بعد 23 سنة من
وضع حجر الأساس، وكنتاج لدراسات تاريخية وأركيولوجية وهندسية، وباستخدام أحدث التقنيات
العصرية، والتي كلفت مبالغ طائلة وبُذلت فيها جهود مضنية سيتم اليوم افتتاح المتحف
المصري الكبير، بحضور عدد من قادة ورؤساء العالم، ووسط تغطية إعلامية واسعة..
المتحف ليس
فقط مجرد تجميع لتماثيل ولوحات وقطع أثرية وعرضها في مكان واحد، وليس الهدف منه
تنشيط السياحة، للمتحف أدوار أكبر وأهم، ومن وراء هذا الحدث الضخم يمكن فهم العديد
من الرسائل والدلالات، وعلى ثلاثة مستويات: حضارية، إستراتيجية، وسياسية.
في المستوى
الحضاري سيتم عرض مائة ألف قطعة أثرية تحكي تاريخ مصر القديم والحديث والمعاصر، لتنقية
الصورة النمطية التي تحصر مصر القديمة بحاكم مستبد (الفرعون) وسحرة، وشعب مسخّر لبناء
الأضرحة والأهرامات.. تلك الآثار تحكي قصة أقدم حضارة إنسانية وربما أهمها، وأنها
لم تكن مجرد منحوتات ومسلات ومدافن؛ بل كانت منجزات عظيمة تحققت في مصر القديمة سواء
في بناء الدولة ومؤسساتها وطبيعة الحكم، أو في التطور الذي أحرزته في العلوم
والهندسة والطب والزراعة والتوثيق والفضاء، وأيضا تجاه قضايا الإنسان والمرأة والعمل
والجمال والفنون..
في المستوى الإستراتيجي
يجري التأكيد على أن مصر أول دولة في التاريخ الإنساني، قبل كل الحضارات الأخرى
امتلكت حكومة ومؤسسات وجيش محترف ونظام حكم مكتوب.. وهي أقدم دولة ما زالت تحتفظ
بحدودها السياسية، ووحدة أراضيها، ما يعني أنها ستظل مستقرة، ولن تتعرض لأي
تهديدات بالتجزئة أو التقسيم.
في المستوى
السياسي تبث رسالة قوية وواضحة بأن دولة تقيم هكذا متحف بهذه الضخامة والدقة
والروعة إنما هي دولة قوية ومستقرة وآمنة ومقتدرة.. وباستخدامها تلك التقنيات
المتطورة في طريقة البناء وعرض المقتنيات والتنظيم والإدارة يعني أنها دولة تنتمي
للعضر الحديث بلغته وأدواته وأساليبه، ومنفتحة على المستقبل؛ وبالتالي فإن مصر الآن
جاهزة لأن تستعيد مكانتها التي تستحقها في صدارة المنطقة والإقليم، وأنها تسعى لأن
تكون مصدر إشعاع ثقافي وحضاري لكل العالم، ما يعني أنها منفتحة على العالم سياسيا
وحضاريا وثقافيا، ولديها كل ما يؤهلها لتبوؤ الصدارة.
وما يبدو
واضحا أن مصر قد انحازت لهويتها الأصلية، أي الهوية المصرية بالمعنى الثقافي
والحضاري والسياسي والتاريخي، وبذلك تكون قد حسمت معاركها وترددها بين هوية دينية أيديولوجية
التي أرادها الإخوان والإسلام السياسي عموما، وبين هويتها القومية العروبية
بالمعنى العرقي والشوفيني كما أراد لها بعض الناصريين وغلاة القومية العربية..
أي أن مصر
ستكون دولة عصرية حداثية، تستمد هويتها من تاريخها وموروثها الثقافي والتاريخي،
التي تمتد جذورها إلى خوفو ورمسيس وحتشبسوت، وإلى عصور الاحتلالات الفارسية
واليونانية والرومانية، وحتى عصور الخلافة الإسلامية المتعاقبة، بحيث يكون لكل
مرحلة بصمتها وأثرها، في مجتمع عصري أراد صهر كل تلك الثقافات ليست في المنحوتات
والمسلات التي دُونت عليها، بل في وجه مصر وهويتها الحالية، التي ستظل الشقيقة
الكبرى لكل الدول العربية.
هنئيا لمصر
هذا الإنجاز الضخم، وهو مصدر اعتزاز وفخر ليس لمصر وحدها، بل لكل العرب، وللإنسانية
جمعاء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق