ذكرتُ في مقالة سابقة بأن مكونات الخطاب الإسلامي (التفاسير، والسيرة النبوية، وجمع الحديث الشريف، والفقه، وقواعد اللغة والتنقيط..) نشأت وتبلورت في القرن الثاني والثالث الهجري، واستمرت حتى القرن العاشر الهجري، على يد كوكبة من علماء الدين (الطبري، القرطبي، البغوي، الزمخشري، ابن كثير، ابن إسحاق، ابن هشام، البخاري، مسلم، النسائي، أبو داوود، الترمذي، ابن ماجة، الشافعي، ابن حنبل، المالكي، أبو حنيفة، ابن تيمية، الغزالي، النووي..)..
هؤلاء عاشوا وماتوا بعد
وفاة نبي الإسلام بقرون، وعلى أيديهم تشكلت المنظومة الإساسية للدين الإسلامي
(فقها، وتشريعا، وعقيدة، وتأويلا، وتفسيرا).. وفي مقابلهم، ظهر عدد كبير من علماء
الدين والفلاسفة، والمتصوفين، وعلماء الطبيعة، ممن قدموا خطابا مغايرا للخطاب
التقليدي السائد، وعلى كافة المستويات. نذكر منهم على سبيل المثال: واصل بن عطاء،
الحسن البصري، العلاف، النظّام، القاضي عبد الجبار، الخياط، الجاحظ (جميعهم
معتزلة)، وأيضاً: الحلاج، وابن عربي وشيخه ابن برّجان، وجلال الدين الرومي، وشمس
التبريزي، وابن الفارض، وأحمد بن الرفاعي، وأبو القاسم بن قسي، والخولي، والمرجاني،
وأبو الحسن الشاذلي، ومحمد العريان، وعبد الله المرجاني، وعدي بن مسافر (شيخ
الطريقة العدوية)، وأبو حيان التوحيدي، وشهاب الدين السهروردي، ولسان الدين بن
الخطيب (وزير غرناطة)، وعبد القادر الجيلاني (وهؤلاء جميعهم متصوفين)..
وأيضا: ابن المقفع، والمعري،
وابن رشد، وإخوان الصفا (فلاسفة). وأيضا: ابن الهيثم، وابن الراوندي، وابن سينا، والكندي،
وابن حيان، والفارابي، وابن النفيس (علماء طبيعة)..
معظم هؤلاء لم يكونوا موضع
ترحيب من قبل سدنة الفقه، أو ممن يُطلق عليهم حاليا "أهل السنة والجماعة"،
فحاربوهم، وكفّروهم، واتهموهم بالزندقة والإلحاد، ونشر الضلالة، فمنهم من تم سجنه،
أو نُفي من بلده (البسطامي)، ومنهم من أُحرقت كتبه (ابن رشد)، ومن قُذف بيته
بالحجارة (الطبري)، ومن تم نبش قبره (عدي بن مسافر، والجيلاني)، ومنهم من تم قتله
(المتصوف أبو بكر النابلسي نفوه من المغرب مقيداً إلى مصر وشهدوا عليه عند السلطان،
فأُخذ وسُلخ وهو حي، أو قُتل ثم سُلخ، الجعد بن درهم ذبحه الوالي تحت المنبر، ابن
المقفع تم تقطيع يده وشيّها وإجباره على أكلها، الحلاج صُلب، غيلان الدمشقي قُطّعت
أطرافه وترك ينزف حتى مات، أبو العباس بن عطاء تم تهييج العامّة عليه، فقتلوه ضربا
بحذائه).
في طليعة من تصدر حملات
التكفير الغزالى في كتابه تهافت الفلاسفة، حيث كفّر الفلاسفة لأنهم أنصتوا إلى
فلاسفة اليونان. وابن تيمية، وابن الجوزية..
لستُ هنا بموضع تفنيد
أقوال أيٍ من الطرفين، أو إصدار أحكام على أية جهة، فهذا له أهله ومختصوه، إنما قصدتُ
القول أن الخلافات الفقهية والعقائدية والفلسفية بين فقهاء وعلماء المسلمين موجودة
منذ القِدم، وظلت موجودة طوال التاريخ الإسلامي، وكانت خلافات حامية، وأحيانا
دموية، تبادلت فيها الأطراف حملات التكفير واتهامات الزندقة، والانحراف.. صحيح أن
البادئ والفاعل كان في أغلب الأحيان الفقهاء وأصحاب مدرسة النقل، لكن المعتزلة حين
تقربوا من الخليفة نكلوا بخصومهم (تم سجن وجَلد ابن حنبل). وكان جوهر تلك الخلافات
الصراع على احتكار فهم الدين، وتمثيله، فكل فريق زعم أنّ فهمه للدين وتفسيره للقرآن
هو الفهم الصحيح، والوحيد، والذي يجب أن يسود.. ويمكن التعبير عن تلك الصراعات
بكلمات أخرى: صراع بين مدرسة النقل والعقل، أو بين الجمود والتجديد، أو بين الحفظ
والتفكير، أو بين الفقهاء من جهة وعلماء الكلام والفلاسفة وعلماء الطبيعة من جهة
أخرى..
هذا كله دون ذكر الخلافات
السياسية، وخلافات التيارات والفرق والمذاهب، والحروب والصراع على السلطة،
والثورات الشعبية ضد الحكام.. فهذا مبحث آخر..
خلاصة تلك الصراعات انتهت
إلى فرض مفهوم وتفسير الفقهاء وأصحاب مدرسة النقل، ويمكن القول أن الفضل بذلك يعود
إلى الفقيه والوزير نظام الملك (408هـ/1017م ~ 485هـ/1092م)، مؤسس المدارس النظامية في العهد السلجوقي، والتي
انتشرت في حواضر العالم الإسلامي خاصة في إيران ووسط آسيا والعراق، وكانت هذه
المدارس تركز على العلوم النقلية والشرعية، وتخرّج الفقهاء والوعاظ والقضاة، تأسست
بداية لمواجهة المد الشيعي، وما اعتبروه فرق باطنية كالإسماعيلية وغيرها، إلا أنها
فرضت نفسها، فسار عليها الزنكيون والأيوبيون والمماليك والعثمانيون فيما بعد، وما
كليات الشريعة في وقتنا الراهن إلا امتدادا للمدارس النظامية. حدث هذا بالتزامن مع
بداية أفول الحضارة الإسلامية، وبدء مرحلة الانحطاط والجمود.
ما علاقة كل ذلك بعصرنا
الراهن؟
منذ مطلع القرن العشرين،
وحتى وقتنا الحاضر، ظهر عدد كبير من المفكرين الإسلاميين (وبعضهم علمانيون)، بعضهم
دعا لتجديد الخطاب الديني، وتنقية التراث مما علق به من خرافات وتفسيرات مغلوطة، أو
طرح مفهوم جديد للإسلام أكثر حداثة، أو من فسّر القرآن برؤية عصرية، ومن قدم قراءة
نقدية للخطاب الديني السياسي، ومن دعا لتحييد النصوص التي لم تعد مناسبة في العصر
الحالي..
سنذكر منهم مثلا: البداية مع
محمد عبده، والكواكبي، والأفغاني، مرورا بعلي عبد الرازق، وطه حسين، وأحمد لطفي
السيد، وعبد الرحمن بدوي، ومحمد أركون، وحسن حنفي، ومحمد عابد الجابري، وعلي
الوردي.. وأيضاً: محمود محمد طه، وعدنان إبراهيم، ومحمد شحرور، وسيد القمني، وعبد
الوهاب المؤدب، ونصر أبو زيد، وإسلام البحيري، وفرج فودة، وعلي الدشتي، ورشيد إيلان،
وجودت السعيد، وجمال البنا، وصبحي منصور، وأحمد ماهر، وعشرات غيرهم..
ومن داخل الإسلام السياسي لدينا
حسن الترابي، وراشد الغنوشي، اللذان يقدمان قراءة أكثر تطورا وحداثة من التيار
التقليدي الإخواني..
أعلم أنّ هؤلاء ليسوا
سواء، فهم مختلفون في الرؤى والأطروحات والأهداف والأفكار والمنطلقات، لكن ما
يجمعهم أنهم مسلمون (ليس لنا ألا الحكم بالظاهر)، ولم يجاهروا بكفرهم.. يصفون
أنفسهم بالتنويريين، أو الوسطيين، لهم فلسفاتهم واجتهاداتهم الخاصة، ورؤاهم
المختلفة، لكنهم جوبهوا بحملات تكفير من قبل الأزهر، والمؤسسة الدينية التقليدية،
ومن قبل أحزاب الإسلام السياسي، ومنهم من سُجن، أو أعدم، أو تعرض للاغتيال، ومن
نجا من ذلك لُعن على المنابر، وحتى لو توفي بشكل طبيعي، سيتم لعنه ورجمه على منصات
التواصل الاجتماعي..
المشترك بين الماضي
والحاضر، استمرار محاولات المؤسسة الدينية التقليدية (وأحزاب الإسلام السياسي) الاستحواذ
على تمثيل الإسلام، واحتكاره، وتكفير ونبذ وإقصاء كل من يختلف معهم..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق