في
المسألة الفلسطينية، يجدر الانتباه إلى أنّ جماعة الإخوان بعد أن بدأت تخرج من
مصر، أطلقت على فروعها تسميات معينة، تعترف بموجبها بالدول القائمة؛ في سورية صار
اسمها: الإخوان – ولاية سورية، في لبنان: الإخوان – ولاية لبنان، في الأردن:
الإخوان – ولاية الأردن.. وهكذا، في فلسطين تم إلحاق فرع الضفة الغربية بتنظيم
الأردن، وفرع غزة بتنظيم مصر. ويبدو أن تغييب كلمة فلسطين لم تكن سقطة إملائية؛
فأدبيات الإخوان تسخر من اعتبار فلسطين قضية فلسطينية، فهي قضية إسلامية، بل إن
فلسطنة القضية أضر بها، وحرمها من التضامن الإسلامي.. إلخ. وكأنَّ جموع المسلمين
كانت زاحفة بجيوشها لتحرر فلسطين، فجاء الفلسطيني وقال لهم قفوا عندكم، لا حاجة
لنا بكم، فنحن لوحدنا قادرين على التحرير!
في
أدبيات الإخوان وفي اجتماعاتهم الداخلية، وخطبهم المنبرية، في كل مرة يتم التطرق
للقضية الفلسطينية، كان فقط من مدخل شيطنة منظمة التحرير، وشيطنة قياداتها،
واتهامها بالعمالة والتفريط والتنازل والفساد.. حتى في زمن ما قبل أوسلو، أي في
زمن الفدائية، وفي ذروة كفاح المنظمة السياسي والعسكري، وخوضها أشرس المعارك ضد
إسرائيل..
حركات الإسلام السياسي
عموما لا تؤمن بالقومية العربية، وتصفها بالمقيتة والنتنة، ولا تؤمن بالنـزعة
الوطنية؛ وبالتالي فهي لا تعترف بالهويات الوطنية السياسية؛ بل أنها تمثل مشاريع
تفكيكية للدولة الوطنية المعاصرة، وفي الفكر الإخواني، أرض فلسطين مجرد وقف
إسلامي، فهي ليست ملكا للشعب الفلسطيني (الذي وُجد وعاش على أرضه بثبات ملحمي قبل
كل الديانات وبعدها).. وبالتالي لا حاجة لإبراز كيانية سياسية، ولا شخصية وطنية
فلسطينية، ولا حاجة لتمثيل سياسي لهذا الشعب.. (أهم هدف مركزي للصهيونية هو تغييب
أي وجود سياسي للشعب الفلسطيني)..
حتى
مفهوم الوطن في الفكر الإخواني مغيب وضبابي، فالوطن عندهم هو الدين، أما الشعب فيُستبدل
بمصطلح "الأمة"، وهي جموع المسلمين في العالم.. ما يعني أن رابطة
الإخواني بالمسلم الأندونيسي أهم وأقوى من رابطته بابن جلدته إذا لم يكن مسلما،
وبتعبير أدق إذا لم يكن إخوانيا.. والصراع مع إسرائيل هو صراع ديني، أي بين المسلمين
واليهود في حرب دينية شمولية.
قبل
صعود حماس، كان الخطاب الإخواني (خاصة في فلسطين والأردن) يرتكز على معاداة منظمة
التحرير، والفصائل اليسارية والعلمانية.. وكانوا يعتبرون أنفسهم في مرحلة الإعداد؛
أي بناء الجوامع، والمراكز الإخوانية، والتركيز على النشاط الدعوي والتنظيمي، ولم
يكن واردا لا في الخطاب ولا في الممارسة محاربة الاحتلال. لذلك، سمحت إسرائيل
للإخوان بممارسة نشاطهم الدعوي، ومنحت "المجمع الإسلامي" في غزة تصريحا
رسميا منذ السبعينيات، وهو أهم مركز للإخوان في فلسطين. وقد استمر ذلك حتى العام
1989، حيث اختلفت الصورة كليا بعد ظهور حماس.. لكن أغلب أفكارهم تجاه القضية
الفلسطينية ظلت كما هي.
بعد
انطلاقة الانتفاضة (1987)، وجد الإخوان أنفسهم بين خيارين: الاستمرار على الوضع
السابق، وهذا يعني عزلهم جماهيريا، أو الانخراط في الانتفاضة، ومقاومة الاحتلال..
فاختاروا المقاومة، وصار اسمهم "حماس"، وكان هذا السبب الأهم في تنامي
شعبية الحركة.
وبهذا التحول تكون الحركة
الإسلامية في فلسطين قد خطَت أولى خطواتها باتجاه تحولها إلى حركة وطنية، لكنها
ظلت تعيد خطابها التقليدي وتؤكد أنها جزءًا لا يتجزأ من جماعة الإخوان المسلمين، وفي
تصريحات عديدة لقيادات حماس أكدت أن قائدها الفعلي هو المرشد العام للجماعة، الذي
تدين له بالسمع والطاعة ويحظى بثقتها التامة. ما يعني أن حماس أعلنت بوضوح أن
قضيتها الأساسية هي قضية الإخوان، ومشروعها هو مشروع الإخوان.
مشروع الإخوان في الأساس
لم يضع قضية فلسطين في مركز اهتماماته، ولم يعلن الجهاد لتحرير فلسطين، وانصب
اهتمامهم على هدف تغيير الأوضاع الداخلية في البلدان العربية الإسلامية وتعزيز مكانة
الجماعة، وأصبح الصراع على السلطة في كل بلد تتواجد فيه الجماعة هو قضيتها
الأساسية، ودعمها لحماس لم يكن بهدف التحرير، بل لتعزيز موقع الإخوان المسلمين في
النظام السياسي الفلسطيني، وتوظيف المقاومة لخدمة أهدافها، وكسب تأييد الشعوب
الإسلامية لمشروعها السياسي.
إذا كانت "فتح" وفصائل منظمة التحرير امتدادا
للمشروع الوطني القومي، فإن "حماس" تُعتبر امتدادا لمشروع الإسلام السياسي
الذي تقوده جماعة الإخوان؛ وبالتالي فإن الخلاف بين فتح وحماس هو خلاف بين مشروعين
مختلفين: المشروع الوطني الذي يهدف إلى تثبيت الهوية الوطنية، والساعي لبناء دولة
فلسطينية ومجتمع مدني، ومشروع الإسلام السياسي ذو الطبيعة الدينية، والساعي لبناء
دولة إسـلامية وفرض القضايا الأممية الكبرى (المشروع الإسلاموي العالمي) على حساب
المشروع الوطني.
ورغم المساحة الشاسعة للجانب النظري العقائدي في
أيديولوجية حماس؛ إلا أنها لم تكن هي السبب في خلافاتها مع فتح، وهنا يجدر القول
بأن "فتح" لا تخوض صراعا فكريا ضد الإسلام السياسي، لأنها لا تمتلك أي
أيديولوجيا فكرية، وليس لديها مشكلة مع الدين، وكل الأيديولوجيات خارج مجال
اهتمامها، والشيء الوحيد الذي يثير خلافا أو اتفاقا معها هو ما يتعلق بالجانب
السياسي ومفاهيم الصراع وأدواته، والمفاهيم الاجتماعية والاقتصادية لمرحلة النضال
وما بعد التحرير، ومن هنا إذا أردنا تحديد مواقع الاشتباك والالتقاء بين الحركتين
يتوجب علينا التفتيش فقط في هذه الجوانب، بمعزل عن القضايا الدينية والنظرية
والفلسفية الأخرى.
على ضوء المعطيات التي تشكلت بدءأ من العام 2005، وجدت حماس فرصتها السانحة
للانتقال للخطوة التالية: وهي قيادة السلطة الفلسطينية تمهيدا للظفر بمنظمة
التحرير، وقيادة المشروع الفلسطيني برمته، بمعاييرها وتوجهاتها الخاصة.
وعلى مدى نحو عقدين تمسكت في حكم قطاع غزة، لأن السلطة توفر
الأرض (لا يهم إذا كانت محررة أو تحت الاحتلال) وتوفر القوة والنفوذ والمال
والإعلام، وكل ما يلزم لحكم الناس وفرض أنماط اجتماعية واقتصادية عليهم، ثم خاضت
خمسة حروب لم يتحقق منها أي منجز سياسي، بل ظلت الأوضاع تتدهور وتتراجع حتى حلت
نكبة جديدة مع حرب الإبادة.
سياسيا، رهنت موقفها لصالح
قوى خارجية، وأدخلت الشعب في أتون معاركها لخدمة أجندات ومحاور إقليمية، ولأن
فلسطين مجرد "نكاشة أسنان" بحسب تعبير الزهار، وشعبها مجرد خسائر
تكتيكية بحسب تعبير مشعل، جرى تقديم فلسطين وشعبها قربانا للمشروع الإخواني الذي
تقاطع مع مصالح وأجندات تلك الدول (قطر، إيران، تركيا، سورية الأسد). وبالمناسبة خليل
الحية وصف أهل غزة بالقرابين.