أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

يوليو 11، 2022

مسرح عشتار

 

بعد الاعتداء الآثم على فناني وجمهور مسرح عشتار، وما تبعه من لغط وتشويه، صار لازما توضيح بعض الأمور:

تأسس مسرح عشتار في القدس في بداية التسعينيات، منبثقا عن مسرح الحكواتي، والذي يعد من أهم الرموز الثقافية الفلسطينية في القدس، تقوم فلسفته على العمل وفق نماذج مسرحية مختلفة، بالتركيز على مسرح "الفوروم"، وهو جزء من مدرسة مسرحية تسمى "مسرح المقهورين"، أو "مسرح المضطهدين".

أما عرض "مولانا" الذي تعرض للاعتداء؛ فهو نص درامي مُوجه أساساً ضد الأنظمة الديكتاتورية، ولكن بعد الربيع العربي تم تعديله بقراءة جديدة تصور كيف تتحول المجتمعات والأفراد إلى "ديكتاتوريات"، من خلال قصة مأساوية لمواطن سوري مقهور، يلجأ إلى مقام "محيي الدين بن عربي" في دمشق، بحثاً عن السكينة، وليبث له شكواه، ويصف له الظلم والاضطهاد الذي يتعرض له.

وفيما يخص ألوان قوس قزح، فهي هبة الخالق للكون، لندرك من خلالها قيمة وجمال الألوان، وأهمية التعددية والاختلاف. ولا يعني قيام مجتمع الميم باتخاذه ألوان قزح كشعار لهم، أنه صار خاصا بهم، وحكرا عليهم، وبالتالي يحرم الاحتفاء بألوان الطبيعة! فمثلا تتخذ جنوب إفريقيا قوس قزح كشعار للجمهورية في عهدها الجديد، بعد أن تحررت من العنصرية، وصارت تسمي نفسها "بلاد قوس قزح"، في إشارة لتعدد الأعراق والإثنيات والثقافات في ذلك البلد، والتعايش السلمي فيما بينهم.

والآن لنعد إلى حادثة الاعتداء على المسرح، لنحاول فهمها في إطارها الأوسع، فقد نفت الجهات المنظمة والمشاركة في العرض أي علاقة له بالمثليين، وقضيتهم.. ومسألة رفع رايات ملونة لها دلالة على التنوع الثقافي، وضرورة التوافق بين الجهات المختلفة بشكل يتماهي وبنسجم مع ألوان الطبيعة الجميلة والمتعددة.. وتلك رسالة المسرح.. ولكن على ما يبدو أن مجرد رؤية ألوان زاهية تشبه ألوان الطيف صارت تثير غضب جهات معينة، وخشيتهم من الدعوة للمثلية!

حادثة الاعتداء خطيرة ومقلقة، ليس بسبب وجود مجموعة شبان ترفض المثلية، فحتى في أمريكا توجد مجموعات سكانية ترفض المثلية، وتحاربها.. الخطورة أن تأتي مجموعة من الناس وتأخذ القانون بيدها، وتفرض رأيها على المجتمع بالقوة والعربدة، هذه المرة اتخذت "المثلية" واجهة وحجة، من يضمن ألا تخرج مرة ثانية، أو تظهر مجموعة أخرى وتفرض بالقوة والترهيب مفاهيم أخرى على المجتمع؟ ويصبحون هم القانون الذي يجب أن يلزم المجتمع؟ في ظل غياب مريب وضعف مهين لدور السلطة والقانون والشرطة؟

هذه ليست المرة الأولى التي يتم فيها أخذ القانون باليد، وبالعربدة، فقد شهدنا عشرات حالات الاعتداء والحرق بحق مطاعم وفنادق، وحالات تخريب لاحتفالات عامة، ومؤخرا طبّق هؤلاء قانونهم الخاص في النبي موسى وبيت جالا وبيتونيا وجامعة النجاح، ولم يجدوا من يردعهم.. لذا، من شبه المؤكد أنهم غدا سيطبقون مزيدا من قوانينهم وسيفرضون قناعاتهم على المجتمع، سيلقون بماء النار على الفتيات غير المحجبات (وقد حدث ذلك من قبل)، ثم يهاجمون المقاهي والمطاعم والأعراس المختلطة (وقد حدث ذلك بالفعل)، ثم سيهاجمون الجامعات والمسارح ودور السينما ووسائل النقل العامة، إلى أن ينصبوا محاكم تفتيش على كل الناس.

وواهمٌ من يعتقد أن للأمر علاقة بالأخلاق وقيم المجتمع؛ الموضوع سيطرة فئة معينة، أو سيادة مفاهيم معينة، وإقصاء كل من يختلف معهم.. وإليكم هذا المثال:

قبل نحو عشر سنوات، انتشرت في العراق ظاهرة "الإيمو"، وقد وجدت المليشيات الطائفية، التي نمت على هامش المشروع الأمريكي وبرعايته، وجدت فيها فرصتها لضمان تأييد المجتمع وإخضاغه، فهي تُلحق بضحاياها وعائلاتهم الخزي والعار؛ خاصة بعد أن نجحت في إلصاق تهمة الشذوذ الجنسي وعبادة الشيطان في كل من يختلف معهم، أو من كانت لديه معهم حسابات شخصية.

كانت كل ميليشيا تريد أن تحدد مناطق نفوذها، بحيث تسيطر على سكانها، وتفرض عليهم أنماطا ثقافية معينة تتناسب مع أيديولوجياتهم المتشددة، فيأتي المسلحون ويقتلون بعض الشبان ممن تتهم بالإيمو، وطريقة القتل المتبعة بتهشيم رؤوسهم بالحجارة والطوب، فيدبون الرعب في الحي، ليبدأ الأهالي بالهرب، لتكون فرصتهم في خطف أو قتل كل من يعارضهم بالرأي، وقمع كل من ينتقدهم. وفي هذه الجو الإرهابي تتمكن من إعادة هندسة المدينة بالمعيار الطائفي، وفرض مفاهيمها الاجتماعية والدينية على الآخرين، وأبرزها تعميق عبودية المرأة من خلال ترهيب الشباب، ليكونوا عبرة للنساء اللواتي يطالبن بالحريات الشخصية والفكرية.

قبل استفحال الخطر، يتوجب أولا إحالة المعتدين للقضاء، ثم إدانة الاعتداء ليس على تظاهرة مسرح عشتار وحسب، بل إدانة أي اعتداء على أية فعالية فنية وثقافية، لأن العنف مرفوض بداية، ولأن الاعتداء على فعالية فنية واحدة والحكم عليها بتهم باطلة هو اعتداء على كل الحالة الثقافية والفنية والاجتماعية، فالفنون والثقافة والإبداع بكل أشكالها كلٌ لا يتجزأ، وهي شرط أساسي في عملية نهوض وتطور المجتمعات.

وهنا يتوجب على المثقفين بالدرجة الأولى إعلاء صوتهم، وإدانة الاعتداء دون مواربة، فتبرير الاعتداء، أو السكوت عنه جريمة بحد ذاتها، فالمستهدف هنا الحالة الثقافية والفنية عموما، وليست المثلية كما يبدو من الوهلة الأولى، فتلك مجرد حجة، أو خطوة أولى نحو هيمنة وسيطرة الفكر الظلامي، والتخلف والتعصب والانغلاق.

 وكما كتب الزميل عصمت منصور: "المنظومات الفاسدة والعميلة للاستعمار والمتخلفه اجتماعيا تحارب الفن والإبداع والنقد والرأي الآخر باسم الوطن والدين والقيم.. وهي أبعد ما يكون عنها". هذا كان واضحا عبر عشرات الأمثلة من التاريخ، للنظم الاستبدادية والفاشية والفاسدة، التي تسعى دوما للسيطرة على الدولة والمجتمع وفرض أيديولوجيتها عليه بالإرهاب.. من الخمير الحمر، وحتى النازية، مرورا بعشرات الأنظمة الديكتاتورية في الإقليم وعبر العالم.. كانت تستخدم الدين، أو الأيديولوجية الحزبية، أو ترفع بعض الشعارات البراقة حول "الحزب القائد"، و"الزعيم"، و"التضحية".. وغيرها من الشعارات الزائفة للتغطية على الفشل، وعلى الفساد، وعلى نزعة التحكم والسيطرة، ولإسكات أي صوت معارض..

وهناك علاقة جدلية بين فساد الأنظمة وشعاراتها وتغنيها بقيم المجتمع الفاضلة، وبين غياب الديمقراطية والحكم الرشيد والإنجازات الحقيقية؛ فكلما كان النظام أفسد وأكثر فشلا، كلما لجأ إلى هذه الشعارات الخادعة. وليس شرطا أن تمارس النظم الفاشلة والفاسدة هذه الخديعة بنفسها، فكثيرا ما تلجأ إلى المجموعات غير المنضبطة، وتفسح لها المجال لتخرب المجتمع، فهي في النهاية إحدى أذرعها.

وأختم بما كتبه الفنان خالد حوراني: "ما هي فلسطين بدون القصيدة والفن التشكيلي والرواية والموسيقى والمسرح والغناء والرقص والزجل والدبكة والسينما.. ما هي؟".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق