منذ خمسينيات القرن الماضي
تصدر الاتحاد السوفيتي سباق الفضاء، وتفوق آنذاك على الولايات المتحدة وأوروبا، في
البداية حين أرسل أول مركبة للفضاء الخارجي وعلى متنها "يوري غاغارين"،
وقبيل انهياره بأربع سنوات أطلق محطة الفضاء "مير"، سنة 1986،
والتي كانت حينها أكبر وأحدث محطة فضائية مأهولة، بلغت كتلتها 136 طناً وبطول 33
مترا، تدور على ارتفاع بين 296 كم إلى 421 كم، بمعدل سُرعة 27,700 كم/ساعة، ما
يجعلها تكمل 15 دورة حول الأرض في اليوم الواحد.
وعلى مدار أزيد من 12 سنة قدمت
هذه المحطة خدمات جليلة للعلوم وللبشريَّة، وقد زارها 96 رائد فضاء، من بينهم السوري
محمد فارس، عام 1987 وحينها أمضى أسبوعاً على متنها. ولكن بعد أن عجزت وكالة
الفضاء الروسية عن تحمل تكاليف تشغيلها وصيانتها، قررت إنهاء عملها، فقامت أولا بإبطاء
حركتها، لتدخل بعدها الغلاف الجوي للأرض وتحترق وتتفكك، وتسقط أشلاءها في المحيط
الهادئ سنة 2001، أي قبل ثلاث سنوات من عُمرها الافتراضي.
في أيار 1991، كان رائد
الفضاء السوفيتي "سيرغي كريكاليف" البالغ من العمر 33 عامًا، في قاعدة "بايكونور"
في كازاخستان، لينطلق منها إلى محطة "مير"، وكان من المفترض أن يعود إلى
الأرض بعد خمسة أشهر.. ولكن قبيل انقضاء هذه المدة حدث ما لم يكن بالحسبان، حدثٌ
تاريخي هز الأرض، وغيَّر نظامها الدولي؛ فقد انهار الاتحاد السوفيتي، ولم يعد
له وجود على الخارطة السياسية.. علم "كريكاليف" ذلك من خلال محادثاته مع
هواة الراديو وبعض المتخصصين.
في تلك السنة، والسنين
التي تلتها كانت المنطقة تموج بالأحداث، وتعج بالمتغيرات، وتفجر في كل يوم
مفاجأة.. دول تنهار، ودول أخرى تولد، حروب وصراعات، ومعاهدات، وإعادة تشكيل للنظام
الدولي برمته.. كل هذا يحدث و"كريكاليف" عالق بمفرده في الفضاء، يراقب
عن بعد، مع عجز كامل عن التدخل، بل عجز كامل عن تدبر أمور حياته الشخصية واليومية
وشؤونه الصحية..
الدولة التي أرسلته، وتكفلت
بإعادته إلى الأرض لم تعد موجودة!
كان الاتحاد السوفيتي في
سنته الأخيرة يجر نفسه جرا، حتى لفظ آخر أنفاسه، لدرجة أنه لم يكن قادرا على تمويل
رحلة وفده إلى مؤتمر مدريد، فدفعت أمريكا عنهم نفقات الإقامة! بعد انهيار الاتحاد
السوفيتي ورثته روسيا، والتي ترأسها آنذاك رئيس مدمن على الكحول، اسمه "يلتسين"،
وكانت تلك واحدة من أصعب الفترات التي مرت بها شعوب المنطقة، حيث فُقد الأمن، وتم بيع
مؤسسات الدولة للمافيات وكبار الأثرياء..
مع كل هذه الأنباء
الصادمة، ماذا سيفعل "كريكاليف"؟
استمر اتصاله مع المسؤولين
في المحطة الروسية، والذين أبلغوه حينها أن الدولة ليس لديها ما يكفي من المال
لإعادته إلى الأرض! أي خبر هذا؟ هل ستتركوني وحيدا في الفضاء؟ هذا ما دار في ذهنه،
وربما عشرات الأسئلة الأخرى المخيفة والمرعبة التي ظلت تلح عليه طوال 311 يومًا
أمضاها وحيدا معلقا في الفضاء على بعد مئات الأميال من الأرض، أي ضعف المدة
المقررة لإقامته، محققاً بذلك رقماً قياسياً عالمياً..
ومن المعروف أن الإقامة في
محطة فضائية في ظل ظروف انعدام الوزن وانعدام الجذابية، وغياب العوامل الأرضية
التقليدية أمر بالغ الخطورة، قد يؤدي إلى ضمور العضلات، وخطر التعرض للإشعاع، وخطر
الإصابة بالسرطان، وتراجع جهاز المناعة مع كل يوم، لذلك لا ينبغي لأي رائد فضاء
المكوث في تلك الظروف سوى فترة معينة وقصيرة.
كان "كريكاليف"
يدرك ذلك كله، وكان بإمكانه أن يعود بنفسه إلى الأرض بواسطة كبسولة معدة خصيصا للطوارئ،
موجودة على متن المحطة، والتي تم تصميمها لمثل هذه الحالة. لكنّه رفض؛ لأنّ
استخدامها كان يعني نهاية المحطة، ونهاية الحلم السوفييتي، ولأنَّ ترك المحطة دون
قيادة مباشرة من قبل الإنسان يعني إمكانية سقوطها دون تحكم، وهذه مسؤوليات جسيمة
حملها "كريكاليف" لوحده، وبمنتهى المسؤولية. فضلا عن السيناريوهات
الكارثية المحتملة في حال استخدامه الكبسولة، حتى لو كانت احتمالات بسيطة، تظل مقامرة
بحياته.
بعد اتصالات حثيثة مع كافة
المحطات الفضائية الأرضية، عاد "كريكاليف" أخيرًا إلى الأرض في 25 آذار
1992 بعد أن دفعت ألمانيا 24 مليون دولار، لاستبداله بأحد مهندسيها الفضائيين. ولكي تظل المحطة مدارة بشكل مباشر إلى حين اتخاذ القرار بإنهائها،
وإنزالها إلى الأرض، أي بعد نحو تسع سنوات.
هبطت الكبسولة التي نقلته
إلى الأرض في مدينة أركاليخ، التي لم تعد سوفيتية، بل صارت جزءًا من جمهورية
كازاخستان المستقلة، خرج منها "آخر مواطن سوفييتي"، رجلٌ تظهر على بزته
الفضائية الأحرف الأربعة USSR، ويحمل علماً
أحمراً في زاويته منجل وشاكوش، علم الاتحاد السوفييتي الذي تفتت إلى 15 دولة. كان وجهه
شاحبا كالطحين، ومظهره رثا، وتفوح منه رائحة العرق، غير قادر على الوقوف، كان
يرتجف، وقد بدا مثل كتلة من العجين الرطب.
وفي ذلك اليوم سمع العالم
كله عن هذا الرجل، الذي لُقب بـ "ضحية الفضاء"، و"بطل
الاتحاد"، وفي مقابلة معه قال: "طالما تساءلت عمّا إذا كان لدي القوة والقدرة
على البقاء على قيد الحياة لإكمال المهمة، لم أكن متأكداً".
أثناء وجوده في على متن
"مير"، دار حول الأرض 5000 مرة، وحين عاد إلى مدينته الأم والتي عاش
فيها طفولته، وكانت تسمى لينينغراد، وجد اسمها قد تغير، وصارت "سانت بطرسبرغ".
وعرف أنَّ دولته تقلصت أكثر من 5 ملايين كيلومتر مربع. وأدرك أنَّ قيمة راتبه
الشهري البالغ 600 روبل، والذي كان حينها راتبًا جيدًا، صار الآن يوزاي نصف راتب
سائق باص..
احتفى به الإعلام، واعتبره
الناس بطلًا، لكن بلده الجديد لم يعد كما كان، ولا يتسع لأحلامه، فبعد عامين انطلق
في مهمة فضائية أخرى، هذه المرة كان أول رائد فضاء روسي يسافر على متن مكوك تابع لوكالة
الفضاء الأمريكية "ناسا". وكان أول من يطأ محطة الفضاء الدولية الجديدة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق