أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

يوليو 20، 2008

المطلوب من أطفالنا أن يلغوا عقولهم [1]



بداية نهنيء علماء الأمة ومفكريها على نجاحهم الباهر في حل جميع قضايانا الكبرى والبدء بحل القضايا الفرعية وأولها قضية البوكيمون.
وبالطبع ليس لنا من اعتراض على طرح الموضوع من حيث المبدأ طالما أنه يمس أطفالنا، ولكن الاعتراض هو على الأسلوب، فإذا ما تم طرح الموضوع من قبل مختصين بأسلوب علمي هاديء في سياق برنامج تربوي فذلك أمر إيجابي، أما أن يزج بالدين وبهذه الطريقة الساذجة المكشوفة فهذا أمر مستغرب ومستهجن.

والبوكيمون كبرنامج مخصص للأطفال له من الإيجابيات وعليه من السلبيات ما لبرامج الأطفال الأخرى، والفرق أن البوكيمون حقق شهرة ونجاحا أكثر من غيره – والحكم هنا للأطفال أنفسهم – والسبب ببساطة أن هذا البرنامج استطاع أن يدغدغ عواطف الأطفال ويلامس أحاسيسهم ويطلق العنان أمام خيالاتهم لتحلق بلا حدود .
ومؤخرا قامت جهة مشبوهة بتوزيع بيان ضد البوكيمون يحرّمه ويدعو لمقاطعته، وقد احتوى البيان على ترجمة لأسماء شخصيات البوكيمون دون أن يحدد اللغة التي ترجم عنها ! وأغلب الظن أنها لغة أحد الكواكب التي أكتشفت حديثاً ،،،، والجدير بالذكر أن المترجم اضطر للإستعانة بقاموس أسطوري لفك طلامس هذه اللغة المجهولة.
ومع أن أسلوب البيان كان ساذجا ولم يحترم عقولنا، إلا أن الغريب في الأمر هو انتشاره السريع كانتشار النار في الهشيم والتعاطي معه بجدية وكأن ما ورد فيه أصبح من البديهيات !!.
وما لبث هذا البيان حتى صار محور دروس الدين والخطب المنبرية وكلمات الصباح المدرسية، وحجة وسندا لفتوى طالعتنا بها المؤسسة الدينية السعودية ثم لحقت بها مؤسسات شبيهة لها في كل من الأردن وقطر تؤيد تحريم البوكيمون.
إن نقْدنا لمضمون البيان وطريقة التعاطي معه هو نقدٌ للخطاب السائد في مجتمعنا وأنماط تفكيره، طالما أن فئات عديدة بما في ذلك مثقفين قد صدقت فحوى هذا البيان !! على الرغم من أنه يفتقر للمنطق وتعوزه أدوات المعرفة وتنقصه روح النقد البناء والمنهجية في البحث والتحليل.
فهو لا يعدو عن كونه مجرد إشاعة على نمط الحكايات المثيرة التي تضرب على وتر العاطفة الدينية ولا تقيم وزنا للعقول وتستغل ظاهرة شلل آليات التفكير أمام أي شأن يمس الدين من قريب أو بعيد .
وينطلق أصحاب هذا النهج في التفكير من مفهوم غريب عجيب مفاده أن العالم بأسره بدوله وشعوبه وطوائفه إنما هو عدو للإسلام يتربص به ويتآمر عليه، وبالتالي فأن أصحاب هذه العقلية سينصبون أنفسهم في موقع محامي الدفاع والحارس الأمين الذي نذر نفسه للذود عن الإسلام !!
وفيما يتعلق بالفتوى السعودية لا بد من التذكير بأن ذات المؤسسة سبق أن أباحت للقوات الأمريكية استغلال أراضي السعودية لضرب العراق في الوقت الذي حرمت فيه " التدخين " وتغاضت عن قدوم الأمريكيات للترويح عن جنود المارينز في الوقت الذي ما زالت فيه تحرم على المرأة السعودية قيادة السيارة !!
ولا ننسى الفتوى التي أصدرها حزب التحرير وحرم بموجبها النطق بكلمة الحرية والديموقراطية باعتبار أن مصطلحات اخترعها الغرب الكافر لتضليل المسلمين ! والسؤال هنا هل يجوز أن نتعامل مع أي فتوى على أنها من المحرمات غير القابلة للنقاش ؟؟
أما عن تحريم البوكيمون وتحريم حتى النطق بأسمائها فهل تسائلنا ولو للحظة واحدة عن أثر ذلك على نفسيات أطفالنا وعقولهم ؟ فكلنا يعرف بأن برنامج البوكيمون قد لاقى من النجاح والشهرة على مستوى العالم ما لم يحظ به أي برنامج آخر واحتل مساحة كبيرة من خيال الأطفال وشدهم وأسرَ قلوبهم وأن شخصيات البوكيمون على الرغم من كثرتها وصعوبتها يحفظها هؤلاء الأطفال عن ظهر قلب ويحبونها، بشكل خاص " بيكاشو " صاحب الشكل البريء الذي يمثل الخير والمحبة في مواجهة الأشرار .
ومن هنا فإن تحريم هذا البرنامج وحرمان أطفالنا من رؤية شخصياتهم المحببة سيولد لديهم ردة فعل عنيفة وسلبية قد لا تظهر نتائجها مباشرة أو ربما تظهر ردات فعل مختلفة متمثلة بسلوك غير طبيعي سيعجز البعض عن معرفة أسبابه، أو أن عدم تمكن الكثيرين من ملاحظة أية تغييرات على أطفالهم عائدٌ لأسباب كثيرة من بينها أننا لا نعطي لا الوقت ولا الاهتمام الكافيين لتربية أطفالنا وعيش مشاعرهم والإحساس بقضاياهم الخاصة.
التعامل مع الطفل بهذه العقلية التحريمية سيولد لديه صراعا نفسيا مريرا، فهو من جهة سينجذب إلى البوكيمون انجذابا تلقائياً عفويا طاغياً ومن جهة ثانية فإن عقله الظاهر سيمنعه من ذلك، وفي مواجهة هذه الأزمة النفسية سيلجأ بدون وعي إلى أسلوب المزاوجة بين النقيضين، أي ستُخلق لديه شخصية مزدوجة الأولى تحرم البوكيمون ظاهريا ولفظيا وربما سيتطرف في ذلك والثانية ستحبها في الخفاء واللاوعي وتسعى لإختلاس بعض المشاهد والصور ( وهذه صورة مصغره عن النفاق الشائع في مجتمعاتنا ) .
أو أن هذا الطفل بالرغم من تسليمه بصحة فتوى التحريم إلا أنه سيتغاضى عنها وسيسمح لنفسه بمتابعة هذا البرنامج المفضل، وستكون صورته أمام نفسه كمن يصر على الخطأ، أي أنه يعي أنه مخطيء ورغم ذلك يمارس هذا الخطأ، وبالتالي سنخلق منه شخصية متمردة على القانون ولا تقيم وزنا للمحرمات حيث أنه تعود على العصيان منذ هذا السن المبكر .
أو أن هذا الطفل سيمتنع بالفعل عن مشاهدة برنامجه المحبب رغما عنه وبالتالي سنضع النص الديني في مواجهة خيال الطفل وأحلامه وبشكل فـظ، قد لا يستوعبه وسنجعل من هذا النص مجافيا مع ما يحب وبالتالي سنخلق فجوة بينهما ستزداد مع تقدم الأيام وازدياد قائمة المحرمات، مما يجعل الخطاب الديني بشكل عام في موقع متعالي عن الواقع ومتخاصما معه وقاسيا عليه وغريبا عنه وغير قريب من القلب.
أما عن تأثير الفتوى على عقول أطفالنا فهي أولاً تدعو لإلغائه حيث أنها تحرم مجرد مناقشة النص الديني وتدعو للتسليم به دون تفكير، أي أن أطفالنا سيتعلمون كيف يحفظون النص دون فهمه وكيف يطبقون التعاليم دون أن يقتنعوا بها .
هذا النمط من التربية المتمثل بالتلقين وفق عقلية بطريركية يحد من قدرة الطفل على تعزيز ثقته بنفسه ويجعله يصيغ أفكاره وآرائه بناءاً على أفكار وآراء الآخرين ( الأكبر سناً ) وبالتالي سنعلم أطفالنا الطاعة العمياء وتنفيذ الأوامر دون مناقشة وسنكبل عقولهم ونحد من نموهم الذهني الطبيعي، وهذا بدوره سينمي لديهم نزعة الإمتثال والتسليم والإتكالية ، أي أننا سنطفيء جذوة النشاط المتقدة في دواخلهم ونكبح جموحهم ونجعلهم فريسة للإحباط، أي سنجعل منهم ذوي شخصية مستلبة مهيأة لقبول الواقع دون أي تفكير بتغييره أو تطويره أي بكلمة أخرى: الإذعان للسلطة بكل أشكالها .
كما أن أسلوب التلقين والحفظ وترديد الجمل والمأثورات عن ظهر قلب يؤدي إلى خنق روح المبادرة والفضول لدى الطفل وإضعاف رغبته في الاكتشاف وطرح الأسئلة وبالتالي تفشي العقلية الغيبية والإستسلام للخرافات وتصديق الإشاعات بدلا من النقد والتجريب والتفكير العلمي على أسس سليمة.
وما زال مجتمعنا يرزخ تحت وطأة هذا الخطاب المحافظ المسكون بالخوف من أي تغيير حيث يسعى القائمون عليه أن تكون الأجيال الطالعة نسخة عن سابقتها حتى لو كان ثمن هذا الإرهاب الفكري الذي يُمارس على أبنائنا هو القضاء على عالم الطفولة .
ونقرأ بوضوح في حيثيات البيان خوفه من من موضوع تطور شخصيات البوكيمون لما في ذلك من تطابق مع نظرية النشوء والإرتقاء، وهذه النظرية كما هو معروف محاربة بشدة من قبل المحافظين ( إسلاميين ومسيحيين ) وهم لا يريدون من أبنائنا أن تتهيأ عقولهم للإقتناع بهذه النظرية فيما بعد، وهل هنالك أوضح من هذه الحرب التي تُشَنُ عليهم لإبعادهم عن المنهج والأسلوب العلمي في البحث والتفكير وتعودهم هلى تشرب الفلسفة المثالية والنمط المحافظ في التفكير ؟؟
أما عن زعم البيان بأن أسماء شخصيات البوكيمون تدل على معاني إلحادية وجميعها تبدأ بكلمة " لا " فالغريب أننا لا نجد مقطع مشترك يدل على معنى " لا " في الأسماء الواردة في القائمة !!
وبخصوص الإدعاء المشبع بعقلية المؤامرة بأن جهات صهيونية وماسونية تقف وراء هذا الإنتاج ،، فلم يعد خافيا على أحد أن منتج هذه الأفلام هي شركة يابانية وأن مخترع الفكرة في الأساس هم أطفال يابانيون هداهم خيالهم المحلق لإبتكار هذه الشخصيات الأسطورية ولم يدر في خلدهم أي نزعات عدائية تجاه الآخرين .
واليابان بلد محايد ويدعم قضايا العرب بشكل عام وليس هنالك أية سياقات تاريخية تدل على أي مستوى من العداء تجاه العرب والمسلمين، كما أنه لا يوجد مبرر لذلك ، بل أن قضية الدين بمجملها لا تشغل حيزا في الخطاب الياباني وهنالك إحصائية تشير إلى أن الإنسان الياباني يتحدث في أمور الدين طوال حياته بما لا يتجاوز بضع ساعات !! أي بمقدار ما يفعله أي منا في جلسة واحدة !!!
ومن البديهي أنه ليس هنالك أية مصلحة للشركة المنتجة أن تسيء للآخرين الذين هم بنظرها مجرد سوق استهلاكي ، وفي هذا السياق فإن المخفي بين سطور البيان هو ما يتلق بالحرب التجارية بين النموذج الياباني الذي اكتسح أسواق العالم وجعل من نماذج أمريكية ظلت سائدة لفترات طويلة ( شخصيات والت ديزني ) تتهيأ لدخول أرشيف التاريخ وما ينتج عن ذلك من خسائر اقتصادية وانكسار للنموذج الأمريكي المنتصر المتفوق في كل شيء حتى في أفلام الكرتون !! بما يدل على أن لب الموضوع في هذه الحرب الزائفة هو تطوع البعض في تيار الإسلام الأمريكي للدفاع عن النموذج الأمريكي في مواجهة النموذج الياباني، وأنهم هم من يقف وراء هذه الحملة المحمومة .
مبرر آخر لإفتعال هذه الضجة هو رغبة البعض في البحث عن أعداء جدد أقل خطورة من العدو الحقيقي، وتحقيق انتصارات في معارك دونكيشوتية بعد تفشي نفسية الهزيمة والهروب من مواجهة إسرائيل وبعد انكشاف حالة العجز عن تقديم الدعم الحقيقي للإنتفاضة والتهرب من المسؤولية القومية والدينية تجاه فلسطين ولإلهاء الناس عن قضاياهم المصيرية الحقيقية.
الفضيحة الكبرى التي كشفت عنها ضجة البوكيمون هو أننا ما زلنا أسرى لعقلية المؤامرة والخرافة والأوهام، نجري وراء الإشاعات ونخترع أعداء وهميين لنقضي عليهم بسهولة، ونبرر لأنفسنا تخلفنا وتقاعصنا، وأننا سنقضي على الطفولة وعلى أجيالنا القادمة لأننا نريد من أبنائنا أن يكونوا على شاكلتنا ( تخلف مع مرتبة الشرف ).

نيسان 2001

[1] نشرت في الأيام 20-4-2001

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق