أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

أكتوبر 18، 2025

أسئلة ما بعد الحرب – سمات المقاومة الإسلامية

 

 1-2

لنبدأ بالاسم؛ الاسم يختصر الدلالات، ويبرز المحتوى والهدف؛ فأسماء الأحزاب والحركات (خلافا لأسماء الناس) يجري انتقاؤها بعناية لتعكس هويتها وتوجهاتها وطبيعتها.. حركة المقاومة الإسلامية، الجهاد الإسلامي، حزب الله – المقاومة الإسلامية.. لا وجود لأي اسم أو مقطع يدل على البعد الوطني، أو ارتباط الحركة بالوطن، وإن وُجد فلا يعني سوى محل الإقامة.. هذا أولاً.

ثانيا: هذه الحركات ذات صبغة دينية، في التوجهات، والمنطلقات، والأهداف، والأيديولوجيا، وتعتمد أساليبها وفق فهمها للتراث الديني، وتتبنى العقيدة العسكرية الدينية، وترفع شعارات: "هذا جهاد، نصر أو استشهاد"، "الله غايتنا".. والجهاد يعني القتال ضد الكفار، وبالتالي تكون المسألة الدينية هي جوهر الصراع.. وهذا كله وبمجمله يختلف عن نهج وأساليب وغايات حركات التحرر الوطني.. وهنا لا أجري مقارنة لتحديد أيهما أفضل، وأيهما يمثل الحق، وأيهما على الباطل.. هما نهجان منفصلان متغايران تقريبا في كل شيء، ويؤديان إلى نتائج مختلفة..

ثالثاً: لا تقبل الحركات الإسلامية الشراكة مع أي جهة، حتى لو كانت إسلامية تنافسها على احتكار الدين، فهي ترى نفسها ممثلة للإسلام، وناطقة باسم السماء، وتجسيدا للحق الإلهي، تمتلك الحقيقة المطلقة والجواب النهائي.. وإذا اضطرت للتحالف مع جهة ما، فيكون تحالفا مصلحيا ظرفيا ومؤقتا، بحيث تكون تحت جناحها وفي ظلها ومجرد ديكور لأغراض دعائية، ستتخلى عنها بمجرد امتلاكها القوة والسيطرة.

رابعا: لا تخفي الحركات الإسلامية جوهرها الديني، بيد أنها بدأت في الآونة الأخيرة تطرح نفسها بوصفها حركات تحرر وطني، وفي هذا نوع من الخلط؛ حركات التحرر الوطني غايتها تحرير الأرض، ونيل الاستقلال السياسي، والتحرر من الاحتلال، ومناهضة الظلم ورد العدوان، وتحقيق الحرية، والعدالة الاجتماعية، والديمقراطية.. قد تلتقي مع حركات الإسلام السياسي في مسألة مقاومة الاحتلال ورفع السلاح، ولكن بعد التحرر من الاحتلال، وأثناء النضال في سبيله لكل فريقٍ نهجه وغاياته المختلفة، وأحيانا المتناقضة خاصة في مواضيع طبيعة الحكم، وهوية المجتمع، والأولويات، والديمقراطية، وتداول السلطة، ومفهوم العدالة، والحريات الشخصية، ومكونات المجتمع (الأقليات والطوائف)، والتعددية السياسية والحزبية، وحرية التدين، ونظام الأحوال الشخصية، والمرأة، والنظام الاقتصادي.. فالحركات الدينية تريد إما استعادة الخلافة، أو إقامة دولة دينية ومجتمعات إسلامية، بحيث تفرض منظومتها الفقهية والأيديولوجية على الجميع.

ويشمل الاختلاف أيضا أساليب المقاومة وأدواتها، ونظرتها للمجتمع ومكانة الإنسان، وهذا سنناقشه بتفصيلات أكثر لاحقا.

في الشأن السياسي ثبت أنه لا توجد فروقات كبيرة وجوهرية بين الفريقيين؛ فقد أبدت الحركات الإسلامية التي وصلت سدة الجكم أو سيطرت على منطقة ما الكثير من البراغماتية والمرونة، ربما ما يتخطى الحركات الوطنية (عندما تسلم الإخوان حكم مصر قاموا بثبيت كامب ديفيد، وإعادة العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل، وتعهدوا باحترام جميع اتفاقات مصر الخارجية، وخاصة العلاقة مع أميركا، واتبعوا الآلية ذاتها مع البنك الدولي، في المغرب تحالفوا مع القصر بشأن موضوع التطبيع، في تونس تبنى حزب النهضة خطابا براغماتيا، في قطر تحالف مكشوف، في سوريا أبدى الجولاني مرونة فائقة إزاء إسرائيل وأميركا وروسيا بخطاب سياسي براغماتي لا يختلف عن أي نظام عربي، في فلسطين وافقت حماس على كل ما كانت تختلف بشأنه مع منظمة التحرير بما في ذلك المفاوضات، والتسوية السياسية والدولة الفلسطينية على حدود ال67 ..)

خامساً: طبيعة الحركة وهيكليتها؛ الحركات الإسلامية ليست ذات صبغة دينية وحسب، بل هي في جوهرها طائفية، أو هي تكتل متجانس من نفس الطائفة، حتى لو ادعت غير ذلك، أو قالت إنها تنبذ الطائفية، فمثلا التشيع والولاء للولي الفقيه واضح لدى حزب الله، في احتفالاته وشعاراته وأيقوناته، وكذلك حماس (السنية) وإن بدرجة أقل حدة ووضوح، لكن من شبه المستحيل أن تجد قائدا أو كادرا متقدما أو حتى عنصرا في أي حركة من خارج طائفتها، أو من دين آخر. وبنفس المستوى فإن أي حركة إسلامية لن تضم في صفوفها ممن لا يعتنقون مبادئها وأيديلوجيتها وعقيدتها الدينية.. وهنا لا أتحدث عن الأنصار والمؤيدين من خارج الحركة، أو القريبين منها، الذين يتخذون مواقفهم المؤيدة والداعمة بناء على ما يرونه من ممارسة تلك الحركات للمقاومة في وجه الاحتلال، فالتأييد يكون هنا لفعل المقاومة، وليس لمبدأ الحركة وعقيدتها. ولا أتحدث عن التحالفات السياسية والحزبية، فمثلا تحالف حزب الله مع قوى مسيحية، وتحالفت حماس مع الجبهة الشعبية.. مثل هذه التحالفات قد تكون لأغراض سياسية، أو لخوض انتخابات، أو في إطار الصراعات الداخلية في البلد.. وهذا شأن آخر.

بينما نجد في الحركات الوطنية (فتح مثلا) أنها تضم قيادات وكوادر وعناصر ومنتسبين ومؤيدين من كافة الشرائح والطبقات والفئات الاجتماعية ومن مختلف الطوائف والأديان، والجنسيات، والتوجهات الفكرية والسياسية، يساريين ويمينيين ومتدينين واشتراكيين وعلمانيين..

والفكرة هنا ليست مفاضلة ولا مقارنة، بقدر ما هي تبيان لأوجه الاختلاف والتشابه..

سادساً: مفهوم الوطن والشعب والقومية.. معظم حركات الإسلام السياسي تنظر إلى "الوطن"، و"الشعب" من منظور ديني أوسع يتجاوز الحدود الجغرافية؛ "الوطن هو حيث يسود شرع الله"، الهوية الأساسية للفرد والجماعة هي الهوية الإسلامية، وهي فوق القومية والوطنية، ولا تعترف بالانتماءات الأخرى، الانتماء الأول هو للأمة الإسلامية لا للدولة القُطرية، والمسلم ينتمي إلى "دار الإسلام" وهي محتملة في أي مكان في العالم. السلفيون لا يعطون للوطن بعدًا سياسيًا، بل يعتبرونه مجرد مكان إقامة، أما الحركات الجهادية فترفض الحدود القُطرية تمامًا، وتراها "قيودًا استعمارية"، وتدعو إلى وحدة الأمة تحت "نظام الخلافة"، الاتجاهات الحديثة داخل الإسلام السياسي بدأت تتطور بعد تجارب الحكم (الأردن، تونس، المغرب، تركيا)، حيث حاولت توطين نفسها بخطاب جديد يعترف بشرعية الدولة.

في تصريح لمرشد الإخوان السابق مهدي عاكف قال: "طز في مصر"، وهي ليست مجرد عبارة انفعالية بقدر ما هي تعبير عن الموقف العام للجماعة من مصر. وفي اجتماع مغلق لكوادر حماس قال القيادي محمود الزهار "فلسطين بالنسبة لنا مجرد نكاشة أسنان"، "لا تظهر على الخارطة"، "مشروعنا أكبر بكثير من فلسطين"، "العلم الوطني مجرد خرقة بالية"..

سنناقش تاليا كيف صادرت مصطلح المقاومة واحتكرته، وأسلوبها في ممارسته، وطبيعة تحالفاتها السياسية..

 2-2

سابعاً: المرجعيات والتحالفات؛ حزب الله يعترف صراحة بأن مرجعيته إيران، وأنه امتداد لها، وينفذ سياساتها.. كذلك "الجهاد الإسلامي".. حماس تتأرجح في تبعيتها ومرجعيتها بين إيران وتركيا وقطر (وفي مرحلة سابقة سورية الأسد)، وإن كانت تصف هذه العلاقة بالتحالف، لكن حقيقة الأمر باتت واضحة، خاصة في سنتي حرب الإبادة.. بيد أنها تعترف صراحة بتبعيتها للإخوان المسلمين كمرجعية فكرية وتنظيمية وسياسية، وهي عبارة عن فرع فلسطين للتنظيم الدولي للإخوان المسلمين، وهذه الجماعة لها مشروعها العالمي الخاص والمنفرد العابر للحدود، ومكانة فلسطين في هذا المشروع هامشية وذيلية، لا يتعدى  توظيف الاسم والشعار لأغراض سياسية دوغمائية.. وبناء على ما سبق تورطت حماس في لعبة المحاور الإقليمية ورهنت قرارها أكثر من مرة لمرجعياتها، وأقحمت قضية فلسطين معها في تلك اللعبة.

ثامناً: احتكار المصطلح والجغرافيا؛ بمجرد صعود حزب الله واعتماده من قبل إيران وتلقيه الدعم الكامل شرع على الفور بالتخلص من منافسه (حركة أمل) وجرت بينهما معارك طاحنة، ثم شرع بالتخلص من الشركاء المحتملين (القوى الوطنية اللبنانية والفلسطينية، الذين كانوا على الساحة منذ عشر سنوات)، واستأثر بالمشهد والجغرافيا، ولم يسمح لأي حركة مقاومة الدخول إلى مناطق نفوذه، أو ممارسة أي فعل مقاوم إلا بإذنه وتحت جناحه الأمر الذي أدى إلى انكفاء القوى الوطنية حتى اختفت كليا عن المشهد، ثم عمد إلى احتكار المعنى والاسم؛ الاسم الدارج سابقا "الثورة"، و"القوى الثورية"، ليصبح الاسم المعتمد الجديد "المقاومة" و"قوى المقاومة".. ليحدث انقاطاعا تاريخيا ومعرفيا بكل المرحلة السابقة، وبالتالي احتكار المصطلح، ليصبح الحزب هو المقاومة والمقاومة هي الحزب. والحزب هو الجهة الوحيدة التي تمثل وتجسد المقاومة.

الصورة تتكرر بحذافيرها في غزة: حماس سيطرت على القطاع بالقوة والانقلاب، على الفور حجّمت منافسها الأول (الجهاد الإسلامي) وقلصت دورها، ومنعت أفرادها من ممارسة المقاومة إلا بإذنها وتحت جناحها، والحقيقة أنها لم تقضِ عليها لسبب وحيد؛ أنها حليفة إيران، التي تتقاسم مع حماس ما تقدمه إيران من مال ودعم وسلاح وتدريب.. ثم عمدت إلى تصفية كل شركائها وخصومها ومناوئيها وكل من هم خارج سيطرتها، بدءاً بكتائب شهداء الأقصى، وانتهاء بالحركات الإسلامية الجهادية التي ظهر منها عدد كبير سرعان ما تقلص واختفى، ومنهم من تم تصفيته داخل الجامع، وأبقت على كتائب صغيرة وغير فعالة تتبع الجبهة الشعبية التي انضمت هي الأخرى تحت جناح الحركة.. وكررت حماس ما فعله حزب الله بشأن احتكار مصطلح المقاومة، ليغدو قرينا بالحركة، بدعم إعلامي من قناة الجزيرة.

تاسعا: الهيمنة على المجتمع. سيطر حزب الله على المجتمع اللبناني، لدرجة أنه أصبح دولة داخل الدولة، فعل ذلك بقوة السلاح والمال واستخدامه الجمعيات الأهلية والمؤسسات الإعلامية والمساجد والساحات العامة لفرض خطابه ونموذجه (بما في ذلك البيئة الشيعية التي أراد إخضاعها كلها)، كما تحالف الحزب مع نظام الأسد في قمع واضطهاد الشعب السوري، كذلك فعل الحوثي في اليمن، العديد من المنظمات الجهادية في العراق المحسوبة على محور المقاومة قمعت ونكلت باللاجئين الفلسطينيين هناك، كذلك فعلت حماس في القطاع، تلك الحركات أقامت نظما شمولية قمعية قائمة على الخوف والسجون، واستخدمت كل آليات الردع والهيمنة بقبضة حديدية لخنق أي صوت معارض بحيث صارت أقوى من المجتمع. ربما كان حزب الله أكثر انفتاحا وأقل قمعا بحكم طبيعة المجتمع اللبناني المتنوع والمتعدد، لكنه فرض سيطرته الكاملة الإعلامية والتربوية على مناطق نفوذه.

مفارقة أخرى بين حماس وحزب الله: بعد انسحاب الجيش الإسرائيلي من جنوب لبنان صيف 2000، تسامح الحزب مع خصومه السابقين المتعاونين مع الاحتلال، وأعفى عنهم، ولم ينفذ عملية إعدام واحدة.. بينما بمجرد انسحاب إسرائيل من مناطق معينة في القطاع حتى خرجت مجموعات من حماس ونفذت عمليات إعدام ميدانية، وضربت بكل قسوة بالهراوات وإطلاق النار على كل من صنفتهم خونة وعملاء، وهاجمت عائلات وأفراد طالما اعتبرهم خصوما وأعداء بحجة التطهير.

عاشراً: مكانة الإنسان والجماهير في نظر المقاومة: الجماهير مجرد وقود لحروبها، قرابين وأضحيات لا قيمة لحياتهم، ولا أهمية لمستقبلهم؛ السنوار قال: "مستعدون أن نفنى جميعا حتى لا تموت الفكرة".. الفكرة هي أيديوجية الحركة التي أبدت استعداها للتضحية بالجماهير مقابل بقائها! ولم تبذل الحركة أي جهد لتجنيب أو تقليل الخسائر المدنية سواء في اتخاذ قرار الحرب، أو أثنائها، وأثناء المفاوضات، بدليل عشرات التصريحات الإعلامية لقيادات الحركة.

أحد عشر: تحولت المقاومة لدى حماس من أسلوب إلى هدف بحد ذاته، اعتبرت المقاومة هي فقط امتشاق السلاح، وأهملت واستبعدت كافة أشكال المقاومة الأخرى، تبنت العمليات التفجيرية ثم توقفت عنها، ثم لجأت للصواريخ وللأنفاق، نقطة التحول الأخيرة (7 أكتوبر) تمثلت بتنظيم هجوم واسع النطاق متعدد الجبهات، وبأعداد كبيرة جدا من المقاتلين، استهدف اقتحام مراكز عسكرية، واقتحام مستوطنات وأخذ أسرى.. وهو أسلوب غير مسبوق، وغير معهود لا في ممارسات حماس السابقة، ولا ممارسات فتح وسائر فصائل المقاومة، ولا حتى في الثورات التي تبنت حرب العصابات، لأنه "إعلان حرب"، وهي سابقة خطيرة حين تخوض حربا غير متكافئة بمزاعم امتلاك ألوية وكتائب وتشكيلات عسكرية نظامية  وقوة صاروخية.. وفي حقيقة الأمر كل تلك القوة لا تُقارن بقوة العدو، وقد جرى سحقها بسهولة وفي وقت مبكر، وبدلا أن نُظهر للعالم أنها حرب إبادة تخوضها قوة معتدية غاشمة جبارة ضد شعب أعزل، جرى تصوير الأمر بوجود مقاومة عنيفة تكبد العدو خسائر فادحة.. الأمر الذي أطال أمد الحرب وتسبب بتلك النتائج الكارثية.

لو أدركت الجماهير بحسها الوطني أن الخيار الصحيح هو الحرب لاختاروا الحرب بأنفسهم، أو لانخرطوا بها، أو على الأقل أيدوها بعد ذلك.

ختاماً: إذا اعتبرنا أن المقاومة هي فقط حمل السلاح فحماس وحزب الله يحققان هذا الشرط، لكن في حقيقة الأمر حماس "مقاومة إسلامية" وظفت نفسها لأجندات الإخوان المسلمين، ولأجندات تركيا وقطر وإيران، وعلى حساب مصلحة القضية الفلسطينية، وضد مصالح الفلسطينيين، وضد حياتهم  ومستقبلهم.. حزب الله وسائر فصائل محور المقاومة يشتغلون فقط لمصلحة إيران، وينفذون توجيهاتها..

هذه المقاومة أداة لدى مشروع الإسلام السياسي العالمي، وهو مشروع أيدويولوجي/ سياسي له غايات متعددة أهمها الظفر بالسلطة، وبعد قرن من انطلاقته تبين أن قضية تحرير فلسطين آخر هـمّه.


أكتوبر 12، 2025

أسئلة ما بعد الحرب – سؤال المقاومة

 

ما ميَّــز تجربة المقاومة الفلسطينية عن سائر التجارب العربية والعالمية مسألة جوهرية انفرد بها الفلسطينينيون دون غيرهم؛ وهي أنهم خاضوا مقاومتهم من أجل الحرية، لكنهم ظلوا مسكونون بهاجس وضرورة إثبات وجودهم كشعب، لأنهم ظلوا تحت تهديد خطر الإلغاء وطمس الهوية الوطنية وتدمير الكيانية السياسية، من خلال الإبادة، أو التهجير أو الضم أو الوصاية.. والسبب طبيعة العدو الذي يقاومونه؛ فإسرائيل تمثل نمط الاستعمار الإحلالي الإجلائي الذي يقوم على إلغاء الآخر، ونجاح المشروع الصهيوني يعتمد على إلغاء نقيضه المركزي، أي الهوية السياسية للشعب الفلسطيني، ويرى في إنهائها شرطا لإنهاء القضية.

بالنظر إلى تجارب الشعوب الأخرى في المقاومة والتحرر سنجد أنهم خاضوا نضالا عسكريا أو سياسيا أو شعبيا دون أن يتهددهم خطر الإلغاء والطمس والتهجير (باستثناء الشعوب التي تعرضت لاحتلال إجلائي، وهذا سنتناوله تالياً)، فمثلا خاض الأمير عبد القادر الجزائري كفاحا عسكريا وأحرز تقدما كبيرا، لكنه أخفق فيما بعد، وتم نفيه مع رفاقه إلى دمشق، ولم يتمكن الجزائريون من استئناف ثورتهم إلا بعد زمن طويل، واحرزوا نصرهم نتيجة الدعم العربي، ونتيجة التغيرات التي أصابت بنية النظام الاستعماري، وانتهت بأفول فرنسا ونكوصها.

انتهت ثورة عمر المختار دون نصر، وكذلك ثورة عبد الكريم الخطابي في المغرب، انتهتا بسحقهما، لكن الليبيين والمغاربة استأنفوا كفاحهم بأدوات أخرى، وفي ظل متغيرات سياسية مختلفة، فنالوا استقلالهم.

كل الشعوب التي خضعت للاحتلال والاستعمار لم يفكر مستعمريهم بنفيهم أو التخلص منهم، وهناك العديد من الثورات كانت ضد الدكتاتوريات والأنظمة العميلة والفاسدة (فيتنام الجنوبية مثلا)، ويمكن اعتبارها ثورات داخلية، وهؤلاء أيضا لم يكونوا معنيون بإبراز هويتهم الوطنية أو بلورة كيان سياسي، لأن مثل هذا الخطر غير موجود..

الشعوب التي تعرضت لاستعمار إجلائي (في أميركا، وكندا، وأستراليا، ونيوزلاندا..) انتهت بسحقهم، ومنعهم من بلورة أي كيانية أو هوية سياسية.. الاسثناء تمثل في التجربة الكفاحية لجنوب إفريقيا، التي انتصرت بتغيير طبيعة نظام الحكم، دون طرد أحد، أي بالتعايش السلمي في دولة ديمقراطية.

ولو تتبعنا ظروف وعوامل انتصار تلك الشعوب سنجد أن العامل الحاسم في انتصارهم تمثّل في تغيير بنية النظام الدولي، ونشوء معادلات سياسية جديدة، أفضت إلى تغيير الخارطة السياسية وتبدل الحلفاء وتغيّر المصالح وموازين القوى. فبريطانيا وفرنسا خرجتا من المستعمرات بعد الحرب العالمية الثانية، حين انتهيا كقطبين دوليين وحلت مكانهما أميركا والاتحاد السوفييتي.. ونظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا انتهى كإحدى ارتدادات انتهاء الحرب الباردة.

السمة الثانية لتجربة المقاومة الفلسطينية أنها مزجت بين المقاومة العسكرية وبقية أشكال المقاومة الشعبية والسياسية والدبلوماسية والقانونية.. وللدقة والموضوعية ومن زاوية التحليل والنقد يجدر التمييز بين تجربة الحركة الوطنية على مدى قرن، وبين تجربة حركة حماس على مدى ثلاثين سنة. حيث لكل تجربة سماتها المختلفة كلياً.

لنتناول أولاً سمات الحركة الوطنية الفلسطينية في النصف الأول من القرن الماضي؛ سنجد أنها اعتمدت أساليب المقاومة السلمية؛ هبّات شعبية، مظاهرات، رسائل احتجاح، تشكيل المؤتمر الفلسطيني، إصدار بيانات، تأسيس جمعيات خيرية واتحادات نقابية وممارستها للعمل السياسي، تشكيل وفود وعقد اجتماعات مع قادة العالم، اعتصامات أمام القناصل الأجنبية، إضرابات عمالية وتجارية أشهرها إضراب ال36، بالإضافة لبروز الأحزاب السياسية، ونهوض الحركة الأدبية والثقافية.

بالنسبة للعمل العسكري؛ تم تنظيم مجموعات عسكرية مسلحة (مجموعة القسام، جيش الجهاد المقدس..) وهذه لجأت إلى الجبال واعتمدت ضرب أهدافا محددة، بأسلحة بسيطة..  

سيطر على الحركة الوطنية آنذاك هاجس البقاء والحفاظ على الأرض، والتصدي لموجات الهجرة اليهودية، ومقاومة الانتداب البريطاني.. وبسبب غياب التمثيل السياسي الجامع، ومع تفشي النزعة القبلية والمناطقية، وعمليات التصفيات الداخلية، ولأسباب أخرى خارجية انتهت هذه المرحلة بالنكبة.

أما سمات الحركة الوطنية بعد النكبة فيمكن إيجازها بالتالي:

منذ البداية اعتمدت الكفاح المسلح، وتنفيذ عمليات فدائية ضد أهداف محددة.. في الضفة الغربية دخلت قيادات فتح ونظمت خلايا عسكرية تمركزت في الجبال، وبدأت بشن عمليات فدائية اتسمت بالتخطيط الجيد، وانتقاء أهداف عسكرية، حرصت على تجنب استهداف المدنيين الإسرائيليين، والابتعاد عن مراكز التجمعات السكانية الفلسطينية، وفق قواعد حرب العصابات المعروفة، وكان تأثيرها العسكري محدودا.. في قطاع غزة اختلف الوضع بعض الشيء، فسبب الاكتظاظ السكاني وكثافة العمليات الفدائية التي نفذتها قوات التحرير الشعبية، ومجموعة محمد الأسود من الجبهة الشعبية، وعمليات أخرى نظمتها مجموعات تابعة لحركة فتح، جوبهت برد عنيف جدا من قبل سلطات الاحتلال، حيث قام شارون بحملة اعتقالات واسعة، وتجريف أحياء بكاملها، وهدم مئات البيوت، وتشريد سكانها.

في الخارج (الأردن، ثم لبنان) حدثت مواجهات عنيفة بين قوات الثورة الفلسطينية وجيش الاحتلال (معركة الكرامة، العرقوب، جنوب لبنان، اجتياح الليطاني، اجتياح بيروت 1982)، مع تصعيد للعمليات الفدائية من حين إلى آخر (عمليات السافوي، دلال المغربي..)، كما استخدمت الثورة أساليب عنيفة أخرى، منها خطف طائرات، وعمليات اغتيال لقادة من الموساد، واختطاف رهائن (عملية ميونخ)، ومهاجمة سفارات أميركية (في الخرطوم وعمان).. ولكن سرعان ما تراجعت عن تلك الأساليب، بعدما تبين ضررها البالغ على صورة الكفاح الفلسطيني.

طوال تلك المرحلة ترافق مع العمل العسكري حالة ثقافية متقدمة، شهدت حركة أدبية وفنية وفكرية بمختلف أشكالها وتجلياتها، وكان لها دورا مهما في إعادة تشكيل وتغيير واقع ووعي المجتمع الفلسطيني، وساهمت في تقوية الحركة الوطنية. وكان للنخب المثقفة ولمؤسسات المنظمة البحثية ولإذاعة "صوت فلسطين" دورا حيويا ومهما.

مع أوائل السبعينات بدأ الاهتمام أكثر بالعمل النقابي والإعلامي، ما هيأ الظروف لبلورة حركة نشطة للمقاومة الشعبية، تمثلت في انتخابات البلديات وتشكيل "الجبهة الوطنية"، ثم "لجنة التوجيه الوطني"، وفي مرحلة لاحقة صار التركيز على العمل التنظيمي والجماهيري.. في الأراضي المحتلة تصاعدت خلال تلك الحقبة المظاهرات الشعبية والاعتصامات والإضرابات، إلى أن بلغت ذروتها في اندلاع الانتفاضة الأولى، التي طغى عليها طابع المقاومة السلمية.

ظل الهاجس المهيمن للحركة الوطنية ضرورة حماية الكيانية الفلسطينية من خلال م.ت.ف، والحفاظ على القرار الوطني المستقل، وعدم الارتهان لأية أجندات خارجية.. أما الهدف فكان سياسيا وواضحا: الوصول إلى دولة فلسطينية مستقلة.. بالنسبة للأسلوب، فيمكن القول أن الثورة جربت كافة أشكال النضال العنفي والسلمي والسياسي، بما في ذلك المفاوضات..

وما يُسجل لها أنها لم توجه سلاحها إلى شعبها، وظلت متمسكة بمكانة الإنسان كجوهر ومرتكز للعمل النضالي.

سأحاول تقريب الصورة أكثر، من خلال إجراء مقاربات مع سمات حركات المقاومة الإسلامية، وهذا ما سنتابعه لاحقاً.

أكتوبر 09، 2025

لماذا انتهت الحرب على غزة؟

 

يوم 9 أكتوبر، وقد مضى على حرب الإبادة حولان كاملان، أُعلن عن التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، وانتهاء الحرب.. الآن الأمور تقريبا واضحة؛ فالجميع يسمع ويشاهد، مع اختلاف وجهات النظر حول كل ما يتعلق بالحرب.. لكن بعد أيام وفي المستقبل القريب والبعيد لن يتذكر أغلبنا لماذا توقفت الحرب، مثلما نسي الكثيرون لماذا اندلعت أصلا! البعض سيوعز السبب إلى صمود المقاومة، وآخرون سيعيدون الفضل لقطر، أو لتركيا، أو لمصر، أو لترامب، أو لأي سبب آخر.. وفي الحقيقة اندلاع الحرب وتوقفها مثل أي ظاهرة كونية، لا تعود لسبب واحد، بل لتوفر عدة أسباب ونضوج عدة عوامل ونتيجة تغير الظروف الموضوعية والذاتية.. وهذه جميعها عادة تكون متداخلة ومتشابكة.

لذا، للتوثيق وللتاريخ، سأعدد أهم العوامل والأسباب التي أدت إلى وضع نهاية لهذه الحرب.. وقبل ذلك لنتفق على مسألتين، الأولى: حكومة نتنياهو ظلت مصرة حتى آخر ساعة على عدم وقف الحرب، وعملت بكل الأساليب على إطالتها لأسباب سياسية وأيديولوجية تتعلق بمطامع وغايات اليمين الصهيوني الذي كان يريد للحرب أن تستمر حتى يحقق أهدافه الحقيقية: التهجير، والضم، وتصفية القضية الفلسطينية، ولأسباب شخصية تتعلق بخشية نتنياهو من إقصائه ومحاكمته..

الثانية: الولايات المتحدة شريكة ومقررة في الحرب بدءا من إعلانها، مرورا بمباركتها ودعمها وتوفير أسباب إدامتها وقطف ثمارها السياسية، وانتهاء بإيقافها.. لكنَّ أولويات واشنطن ليست هي نفسها أولويات تل أبيب.

فيما يتعلق بعوامل انتهاء الحرب:

1. بعد سنتين من التوحش، إضافة للخسائر البشرية المهولة دمرت إسرائيل نحو 80% من القطاع، وحولته إلى بيئة طاردة، وتمكنت من تدمير معظم القدرات العسكرية لحماس، ولحزب الله، واغتالت أغلب قيادات الصف الأول وحتى الثالث للحركتين، واحتلت أجزاء من الجنوب اللبناني ومعظم قطاع غزة، وقصفت المنشآت النووية الإيرانية، وساهمت في إسقاط نظام الأسد، وأنهت "محور المقاومة"، وقصفت 7 دول في الإقليم، وفرضت معادلات جديدة قائمة على التفوق والغطرسة الإسرائيلية، وحصلت على اتفاقيات وقف النار نحقق بقدر كبير ما أعلنته عن أهدافها من الحرب، وأهمها إقصاء حماس عن حكم غزة، واستعادة الرهائن، وبالتالي يمكن القول أن الحرب استنزفت ذاتها، ولم يعد هناك ما يمكن تحقيقه، خاصة بعدما تبين عجزها عن تنفيذ مخططات التهجير والضم وإنهاء الكيانية الفلسطينية.

2. تصاعد المظاهرات الاحتجاجية في أغلب مدن العالم منددة بالوحشية الإسرائيلية، وبسياسة التجويع واستهداف المدنيين، ما يعني انكشاف حقيقة إسرائيل، وخسارتها صورتها التي طالما حرصت على إظهارها، وخسارة الرأي العام العالمي. وهذه المظاهرات ضغطت على الحكومات لاتخاذ موقف جدي تجاه إنهاء الحرب.

3. بعد قصف قطر، بدأت دول السلام الإبراهيمي تعيد النظر في حساباتها، وأنها ليست في مأمن من هجمات مماثلة، وبالتالي صار المشروع الإبراهيمي برمته موضع تساؤل.. خاصة مع تصاعد عدوان إسرائيل وتجرؤها على قصف سبعة دول في الإقليم، ما يعني ظهورها كقوة إقليمية مهيمنة متغطرسة، بلا ضوابط، وهو أمر لا يحتمله الإقليم ولا العالم، بدليل تشكّل تحالفات عسكرية وأمنية جديدة خارج نطاق الحماية الأميركية ( تحالف السعودية مع باكستان، ومصر مع تركيا وغيرها)، ما حتّم على المجتمع الدولي لجم هذه القوة المنفلتة من كل عقال.

4. كان من تجليات ذلك دعوة السعودية وفرنسا لمؤتمر حل الدولتين، وبلورة تحالف عالمي يدعو لإيجاد حل حقيقي للصراع، نجم عنه موجة اعترافات جديدة بدولة فلسطين، منها دول وازنة وحليفة لأميركا، وبدء محاولات عزل إسرائيل، وفرض عقوبات عليها (لأول مرة)، وهو ما أثار قلق الإدارة الأميركية، وما زاد من قلقها مغادرة أغلب الوفود لقاعة الجميعة العامة لمقاطعة كلمة نتنياهو، الأمر الذي أكد مخاوفها من تزايد حجم وفعالية العزلة المفروضة على إسرائيل.

وهنا تجدر الإشارة إلى جدية السعودية في مسعاها لإيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية لأسباب قومية ومبدئية، وسياسية تخدم طموحها في تَبَوُّؤ صدارة الإقليم، واقتصادية تخدم مصالحها وتوجهاتها بعيدة الأمد.. أما فرنسا فأرادت بلورة موقف أوروبي متماسك في وجه التفرد الأميركي، ومدخله قضية فلسطين.

5. رغبة ترامب الجادة في إنهاء الحرب وضغطه على نتنياهو، وربما كان هذا العامل الحاسم، ولهذا الموقف أيضا سببين، الأول: سياسي، تمثّل في خشية أميركا على إسرائيل من اليمين الصهيوني ومن سياساته المتهورة التي تعمق عزلتها، ومحاولة إنقاذها من نفسها. والثاني: شخصي، له علاقة بنرجسية ترامب، ورغبته بنيل نوبل للسلام، أو تحقيق إنجاز تاريخي.

5. هذه العوامل بدأت تتبلور منذ بدايات العدوان، لكنها تعاظمت في الآونة الأخيرة، وبدأت أميركا تطرح مبادرات، لكن الموقف المتصلب لإسرائيل (وبدرجة أقل حماس) كان يؤدي إلى فشل المبادرات، ومع انتقال مركز المفاوضات إلى مصر وتراجع الدور القطري في الوساطة خلال الجولة الأخيرة، وانحراط تركيا بقوة، ما سمح هذه المرة بالوصول إلى اتفاق وقف الحرب، بعد أكثر من سنة من مفاوضات عبثية كانت تتحكم فيها قطر وإيران، وتمليان على حماس عدم التجاوب بحدية مع المقترحات المطروحة.

6. في الجولة الأخيرة دخلت مصر بقوة لأنها جادة في إنهاء الحرب ووقف تهديد التهجير، وغيرت قطر موقفها بعد إبرام تحالف دفاعي مع أميركا، وضغطت تركيا على حماس لإنجاح عقد صفقة شراء طائرات حربية متطورة من أميركا، أما إيران فكانت مغيبة. ومع ضغوطات الدول الثمانية (التي اجتمع ترامب مع رؤساها) على حماس (وهي حليفة لها) لم يكن أمام الحركة خيار سوى القبول بالخطة، مع أنها فعليا بذلك تكون قد وقعت على قرار شطبها.

7. ثمة عوامل إسرائيلية ذاتية، تمثلت في محاولة الخروج من عزلتها، وإنقاذ ما تبقى من سمعتها وروايتها، خاصة بعد أن سحبت منها حماس ذريعة الرهائن، ولم يعد لنتنياهو مساحة للمناورة والتفلت من ضغوطات ترامب، إضافة إلى تصاعد ضعوطات أهالي الرهائن، وتفاقم الخسائر الاقتصادية التي تجاوزت الستين مليار دولار.

أهم من كل ما سبق أن الحرب انتهت، وثمة نافذة أمل فُتحت لشعبنا، ولعل أهلنا في القطاع يلتقطون أنفاسهم بعد هذه المقتلة.

أكتوبر 08، 2025

التغيير سيبدأ من غزة

 

في بدايات تسلم الرئيس العراقي الأسبق أحمد البكر، أراد نائبه حينها صدام حسين أن يتخذ العراق موقفا داعما للفلسطينيين، فرتب لقاء سيجمع بين البكر وياسر عرفات لتقريب وجهات النظر، حين دخل صدام كان البكر غاطسا في كرسيه ملتفتا للجهة الثانية، وقبل أن يبدأ بالحديث قاله له البكر: خللي الفلسطينيين يتوحدوا أولاً بعدين نتفق، مرة يقولون العاصفة، ومرة فتح، ومرة منظمة التحرير! صدام كان مطلعا بشكل كافي على تعقيدات الوضع الفلسطيني خلافا للبكر، فشعر بالحرج، وأخذ يبسط له المعلومة بأن العاصفة هي الجناح العسكري لفتح، والمنظمة هي الإطار العام... بقية القصة غير مهمة، الفكرة هنا أن رئيس دولة تعتبر فلسطين قضيتها المركزية ولا يعرف أبسط معلومة عنها..

حين اندلعت الانتفاضة الشعبية الأولى كنا في صالة السكن الداخلي نتابع الأخبار على التلفزيون، فبدأت تظهر مشاهد المواجهات بين الشبان الفلسطينيين وقوات الاحتلال.. كانت ردة الفعل الأولى لدى قسم كبير من الطلبة الجامعيين استغرابهم من وجود فلسطينيين في فلسطين، كانوا يظنون أنّ إسرائيل طردتهم كلهم إبان النكبة..

قبل سنوات قليلة من اندلاع الحرب العدوانية على غزة، كنتُ قي عمّان في بيت عزاء، وتحول الحديث إلى الوضع الفلسطيني، وتباينت الآراء، وصرت أحاول تصحيح بعض المفاهيم الشائعة المغلوطة عن طبيعة الأوضاع في الأرض المحتلة.. وفي نهاية الجلسة تقرب لي أحدهم في الأربعينات من عمره، وبدا أنه يريد فعلا فهم حقيقة ما يجري في فلسطين، وبدأ بسؤال: شو الفرق بين الضفة وغزة؟ يعني الضفة في غزة أم العكس! تبين لي أنه يعتقد أن غزة مدينة في الضفة!

ما سبق مجرد أمثلة، ولا تمثل حالة عامة، لكنها تعطي مؤشرات أن معلومات الكثيرين ممن هم خارج فلسطين عن فلسطين متواضعة ومشوشة وغير دقيقة.. طبعا الكثيرون يعرفون أدق التفاصيل ويتابعون كل شيء باهتمام، ولكن لا نعرف النسبة بين الفريقين، ومن يمثل الأغلبية؟ المهم هنا أن الجميع يصدر أحكاما بغض النظر عن مدى معرفته، لأنه في ثقافتنا العروبية عيب أن تجلس صامتا، لا بد أن تدلي بدلوك، وأن تفتي في كل شيء، حتى لو دار الحديث عن أزمة كشمير سواء عرفت حدود كشمير وموقعها أو تعتقد أنها نوع من القماش، في كل الأحوال لازم تفتي..

المشكلة ذاتها وبنفس العقلية تظهر مع من يتابعون حرب الإبادة في غزة.. سواء من يعتقد أنها مدينة في الضفة، أو من يظن أنها دولة شاسعة، أو حتى من يعرف عنها القليل.. الكل لازم يأخذ موقف، وهذا الموقف ليس بناء على معرفة بتفاصيل الواقع وطبيعة المنطقة وخصوصيتها، ولا إنطلاقا من فهم أبسط قواعد العمل السياسي وبديهيات المقاومة والنضال، ولا حتى من منطلق الشعور الإنساني ومشاعر التضامن مع الضحايا (كما هي حال المظاهرات الحاشدة في المدن الأوروبية والعالمية مثلا)؛ في منطقتنا وحسب ثقافتنا نتخذ الموقف بناء على حفظنا نصوصا مقدسة، أو شعارات براقة (لأن العقلية العربية عموما عقلية نصوصية، النص هو المحدد الأول والأخير وهو حدود التفكير)، أو بحسب الطائفة أو الحزب أو الجماعة التي ننتمي إليها، أو نعتبرها الأقرب لنا (لأن المحدد الثاني في العقلية العربية هو الانتماء القبلي والطائفي حتى لو كان تحت سقف حزب سياسي).. بناء على هذه المعايير فقط نتحذ موقفنا الثابت الذي لا يتزحزح، حتى لو سقطت قنبلة ذرية فوق رؤوسنا!

المحدد الثالث هو التفكير العاطفي، وعدم إدراك المسافة بين الشعار والواقع، بين الفكرة والتطبيق، بين الهدف البعيد وما هو متاح، بين الأيديولوجيا والسياسة، بين الحق وإمكانية ممارسة هذا الحق.. هذه معضلة التفكير لدى أغلب الفلسطينيين، وهي ما بدأت غزة تتخلص منها.. وهذا ما أود الوصول إليه.

في قطاع غزة، ومن أهم تداعيات حرب الإبادة تشكُّل حالة وعي فكري وسياسي وإنساني لدى أبناء القطاع، وأظن من مختلف الأجيال، ولن أقول مختلف الشرائح والطبقات لأنه لم تعد هناك شرائح ولا طبقات، صار الكل تحت وطأة القصف والنزوح والمأساة.. هذه المأساة الكارثية أحدثت الصدمة المطلوبة والناجمة عن كل حرب.. حدثت فقط في غزة، وبدرجة أقل في الضفة لأن الناس ذاقوا مرارة الحروب وكل ما ينجم عنها من أهوال، وأدركوا بفعل التجربة القاسية معانيها وفظاعتها، واكتشفوا مدى ضحالة وتخلف وطوباوية الشعارات التي كانت مطروحة قبل الحرب.

أكتب هذا لأني متابع حثيث لكل ما يجري في غزة، مع إني لم أتشرف بزيارتهها سوى مرة واحدة، لكن لدي آلاف الأصدقاء الغزيين ممن يكتبون مشاعرهم وأفكارهم يوميا وأقرا كل ما يكتبون، لذا يمكني الزعم أني مطلّع بقدر كافي، وبناءَ على ذلك استشرف الصورة القادمة من غزة..

أهلنا في قطاع غزة باتوا متقدمين بمراحل في الوعي عن غيرهم، وأكثر نضجا.. وعلينا ألا ننسى أن غزة هي التي حملت وحمت اسم فلسطين بعد النكبة حين كان الضياع والتيه الخيار الأقرب والمطروح بقوة.. في تلك الحقبة خرج من أزقة غزة أبرز مؤسسي الثورة، كما من مخيماتها اندلعت الانتفاضة الأولى، على أرضها وفوق رؤوس أهلها انصبت نيران أطول وأعنف حرب إبادة.. فكما كانت أم البدايات، ستكتب الخاتمة..

ولأنَّ لكل محنةٍ وجه آخر يمنح الفرصة، سيلتقط أهلنا في غزة هذه الفرصة، لإرجاع قضية فلسطين لموقعها الطبيعي: قضية الشعب الفلسطيني، بوصفها قضية تحرر وطني، وإنساني.. بعيدا عن الشعارات، وعن الخزعبلات، دون ارتهان لمحاور، ودون مؤتمرات وعد الآخرة، ولا عقلية أصحاب الأخدود، ودون أحزاب أيديولوجية، دون انقسام، بقرار وطني مستقل، لا ينتظر إملاءات من قطر ولا من تركيا ولا من إيران، ولا من أحد..

رغم الجراح والآلام، ستعود قضية فلسطين إلى سيرتها الأولى: قضية تشبه شعبها، وتريدهم أحياء فوق أرضها، مفعمون بالأمل والحيوية، يكتبون ويحلمون ويبنون، ويخترعون، يفكرون بعقولهم وضمائرهم وإيمانهم بحقهم في الحرية والاستقلال، وبناء دولة عصرية حداثية تحترم مواطنيها، يناضلون بتصميم وشجاعة وفق إستراتيجية وطنية توحّد الجهود وتضع القضية على أجندات العالم وضمن حساباته من منطلق الحق والعدالة.

الانطلاقة الجديدة والأهم في مسيرة النضال الوطني ستبدأ الآن ومن غزة تحديدا.. ولكن بأدوات وأساليب وعقلية مختلفة، أكثر نضجا وحكمة..

أكتوبر 06، 2025

أسئلة ما بعد الحرب

 

على مدار سنتين من حرب الإبادة واظبت جهات معينة على محاولات قمع وإسكات أي صوت معارض أو منتقد أو حتى ناصح، بحجة أننا في مرحلة حرب ودفاع ويجب التفرغ للمعركة، وعدم تثبيط المقاومة.. مع أنها ذريعة واهية، ولكن لنتجاوز الأمر، حسناً.. ها هي الحرب قد توقفت أو أوشكت، أو على الأقل تجمدت الأعمال الحربية وبدأنا بمرحلة الحصاد والتسويات والإتفاقيات.. بالتالي آن الوقت لطرح الأسئلة وممارسة النقد..

الحقيقة الأولى، وهي مشكلة كبيرة، أننا كفلسطينيين خضنا عشرات المعارك والحروب وجولات المقاومة والانتفاضات الشعبية السلمية والعنيفة، وجولات مفاوضات.. لكننا لم نجرِ مرة واحدة عملية مراجعة ونقد حقيقية وبالشكل المطلوب.. أثناء خوض المعركة نقول لنؤجل النقد إلى ما بعدها، ويأتي بعدها وننسى، ونكتفي ببعض المقالات النقدية والدراسات التحليلية التي لا يطلع عليها صناع القرار، ولا تشكّل أرضية للبناء عليها، أو مرجعية لتصحيح الأخطاء وتصويب المسيرة..

لذلك، واصلنا مسيرة الكفاح من خسارة إلى أخرى، وفي تراجع مستمر؛ لأننا افتقدنا أهم عنصر في العمل السياسي والمقاوم، وهو ممارسة النقد بحرية وجرأة ومسؤولية، فلم نتعلم من أخطائنا، ولم نطور أساليبنا، ولم نخلق عملية تراكمية صاعدة، وكان كل فصيل وكل حزب يريد أن يبدأ النضال من عنده وينتهي عنده ويتوقف عليه..

الحقيقة الثانية، وهي أشد مرارة، أصحاب القرار في الفصائل والقوى، وفي فتح والسلطة، وفي المعارضة ومن هم خارج المنظمة، ومعهم أنصارهم وأتباعهم ومؤيديهم.. لم يتعلموا دروس التاريخ، ولم يتعظوا من الخسائر، ولم يعبئوا بالتراجعات والانحدارات المتواصلة، ولم يكترثوا بتضحيات وآلام شعبنا.. بما في ذلك من ضحوا ومن تألموا ومن فقدوا أحبتهم.. هم أيضا شركاء.. ما زال كل طرف عند مواقفه ثابتا لا يتزحزح، وكأنّ الحروب وتداعيتها تجري في كوكب آخر..  ليس في هذا تعميم، لكنها إشارة إلى ظاهرة خطيرة، وهي التمسك بالآراء المسبقة، والوقوع دوما في إشكالية الانحياز المعرفي، والتحيز بلا تحفظ إلى جانب الجهة التي ينتمون إليها، أو يؤيدونها، أو للأفكار المسبقة المستقرة في أعماق العقل الباطني، وترفض أي تزحزخ، ويصعب عليها التكيف مع المتغيرات، بكلمة مختصرة: الثبات بتعصب.

للتوضيح، سأعطيكم أمثلة طازجة عن الحدث الأخير: أعلن ترامب عن مبادرة من عشرين نقطة.. عشرات الإعلاميين والكتّاب والمؤثرين رفضوها، وقالوا عنها: وصفة للاستسلام، وعودة الوصاية، وقبولها خيانة وتفريط.. بعد أيام قليلة أعلنت حماس قبول المبادرة، فجأة من كان يرفضها قبِلها، ولم يكتفِ بالقول إنها مبادرة سيئة ولكننا مجبرون على التعامل معها؛ بل صار قبولها ذكاء وعبقرية وحكمة وضربة معلم!

في السياق ذاته: انتشرت مقولة: "إن وافقت المقاومة فقد أصابت، وإن رفضت فقد أصابت، وإن واصلت القتال نحن معها، وإن توقفت نحن معها".. هذا ليس تأييداً للمقاومة، هذا إلغاء للتفكير، وتأجير العقل للآخر الذي يقرر، وما علينا سوى الإتباع والانصياع والقبول.. دون اعتراض، دون مناقشة، دون نقد، ولا مساءلة.. هذا ليس مجرد موقف سلبي، بل هو "لا موقف"، أو امتثال بمنهج ثقافة القطيع..

 مثال آخر سأقتبسه مما كتبه الصديق عامر بدران: "تم مؤخراً استخدام جُمل مثل: للحفاظ على "ما تبقى" من شعبنا.. للحفاظ على "ما تبقى" من الأرض.. للحفاظ على "ما تبقى" من بيوت.. الغريب أن جزءاً كبيراً ممن يستخدمون هذه الجُمل، هم من الإخوان أو من مناصريهم في اليسار الفصائلي والقطري. والأغرب من ذلك أنهم يقدمون أنفسهم من خلالها كحريصين ومدافعين عن الدم الفلسطيني والأرض الفلسطينية، لكنّ الأدهى هو أنهم كانوا يخوّنون ويكفّرون كل من كان يقول: للحفاظ على الشعب الفلسطيني، وعلى الأرض الفلسطينية، حين لم يكن هناك حاجة لوضع "ما تبقى" داخل الجملة".

وإذا عدنا بأمثلة إلى فترة أسبق؛ سنتذكر مقولات انتشرت في بدايات العدوان: لن يتمكنوا من اجتياح غزة برياً، أي اجتياح لغزة سيكون كارثة على إسرائيل، وسيغرق الجيش في رمال غزة.. الرهان على حزب الله ومحور المقاومة والدخول في الحرب مسألة وقت محسومة وستغير المعادلة.. سينشق المجتمع الإسرائيلي، ستنهار حكومة نتنياهو، إسرائيل لا تتحمل حرباً طويلة، سينهار اقتصادها.. ستشتعل كل فلسطين، وستزحف الشعوب العربية للحدود، ستؤدي مظاهرات المدن والجامعات الغربية إلى إجبار إسرائيل على وقف الحرب، بل وهزيمتها..  

طبعا لا شيء مما سبق تحقق.. وتحقق عكسه تماما.. ومع ذلك لم يخرج أي محلل سياسي ويقول: أعتذر كنت مخطئا.. وحتى الجمهور نسي تلك التصريحات وبدأ يبحث عن مقولات جديدة، تبرر له تلك التحليلات، أو تساعده على نسيانها.

كم مرة سمعنا أمثلة الجزائر وفيتنام ومليون شهيد.. طيب، هاتان الدولتان تحررتا، وحصدتا ثمار تضحياتهما، مع ذلك ما زلنا نستخدم تلك الأمثلة (غير المناسبة أصلا) حتى بعد تبين الفرق الفادح في النتائج، وأنَّنا لم نتحرر، بل تراجعنا..

حتى أهداف "الطوفان" التي لم يتحقق منها شيء، وصار البون شاسعا جدا بينها وبين ما وصلنا إليه، مضاف إليه خسارة 300 ألف إنسان بين قتيل وجريح ومفقود، وتهديم غزة.. بالرغم من ذلك لا أحد يتحدث عن تلك الأهداف، وصار المنجز الأهم إيقاف الحرب.. ألا يستدعي كل ذلك طرح السؤال: ماذا حققنا؟

عشرات التصريحات والتحليلات تبين أنها خاطئة، وتنم عن جهل وتعصب، أو أنها كانت موجهة لأغراض دعائية.. ومع ذلك لا ننتبه، ونتناسى، وما زلنا نصدق ونؤمن بخرافات وأوهام وشعارات براقة.. نضع الشعار ثم نقدسه، ثم نعبده..

للأسف، لن تحدث أية مراجعة نقدية ذاتية، لأننا متعصبون لأفكارنا وشعاراتنا، لأننا لا نخطئ، وإذا أخطأنا نبرر، ولا نعترف.. وإذا لم يعد بوسعنا تجاهل الخطأ، بدلا من مصارحة ذاتنا، والتركيز على معالجة أخطائنا، نبدأ بمهاجمة الآخرين.. (مغالطة رجل القش)، وكأنَّ أخطاء الآخرين تبرر لنا كل شيء! ليس هذا سوى التهرب من تحمل المسؤولية.

دماء أطفالنا وآلام شعبنا وتضحياتنا الهائلة ومستقبلنا الذي صار على المحك تستحق منا إجراء مراجعة نقدية مسؤولة وشجاعة وأمينة.. مطلوب من حماس بالذات إجراء هذه المراجعة، وأن تخبرنا بصدق وصراحة عن نتائجها.. لا نريد شعارات، ولا تصريحات للتسويق الإعلامي، ولا تحليلات شعبوية لكسب أصوات.. نريد مواجهة صادقة مع الذات. من حماس ومن الجميع..