبق لمئات السنين، ومن الممكن أيضا أن تتحكم بالكوارث الطبيعية ومعدلات النمو السكاني وتلويث البيئة وكسوف الشمس إذا ما أرادت ذلك !

ومع أن عقلية المؤامرة موجودة منذ أقدم الأزمان إلا أنه برز في العقود الأخيرة مجموعة كتب تؤسس لها وتغذيها مثل كتاب " لعبة الأمم " و " حكومة العالم الخفية " و " أحجار على رقعة الشطرنج " و " الماسونية العالمية " و " بروتوكولات حكماء صهيون " ، هذا الأخير ، استطاع أن يقنع قسم كبير من الناس بما فيهم مثقفون بأن جميع ما يجري حاليا من أحداث وحروب ومعاهدات وانهيارات وأنماط سلوكية قد خطط له بشكل دقيق من قبل المنظمة الصهيونية أو اليهودية العالمية قبل مائة سنة على الأقل وهي جميعها مدونة في هذا الكتاب الخرافي .

وقبل أن نبين الآثار التدميرية لهذا النمط من التفكير السلبي لا بد لنا أن نبين خطأ هذه العقلية وانحرافها عن التفكير العلمي السليم ومنهاج البحث العلمي الموضوعي.

إن مسار التاريخ وتطور الحياة وتشكل الأحداث ما هي إلا إفرازات طبيعية لتعقيدات الحياة بكافة جوانبها، واستجابة طبيعية لحركة النمو والتطور الإنساني ومرآة صادقة للواقع بكل إحداثياته، فالواقع هو انعكاس للبيئة بتفاصيلها الدقيقة التي تؤثر بعضها على بعض سلبا وإيجابا، فمنذ بدء الخليقة وجد التناقض والصراع بين كل الأشياء ومن خلال النقيضين يولد شيء جديد يحمل بذرة التناقض وهكذا دواليك، والتراكمات الكمية تؤدي الى تغيرات نوعية .

فالصراع موجود منذ الأزل وباقي الى الأبد بين كل النقائض: بين الخير والشر، وبين الجديد والقديم، وبين الطبقات الاجتماعيـة ، وبين الأجيال … والمادة نفسها تحوي داخلها نقيضها، والأشياء تتحد مع بعضها البعض لفترة معينة ثم ما تلبث أن تتصارع، وعلماء الاجتماع منذ ابن خلدون ومن تلاه قد انطلقوا في تفسيرهم لنشوء الحضارات ورقيها وبلوغها أعلى مراحل القوة ثم انهيارها لتنشأ حضارة جديدة على أنقاضها، انطلقوا من مفهوم وحدة وصراع الأضداد، فمع كل خطوة الى الأمام، يخلق واقع جديد يحمل في طياته إمكانية تغييره "الحتمية"، ولولا ذلك لفنيت الحياة أو توقفت عند اكتشاف الزراعة .

فاختلاف الآراء والثقافات ووجهات النظر وتضارب المصالح، هي الأسباب الحقيقية والضمانة الأكيدة لديمومة الحياة وتنوعها وثرائها، وبالتالي إعمار الأرض وتقدم الإنسانية، فالتغيير غالبا يحدث من القاعدة بسبب تناقض المصالح والحاجة إلى الجديد وليس نتيجة إملاءات فوقية أو أوامر من الزعيم الخفي .

وكما أن المادة لا تنشأ من الفراغ، فإن الأحداث الكبرى والمفاصل التاريخية أيضا لا تنشأ من الفراغ ولا تتكون صدفة، بل تأتي بعد مقدمات تاريخية وإنضاج للعاملين الذاتي والموضوعي، فتأتي في موعدها التاريخي أو بسبب الضرورات الوطنية والاقتصادية، فالإسلام مثلاً، جاء بعد أن نضجت ظروف تكون الأمة العربية واستكملت استحقاقاتها لغويا وروحيا واجتماعيا وسياسيا في القرن السادس الميلادي وتهيأ العرب لحمل الرسالة وتكبد مشقاتها وأعبائها .

والثورة الفلسطينية، كمثال آخر، وُلدت تحت إلحاح ظرف تاريخي، ولم تكن ثمرة نقاش مخملي في صالونات السياسة، أو نتيجة مؤامرة خارجية، حتى إسرائيل نفسها لم تكن بسبب مؤامرة استعمارية بالمفهوم الغيبي السطحي للكلمة، بل بسبب تقاطع مصالح حاخامات اليهود ورؤوس الأموال اليهودية ضمن ظروف معينة شهدتها أوروبا نهاية القرن الماضي تقاطعت مع مصالح الدول الاستعمارية التي وصلت مرحلة الكولونيالية وأصبحت بحاجة الى جسم غريب موالي لها تغرسه في قلب الوطن العربي يحقق لها جملة أغراض استراتيجية .

وكذلك فإن اختراع البنوك لم يكن نتيجة مؤامرة يهودية للسيطرة على اقتصاد العالم، بل بسبب تطور الاقتصاد العالمي وحاجته الى نظام يواكب هذا التطور ويحميه ويحل مشاكله المعقدة ؛ فالحاجة أم الاختراع .

ولطالما كانت المصالح الاقتصادية على مر التاريخ هي المحرك الرئيسي للتغيير سواء في الحرب أم في السلم، فالمصالح الاقتصادية وبعد نشوء الملكية الخاصة كانت هي المحور الذي تتشكل عليه الطبقات الاجتماعية والفرز الطبقي، مما أدى الى تطور الحياة الإنسانية ومرورها بمراحل العبودية ثم الإقطاع ثم الرأسماليـة، وما ترافـق مع ذلك من تشكيلات اجتماعيـة وسياسية بدأت من مرحلة المشاع الأول وسير الإنسان على غير هدى ثم تشكل العائلة والقبيلة والدولة وصولا إلى الإمبراطورية وأخيرا الأنظمة الديمقراطية الحديثة .

ونحن لا ننفي البعد الثقافي والديني والروحي أو نقلل من شأنه، وحتى هذا البعد لم ينشأ من الفراغ ولم يكن معلقا في الهواء، فالرسالات السماوية كانت على الدوام ملائمة للأقوام التي حملوها لغة وثقافة وتشريعا، فالبعد الروحي والديني لعب دورا هاما على مر التاريخ، ومثلما كان سببا في انتصار العرب وانتشار الإسلام وازدهار الحضارة العربية الإسلامية بدوافع عقائدية محضة، خاصة في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أيضا، في كثير من الأحيان، ساترا لدوافع اقتصادية ومبررا لأطماع دنيوية محضة أو غطاء لظلم الحكام أو نصوصا مقدسة يتمترس خلفها المحافظون .

إن ذهنية المؤامرة هي النقيض المباشر للتفكير العلمي الموضوعي، وهي عقلية غيبية سلبية لا ترتكز على أسس موضوعية، وتنطلق من الإحساس بالهوان والإقرار بالهزيمة وتؤسس مدرسة العجز الذاتي، فهذه العقلية تصور العدو على أنه عملاق مخيف قادر على كل شيء وتفصلنا عنه سنوات ضوئية من التطور والعلم ولا نملك إزاءه إلا الرضوخ والتسليم، لأننا حسب هذه العقلية خِرافٌ تُساق إلى المسلخ دون احتجاج، وإضافة إلى ذلك فإن ذهنية المؤامرة تضلل الجماهير وتجعلهم في واد والحقيقة في واد آخر، لأن تفسيرها للأحداث ينبني على أساس وهمي خرافي سيوصل بالضرورة الى نتائج مشوهة مضللة، وهي أيضا تجعل الجماهير متفرجين مترقبين ينتظرون النتائج بدلا أن يكونوا لاعبين مؤثرين يصنعون الحقائق والتاريخ، لأن الحياة على حد تعبيرهم مسرحية أعد فيها كل شيء بعناية، وما تصريحات الأطراف ومواقفهم إلا توزيع أدوار .

إن أصحاب ومؤسسي هذه العقلية، هم أصحاب الفلسفة المثالية والفكر الأفلاطوني، الذي يترفع عن الخوض في التفاصيل ويلجأ الى الأبراج العاجية ليوزع التهم ويلقي باللوم على الاستعمار والمؤامرة ويبرئ ساحة الجماهير من مسئولية الهزائم والانكسار والهوان ويعفيها من دورها وواجباتها ويبارك لها سلبيتها وتخلفها لأنها لا حول لها ولا قوة، ونحن هنا لا ننفي وجود منظمات سرية وقوى خفية تعمل في الظلام وتتآمر على أمتنا ومستقبلنا مثل المحافظين الجدد في البيت الأبيض والمنظمة الصهيونية، ولن نقلل من خطرهم ولكن دون أن نهول الأمور فنعظم من شأن عدونا ونصغر من شأننا حتى نفقد الثقة بأنفسنا، وبالتالي ينعدم الأمل بالمستقبل والإيمان بحتمية النصر والاستعداد للتضحيـة، فيموت الطموح وتخبو الأماني ويستبد اليأس، وهذا أخطر ما في الموضوع، فيجب أن ندرك أن عدونا قوي ومنظم ولكن من الممكن هزيمته .

والماسونية على سبيل المثال ما هي إلا جمعيات سرية تتستر خلف دعاوي اجتماعية، يلتقي فيها من مختلف جنسيات العالم أناس لهم مصالح خاصة، وهـم من الطبقات المخملية وأصحاب مراكز حساسة، وبالتأكيد لهم طقوسهم ولوائحهم الداخلية، ولكن الأكيد أيضا هو أن قوتهم ونفوذهم وسيطرتهم على البنوك والإعلام والدول والرؤساء هو أمر مبالغ فيه جدا.

ودعونا نطرح بعض الأسئلة : ما هي تشكيلاتهم الاقتصادية والسياسية ؟ من هم زعماؤهم ؟ وكيف تلتقي مصالحهم الى هذا الحد رغم التباين الواضح بين مصالح من هم في الشرق ومن هم في الغرب ؟ ولماذا لا تطفو مشاكلهم على السطح ولا نسمع عنها شيئا ؟ قبل الإجابة على هذه الأسئلة وغيرها دعونا نتحرر من عقلية المؤامرة ونعطي الأمور حجمها الطبيعي دون مبالغة أو تصغير، فالتاريخ لم يعرف قط أي تشكيل اجتماعي أو سياسي أو اقتصادي سواء كان حزبا أو دولة أو حتى عصابة؛ لم تنشأ بين أعضاءه مشاكل ونزاعات كانت تصل إلى حد القتل في كثير من الأحيان، لماذا ستشذ الماسونية عن هذه القاعدة ؟ وما هي هذه العقول الجبارة المتفوقة على عقول البشر القادرة على كل هذا التخطيط والتآمر ؟

إن الإيمان بهذه الخرافات والسذاجات قد ضلل البشرية طويلا وأبعدتها عن الحقيقة وطرق مواجهتها، فعلى سبيل المثال استطاعت أمريكا أن تضخم في أذهاننا قوة اللوبي الصهيوني داخل أمريكا مستفيدة من ذلك في أمرين : الأول : إعطاء مبرر لحكام العرب أمام شعوبهم للتحالف مع أمريكا بحجة أنها محكومة من اللوبي الصهيوني وبالتالي فهي بحاجة إلى دعم العرب للتحرر منه ومن ضغوطاته، الثاني : إعطاء مبرر للإدارة الأمريكية أمام دافع الضرائب الأمريكي الذي يرى أمواله تحول الى صندوق دعم إسرائيل بينما يعاني مجتمعه من البطالة والفقر .

إن الصراع بين قوى التغيير صاحبة الحق وبين القوى المسيطرة الغاشـمة سيستمر، وسينتصر الحق في نهاية المطاف، حتى لو كنا شعوبا مستضعفة شريطة أن نمتلك أسس التفكير والتخطيط العلمي والإيمان بحتمية النصر، فمجرى الزمان بمثابة وعـاء فارغ تستطيع أي قوة اجتماعية مهما صغر شأنها أن تملأه، ولكن بعد أن تمتلئ هي ثقة بنفسها.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق