البحر مدٌ
وجزر، الموسيقى صوتٌ وصمت، اللوحة توزيع فني بين اللون والفراغ، القلب انقباض
وانبساط، الحياة لحظات نعيشها بين السعادة والشقاء.. تلك طبيعة الأشياء وسُـنّة
الكون.. هكذا هو ناموس الطبيعة منذ أن وُجدت.. الإنسان في أبسط تعريف لحياته:
تنويع بين اليأس والأمل، بين التعب والراحة، بين الموت والحياة.. تتابع وتفاوت بين
صعود وهبوط، بين حركة وتوقف.. هكذا هو العالم؛ إلا في قطاع غزة؛ منذ سنتين والأمور
في انحدار مستمر، موت، دمار، نزيف دون توقف وبلا استراحة، حتى بصيص الأمل أخذ
يبتعد أكثر فأكثر.. حتى الحروب، في كل حروب الدنيا كان يتخللها هدنة، ممرات آمنة،
مخارج إنسانية لإنقاذ المدنيين.. إلا الحرب العدوانية على غزة! لم تهدأ ساعة
واحدة!
كل إنسان
يحتاج أن يريح جسده بالاستلقاء أو النوم، وأن يريح نفسيته بأغنية، أو بسهرة أو
لقاء مع عزيز، وأن يريح عقله بفيلم أو رواية، وأن يريح روحه بالتأمل والذكريات
والأحلام.. بدون ذلك لا يستطيع مواصلة الحياة.
كل إنسان بعد
عودته إلى البيت يبدل ثيابه، يسترخي، يتناول عشاءه.. وإلى جانب ذلك يحتاج نسمة
طرية، كلمة حلوة، نافذة تطل على أفق مفتوح.. يحتاج الحمّام، وفرشاة الأسنان،
وأسطوانة الغاز، وإبريق الشاي، وخزانة الملابس، والكرسي، والثلاجة.. يحتاج الأهل
والأصدقاء والجيران والحارة والدكانة.. يحتاج الأمان.. وأن يحلم ويخطط، وأن يرفض
ويوافق، وأن يبقى أو يسافر.. إذا مرض يحتاج سريرا دافئا، ويداً حنونة، وحبة دواء..
وإذا توفي من حقه أن يحظى بجنازة وقبر ومعزين.. لا أتحدث عن الحياة المرفهة
والوادعة، بل عن أبسط حاجات الإنسان وأول حقوقه، التي يحظى بها سكان الأرض من
أفقرهم حتى أغناهم.. إلا سكان قطاع غزة..
أهل غزة
محرومون من كل ما سبق.. محرومون حتى من شربة الماء ومن رغيف الخبز.. محرومون من
الحياة نفسها.. لا تتوفر لديهم لحظة راحة واحدة يلتقطون بها أنفاسهم، أو يودعون
بها أحبتهم، أو حتى يحزنون بما يليق بالحزن.. من نزوح إلى نزوح.. ومن خيمة إلى
أخرى.. بين الطوابير، وعلى "الكارات"، الشوارع التي كانت بعرض السماء
والأرض صارت أزقة وعرة تحفها من الجانبين أكوام الحطام وخيام النازحين..
هذا كله معروف،
ونشاهده بأعيننا.. أكتبه فقط لنستشعر بعضاً مما يعانيه أهلنا في غزة.. لنتذكر أنهم
بشر عاديون مثل سائر سكان هذا الكوكب البائس.. يتألمون، ويخافون، ويبكون،
ويجوعون.. لديهم عائلات وأطفال، وذكريات ومستقبل، وطموح وحقوق، ويحبون الحياة.. هم
ليسوا خارقين بأي معنى.. ولا يحق لنا أن نلبسهم هذا الثوب الذي لم يطلبوه، ولا هذا
المجد الذي لم يدّعوه، ولا هذا الإدعاء الذي يكذّبوه.
أكتب ليفهم كل
متابع للأحداث، سواء كان مواطنا مكسورا يشعر بالعجز، أو مؤثرا يسعى لصناعة
"تريند"، أو مسؤولا يفتش عن تبرير، أو محللا تستضيفه الفضائيات، أو
مفاوضاً لا نعرف إن كان يمثل شعبه أم حزبه! لنفهم كلنا طبيعة الحياة في غزة منذ
سنتين.. كيف يعيش الناس هناك، وكيف هو واقع الحال. أكتب هذا حتى نقترب أكثر من المحرقة،
ولكي نسمع بوضوح صرخات واستغاثات الموجوعين والمتألمين.
منذ سنتين وهم
بين الردم والخراب والجثث، وتحت القصف، وفي مرمى نيران القناصة، مع الروبوتات
المتفجرة بين النزوح والجوع.. يلهثون وراء خبر، أو بحثا عن كيس طحين، أو ركضاً
هاربين من الجحيم الذي يصبه الاحتلال فوق رؤوسهم.. وقد تُركوا لآلات السحق
الإسرائيلية تفرمهم منذ عامين دون توقف، ودون رحمة.
هذه ليست حياة
بأي معنى، هذه حلقة تعذيب مستمرة، ظروف قهرية فوق طاقة البشر.. استنزفت طاقاتهم
وأعصابهم وأكلت إنسانيتهم..
أكتب لنحافظ
على ما تبقى من غزة، ومن فلسطين، على حياة من نجوا من الموت حتى الآن، من هم في
طابور انتظار الموت المحتم، لا لنؤخر موتهم، بل لإلغاء الطابور كله.. لنوقف
الهزيمة عند هذا الحد المؤلم، وحتى لا نخضع لجرعات إضافية من الإذلال، وحتى لا تُملى
علينا مزيدا من الشروط القهرية، لنوقف مخطط التهجير قبل أن يصبح أمرا نافذاً، لنبدل
حياة أهلنا في غزة ومستقبلهم ببعض الشعارات والعبارات المعلبة والأيديولوجيات
الحزبية.. فهم أهم وأولى..
أكتب لعلنا
نتوقف عن ممارسة نسخ وتكرار ما كتبه فلاسفة الغرب في عصر التنوير، وما قاله ثوار
يساريون قبل قرن، وترديد أمثلة تاريخية عفى عليها الزمن ولا تنطبق على حالتنا بأي
شكل.. لنتوقف عن نسخ مفردات فلسفية محلقة في واقع مثالي مثل الانتحار البطولي والشجاعة
العدمية.. ومصطلحات قيلت في سياق مختلف مثل المواطن المستقر، وعبيد الحقل وعبيد
المنزل، والمرجفين في المدينة، وصخرة سيزيف، والوعي الجمعي.. مفاهيم ومقولات وأمثلة
نرددها دون تفكير، ونسقطها عنوة على واقع مختلف، ننسخها لنوظفها وفق وعينا
الأناني، بكل ما في اللغة من بلاغة وسحر البيان، في إطار تنظير ثوري متعالي منفصل
عن الواقع ملخصه أنَّ غزة تقاتل وتقاوم وتدافع عن شرف الأمة.. وهي في حقيقة الأمر
تنزف دما وقهرا وأطفالا وأشلاء.. تضيع من بين أيدينا قطعة قطعة، تموت بتسارع
رهيب..