منظمة التحرير الفلسطينية
ليست فصيلا ولا حزبا، ولا هي مجرد يافطة، ولا هي الوجه الآخر لفتح، ولا هي عنوانا
للنظام السياسي القائم الآن، والمرتبط بأذهان العامة بالفساد والتنسيق الأمني..
منظمة التحرير هي الكيان
السياسي للشعب الفلسطيني، والممثل الشرعي والوحيد له، والمتحدثة باسمه، هي الوطن
المعنوي لكل الفلسطينيين، في الوطن والمنافي، وهي التجسيد الحي للوطنية الفلسطينية..
وهي الإنجاز الأهم والأبرز للشعب الفلسطيني في تاريخ الصراع العربي الصهيوني..
وهذه ليست مجرد شعارات، ولا ادعاءات.. تلك حقائق موضوعية، وقبل ذلك هي ضرورة وطنية..
وحاجة الشعب الفلسطيني
لمنظمة التحرير ليست من باب الترف الفكري، ولا تأتِ في سياق المناكفات الحزبية؛ بل
لأنها تعبّر عن الكيانية السياسية للفلسطينيين، وتمثلهم في المحافل الدولية،
ولأنها تجسّد الهوية الوطنية الجامعة..
ومسألة إبراز وتجسيد الهوية
الوطنية والكيانية السياسية للفلسطينيين مسألة في غاية الأهمية، لأنها تمثل النقيض
المركزي للكيان الإسرائيلي، ولمواجهة المشروع الصهيوني الذي جاء ليمحق ويزيل ويغيّب
وجود الشعب الفلسطيني، وينفيه من التاريخ ويخرجه من الجغرافيا ويقصيه من عالم السياسة..
وتلك أهم ضرورات نجاح هذا المشروع الإمبريالي، وبدون تحقيقها بالكامل سيظل هذا
الكيان في حالة حرب دائمة، وغير مستقر، ويتعرض لتهديد وجودي.. ببساطة، لأن التناقض
الفلسطيني الإسرائيلي تناقض مركزي/ وجودي/ صفري لا يحل ولا ينتهي إلا إذا حقق أحد
طرفي الصراع نصره الكاسح والنهائي..
وغياب منظمة التحرير يعني
غياب الشخصية الوطنية والكيانية السياسية للشعب الفلسطيني.. وبالتالي تتفتت هويته
الجامعة، فتفقد القضية الفلسطينية بعدها السياسي، وتصبح مجرد قضية لاجئين، وقضايا
اللاجئين تحل بالمخيمات والمؤن وتقديم الإغاثة الإنسانية..
وتغييب منظمة التحرير سيؤدي
إلى تحويل الصراع من كونه سياسي وطني إلى مجرد مطالبات إنسانية لإحراز ظروف معيشية
أفضل.. والحل في مثل هذه الحالة ما يسمى بالسلام الاقتصادي..
وتغييب منظمة التحرير يعني تقويض
الصفة السياسية للشعب الفلسطيني، فيصبحون من الناحية القانونية والواقعية مجرد
سكان وأقليات تعيش ضمن دولة مستقلة ذات سيادة ومعترف بها عالميا (إسرائيل)، والسقف
الأعلى لنضال "السكان" مطالباتهم بتوفير الخدمات البلدية.. أما
الفلسطينيون في الشتات فسيكونون مجرد لاجئين وجاليات معزولة تعيش في الدول التي
لجئوا إليها.. وتصبح أهدافهم شخصية لحياة أفضل، أو مجرد أصوات تنادي بوطن مفقود،
وحلم طوباوي بالعودة.. وبالتالي يتغير شكل الصراع، ويفقد الفلسطينيون الحق بتقرير
المصير، والحق بدولة مستقلة، والحق بالاستقلال والحرية والتخلص من الاحتلال، والحق
بالعودة، لأن هذه الحقوق حقوقٌ سياسية لا تُعطى إلا لشعب (له كيان سياسي وتمثيل شرعي
معترف به)، ولا تعطى لسكان ولاجئين..
وبغياب منظمة التحرير وتفتيت
الهوية الوطنية الفلسطينية يتحول الفلسطينيون إلى عشائر وقبائل، منتهى طموحها،
وغايتها الأسمى والأهم: تحجيب النساء، ومحاربة اتفاقية سيداو، والمشاركة في
الجاهات والعطوات..
تفتيت الهوية الوطنية يعني
دخول الفلسطينيين في صراعات داخلية، وقبلية، ومناطقية، ستؤدي إلى حرب أهلية (ونحن
لسنا استثناء عن بقية الشعوب) وهذا السيناريو مدرج في أروقة الإدارة المدنية، وهو من
ضمن الخطط الكثيرة والمعدة بعناية، والتي تنتظر اللحظة المناسبة، والتي ستنتهي
بإقامة إمارة مستقلة في كل محافظة.. وما سيناريو الانقسام وانفصال قطاع غزة إلا
مقدمة لما هو أعظم.. وهو مثال واضح للعيان ولا يحتاج فلسفة..
إنهاء منظمة التحرير، أو حل
السلطة (التجسيد الواقعي للمنظمة) يعني عدم وجود ممثل للشعب الفلسطيني، وهذه الفرصة
التاريخية التي تريدها إسرائيل لتحقيق الحل الأمثل من وجهة نظرها، وهو ملء الضفة
الغربية بالمستوطنات، وتهويد القدس، ومصادرة الأراضي، وتهجير الفلسطينيين قسريا
وطوعيا، وحصر من تبقى منهم في كانتونات معزولة، وإنهاء الصراع من خلال اتفاق سياسي
إقليمي برعاية دولية (وأمريكية)، وبمشاركة دول المنطقة، دون منح الفلسطينيين أية
حقوق سياسية.
وأكبر واهم ومخادع لنفسه من
يظن أن حل السلطة، أو تغييب منظمة التحرير، يعني إطلاق يد الشعب لتصعيد المقاومة، تلك
مجرد أمنيات ساذجة.. لأن المقاومة دون مشروع سياسي، ودون تمثيل شرعي وقيادة وطنية
معترف بها عالميا، يعني إعطاء الفرصة لإسرائيل لسحق (السكان المشاغبين) وارتكاب
المجازر، وإيجاد الظروف الملائمة لتنفيذ مخططات الترانسفير.. وبالمناسبة، حرب
أوكرانيا توفر ظروف ملائمة لترانسفير جماعي، وما تحتاجه إسرائيل فقط إشعال حرب، مع
إيران مثلا..
الكفاح المسلح بصيغته التقليدية
لم يعد ممكنا.. وتلك بديهية لا ينكرها إلا المغامرون والهواة.. المقاومة الشعبية،
والنضال السياسي والدبلوماسي والقانوني والإعلامي هي البديل، لكنها لا يمكن أن
تتحقق في حال تفتيت الهوية الوطنية، وبدون مشروع وطني جامع ومتفق عليه.. لأن
الغياب السياسي وغياب التمثيل الشرعي يعني توفر الظروف للفوضى الأمنية، واحتدام
الصراعات الداخلية..
جميعنا
يعلم أن منظمة التحرير فقدت رونقها، وتم إضعافها، وتهميشها (لصالح السلطة)، وأنها
تعاني من الترهل والتكلس وأمراض الشيخوخة.. لكن الحل لا يمكن أن يكون بإنهائها، ولا
بخلق بدائل عنها.. فأي بديل سيكون مجرد واجهة لصالح القوى الإقليمية التي تريد استغلال
القضية الفلسطينية لتحسين شروط تفاوضها، كورقة ضغط.. وهذه لا تحتاج لشرح.. الحل
الوحيد بتفعيل المنظمة، وتجديد دمائها، وتنشيط مؤسساتها، وإصلاحها.. أي بإجراء
انتخابات للمجلس الوطني، وانتخاب هيئة تنفيذية جديدة، بمشروع وخط سياسي مقاوم..
وهذه تتطلب أيضا مشاركة حماس والجهاد الإسلامي وكل الفصائل، والمزيد من المستقلين
والطاقات والكفاءات الشابة الموجودة داخل وخارج الوطن.
وأخيرا
أختم بما كتبه الصديق الدكتور فضل عاشور: "بعد قرن من الصراع، يمكننا القول
أن الحركة الصهيونية من خلال إسرائيل حققت انتصارا على الفلسطينيين، وعلى العرب
عموما، لكنه ليس انتصارا حاسما، ولا كاملا، ما يعني أن الفلسطينيين هُزموا عسكريا،
لكنها لم تكن هزيمة حاسمة ولا كاملة، وهذا مهم جدا، لأنه يعني أن الصراع ما زال
قائما ومفتوحا، ومفتاح اللعبة لحسم الصراع ما زال هو نفسه منذ بداية الصراع، يدور
حول الديموغرافيا، والجغرافيا، وعدالة القضية، والرواية التاريخية، وأخلاقياتها..
وإذا
كان هناك شيء مهم وجوهري، فهو حفظ مستوى البرنامج الكفاحي ليتناسب مع القدرات
الفلسطينية، ومع طبيعة الصراع نفسه، وبما يضمن بقاء جذوة القضية مشتعلة. والأهم الآن
ومستقبلا هو الإصرار على حق العودة، والحفاظ على الوجود الفلسطيني فوق أرض فلسطين
التاريخية، وبأعلى كثافة ممكنة، وتعزيز الصمود والحفاظ على البقاء ليس بالمعنى
الجسدي فقط، بل بقيام مجتمع فلسطيني موحد، مزدهر ثقافيا، وقوي اقتصاديا، بتمثيل
شرعي واحد تجسده منظمة التحرير الفلسطينية، وبقيادة سياسية موحدة، ومقبولة شعبيا،
وفي النظام الدولي.. وما تبقى تفاصيل، مهما بدت مهمة".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق