الصديق الصحافي ورسام
الكاريكاتير رمزي الطويل، ينحت مصطلحا سياسيا جديدا في علم الدبلوماسية والعلاقات
العامة، أطلق عليه "الببلوماسية"، وجعل منه عنوانا لكتابه الأخير (صادر
عن الدار الرقمية، 2021)، وهو كتاب موسوعي (400 صفحة)، يمكن اعتباره دليلا إرشاديا
لكل من يعمل، أو يهتم بما له علاقة بعلم التواصل، والعلاقات العامة، والدبلوماسية،
والتفاوض، وتطوير القوة الناعمة..
أشاد الراحل حسن البطل بالكتاب،
وقال إنه يستحق أن يصير مرجعا لدارسي العلوم السياسية والعلاقات الدولية،
والإعلام.. خاصة وأنّ المكتبة العربية تفتقر للأبحاث الجادة في هذا الحقل الحيوي
والمهم، وقد بذل "الطويل" جهدا كبيرا ومميزا لإخراج هذا الكتاب بهذه
الصورة الشاملة والواضحة، وبطريقة علمية رصينة..
والكتاب بقدر أهميته
للعاملين في الحقل السياسي والرسمي والدبلوماسي، إلا أنه أكثر أهمية للمواطن
العادي، ولكل إنسان يريد أن يفهم كيف تُدار العلاقات بين الدول، وبين الأنظمة
والشعوب، وكيف تجري المفاوضات، وكيف يُخلق الرأي العام، والدعاية السياسية
والأيديولوجية، والبروبوغاندا.. وهو مهم لكل ناشط مجتمعي يسعى لتمثيل وطنه،
واستنهاض مكامن قوته الرمزية، وما يُعرف بالقوة الناعمة.. لذلك الكتاب رغم أنه
مادة علمية أكاديمية، إلا أنه صيغ بلغة سهلة ومفهومة، وبأسلوب رشيق وممتع، كما أنه
ثري بالمعلومات والوثائق والتفاصيل الخفية التي طالما أحدثت فرقا جوهريا في مسار
الأحداث..
صاغ مقدمة الكتاب الصحافي
واثق طه، والتي عرض فيها ملخصا مكثفا لأهم محتوياته، موضحا أن الدبلوماسية العامة
لا تقتصر على وسائل وآليات التواصل بين الدول في إطار السفارات والوفود الرسمية، بل
هي إطار أوسع من ذلك، تشمل التواصل الإعلامي، والترويجي، والتبادل الثقافي، وتوظيف
السينما والمسلسلات والرياضة والفنون، والتبادل الطلابي والعمّالي، والتواصل مع
الجاليات، وتأثير المشاهير والشخصيات العامة..
يبدأ الباحث بتفكيك وشرح
المصطلحات والمفردات المستخدمة في كل ما يتصل بالموضوع، مع عرض تاريخي لمسار تشكل
وتطور تلك المصطلحات، وما يقابلها بالعربية، ثم يستعرض أهم النظريات العلمية ذات
الصلة، وكيف تم توظيفها، وتطبيقها على يد الحكومات وجماعات الضغط، وأثرها على
الجماهير..
يتناول الكتاب العديد من
الموضوعات والمفاهيم ذات العلاقة، فبعد أن يقدم شرحا مستفيضا وموثقا عن مفهوم
الدبلوماسية ونظرياتها، وما نشأ عنها من مفردات، مثل الدبلوماسية التقليدية،
والبروبوغاندا، والقوة الناعمة، والقوة الذكية، والفروقات بينها.. يأتي بعد ذلك
إلى شرح مفهومه الخاص للببلوماسية، ووظائفها، والحاجة إليها، وأهدافها، وأدواتها،
والقوى الفاعلة والمؤثرة بها من سفارات، ومؤسسات، ومنظمات أهلية، وإعلام، وجامعات،
وشركات، وأشخاص، وإنتاج سينمائي.. إلخ..
ونظرا لضخامة الكتاب،
وتنوع أبوابه، سيكون من المتعذر الإحاطة به، وتلخيصه في مقالة، لذا، سأقوم
وكالعادة بالتركيز على جانب واحد (الببلوماسية)، لإعطاء فكرة عامة عن مضمون ورسالة
الكتاب، وبالطبع هذا لا يُغني عن قراءته..
يؤكد الطويل أن الدبلوماسية
العامة كممارسة معروفة منذ أقدم الأزمنة، لكنها بقيت ولفترات طويلة جدا مقتصرة على
الجانب العملي والبروتوكولي، وكان يُقصد بها الاتصالات الرسمية بين الحكومات عبر
مندوبيها، فكانت عبارة عن فن إدارة العلاقات الدولية عبر المفاوضات، من قبل
السفراء والمبعوثين، أي أنها اقتصرت على التفاوض والتمثيل، ولم تتحول إلى حقل علمي
أكاديمي إلا مؤخرا. وحتى هجمات 11 سبتمبر 2001، كانت المكتبة العالمية تفتقر إلى
حد ملفت للنظر للكتابات الجادة فيما يتعلق بالدبلوماسية والعلاقات العامة، بيد أن
العالم (وأمريكا بالذات) بدأ يولي هذا العلم اهتماما أوسع بعد ذلك، حتى أخذت تتفرع
عنه مصطلحات وفروع جديدة..
فبعد أن كانت "الدبلوماسية
العامة" مجرد علاقات عامة، ومفاوضات رسمية، وبروبوغاندا، أو حربا نفسية (كما
في بدايات القرن العشرين) غايتها الترويج للنظام الحاكم، وتبرير الحرب، وتمرير سياسات
الدولة على الشعوب، تنفذها الشخصيات الحكومية، وموظفون محترفون، وتتسم في الأغلب
بطابع السرية والتكتم، وبالتالي كانت بمنأى عن المساءلة والنقد، وغالبا ما تؤدي
إلى الحروب.. تطورت، ونشأ عنها ما أسماه الطويل بالببلوماسية، فأصبحت تواصلا بين
الحكومة مع جمهور أجنبي (قد يكون لدولة عدوة)، ولم تعد مقتصرة على النخب الحكومية،
بل صارت متاحة للجمهور، وبالذات للإعلام والمنظمات الأهلية، والشخصيات المؤثرة،
وصارت علنية، ومبررة تحت مسمى المساءلة الديمقراطية، والشفافية الحكومية، وتفتح
المجال للنقد والمحاسبة، وبالتالي ساهمت برفع مستوى التفاهم بين الشعوب، وإيجاد
جسور مشتركة بينها، بما يعزز فرص السلام.
بمعنى أن الببلوماسية نشاط
إنساني غير رسمي، يقوم على تشابك الروابط الإنسانية والاجتماعية والتجارية
والتاريخية والدينية العابرة للحدود
(بالاتجاهين)، والتي تضاعفت قوتها في عصر العولمة والتطور التكنولوجي، ويعدد
الكتاب المساهمون في النشاط الببلوماسي: المواطنون، المهاجرون إلى بلدان أخرى،
واللاجئون، والطلبة المبتعثون، والعمالة الوافدة، والتجار، والشخصيات العامة والمشاهير..
أما على المستوى الرسمي فتساهم فيها الحكومات، والبعثات الدبلوماسية، ومؤسسات
التواصل والدعم الدولي، والإعلام، والمعارض الدعائية الدولية، ومسابقات الرياضة
والفن والأدب وغيرها..
ثم يأتي الكتاب على مفهوم
القوة الناعمة، مبينا درجة التقارب بينها وبين الببلوماسية، فالمصطلحان يعتمدان
على فكرة التأثير على الآخر، باستخدام الجاذبية الحضارية من ثقافة واقتصاد وسياسات
وقوة عسكرية، ويتشاركان في الأصول والأدوات، ولكن يجب التمييز بينهما. فإذا كانت
الببلوماسية تحتاج إلى قرار ودعم وحكومي، فإن القوة الناعمة غير مرتبطة بالحكومات.
وقد ظهر مصطلح القوة
الناعمة أول مرة على يد "جوزيف ناي" عام 1990، في كتابه عن المجتمع
الأمريكي في الثمانينيات، ومستقبل أمريكا كقوة عظمى.. ثم تطور المصطلح فيما بعد،
ليصبح: "قدرة التأثير على الآخرين من خلال جاذبية الفتنة"، أو: "وسيلة
غير مباشرة لممارسة القوة"، أو "بديل عن القوة العسكرية والاقتصادية،
تستخدم فيها الثقافة والقيم، وعناصر الجذب، بدلا من الإكراه"، أو: "قوة
جذب معنوية للدولة، ناتجة عن تفاعلات الإنسان مع الأرض والتاريخ، تعطي تأثيرا
إيجابيا على رأي وسلوك الشعوب الأجنبية تجاهها".
وإذا كانت القوة الناعمة
سلاح المستضعفين والشعوب، فإنها وبالقدر ذاته سلاح الدول العظمى، وربما كانت أميركيا
أكثر دولة تعتمد على القوة الناعمة، وتستخدمها كغزو ثقافي، توظف فيها كافة
عناصرها، من سينما، وأدب، وعلوم، وجامعات، وسياحة، وبرامج موجهة.. إلخ، بهدف تعميم
النموذج الأمريكي عالميا.
ونحن كشعب فلسطيني، بحاجة
ماسة لفهم الببلوماسية، ولدينا الكثير من عناصر القوة الناعمة، لو أحسنا استخدامها
سنغير معادلات الصراع وموازينه، ومن هنا تنبع أهمية هذا الكتاب القيم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق