أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

يوليو 07، 2022

خواطر بعد العيد

 

لا بد أنكم قابلتم خلال عطلة العيد أناسا شتى من الأصدقاء والأقارب، بعضها لقاءات مجاملة لا مفر منها، وبعضها لقاءات حب واشتياق. وحتماً تحاورتم وتجادلتم في مختلف المواضيع.. لن أتطرق هنا لمصاريف العيد المهلكة، ولا عن بعض العادات التي صار لازما تغييرها.. لنركز قليلا على التأثير المتبادل مع هؤلاء القوم، نفسيا وعصبيا..

على الأرجح ستخرج بملاحظة أولى بديهية: رغم تشابه الناس في الثقافة والعادات، إلا أن الفروقات بينهم كبيرة جدا، لا أحد يشبه الآخر، كل شخص عالم منفصل وقائم بذاته، وكل شخص يعتقد أنه الأذكى، والأكثر علماً، وهو الطيب الوحيد بين الأشرار، وهو دائما على حق..

الملاخظة الثانية: بعض الحوارات بلا قيمة، ودون معنى، مجرد كلام واستعراض وضوضاء، أصوات تخرج من الحنجرة بأفكار لم تنشأ أساسا في الدماغ، ترديد آلي لمقولات سمعها من فلان، أو قرأها على الفيسبوك. أو إصدار أحكام على شخصيات عامة تنطلق من ردة فعل عاطفية، وغالبا تشوبها الكراهية والغضب.. وهذا الغضب منشؤه الأوضاع الاقتصادية المتردية، وقسوة الحياة، والكبت الجنسي، والقمع السلطوي والاجتماعي الذي يتعرض له ليل نهار، دون أن يكتشف مصدره الحقيقي، فيصب جام غضبه على شخص ما، أو على ظاهرة سطحية.

على المستوى الاجتماعي، سترى "المسايرة" بكل وضوح، والتي تتحول إلى نوع من النفاق الاجتماعي، ومجاملات غير صادقة، واستعراض أجوف، بتعبيرات فضفاضة وغير مقصودة لذاتها، فتكتشف أن الحديث لم يكن وسيلة لتوصيل الفكرة والمعنى، بل هو وسيلة لإخفائهما، أي أن المقصود والمضمور في الباطن هو العكس تماما، ويصبح الكلام للهروب من المسؤولية وإضاعة الوقت.

المشكلة الأخرى اقتحام الآخرين لخصوصياتك، وبشكل سافر. خاصة حين يتعدى الأمر أسئلة المجاملة التقليدية، وتتحول إلى أسئلة في العمق، وبدون مبرر، لمجرد السؤال فقط، أو بداعي الفضول.

أثناء النقاشات، ستعتقد أنك تقول الحقيقة وتمثل الصواب (وهذا حقك طالما أنك مقتنع بذلك) لكنك ستفاجأ أن الناس لا يحبون من يقول الحقيقة، ويكرهون من يوقظهم من غفوتهم. بل إن الشعوب تاريخيا كانت تنتقم ممن يقول الحقيقة، خاصة إذا كانت مزعجة، أو خارجة عن المألوف، وأنهم يحبون من يخفيها عنهم، ويكافئون من يستطيع تخديرهم بالأوهام، ومن يدغدغ عواطفهم بالتمنيات. فتقبّل الحقيقة أمر في غاية الصعوبة وخاصة في المجتمعات التي لم ينضج وعيها الجمعي.

حتى في الحوارات الشخصية، ستكشتف أنك عاجز تماما عن إقناع الطرف المقابل، فهو لا يسمعك، بل يسمع الأصوات المخزنة في عقلة الباطن، ويقرأ الأفكار التي تراكمت في ذاكرته منذ طفولته، وصارت جزءا من شخصيته، وحتى من كرامته، وما تفعله الآن عبارة عن خدش لهذه الكرامة، وهدم لما تم بناؤه في عشرات السنين، وبالتالي دفاعه عن أفكاره إنما هو دفاع عن شخصيته وصورته أمام نفسه. وهناك فرق كبير بين من يناقش ليثبت أنه على صواب دائم، ومن يناقش للوصول إلى الصواب.

لذا من العبث مطالبة محيطك الاجتماعي الضيق بأن يعيشوا وفق قناعاتك ومعتقداتك، والأكثر عبثا مطالبة البشر جميعاً بذلك، أو محاولة تغيير العالم، وإصلاح الكون.

بعد أن تقر بعحزك عن تغيير من حولك (وهذا ليس مطلوبا أساسا)، الأجدى أن توفر طاقتك الذهنية في مجالات أخرى، أو أن تغير أسلوبك.. وأن تختار من الأصدقاء من يشبهوك في التفكير والميول. ولا بأس أن تتجه نحو ما يريحك ويسعدك: العائلة، حياتك الخاصة، هواياتك، والأهم ألا تنظر إلى هواياتك واهتماماتك على أنها بسيطة أو تافهة، فكل ما تقوم به بطولة، طالما أنه يسعدك.

من الأخطاء التي نقع فيها: الاعتقاد بضرورة التواصل مع الأصدقاء القدامى، فهؤلاء تعرفنا عليهم في أزمنة سابقة، ضمن ظروف معينة، وهذه كلها تغيرت، ومن الطبيعي أنَّ تغيرها ترك آثارا متباينة على هؤلاء الأصدقاء، ومن غير المنطقي توقعك أنهم ما زالوا كما تركتهم قبل عشرات السنين..

ومن الأخطاء أيضا سعينا لاختيار الأصدقاء بمعيار "البريستيج"، أي بمدى ذكائهم ونجاحهم ومكانتهم الاجتماعية، يقول الكاتب المميز "أحمد خالد توفيق": "لا تستطيع أبدًا أن تحب صاحب الروح الغبية، بينما يمكنك بسهولة أن تحب شخصًا محدود الذكاء طيب القلب، هناك عمّال وبوابو عمارات وبائعات خضر في السوق، كلهم لم يتلقوا أي تعليم ومعظمهم محدود الذكاء، لكني أشعر معهم بالكثير من الراحة والمرح، بينما قد أقابل استاذًا جامعيًا ذا روح غبية فلا أتحمله خمس دقائق. الكارثة الحقيقية هي أن تضطر للتعامل مع أناس لا تطيقهم، مديرك في العمل، أو شريكك، أو جارك".

أما أكبر الأخطاء فهي سعيك لنيل رضا كل الناس، ومحاولتك أن تكون محبوبا من الجميع، هذا الأمر ينطبق فقط على الماء، لأنه بلا لون، ولا طعم، ولا رائحة.. أما أنت فإنسان، لك ميولك واهتماماتك وقناعاتك وطباعك، ومن المستحيل أن ترضي كل من حولك، بعضهم قد يبغضك لمجرد الاختلاف في الرأي، وبعضهم قد يكرهك ويحاكمك بتهمة "التواجد على قيد الحياة".

مشكلة الآخرين (وهي مشكلتك في الوقت ذاته) أنهم يحبونك (أو يكرهونك) بناء على الصورة المتكونة في أدمغتهم عنك، وفقا لمعاييرهم الخاصة، يريدونك دوما ضمن هذه الصورة الثابتة، وأي خروج عنها يجابه بالرفض، فتنقلب المحبة إلى كراهية. لذا كن نفسك فقط.. وعش حياتك كما ترتضي، وأترك الآخرين وشأنهم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق