أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

سبتمبر 03، 2025

حاجتنا إلى لحظة استراحة


البحر مدٌ وجزر، الموسيقى صوتٌ وصمت، اللوحة توزيع فني بين اللون والفراغ، القلب انقباض وانبساط، الحياة لحظات نعيشها بين السعادة والشقاء.. تلك طبيعة الأشياء وسُـنّة الكون.. هكذا هو ناموس الطبيعة منذ أن وُجدت.. الإنسان في أبسط تعريف لحياته: تنويع بين اليأس والأمل، بين التعب والراحة، بين الموت والحياة.. تتابع وتفاوت بين صعود وهبوط، بين حركة وتوقف.. هكذا هو العالم؛ إلا في قطاع غزة؛ منذ سنتين والأمور في انحدار مستمر، موت، دمار، نزيف دون توقف وبلا استراحة، حتى بصيص الأمل أخذ يبتعد أكثر فأكثر.. حتى الحروب، في كل حروب الدنيا كان يتخللها هدنة، ممرات آمنة، مخارج إنسانية لإنقاذ المدنيين.. إلا الحرب العدوانية على غزة! لم تهدأ ساعة واحدة!

كل إنسان يحتاج أن يريح جسده بالاستلقاء أو النوم، وأن يريح نفسيته بأغنية، أو بسهرة أو لقاء مع عزيز، وأن يريح عقله بفيلم أو رواية، وأن يريح روحه بالتأمل والذكريات والأحلام.. بدون ذلك لا يستطيع مواصلة الحياة.

كل إنسان بعد عودته إلى البيت يبدل ثيابه، يسترخي، يتناول عشاءه.. وإلى جانب ذلك يحتاج نسمة طرية، كلمة حلوة، نافذة تطل على أفق مفتوح.. يحتاج الحمّام، وفرشاة الأسنان، وأسطوانة الغاز، وإبريق الشاي، وخزانة الملابس، والكرسي، والثلاجة.. يحتاج الأهل والأصدقاء والجيران والحارة والدكانة.. يحتاج الأمان.. وأن يحلم ويخطط، وأن يرفض ويوافق، وأن يبقى أو يسافر.. إذا مرض يحتاج سريرا دافئا، ويداً حنونة، وحبة دواء.. وإذا توفي من حقه أن يحظى بجنازة وقبر ومعزين.. لا أتحدث عن الحياة المرفهة والوادعة، بل عن أبسط حاجات الإنسان وأول حقوقه، التي يحظى بها سكان الأرض من أفقرهم حتى أغناهم.. إلا سكان قطاع غزة..

أهل غزة محرومون من كل ما سبق.. محرومون حتى من شربة الماء ومن رغيف الخبز.. محرومون من الحياة نفسها.. لا تتوفر لديهم لحظة راحة واحدة يلتقطون بها أنفاسهم، أو يودعون بها أحبتهم، أو حتى يحزنون بما يليق بالحزن.. من نزوح إلى نزوح.. ومن خيمة إلى أخرى.. بين الطوابير، وعلى "الكارات"، الشوارع التي كانت بعرض السماء والأرض صارت أزقة وعرة تحفها من الجانبين أكوام الحطام وخيام النازحين..  

هذا كله معروف، ونشاهده بأعيننا.. أكتبه فقط لنستشعر بعضاً مما يعانيه أهلنا في غزة.. لنتذكر أنهم بشر عاديون مثل سائر سكان هذا الكوكب البائس.. يتألمون، ويخافون، ويبكون، ويجوعون.. لديهم عائلات وأطفال، وذكريات ومستقبل، وطموح وحقوق، ويحبون الحياة.. هم ليسوا خارقين بأي معنى.. ولا يحق لنا أن نلبسهم هذا الثوب الذي لم يطلبوه، ولا هذا المجد الذي لم يدّعوه، ولا هذا الإدعاء الذي يكذّبوه.

أكتب ليفهم كل متابع للأحداث، سواء كان مواطنا مكسورا يشعر بالعجز، أو مؤثرا يسعى لصناعة "تريند"، أو مسؤولا يفتش عن تبرير، أو محللا تستضيفه الفضائيات، أو مفاوضاً لا نعرف إن كان يمثل شعبه أم حزبه! لنفهم كلنا طبيعة الحياة في غزة منذ سنتين.. كيف يعيش الناس هناك، وكيف هو واقع الحال. أكتب هذا حتى نقترب أكثر من المحرقة، ولكي نسمع بوضوح صرخات واستغاثات الموجوعين والمتألمين.

منذ سنتين وهم بين الردم والخراب والجثث، وتحت القصف، وفي مرمى نيران القناصة، مع الروبوتات المتفجرة بين النزوح والجوع.. يلهثون وراء خبر، أو بحثا عن كيس طحين، أو ركضاً هاربين من الجحيم الذي يصبه الاحتلال فوق رؤوسهم.. وقد تُركوا لآلات السحق الإسرائيلية تفرمهم منذ عامين دون توقف، ودون رحمة.

هذه ليست حياة بأي معنى، هذه حلقة تعذيب مستمرة، ظروف قهرية فوق طاقة البشر.. استنزفت طاقاتهم وأعصابهم وأكلت إنسانيتهم..

أكتب لنحافظ على ما تبقى من غزة، ومن فلسطين، على حياة من نجوا من الموت حتى الآن، من هم في طابور انتظار الموت المحتم، لا لنؤخر موتهم، بل لإلغاء الطابور كله.. لنوقف الهزيمة عند هذا الحد المؤلم، وحتى لا نخضع لجرعات إضافية من الإذلال، وحتى لا تُملى علينا مزيدا من الشروط القهرية، لنوقف مخطط التهجير قبل أن يصبح أمرا نافذاً، لنبدل حياة أهلنا في غزة ومستقبلهم ببعض الشعارات والعبارات المعلبة والأيديولوجيات الحزبية.. فهم أهم وأولى..

أكتب لعلنا نتوقف عن ممارسة نسخ وتكرار ما كتبه فلاسفة الغرب في عصر التنوير، وما قاله ثوار يساريون قبل قرن، وترديد أمثلة تاريخية عفى عليها الزمن ولا تنطبق على حالتنا بأي شكل.. لنتوقف عن نسخ مفردات فلسفية محلقة في واقع مثالي مثل الانتحار البطولي والشجاعة العدمية.. ومصطلحات قيلت في سياق مختلف مثل المواطن المستقر، وعبيد الحقل وعبيد المنزل، والمرجفين في المدينة، وصخرة سيزيف، والوعي الجمعي.. مفاهيم ومقولات وأمثلة نرددها دون تفكير، ونسقطها عنوة على واقع مختلف، ننسخها لنوظفها وفق وعينا الأناني، بكل ما في اللغة من بلاغة وسحر البيان، في إطار تنظير ثوري متعالي منفصل عن الواقع ملخصه أنَّ غزة تقاتل وتقاوم وتدافع عن شرف الأمة.. وهي في حقيقة الأمر تنزف دما وقهرا وأطفالا وأشلاء.. تضيع من بين أيدينا قطعة قطعة، تموت بتسارع رهيب..  


سبتمبر 02، 2025

براكين غيرت مسار التاريخ


في القرن السادس عشر قبل الميلاد ثار بركان ضخم اسمه "ثيرا، سانتوريني" في بحر إيجه نجم عنه موجات تسونامي اجتاحت شواطئ المتوسط، ما أدى إلى سلسلة كوارث طبيعية واقتصادية واجتماعية ساهمت في تغييرات حضارية كبرى لتلك المنطقة، وكان تأثيره المدمر على جزيرة كريت مسببا انهيار الحضارة المينوية الكريتية التي كانت مزدهرة بالتجارة والثقافة، الأمر الذي أضعفها اقتصاديًا وعسكريًا وسهّل لاحقًا سقوطها بيد الميسينيين اليونانيين.

اعتبر من أضخم الثورات البركانية في التاريخ، فقد أدى إلى انفجار هائل دفن مدينة "أكروتيري" تحت الرماد، من تداعياته إطلاق سحابة غبارية ضخمة تسببت بتغييرات مناخية، مثل حجب أشعة الشمس وهبوط درجات الحرارة، والتسبب بموجات جفاف وتدمير المحاصيل، نجم عن كل ذلك مجاعات وصراعات داخلية وغزوات بينية وصولا إلى انهيار خطوط التجارة الدولية.

خلال تلك الحقبة المضطربة بدأت شعوب تلك المنطقة بمغادرتها والهجرة جنوبا إلى مصر وليبيا وشرق المتوسط، وقد عُرفوا تاريخيا باسم "شعوب البحر"، حيث ظهروا في أواخر القرن الثالث عشر وأوائل القرن الثاني عشر قبل الميلاد، وارتبطت هجرتهم أكثر بانهيار العصر البرونزي وبداية العصر الحديدي، في ذلك الوقت كانت تحكم مصر الأسرة العشرين، في فترة اضطرابات وصراعات على السلطة، شهدت أيضاً انهيار دولة الحيثيين.

لا يوجد نقش سمّاهم "شعوب البحر"؛ وقد أطلق عليهم هذه التسمية علماء المصريات في القرن التاسع عشر، والنقوش القديمة تقول إن هذه القبائل أتت من جزر المتوسط، لكنها لا تذكر من أي بحر أو من أية جزيرة أتوا، لذلك ظل أصل شعوب البحر مجهولًا. وقد ذكرهم الملوك الثلاثة: رمسيس الثاني، وابنه مرنبتاح، ورمسيس الثالث، في نقوش على جدران معابدهم واصفة انتصاراتهم الساحقة على الغزاة القادمين من البحر الشمالي.

وصلت "شعوب البحر" إلى المنطقة كحركة هجرة ونزوح أكثر منها غزو، مع أنهم  هاجموا مصر والحيثيين، لكنهم في مدن الساحل الفلسطيني دخلوا دون حروب، واستقروا في خمس مدن رئيسة، هي: غزة، عسقلان، أشدود، عقرون، وجت، بالإضافة إلى يافا في وقت لاحق. 

يُقال أنهم هم من منح فلسطين اسمها، إذ يُظهر نقش مرنبتاح كلمة "بلست"، لكن هذا لا يعني أن أصل الفلسطينيين كلهم من جزيرة كريت، فمن وصل منهم كانوا أقلية سرعان ما اندمجت مع السكان المحليين "الكنعانيين" وصاروا شعبا واحدا؛ تحدثوا اللغة نفسها، وعبدوا الآلهة نفسها، وتركوا آثارا تعبر عن ثقافة واحدة.. وثمة رواية أخرى تقول أن جزءا من سكان فلسطين هاجروا إلى جزيرة كريت عن طريق البحر، وأقاموا فيها لفترة، وأَطلق عليهم اليونانيون اسم الفلسطينيين، ومن ثم عادوا إلى موطنهم الأصلي مثل أي شعب آخر يغادر بعض أبنائه وطنَهم لفترة، ثم يعودون إليه.

في كل الأحوال، ظهور شعوب البحر، ودخول جزء منهم إلى فلسطين شكّل بداية عصر جديد، عرف بالعصر الحديدي، الذي أتي على أنقاض العصر البرونزي، حاملا معه تغييرات تاريخية جذرية ما زالت تداعياتها حاضرة إلى اليوم.

البركان الثاني، انفجر في العام 539 ميلادي، حيث ثار بركان ضخم في إيسلندا تسبب في إطلاق ملايين الأطنان من الرماد والصخور، ما أدى إلى حجب أشعة الشمس عن أوروبا والشرق الأوسط وأجزاء من آسيا، لتكون الظروف ملائمة لانتشار المرض والمجاعة على نطاق واسع.

اعتبر علماء الجيولوجيا ذلك العام "أسوأ عام في التاريخ"، محملينه مسؤولية دخول أوروبا حقبة "العصور المظلمة"، حيث حُجبت الشمس مدة 18 شهرا متواصلة، ما تسبب في تدني درجات الحرارة وتدهور المحاصيل الزراعية وجفافها، وبالتالي حصول المجاعة وانتشار الأمراض في معظم أنحاء نصف الكرة الشمالي. كان أخطر تداعيات تلك الكارثة تفشي الطاعون الأسود، الذي تسبب بموت أكثر من نصف سكان الإمبراطورية البيزنطية، حتى الإمبراطورية الفارسية لم تسلم من تداعيات المجاعة والطاعون والقلاقل الأمنية، لدرجة أن الإمبراطوريتين تقاتلا على الموارد في حروب طاحنة.

انتشار الطاعون والمجاعة والحروب بين الإمبراطوريتين البيزنطية والفارسية تسبب في إفقارهما وإنهاكهما لدرجة أنهما وصلتا حافة الهاوية.. بدأت تلك الأحداث المروعة قبل ثلاثين سنة من ميلاد نبي الإسلام محمد، واستمرت تداعياتها أثناء حياته.. لدرجة أنه حين وصلت جيوش المسلمين منطقة تبوك شمال السعودية في السنة التاسعة للهجرة (630 ميلادي) وكانت تحت الحكم البيزنطي وجدت معسكراتهم فارغة وقد تركوها وآثروا الانسحاب شمالا تاركين بلاد الشام كلها غنيمة لجيوش المسلمين، الأمر الذي تم خلال عقد من الزمان.

الأمر ذاته حصل مع الفرس، تلك الإمبراطورية التي كانت في نزاعها الأخير مع الحياة، وقد استشرى فيها الفساد والفقر والمجاعات، ولم تعد قادرة على الدفاع عن أرض العراق التي احتلتها، ولا حتى عن أراضيها نفسها التي سقطت ثمرة ناضجة للقادمين الجدد.

تقول نظرية أثر الفراشة، وهي نظرية علمية فلسفية، إن كل الأشياء في الواقع المادي مرتبطة ببعضها بعضا. فإذا أزلتَ حبة رمل واحدة من مكانها ستختل الكومة كلها؛ فالأشياء الصغيرة لها تأثيرات متفاوتة على نظام أشمل وأكثر تعقيدا. وكل حدث حتى لو كان ضئيلا سيحفّز سلسلة أحداث من بعده، وفي الخيال التأملي، إذا رفرفت فراشة بجناحيها في منطقة ما قد تتسبب في إعصار في قارة أخرى.


أغسطس 29، 2025

حول بيان الBDS


قبل سنوات تشرفتُ بإدارة ندوة سياسية خاصة لمناقشة القضايا المتعلقة بحركة المقاطعة العالمية لإسرائيل، نظّمها معهد السياسات العامة برام الله، شارك فيها ممثلين عن القوى والفصائل  وحركات المقاومة الشعبية، من بينهم "محمود نواجعة" المنسق العام ل BDS، وقد كنتُ منحازا لحركة الBDS، لدرجة أن الدكتور "محمد عودة" رئيس المعهد عاتبني على تركيزي عليهم أكثر من سائر القوى. كما نشرتُ مقالا عن الحركة مشيداً وداعماً، باعتبارها جزءا من استراتيجية المقاومة الشعبية المدنية التي تمتد جذورها إلى بدايات التجربة النضالية الفلسطينية.

مع تقديرنا لهذه الحركة الرائدة، ولدورها الفاعل في المقاومة ومناهضة سياسات الاحتلال العنصرية، وأثرها الكبير في الساحة الدولية، إلا أنها بدأت تعاني مؤخرا من أمراض الفصائلية، وأخذت تتصرف كحزب، وصارت تستخدم معاييرها سيفا ضد أي جهة سياسية تختلف معها، أو تتعارض مع سياسات قطر! فضلا عن إدعاءها تمثيل الكل الفلسطيني، وتنصيب نفسها قاضيا على أي تحرك فلسطيني.

وحتى لا نعطي فرصة للمزايدة، يجدر معرفة أن ال BDS  لم تتأسس على فكرة نفي إسرائيل، أو تحرير فلسطين، فهي تدعو لمقاطعة إسرائيل وعزلها وفرض عقوبات عليها، بسبب سياساتها الاحتلالية والاستيطانية والعنصرية.

في بيانها غير الموضوعي وغير العادل تهجمت على الكاتب والمناضل عصمت منصور، بسبب لقائه مع  ابرهام بورغ.. كان يمكن أن تكتفي باستنكار اللقاء كما فعلت مع د. مصطفى البرغوثي حين عانق شلومو بن عامي، لكنها استخدمت لغة تحريضية وتخوينية. وهذا ليس التناقض الوحيد في سلوك الحركة.

في العام الماضي دعت الحركة لمقاطعة فضائيات العربية والحدث وسكاي نيوز، بدعوى "مساهمتها في تبرير المجازر ضد شعبنا، والدفاع عن المنطق الاستعماري الإسرائيلي، وتبنّي الرواية الصهيونية..". لدينا تحفظات عديدة على تلك المحطات، وندرك أنها ليست بريئة، ولديها أجندات.. لكن السؤال لماذا التركيز على تلك المحطات، وتجاهل كلي للجزيرة؟!

تلك الفضائيات ركزت على الكارثة الإنسانية في غزة، ووفرت مساحة إعلامية بديلة عن تغطية الجزيرة الأحادية المتطرفة التي عملت على تضخيم القدرات المسلحة لحركة حماس، ومنحت مساحات مطلقة لسعيد زياد والدويري وغيرهم للمزايدة على أوجاع الشعب الفلسطيني وبيع الوهم عن الانتصارات والمواجهات العنيفة، وجر القضية الوطنية إلى رهانات خاسرة أوصلتنا إلى هذه النكبة.

وإذا كان اللقاء مع أي إسرائيلي تطبيعاً، فلماذا لم تشر الحركة بوضوح وصراحة للدور الكبير والمشبوه الذي لعبته الجزيرة في هذا المجال؟ وهي أول قناة استضافت إسرائيليين! وأكثر قناة تستضيف متحدثين إسرائيليين! وهي التي أدخلت الإسرائيلي إلى كل بيت عربي، وجعلته مقبولاً ومسموعاً، ومنحته فضاء مفتوحاً لتبرير جرائمه، لدرجة أن المواطن العربي بات ينتظر المتحدث الإسرائيلي ليتأكد من دقة معلومة، أو ليستوضح أمراً ما!

في لقائه مع بورغ، أجرى عصمت محاكمة لإسرائيل، وجعل بورغ يعترف بأن إسرائيل ترتكب جرائم ضد الإنسانية، وتمارس الإبادة الجماعية، واصفا قادتها بالشياطين.. داعيا إلى إقامة دولة فلسطينية..  فهل من مصلحة إسرائيل أن يخرج من بينهم صوت يدينهم على منابر أعدائهم؟

مشكلة الBDS أنها عوضا عن تركيزها على أهدافها النبيلة والمهمة (عزل إسرائيل ومقاطعتها وفرض عقوبات عليها) انصب اهتمامها على موضوع التطبيع.. وهو مصطلح فضفاض يحتاج إلى إعادة قراءته بتروي.. خاصة وأنه يقوم على فكرة غير دقيقة مفادها أن التطبيع مصلحة إسرائيلية، وإسرائيل مهتمة بجر الدول والشعوب العربية للتطبيع.. وفي حقيقة الأمر الصورة ليست كذلك.

من يفهم طبيعة المشروع الصهيوني سيدرك أن التطبيع يتناقض مع طبيعة إسرائيل بوصفها دولة استعمارية واستيطانية وعنصرية، ترفض التحول إلى دولة عادية طبيعية، فإسرائيل لم تحدد حدودها الجغرافية والسياسية، لأنها دولة توسعية، وتعتبر نفسها دولة لليهود فقط، وتمثل يهود العالم، والقوة القهرية هي معيارها ولغتها الأهم.

ولأنَّ إسرائيل دولة عنصرية اعتادت أن تنظر للدول والشعوب العربية بتعالٍ وفوقية، وتراهم مجرد أعداء يتوجب عليها إخضاعهم، وقد كرست نفسها دولة غيتو، أو قلعة مسادا معزولة عن محيطها.. وهذا كله يتناقض مع القول بقابليتها أو حتى برغبتها في التطبيع مع الآخرين، لأن ذلك يعني فقدانها ثيمتها الأساسية وسمتها الأهم ككيان عنصري، ويفقدها مقولتها الأبرز بإدعاءها أنها واحة الديمقراطية في محيط التخلف والاستبداد، وأنها متفوقة حضاريا وتكنولوجيا و"أخلاقيا" على دول الإقليم، ويعني تخليها عن حال الاستثناء التي تتمسك بها، والتي تعتبرها بمثابة قيمة مضافة لها، دونا عن دول المنطقة الطبيعية.

إسرائيل رفضت التطبيع مع مواطنيها الفلسطينيين، والتيار اليميني الصهيوني الحاكم فشل في التطبيع مع سائر مكونات المجتمع الإسرائيلي، وبنظرة تاريخية سريعة سنجد أن إسرائيل رفضت التطبيع مع الدول العربية التي عقدت معها معاهدات سلام، ولم تبذل جهدا حقيقيا للتطبيع، باسثناء حركات استعراضية شكلانية أرادت من خلالها إجراء لقاءات مع سياسيين وإعلاميين ومثقفين فلسطينيين وعرب لتقول للعالم ولشعبها أنها دولة عادية وغير عدوانية ولا أحد يعاديها باستثناء المتطرفين!

تدرك إسرائيل أن التطبيع علاقة تبادلية تتطلب تنازل الطرفين، وينطوي على استحقاقات سياسية، لا تريد تقديمها، أولها وأهمها الانسحاب من الأراضي المحتلة، والاعتراف بحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير وإقامة دولته المستقلة، لذلك رفضت معاهدة السلام العربية والتي من بنودها التطبيع.. ورفضت تنفيذ مخرجات مؤتمر مدريد حتى في مساره العربي الذي يتضمن التطبيع.

ورفضت التطبيع مع الفلسطينيين، مع إن اتفاق أوسلو يدعو في نهاية المرحلة الانتقالية لإنهاء النزاع وتطبيع العلاقات، لكنها عملت كل جهدها لتقويض أوسلو منذ هيمنة اليمين على الحكم، وما زالت تواصل الاستيطان والهيمنة على حياة الفلسطينيين بدلا من التطبيع معهم، وها هي تشن حرب إبادة على غزة، لقتل وتشريد سكانها.

وتدرك أيضا، وربما هذا أهم أن التطبيع يعني في نهاية المطاف اندماج المجتمع الإسرائيلي في محيطه العربي.. ولأن المجتمع الإسرائيلي أصغر وأضعف بكثير من المجتمع العربي سكانيا وتاريخيا وحضاريا وثقافة ولغة وأدبا وفنا ومستقبلا... سيعني هذا حتما هضمهم وتذويبهم من قبل المجتمع العربي بخطوات بطيئة وحثيثة حتى لو لم يقصد العرب ذلك، بما يعني اضمحلال وذوبان الإسرائيلي، وهذا كله على عكس قيم وأهداف ومبادئ الصهيونية. لذا وجب التمييز بين التطبيع السياسي الرسمي الذي يخدم إسرائيل، وبين التطبيع بمفهومه العميق وبعيد المدى الذي لا تريده إسرائيل.

إسرائيل لا تريد ولا يهمها التطبيع، وهي غير مؤهلة للتحول إلى دولة عادية. التطبيع عندها، يعني فقط الهيمنة على دول الجوار، وتعميم نموذجها كدولة دينية طائفية في المنطقة.


أغسطس 26، 2025

يكفي تمجيداً للموت


قبل حرب الإبادة كانت الأمهات يودعن أبناءهن القتلى بالزغاريد، لأن التضحيات كانت معقولة، وتنضوي على بصيص أمل بأنها ستقود إلى أفق التحرير.. اليوم لا زغاريد، ولا حتى جنازات، مع إحساس بعبثية الموت..

الآن، وسابقا، وفي كل مكان، لا توجد أم تفرح لخسارة ابنها حتى لو زغردت، ولا يوجد أب يسعد بموت ابنه حتى لو بدا متماسكا، بعد انفضاض المعزين سيمر الأب أمام غرفة ابنه، سيجد سريره مرتبا، لكنه فارغا، سيدرك أنّ الغرفة والبيت والحياة كلها يعمها الفراغ.. سيبكي بحرقة وفي صمت، وسيتجرع الحزن بكل الألم.. سيدرك أن الموت فاجعة مهما كانت تسمياته جاذبة وخادعة.. والفاجعة الأكبر أن البلد تدمرت وصار عدد القتلى مهولا ومرعبا..

ورغم المأساة يستغل بعض الإعلاميين والحزبيين لحظات استقبال الموت الموجعة شديدة الخصوصية إما لسبق صحفي، أو لرفع أسهم الحزب، أو للدعاية الأيديولوجية.. وقد دأب الإعلام الحزبي على تمجيد الموت، ليجعلنا نتقبله، وليخفف وطأته على ذوي القتيل.. بعد منحه لقب شهيد؛ وصار البعض يردد أن "الشهيد" حقق أغلى أمانيه (الشهادة).. بمعنى أنه يتوجب شكر الاحتلال لأنه حقق له حلمه، وأدخل الفرح لقلوب أهله، وأعطى لحزبه أو لفصيله فرصة للتباهي وتنزيل بوستر يمجد بطولات الحزب.. بدلاً من إدانة الجريمة.

عندما نسمع كلمة شهيد، يتبادر إلى أذهاننا تلك الصور الجميلة والمجيدة عن الموت بأبهى أشكاله، نتخيل الشهيد في الجنة، وأنه سيشفع لأهله.. وبذلك يخف غضبنا، وتتلاشى أحزاننا، ونستبدلها بمشاعر رضا غامضة.. أي قبول صامت لتلك النهاية الفاجعة.. بل تستولي علينا مشاعر العز والفخر.. لهذا السبب نكتفي عادة بشتم العدو الذي قَتل، ونطوي أحزاننا بصمت وهدوء.. ونحول حياة الإنسان الذي قُتل للتو إلى مجرد خبر.. لا أحد يفكر بشكل جدي بعمل شيء حقيقي للرد على الجريمة.. خلافا لما يحدث عند مقتل أحد في مشاكل داخلية.. حينها على الفور يظهر الغضب الساطع، وردات الفعل العنيفة، وفي معظم الحالات يتم الأخذ بالثأر. ونادرا ما نسامح أو نغفر..

لذلك، يجب التوقف عن استخدام كلمة استشهد فلان.. نظرا لفعلها الصامت والمريب في امتصاص غضب الجماهير، وتحويله إلى حزن مكبوت.. لنسمي الأشياء بأسمائها.. لنقل قتلت قوات الاحتلال فلانا.. كلمة قتل تثير مشاعر الغضب الإيجابي، ولها مدلولات قانونية وسياسية قوية، حينها ندرك أن هناك قاتل، وقتيل، وبالتالي جريمة قتل مكتملة الأركان.. وهذه الجريمة تستوجب الرد الفعلي..

ليس في هذا أي تقليل من قيمة الشجاعة وأهمية التضحية، أو انتقاص من قدر الشهداء.. ولا أرفض تكريم الشهداء، ولا أدعو لعدم تمجيدهم، الشهداء أكرم منا جميعا.. لكن هي دعوة للتفكير والتساؤل، كيف أوصَلَنا التغني بالشهداء إلى استسهال الموت، وتقبله بفرح ظاهري، وتسخيف قيمة الحياة!! كيف تسللت إلينا ثقافة الموت محمّلة على معاني رمزية وجعلت حياتنا بلا قيمة؟

هل تساءلنا يوما، لماذا خبر مقتل إسرائيلي واحد يحتل العناوين الأولى في وسائل الإعلام! بينما مقتل 100 فلسطيني يوميا بلا معنى، حتى بلغ العدد مائة ألف قتيل! وقد تبلدت مشاعرنا تجاههم! الجواب لأننا تشربنا ثقافة الموت، وصار الموت عندنا عاديا، بل مقبولا..   

معركتنا مع الاحتلال طويلة.. سننتصر حين نكف عن الاحتفال بالموت، وحين ندرك أن الأهم من الإقبال على الموت، أن نتعلم كيف نحب الحياة، وأن التضحية لا تعني الموت بالضرورة، والشجاعة لا تعني التهور.. سننتصر حين نفكر ونحلم بالمستقبل، ونبدأ بالتفكير كيف نحقق أحلامنا ونخطط لمستقبلنا.. حين نؤمن بأن الإنسان هو حجر الزاوية في العملية النضالية برمتها، وأنه هدفها وأداتها وغايتها ومبتغاها.. هو كل شيء، وقبل أي شيء..

وحدها النظم الاستبدادية من يتغنى بالموت، ومن يمجد الأعداد الكبيرة من القتلى، لأنها تعويض عن فشلها، ولأنها محاولات بائسة للتغطية عن المخططات الفاشلة، وعن الظروف القهرية السيئة التي يعيشها المجتمع.. تمجيد الموت نتاج أيديولوجيا أصولية متزمتة، وظيفتها أن تواسي يأس الناس، وتداعب عواطفهم بأماني غيبية، وتمنّـيهم بالخلاص الآخروي من هذا الهوان، بشعارات براقة وخطاب ديماغوجي يصور لهم الدنيا بأنها فانية وزائلة، وما عليهم سوى الإقبال على الآخرة، حيث النعيم المقيم، والحور العين.. في هذه البيئة المرضية من الطبيعي أن ينشأ ما سيُعرف "بثقافة الموت"، أن يغدو الموت غاية بحد ذاته، حتى لو كان بلا هدف ولا نتيجة.

في ظل ثقافة الموت يدب اليأس محل الأمل، وتموت الرغبة، وتضمحل قيمة الحياة، ثم تأتي ثقافة المجتمع التي تكرم الشهيد، وتجعله في مصاف الأنبياء، وتخلق منه أسطورةً للبطولة والفداء.. . لتغدو الحياة عبئًا، والموت خلاصًا.

في ظل ثقافة الموت انتشر الاستخدام الخاطئ لأمثلة الجزائر وفيتنام، لأن وظيفتها تقبُّل مقتل عشرات الألوف، بل وحتى مليون إنسان..

صارت كلمة "شهيد" كليشيه مبتذل، مجرد بوستر يغطي جثة، هدفها إسكاتنا، لنتقبل الموت بلا احتجاج. كلمة تغطّي الخسارة الفادحة، وتخفي الهزيمة، وتموّه على عدم تحقيق أية أهداف أو منجزات سياسية، وقد تحولت إلى ورقة ضغط في يد المفاوض.

لا نريد شهداء؛ نريد أطفالا يملأون الشوارع بضحكاتهم ولعبهم، وشبانا يتخرجون من الجامعات، نريدهم أحياء يحبون ويتزوجون ويتكاثرون، ويزرعون ويصنعون ويبنون بلدهم.. البطولة لا تُقاس بعدد القتلى، ولا بحجم التضحيات، البطولة في البناء والتنمية والازدهار والتشبث بالحياة والصمود فوق الأرض، وفي مواجهة العدو ومقاومته بالطريقة الصحيحة.

آن الأوان لنتوقف عن تقديس الشهادة، وأن نعترف بأن الموت يعني الموت.. يعني النهايات الحزينة، وأن الذين ماتوا غادروا دنيانا للأبد، وأنهم فقدوا حيواتهم بكل ما كانت تعني وتحتمل.. وأن الموت سيوجع الذين من بعدهم: أهلهم وذويهم ومحبيهم.. وخسارة للوطن.. آن الأوان لنكف عن توظيف التضحية والشهادة توظيفاً دعائياً رخيصاً وكاذباً. وآن لنا أن ندرك قيمة الحياة، وقدسيتها وأهميتها لكل إنسان..

الحياة مقدسة، وقيّمة، وتستحق أن تُعاش، هي هبة الخالق العظيم، ولا يجوز أن نفرط بها مقابل تصفيق الآخرين، أو لقاء أي وعد طوباوي..

أغسطس 24، 2025

الحرب على الضفة الغربية

 

بموازاة الحرب العدوانية التي يشنها الاحتلال على قطاع غزة، ثمة حرب أخرى تدور رحاها في الضفة الغربية، حرب أقل ضجيجا، أقل تغطية إعلامية، لكنها لا تقل خطورة على الشعب الفلسطيني ومستقبل القضية الفلسطينية..

وقبل استعراض ما يجري على أرض الضفة يجدر التأكيد أن كل ما يفعله الاحتلال الآن من قتل واعتقال وهدم بيوت ومصادرة أراضي واستيطان.. كان يفعله منذ اليوم التالي للنكسة، لكن بوتيرة بطيئة وشبه صامتة، وبنهج دؤوب ومستمر ومتصاعد.. لكنه لم يكن مسارا وحيدا وحتميا، كان لديه بدائل كثيرة وقد جربها، بعد السابع من أكتوبر أحس أنه إزاء فرصة تاريخية لتصويب أخطاء المؤسسين الأوائل، وإحداث التغييرات المطلوبة بسرعة وبشكل علني وبمنتهى الوحشية..

على مسارات متوازية، وبخطى مدروسة بعناية، وبشكل سافر يقوم الاحتلال بتنفيذ مخططات قديمة، هدفها الرئيس خلق مقدمات التهجير، ومصادرة أكبر مساحات ممكنة من الأراضي، وتفريغها من السكان، وإكمال المشروع الاستيطاني، لخلق وتثبيت وقائع بالقوة القهرية بحيث تمنع قيام دولة فلسطينية، وتخنق الحلم الفلسطيني بالتحرر من الاحتلال ونيل الاستقلال، وعلى مدى أبعد بما يؤدي إلى تهجير القسم الأكبر من سكان الضفة، وحصر من تبقى منهم في تجمعات سكنية (بانتوستونات) معزولة ومحاصرة، تحكمها عشائر وبلديات مرتبطة بالاحتلال، وتحويل القضية إلى مشكلة سكانية، وبالتالي تصفية القضية الفلسطينية نهائيا.

في مسار حل قضية اللاجئين وإنهاء حق العودة يكمل الاحتلال حربه على المخيمات وعلى وكالة الغوث باعتبارهما الشاهد الأقوى على قضية اللاجئين وحق العودة.. بدأ بمخيمات الشمال (جنين وطولكرم ونابلس)، اجتاحها بقوات عسكرية كبيرة، وأجبر سكانها على النزوح إلى المدن والبلدات المجاورة، ثم شرع بهدم مئات البيوت منها، وشق شوارع واسعة في قلبها، وإعادة هندستها بحيث تفقد هوية المخيم، وفي أحسن الأحوال تصبح مجرد حي من أحياء المدينة.

ويواصل عدوانه على بقية مخيمات الضفة، من خلال الاقتحامات، بحجة اعتقال مطلوبين، أو هدم بيوت "غير مرخصة" على أطراف المخيم، استعدادا لاستكمال ما بدأه في مخيمات الشمال.

في مسار موازي، يشن الاحتلال حربه على الريف الفلسطيني، مستهدفا القرى القريبة من التجمعات الاستيطانية، مستعينا بقطعان المستوطنين المنفلتة والمتوحشة في هجمات إرهابية يرعاها الجيش ويوفر لها الحماية، حيث يقومون بالاعتداء على القرى، وحرق البيوت والسيارات والمزروعات واقتلاع أشجار الزيتون والاعتداء على المواطنين وترويعهم، حتى في بيوتهم..

وتفتقت عقلية التوحش والاستيطان عن ابتداع ما يسمى "الاستيطان الرعوي"، حيث يقوم المستوطنون برعي قطعان الماشية في الأراضي الفلسطينية دون أي اعتبار لملكيتها وما فيها من محاصيل ومزروعات، لديهم "درون" وكلاب واتصال مباشر مع الجيش بحيث يؤمن لهم الحماية السريعة، وتحت هذه الذريعة يقومون بالاستيلاء على الأراضي، وتقييد حركة الناس، بما في ذلك فرض حظر التجول على بعض القرى.

كما صعد الاحتلال من استهدافه للمناطق النائية خاصة في الأغوار والسفوح الشرقية وما يسميها مناطق (C) من خلال مصادرة أراضي بحجة تحويلها إلى معسكرات وميادين تدريب، وأيضا ردم الآبار، وهدم البركسات وحرق المحاصيل الزراعية وحتى قتل الماشية والتضييق على السكان بما يؤدي إلى طرد التجمعات البدوية وإجبارها على النزوح.

والخطوة الأخطر في هذا المسار، تنفيذ مخطط E1 الهادف إلى خلق جيب استيطاني يمتد من القدس حتى الحدود الأردنية شرقا، ثم شمالا في الأغوار، بما يؤدي إلى تقسيم الضفة الغربية وقطع تواصلها الجغرافي، وخنقها بين المستوطنات والجدار. إضافة إلى 980 حاجز عسكري منتشرة في عموم الضفة، ووضع بوابات حديدية على مدخل كل قرية وبلدة ومدينة يغلقها الاحتلال ويفتحها بحسب مزاجه.

التنقل بين المناطق الفلسطينية أصبح رحلة محفوفة بالمخاطر، أقلها التأخير لساعات وسط ازدحامات خانقة والوقوف عند الحواجز وتلقي معاملة مذلة ومهينة، وأخطرها القتل لأتفه الأسباب، فلو ضل أحد الطريق، وسلك طريقا فيه مستوطنة، أو توقف لأمر طارئ من الممكن جدا أن يتلقى رصاصة تنهي حياته، وقد وقعت عشرات حوادث القتل من هذا النوع.

في الوقت ذاته يشن الاحتلال حربا اقتصادية على الفلسطينيين؛ من خلال الحصار المالي وفرض رقابة مشددة على حركة الأموال، وتقييد عمل البنوك، وسرقة محال الصرافة بحجة تمويل الإرهاب، والأهم قرصنة عوائد الضرائب واقتطاع الأموال المخصصة لقطاع غزة، ولرواتب أسر الشهداء والأسرى، واقتطاع أموال لصالح كل إسرائيلي يرفع دعوى قضائية ضد السلطة، بما في ذلك الجواسيس.. كما صعدت من حربها الاقتصادية من خلال إختلاق ما عرف بأزمة تكدس الشيكل، وتقنين دخول البضائع والوقود، ما خلق أزمات مركبة.. وفي الأشهر الثلاث الأخيرة صادرت كامل أموال المقاصة، وتركت السلطة وسط أزمة مالية خانقة لدرجة أنها لم تعد قادرة على القيام بواجباتها، ودفع رواتب الموظفين، الذين يتلقون نحو 70% من رواتبهم منذ أربع سنوات.

ومنذ بدء العدوان منعت إسرائيل نحو 140 ألف عامل من التوجه إلى أماكن عملهم داخل الخط الأخضر، ما زاد من نسبة البطالة لدرجة مرعبة، ومع الحواجز العسكرية والبوابات وإغلاق المدن المتكرر والاجتياحات وإرهاب المستوطنين، وعدم تلقي الموظفين رواتبهم  وتفاقم الأزمة الاقتصادية وصلت الأمور إلى حد مخيف، ولا يُحتمل.. حتى أن القطاع الخاص تأثر بشكل كبير وخطير، بما يوصله إلى حدود الانهيار، أو عند حافة الهاوية..  

لا يجتمع إثنان أو أكثر ولو لدقائق قليلة إلا وتحدثوا عن الأزمات الخانقة، وعن سوء الأوضاع، وعن تعديات المستوطنين، وعن الشوارع الالتفافية، والإذلال على الحواجز، وعن تأخر الرواتب، عن تدهور الأوضاع من سيء إلى أسوأ، عن حالات الجوع والفقر.. حالة من السخط والغضب والتذمر والقلق والرعب من المستقبل، وصلت عند البعض حدود اليأس والتفكير بالرحيل..

الجميع يشعر بالعجز.. والحيرة.. الجميع ينتظر، ولا نعرف بالضبط ماذا ننتظر: تحسُّن الأوضاع وفتح أفق سياسي؟ أم ننتظر الخازوق؟ والسيناريو الأسوأ؟

أين السلطة؟ وأين فتح؟ وسائر الفصائل؟ أين منظمات المجتمع المدني، وقواه وفعالياته ومؤسساته ونقاباته؟ أين الجماهير؟ ما هو المطلوب؟ وما هو المتاح والممكن؟ إلى متى ستستمر الكارثة؟ ما هي صورة المستقبل؟ لوين رايحين؟

أسئلة مشروعة وملحة وتحتاج إجابات متأنية وصادقة.. سنناقشها في مقالات قادمة..