أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

أغسطس 15، 2024

شعبوية ومعايير مضروبة

 

تزعجني كثيرا موجة "الشعبوية" التي أخذت تستفحل في الأوساط الإعلامية حتى انتقلت إلى كتّاب ومثقفين كنا نقدرهم، وكانوا موضع ثقة بتحليلاتهم العقلانية الرصينة، ويبدو أن مواكبة الركب، والتماهي مع ثقافة القطيع هي الأسلم، والأريح، بل إنها صارت مصدر دخل وفير، وسببا للشهرة والانتشار.. أو أنه في زمن الحروب، كما جرت العادة، يخشى البعض من التعبير عن آرائهم الحقيقية خشية ردات الفعل الجماهيرية الغاضبة والمتشنجة.

ومشكلة هذه الموجة الشعبوية أنها وجهت الرأي العام بالاتجاهات الخاطئة، وحرفت البوصلة، وأشبعت الناس بالوعود والسراب، وبددت طاقات الجماهير المخزونة دون أي فائدة حقيقية، إضافة إلى أنها ضربت المعايير العلمية والأخلاقية في الحكم على القضايا والظواهر، وأنتجت تفسيرات ومصطلحات مغرقة في المغالطات المنطقية، وساهمت في التضليل.

وقد استطاعت كل محطة تلفزيونية إخبارية استقطاب وحشد عددا من الكتّاب والمحللين والخبراء ليقدموا الرواية التي تخدم توجهات القناة وأجنداتها، وصار كل من يجيد العبرية "خبيرا في الشأن الإسرائيلي"، حتى لو كانت كل إمكانياته قراءة عناوين الصحف الإسرائيلية، دون أن يمتلك معرفة بتاريخ وطبيعة وتركيبة المشروع الصهيوني. وصار كل من يجيد الخطابة والتحدث "محلل سياسي"، و"خبير إستراتيجي"، لمجرد أنه موافق على تقديم الإجابات التي تنسجم مع سياسة القناة والدولة التي تحتضنها..

بالطبع، كل ما سبق في العموم، وهناك استثناءات كثيرة لمثقفين ومحللين وخبراء يقولون قناعاتهم بشجاعة وحرية، ويكتبون ما تمليه عليه ضمائرهم الحرة والواعية دون التأثر بالضغوطات والإغراءات.

أما منصات التواصل الاجتماعي فهي في الأساس "سوق مفتوحة"، ويستطيع أي شخص كتابة ما يريد، والتعبير عن رأيه، وفش غله، وتوجيه الاتهامات يمينا ويسارا، وإصدار الأحكام بكل خفة وسهولة، المهم ألا يُغضب "مارك زوكربيرغ"، وألا يتعارض مع سياسات فيسبوك المنحازة والظالمة.

لن أدعي أنني استثناء، ولا أزعم امتلاك الحقيقة، ولن أغضب من أية وجهة نظر معارضة كما يفعل الكثيرين، ولكن من باب حرية التعبير أود تسجيل النقاط التالية:

اعتقد أن هجمات السابع من أكتوبر كانت قفزة في الظلام، ومغامرة غير محسوبة، مع تمسكي الثابت والراسخ بحق الشعوب في المقاومة، بكافة الأشكال، بما فيها الكفاح المسلح.. بل إنه ليس مجرد حق بقدر ما هو واجب.. لكن المقاومة تختلف عن إعلان الحرب، أو استدعائها، وللمقاومة شروط وحسابات وتخطيط يجب وبالضرورة مراعاة الظروف المحيطة والإمكانيات، وقدرة الشعب على التحمل.. والأهم أن تضع حياة الناس ومصالحهم في المقام الأول، وألا تنظر إليهم باعتبارهم وقود وأضحيات وقرابين..

وفي الساحة الإعلامية مساحة كبيرة من التضليل بسوق أمثلة تاريخية عن التضحيات البشرية، يتم تقديمها بمعزل عن سياقاتها، وهي لا تشبه الحالة الفلسطينية بأي شكل. وقد تحدثنا عنها سابقا غير مرة.

تعجبني حكمة القيادة الإيرانية وتفكيرها ألف مرة قبل إقدامها على خوض حرب، كما تعجبني خطابات السيد حسن نصر الله، وحكمته وتأنيه في التفكير، وتوجيه الضربات بدقة محسوبة، دون تهور، والأخذ بعين الاعتبار مصلحة لبنان، والشعب، والإمكانيات.. لكن الغريب والمستهجن أن هذه الحكمة ظهرت الآن، ولم تكن حاضرة في الفترات السابقة، حيث تعودنا من محور المقاومة على خطابات التهديد والوعيد وحرق إسرائيل ورفعنا سقف توقعاتنا عاليا..

وبالمثل يمكن القول عن مصطفى البرغوثي، الذي يترأس حزب يساري علماني يدعوا للمقاومة السلمية، فإذا به يتحول إلى ناطق باسم حماس!

أرفض السياسة الخارجية لإيران، وأختلف مع المشروع الإيراني لأنه مشروع سياسي توسعي، يستخدم الأذرع الموالية له (السنية والشيعية) دون أي اعتبار لمصالح الشعوب والدول العربية، بل أنه أدى إلى تخريب أربع دول عربية على الأقل، ولم يخدم القضية الفلسطينية بشيء.. ولكن الخلاف لا علاقة له بأن إيران شيعية، أو فارسية، أو صفوية وغير ذلك من تسميات عنصرية وطائفية مرفوضة ومدانة.. بل إن من مصلحة المنطقة كلها أن يتحالف المشروع الإيراني ويتكامل مع المشروع القومي العربي لمعاداة الهيمنة الأمريكية.. والمشكلة أن إيران مصرة على التفرد والهيمنة، والعرب لم يبلوروا أي مشروع قومي جامع حتى الآن.

استغرب وأرفض الهجمة المنظمة على قناتي "العربية" و"الحدث"، ليس لأني معجب بهما، أو لأني اعتبرهما قنوات محايدة وموضوعية، فلا توجد قناة محايدة، ولا موضوعية، ولكل قناة أجندات خاصة بها، وباعتقادي أن الإعلام العربي كله مسموم ومغرض ومشبوه.. لكن الهجمة على العربية لأنها لا تفعل مثل الجزيرة، بمعنى أنها لا تمجد حماس وتبالغ في تصوير قدراتها، ولا تضخم ما يُقال عن مواجهات عنيفة واشتباكات ضارية، وتركز على استعراض الجانب المأساوي في معاناة الغزيين. فلو كان الاعتراض على جميع القنوات لأنها مشبوهة ومسمومة لكان الأمر طبيعيا ومشروعا، أما التغاضي عن توجهات الجزيرة الأخطر والأكثر ضررا على القضية الفلسطينية فهذا هو العماء السياسي والأيديولوجي.

مع التأكيد على أهمية تجنب مثل هكذا توجهات، ونقل الصراع من مواجهة الاحتلال إلى التحريض على الفضائيات، فهذه ليست معركتنا، ولا هو أوانها، وليست أولوية وطنية.

تزعجني كثيرا منهجية التفكير الثنائي الحاد، بعقلية الأبيض والأسود، فالأمور دوما متشابكة ومتداخلة، وأعمق بكثير من رؤيتها بهذه القطبية الحادة والفقيرة، والتي تناسب تفكير البسطاء والسذج، وهناط طيف واسع من الألوان، وخيارات لا حصر لها بدلا من زج أنفسنا في ثنائية بائسة:

سلطة وتنسيق أمني، أو عمليات مسلحة وشهداء.. خضوع واستسلام وعبودية، أو خوض حرب شاملة.. محور عربي أمريكي إسرائيلي، أو محور المقاومة.. استشهاد مليون فلسطيني في غزة، أو استسلام حماس.. التركيز على صور النازحين ومظاهر البؤس والمعاناة، أو على المثلثات الحمراء..

لا نفكر إلا ضمن الثنائيات التي يطرحها الإعلام، وكأننا فقدنا الخيارات، وفقدنا القدرة على التخطيط والتفكير الخلاق..  

من لم يكن مع المقاومة بكل خياراتها فهو في الصف المعادي والخائن.. هذه فقط لإسكات أي انتقاد، وقمع أي محاولة تصويب وكشف للأخطاء، وتخويف وإنهاء التفكير النقدي. هذه عقلية فاشية تقوم على مقولة "من لم يكن معي فهو ضدي".

صحيح أننا جميعا في حالة صدمة، والأمور مركبة ومعقدة ومتشابكة ومحيرة.. ولكن على الأقل لنفكر مرة بعقولنا لا بعواطفنا، ودون شعارات وقوالب جاهزة.. ولنجعل هذه الصدمة بداية التغيير.. فكل الشعوب نهضت وتغيرت بعد تعرضها لصدمة كبيرة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق