أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

أغسطس 23، 2022

جفاف أوروبا، ونذر المجاعة

 بعد أن ظلت أوروبا ولأجيال عديدة جنة خضراء، تفيض بالأنهار والبحيرات، وبمعدلات أمطار مرتفعة وهطولات على مدار السنة، حتى اعتقد العالم بأنها ستكون آخر بقعة في الكوكب تعاني من أزمة مياه.. وأنها ستكون ملاذ اللاجئين الهاربين من حروب المياه في المستقبل.. حصلت المفاجأة الصادمة، والتي لخصتها عبارة منقوشة على الصخور على ضفاف أحد الأنهار في ألمانيا، وهي "إبكي إذا رأيتني".. وقد بانت تلك العبارة بعد أن انحسر النهر لمستويات مقلقة هذا الصيف، كما كان حال النهر في القرن الثالث عشر.

ولأول مرة منذ ما يقارب الخمسائة عام، ظهرت في أوروبا هذا الصيف 2022، بوادر أزمة بيئية خطيرة، فمن البرتغال غربا، حتى صربيا شرقا، تعاني أنهار أوروبا من الجفاف، بسبب ارتفاع درجات الحرارة وانخفاض تدفق المياه من منابعها، حتى أن 63% من أراضي الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة تعاني من هذا الجفاف الخطير.

وهذه أسوأ موجة جفاف تشهدها أوروبا منذ مئات السنين، ويقول العلماء بأن موجات الحر والجفاف وحرائق الغابات ستزداد سوءا في المستقبل، مع اعتقاد متزايد أن تلك الظاهرة مرتبطة بالتغير المناخي، وأن ذلك سيؤثر على صحة الناس خاصة الذين لا يتحملون الحر، وعلى موارد المياه، ومصادر الطاقة، وتوليد الكهرباء، وتبريد المفاعلات النووية، وعلى التنقل، والمواصلات، ونقل البضائع، والسياحة، والثروة السمكية.. ما ينذر بكارثة اقتصادية كبرى، تُضاف إلى وتعمق من الأزمة الحاصلة الآن، نتيجة الحرب الروسية الأوكرانية، وما نتج عنها من أزمة طاقة وغاز.

فمثلا جفت مصادر نهر التايمز البريطاني أكثر من أي وقت سابق، كما اختفت المروج الخضراء في حديقة الهايدبارك، وقد بلغت درجات الحرارة في بريطانيا 40 درجة مئوية لأول مرة في التاريخ الحديث، وكذلك تعاني فرنسا من أسوأ موجة جفاف، ما أدى إلى توقفها عن إنتاج بعض أصناف الجبن التي تحتاج كميات كبيرة من المياه، مع حرائق غابات اجتاحت آلاف الهكتارات، وفي إسباينا وصلت مستويات المياه إلى 40% مقارنة بمعدلها السابق، وفي إيطاليا أُعلنت حالة الطوارئ في خمس مناطق، وفي ألمانيا اضطرت السفن إلى تخفيض حمولتها للنصف حتى تتمكن من عبور نهر الراين، بل إنها على وشك إيقاف حركة السفن كليا. وهنالك العديد من الأنهر الصغيرة والقنوات جفت كليا، وتشققت أراضيها.

وقد حذر خبراء بيئيون بأن إنتاج المحاصيل النباتية والحيوانية في أوروبا سينخفض هذا الموسم لمستويات حادة وخطيرة وغير مسبوقة، مما سيؤدي إلى ارتفاع أسعارها، واختفاء بعضها من الأسواق. وتقول عالمة المناخ إيلا جليبرت، من المعهد البريطاني للبحوث القطبية، بأنه حتى لو تم وقف انبعاث غازات الكربون اليوم، وبشكل تام، فإن التغير المناخي سيظل في السنوات القادمة، وبالتالي علينا التكيف مع هذا التغير. (تقرير محطة BBC news)

ويخشى العلماء من تقلص مستويات الأنهار الجليدية في جبال الألب إلى النصف مع حلول العام 2050، ما يعني توقف جريان الأنهار الأوروبية وخروجها من الخدمة.. ومشكلة أوروبا أنها تعتمد كليا على الأنهر والبحيرات كمصادر للشرب، وتعتمد بشكل كبير على الأنهر في نقل البضائع، وإذا ما أُجبرت على التحول إلى النقل البري والقطارات، فإن ذلك سيؤدي إلى زيادة تكلفة النقل والإنتاج بنسبة قد تصل إلى 30%، وبالتالي غلاء فاحش في أسعار البضائع والمواد الغذائية، وانكماش في الاقتصاد لمستويات خطيرة. بالإضافة لما ستحدثه من أزمات مرورية خانقة، فكل سفينة نقل متوسطة تعادل حمولتها ما تنقله 100 شاحنة.

في الوقت الحاضر بدأت العديد من دول أوروبا تتخذ تدابير صارمة لتقنين استخدام المياه، مثل فرض قيود على غسيل السيارات، وري الحدائق، واستخدام برك السباحة، ورفاهية الفنادق، وحتى على الاستحمام ومياه الشرب.. ومع استمرار الكارثة ستضطر إلى المزيد من التقنين.

هذه الأزمة لن تتوقف عند أوروبا، بل ستشمل أجزاء واسعة من العالم، الهند التي تعهدت بإطعام العالم ردا على العقوبات ضد روسيا، بدأت تستورد الحبوب بعدما تعرضت أجزاء منها للجفاف، وكذلك الصين أعلنت عن انحسار العديد من أنهرها..

العالم العربي يعاني من الجفاف وشح المياه أصلا؛ الأردن مثلاً من الدول الفقيرة مائيا، ويعاني من انحسار مستويات السدود وجفافها، حتى أن مصر، والتي فيها نهر النيل، ستطالها الأزمة، بسبب سد النهضة في أثيوبيا، العراق وسورية يعانيان من أزمة مياه غير مسبوقة، حتى أن نهري دجلة والفرات باتا على وشك الجفاف تماما.. وأيضا نتيجة السدود التي أقامتها كل من إيران وتركيا، وحرمت العراق وسورية من مليارات الأكواب المكعبة من المياه التي كانت تتدفق عبر النهرين سنويا. وقد بدأت آثار الجفاف بالظهور، والتي ستؤدي إلى بور وتصحر حوالي سبعة ملايين دونم من الأراضي الزراعية في العراق وحدها، وبالتالي انخفاض مستويات الإنتاج النباتي والحيواني بشكل بالغ الحطورة، وينذر بمجاعة.

وبسبب الحرب الروسية الأوكرانية، ومع موجات الجفاف، اتخذت 14 دولة منتجة للغذاء قرارات بالتوقف كليا أو جزئيا عن تصدير محاصيلها للخارج، والاحتفاظ بها لنفسها، وأهمها الهند، الارجنتين، روسيا، أوكرانيا..

سابقا، كنا نعتقد أن تداعيات التغير المناخي ستظهر في الأجيال القادمة، لذا لم نكن نوليها الاهتمام الكافي، اليوم، بدأنا نشعر بتلك التداعيات، وبأشكال أخطر وأسرع بكثير مما كنا نتوقع.. وإذا كان لكل مصيبة وكارثة وجه إيجابي، فإن الوجه الإيجابي الوحيد لموجة الجفاف الحالية أنها ضربت أوروبا، ولا أقصد التشفي بها، بل المقصود أن هذا الجفاف سيشكل صدمة للأوروبيين، جمهورا وناخبين، وصانعي قرار.. وهذا سيدفعهم لاتخاذ تدابير حقيقية وجدية باتجاه التغير المناخي، أي تقليل انبعاثات غازات الدفيئة، وهذا الأمر مرتبط بعلاقة القارة العجوز مع الولايات المتحدة، وتبعيتها لها، وموقفها من روسيا.

وحتى الآن لم تغير أمريكا موقفها السلبي من التغير المناخي، مع أنها أكبر مسؤول عن انبعاثات الكربون، المسبب للاحتباس الحراري، وكأنها تقول للعالم: جفت أنهاركم، حسناً، اشربوا من البحر..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق