اليوم الخميس، وكما يحصل في نهاية كل أسبوع تشهد شوارع المدينة أزمات مرورية خانقة، فأغلب الموظفين والعمّال يعودون إلى قراهم ومدنهم في هذه الساعة من النهار.. نزلتُ من "الفورد" قبل محطته الأخيرة بمائة متر، مشيتُ نزولا باتجاه رام الله التحتا، كان الجو حارا، وقد زاد من حنقي اكتظاظ الشوارع بالمشاة، وأصوات الباعة الجائلين، خاصة قرب "الحسبة" وعلى دوار المنارة، وفي أقل من عشرين دقيقة كنت قد وصلتُ شارع السهل. رغم زياراتي المتكررة لمقهى الانشراح في كل مرة ما أن أدخله حتى أحس بنظرات الزبائن تتفحصني، وهم يتساءلون بفضول: من هذا؟ ثم أجلس لاكتشف أنهم في وادٍ آخر، منشغلون في عوالمهم الخاصة.. التهمتُ ساندويشة الفلافل، ثم طلبت ُكوب شاي ساخن وقد بدأت أستسيغه دون سكر، وهذه من ضمن الأشياء الغريبة التي فعلته بي هذه المدينة العجيبة، فمثلا صرت أرى نساء رام الله بكامل زينتهن وفتنتهن دون أن آكلهن بعيني كما كنت أفعل قبل سنتين.. تخيل، يوم أمس شاهدت فتاة عشرينية فائفة الجمال، ترتدي "ميني جوب" وقميص بلا أكمام، وبالكاد رمقتها بنظرة سريعة، ثم مضيت في طريقي، لو شاهدها شبان قريتي سيعملون لها "زفة".
اتصلتُ بصديقي المقرب محمد،
وسألته عما حصل معه بخصوص مقابلة العمل، فأخبرني أنه سيأتي للمقهى بعد ساعة، ليسرد
لي التفاصيل..
المقهى في مثل هذا الوقت
يكاد يخلو من الزبائن، أربعة طاولات مشغولة فقط، الأولى مقابل الشارع تماما، تشغلها
نفس مجموعة "الختيارية"، الذين لا يغيبون يوما، يقضون أغلب النهار في
لعب الورق، وتبادل الشتائم والصراخ.. الثانية في الزاوية اليمنى، يشغلها أربعيني
لا يطفئ سيجارته وهو منهمك بالكتابة على حاسوبه المحمول، ربما يكتب رواية، أو
مقالة، يبدو من هيئته أنه "مثقف".. الطاولة الثالثة يشغلها ثلاثة شبان
أراهم لأول مرة، كانوا شبه صامتين، يحملق كل واحد منهم في هاتفه الذكي.. وقبالة
الباب شاب أسمر نحيل، يرتشف قهوته بصمت، ويبدو عليه القلق، ربما ينتظر صديقاً له،
أو يترقب حدثا ما..
لم يتأخر محمد، دخل كعادته
مقطب الجبين، وقبل أن يجلس أشار للنادل بحركته المعهودة "قهوة سادة"،
وعلى الفور بدأ بشن هجومه على كل مكونات البلد، بدءا من السلطة، مرورا بمنظمات
"الأن جي أوز"، وانتهاء بالجبهة الشعبية..
-
الظاهر أنَّ مقابلتك كانت فاشلة، مثل العشرات اللي قبلها؟
-
أنا مش فاشل، سلطتك هي الفاشلة.. لو كنت ابن مسؤول، أو
ابن فتح على الأقل لكنت موظف محترم من سنوات..
-
يا أخي هذا الكلام غير دقيق، أنا ابن فتح، وأسير محرر،
وجامعي، وما زلت أبحث عن عمل..
-
المقابلة كانت شكلية، ومن المؤكد أنهم اختاروا اللي بدهم
إياه من قبل.. شخص له واسطة ثقيلة.. أو بنت حلوة..
-
دائما ما تلقي اللوم على الواسطة، هل جربت أن تكتب
"C.V" بطريقة صحيحة، حتى يقتنعوا أنك شخص
محترف؟ لا أظن ذلك؛ فأنت خريج إعلام، ولحد الآن لا تميز بين الهاء والتاء
المربوطة!
-
إطلع من راسي، وخلينا نتصل ببقية الشباب، بدنا نلعب
هَند، وهاي المرة سأذيقكم مرارة الهزيمة المنكرة..
-
تمام، ولكن قبل أن يصلوا ويكتمل العدد، خلينا نكمّل جلسة
النميمة..
-
وين وصل الدور؟
-
عند حسن العلي، يا أخي هاظ شخصية غريبة متناقضة، هو من
داخله مؤمن بشدة، ومتدين في أعماقه، ولكنه أكثر واحد فينا ينتقد الدين! لا عارف
يكون سلفي، ولا قادر يصير ملحد!
-
شو الغريب في الموضوع؟ هو كان مع حماس، لأنّ أبوه كان من
الإخوان، ويبدو أنه اكتشف حقيقتهم، أو توصل لقناعات معينة.. وتركهم، هذا شيء
طبيعي، علاقته مع والده سيئة ومريبة، ودائما بتذكر لما كان يضربه وهو صغير، ويجبره
على الذهاب معه إلى صلاة الصبح في الجامع، حتى لو كانت الدنيا ثلج!
-
خلينا نغير الموضوع، بتعرف أن سائد أبو رجب ناوي يروح
يشتغل في إسرائيل، طلبته شركة برمجة كبيرة، مقابل راتب خيالي..
-
شو الفرق بينه وبين مئات آلاف العمّال؟ على الأقل هذه
وظيفة مرتبة ونظيفة؟
-
يمكن هاي الشركة بتقدم خدمات تكنولوجية للجيش؟ هاي مش
خيانة؟
-
يعني لو كان في شغل هون زي الناس، يمكن ما فكر في
الموضوع من الأساس، وعلى أية حال هيك أحسن ما يظل في جيش البطالة.. في الآخر هو
شاب، وعبقري، وعنده طموح..
كنت أستمع لكلام محمد، وفي
داخلي أنوي مصارحته بحقيقته، لكني لم أفعل، خشيتُ أن أخسره، فهو حساس ونزق.. فهو
يقول عن نفسه أنه يساري، وجبهة شعبية، ودائما يتشدق بالشعارات التقدمية، لكنه في
مرات كثيرة كان يبدو أكثر يمينية من حزب التحرير، وفي أعماقه نزعة عنف مخيفة، وغضب
مكبوت، ورغبة في الانتقام أكثر من داعش! لن أصارحه بشيء، لأنه من المؤكد سيثور
عليّ، وسيبدأ بتعداد عيوبي، واتهامي بالقبلية والرجعية، والتملق للسلطة.. خليني
ساكت أحسن..
لمقهى الانشراح أوجه عدة،
يبدلها كل ساعة، تماماً كما تفعل رام الله، وربما نابلس، والخليل.. لا أعرف كثيرا
كيف تعيش القدس نهارها، فأنا منذ عشرين سنة لم أدخلها.. رام الله صباحا، تعج بأزمة
الموظفين، في الضحى يتدفق إليها آلاف القرويين، يأتون لأغراض شتى، منهم من يقصد
محاميا في قضية طلاق، أو لبيع قطعة أرض، ومن يبحث عن طبيب باطنية
"شاطر"، ومن أتى للتسوق، أو لزيارة قريب، فضلا عن عشرات الفلاحات
اللواتي يفترشن الأرصفة لعرض منتجاتهن.. في الظهيرة تبدأ تلك الألوف بالعودة
لقراهم.. في المساء تهدأ المدينة قليلا، وتبدأ جولة الموظفات وطالبات الجامعة على
محلات الملابس والأحذية والاكسسوارات.. ثم يأتي دور الشبان وهم يستعرضون في
سياراتهم الرياضية، والتي تنبعث منها موسيقى أجنبية صاخبة، إضافة لعشرات المتسكعين
المراهقين الذين يتحدثون بصوت مرتفع، وانفعالات مفتعلة.. في المساء بعض الفعاليات
الثقافية.. وفي آخر الليل لا يبقَ سوى بعض الباعة والمشردين والسكارى، وبعض
الشعراء الصعاليك.
أما مقهى الانشراح، في
الصباح الباكر ستجد عادة مخرج سينمائي مخضرم، يجلس وحيدا، يعرض جسده النحيل لشمس
الصباح الدافئة، وأحيانا ينضم إليه زملاء آخرين.. في الضحى يؤم المقهى بعض
الباحثين عن فرصة ما، أو من ينتظرون موعد مقابلة مع شخص مسؤول، أو من ينتظرون
نتيجة الفحص المخبري، وهؤلاء في الأغلب لا يطلبون شيئا، وفي المقابل لا يعترض على
وجودهم أبو شادي صاحب المقهى، على أمل أن يصبحوا من زبائنه بعد أن تنحل مشاكلهم.
وهناك دائما في هذا الوقت بالذات، ستجد كاتبا ما منكبا على حاسوبه، من أولئك الذين
يجدون في مثل هذه الأمكنة جوا مناسبا للخيال والتأمل، فتتفتح قريحتهم، أو يلتقطون
مشهدا ما يؤلفون منه قصة. في الظهيرة يأتي بعض الموظفين في انتظار أن تنهي زوجاتهم
أعمالهن، أو بانتظار موعد مغادرة أبنائهم لمدارسهم.. وهؤلاء ربما الزبائن المفضلين
عند أبو شادي، فهم لا يمكثون طويلا، ويطلبون العصائر أو الشاي الأخضر وفي كثير من
الأحيان ينفحون النادل "بغشيش" معقول..
في المساء يأتي المثقفون،
ومن يحسبون أنفسهم من النخبة، شعراء، كتّاب، مسرحيون، فنانون، سياسيون متقاعدون.. يبدؤون
جلساتهم بنقاشات سياسية حادة، وما أن يتكاثروا حتى يتفرقوا إلى جماعات، ويتسبدلون
حواراتهم الصاخبة بلعب الورق، وفي أجواء لا تقل صخبا، وأحيانا يجرون مسابقات على
طاولة النرد..
أما في الصيف، فيكتظ المقهى
فوق طاقته الاستيعابية، فيمتلئ الرصيف، والرصيف المقابل بزبائن من كل نوع وصنف،
وتظل الأجواء صاخبة إلى ما قبيل الفجر..
من حين لآخر، يأتي زائر
كبير لفلسطين، وأقصد من نخبة المثقفين، الذين يقودهم فضولهم لمشاهدة الأحياء
الفقيرة والمقاهي الشعبية، يأتون بصحبة عدد من كبار المثقفين، الذين لا يردون
المقهى إلا في مناسبة كهذه، سرعان ما تنضم إليهم أربعة أو خمسة طاولات، يلتئمون
معاً، لتتحول الجلسة الموسعة إلى ما يشبه الندوة الثقافية، مثل هذه اللقاءات
النادرة غالبا ما تحصل قبيل الظهيرة، ولا تستمر أكثر من ساعة، يلقي فيها الزائر
موعظته التشجيعية، منتقدا أداء السلطة، وتصرفات الناس الغريبة، ويعبر عن استيائه
من مستوى تخلف البلد، وكيف أنّ الناس يعبرون الشوارع كيفما كان، ومن أي مكان، وأكثر
ما يغيظهم أصوات "زوامير السيارات"، والنفايات الملقاة على الأرصفة..
استغرقتُ من الوقت قرابة
السنة قبل أن انضم إلى مجموعة المثقفين، فقد كنت أراقبهم واستمع لحواراتهم، وأحسبُ
نفسي غير قادر على مجاراتهم، كنتُ أخشى أن يكتشفوا ضحالة ثقافتي، سيما حين أسمعهم
يرددون أسماء أجنبية لكتّاب ومخرجين وروائيين وفلاسفة.. أو يستعرضون أسماء كتب لم
أسمع بها من قبل، وخاصة حين يطرحون أسماء نظريات فلسفية، ومصطلحات كبيرة ومعقدة لا
أعرف معناها.. كان صديقي محمد أجرأ مني في ذلك، فسرعان ما انخرط معهم، وصار يتحدث
بلغتهم ويجيد أسلوبهم.. بل أحيانا يُسمعهم أسماء فلاسفة وشعراء عالميين أظن أنهم
لم يسمعوا بها من قبل، كان هذا يبدو حين يصمتون، أو يومئون بالموافقة.. كان محمد
حينها ينتشي بابتسامة ماكرة.. ومع ذلك بقي بيني وبينهم حاجز فشلت في كسره، ليس
بسبب فارق العمر، بل لأني كنت أميز في أصواتهم نبرة الأستاذية..
في أوقات متباعدة ونادرة
تؤم المقهى بعض النساء، استغربتُ في البداية كيف أنّ لا أحد يعيرهن اهتماما، فحسب
الأعراف السائدة المقهى للرجال، النساء يرتدن عادة ما يُعرف بِ"الكوفي
شوب".. هناك في شارع الطيرة ستجد العشرات من تلك الكافتيريات والمطاعم
الفاخرة، وستجد هناك فتيات يدخنَّ "الأرجيلة".. في الانشراح كل شيء غريب
متوقع، أغلبهن فتيات عشرينيات، أو ناشطات نسويات، دوما معترضات، على الثقافة
الذكورية، وعلى ممارسات السلطة، بعضهن يتباهين بشتم السلطة بصوت مرتفع: "كسم
السلطة"، "سلطة تعاريص".. فيتظاهر الرجال وكأن الأمر عادي، ويروحون
في نوبة ضحك مفتعلة..
قبيل المساء، غادرتُ
المقهى بقلبٍ منقبض، شعرتُ برغبة جامحة للمشي، لوهلة قصيرة أحسست أن كل رواد
المقهى مزيفون، أردت أن أصرخ في وجوههم: أيها الكذبة والفارغون، لكن نسمات لطيفة داعبت
وجهي وسرعان ما بددت غضبي، سأواصل تمرينات التحكم في الذات، "لا تحكم على
أحد"، أخذتُ نفسا عميقا، وواصلت المشي باتجاه البيت.. ما قاله محمد جعلني
أعيد التفكير في بعض المسلّمات التي طالما منحتني الراحة، وها أنا أكشتف أنها راحة
خادعة، صحيح أن محمد مدع، واستعراضي، لكن في كلامه الكثير من الحقائق الموجعة.
أسكن في عمارة قبيحة، تشبه
متوازي مستطيلات أبله، مكونة من ستة طوابق فوق الشارع، وثلاثة تحته، من الواضح
أنها بُنيت على عجل، وبطريقة عشوائية، كان هذا في منتصف التسعينيات، حين بدأت
أفواج العائدين تتدفق على رام الله، الأمر الذي فتح شهية المقاولين، وبطريقة
جشعة.. تقع العمارة في حي جديد للشمال الغربي من بيتونيا، يشبه عمارتنا في فوضاه
وخليطه الغريب من السكان، يقع في الجبل المقابل لحي الطيرة البرجوازي، الذي يقطنه
كبار المسؤولين والأثرياء.. يفصل الحيين سفحين متقابلين منحدرين يستقر في أسفلهما
وادي مشجر، ولكن ما يفصلهما في الحقيقة تفاصيل كثيرة، خلقت في النهاية عالمين
منفصمين، بينهما بون شاسع..
أتشارك الشقة مع شابين
آخرين: أشرف، وهو خريج كلية الهندسة، جامعة بير زيت، يخفي توجهه الحمساوي، لا أعرف
إذا كان ذلك لتحسبات أمنية، أم لأننا كنا نسخر من أفكاره الغيبية، نادرا ما كان يتجرأ
على وصفنا بالكفار، ربما أدبا، أو خوفا، لكنه قالها أكثر من مرة، خاصة حين كان
يشتد الجدال.. الشريك الثاني روحي، موظف درجة خامسة، ساخر، وساخط على كل شيء،
ومدمن على أفلام البورنو.. كان يستضيف أيام الجمعة والسبت ابن عمه ليث، العامل في
إسرائيل، كنا نسعد باستضافته، لأنه في كل مرة يولم لنا غداءً شهيا من أفخر
المطاعم.. بينما في بقية الأيام نكتفي بالمعلبات، وقلايات البيض والبندورة..
لم يتغير شيء في الشقة،
لكني حين دخلتها هذه المرة شممتُ رائحة رطوبة عفنة، رأيتها قذرة، أكواب القهوة
والصحون المتسخة ببقايا طعام الشهر الفائت، والملاعق وأكياس البلاستيك المبعثرة في
كل مكان من المطبخ، المقلاة بدت سوداء تتكدس عليها طبقات من الشحم المتصلب، فكرتُ
بالتخلص من طقم الكنب المتهالك، ولكني عدلت عن الفكرة سريعا، وفكرت بالتخلص من
الشقة نهائيا.. ومن شركائي المتعبين، والمحيرين، الذين لم أعرف كيف أحبهم، ولم
أستطع كرههم.. ولم أفهم كيف تعايشنا معاً، ومع تناقضاتنا الغريبة سنتين كاملتين،
ربما لأننا نتشارك الهواجس والأحلام ذاتها، أو بكلمات أدق نتشارك الحيرة والتخبط..
في تلك الليلة أغلقتُ باب غرفتي،
وفتحت النافذة لتجديد الهواء، ارتميت مستسلما على السرير، تراءى لي أن السقف تحول
إلى شاشة تلفاز، تتقلب عليها الصور والذكريات وأحداث اليوم والأمس، ولا أدري كيف
قادتني الأفكار وهلاوس ما قبل النوم إلى تذكر عائلتي: والدي ضابط في أحد الأجهزة
الأمنية، تنقل ما بين المخابرات، والوقائي، والشرطة.. لم يرضَ عنه ضباطه الأعلى
منه، فظلوا يكيدون له، حتى انتهى به الأمر منسيا.. خالي محسن استشهد في جنوب لبنان
في بداية الثمانينيات، وظلت أمي تذكره، وتصر على إبقاء صورته مع الكلاشنكوف معلقة
في صدر صالة الضيوف.. عمي عبد اللطيف استشهد في بداية الانتفاضة الثانية.. شقيقي
عدي محكوم بأربعة مؤبدات، يقضيها حاليا في سجن بئر السبع..
تذكرتُ جدالنا الساخن قبل
يومين، كان أشرف منحازا للجهاديين في سورية، ووصف النظام بالطاغوت، صبيحة اليوم
قال لي سأسافر قريبا إلى تركيا للسياحة، سأغيب قرابة الشهر، فلا تتصل بي، ولا حتى
بعائلتي! هل يفكر هذا المجنون بالالتحاق بداعش، أو بالنصرة؟ كيف لم أفكر بذلك من
قبل؟ لم أنتبه أن لحيته صارت شبرين! غدا صباحا سأخبر والده ليتصرف معه قبل أن
يفقده، حتى لو غضب مني، لا يهم.. هذا الأحمق، لو ولد قبل عقدين، لكان الآن يفكر
بالذهاب إلى لبنان..
عدتُ إلى مقهى الانشراح،
كانت الساعة بحدود العاشرة صباحا، تناولت قهوتي على مهل، منتظرا صديقتي الحميمة
سهام، ستأتي متبخترة ببنطالها الجينز الضيق، مبرزة مفاتنها، سأعانقها بحرارة،
سنمضي سحابة هذا اليوم في شقة صديقي رضوان، كانت هذه أول مرة أحدد فيها هدفا واضحا،
ولا أخطؤه..كانت شهوتي الشيء الحقيقي الوحيد وسط هذا الضباب.. طال انتظاري لها،
اتصلت بها لأطمئن، وللتأكيد على موعدنا الشهي الذي رتبنا له طويلا.. أخبرتني أنها
الآن في البالوع، وتحديدا على الدوار، قبالة بيت إيل، وأن المواجهات بدأت للتو..
كنت أسمع صوتها مختلطا بأصوات زعيق سيارات الإسعاف، ودوي قنابل الصوت والغاز،
وهتافات المتظاهرين المتداخلة.. قالت لي قبل أن تغلق هاتفها: تعال بسرعة، سيفوتك
مشهد عظيم..
لعنتُ الساعة التي جاء بها
الاحتلال، ستحترق كل أحلامي مع عجلات الكاتوشوك التي أشعلها الشبان، فملأت السماء
بالدخان المختلط مغ قنابل الغاز، كدت أختنق، سمعت صليات الرصاص من كل اتجاه، لم
أعرف هل أهرب، أم أواصل البحث عن سهام! علمتُ أن سيارة إسعاف نقلتها إلى مستشفى
رام الله، فقد استنشقت كميات كبيرة من الغاز، حتى أغمي عليها.. في المساء تمكنتُ
من زيارتها، دخلت غرفتها بعد أن غادر أهلها، كانت ترتدي على كتفيها الكوفية
السمراء، وتلوح لي بشارة النصر، ولما دنوت منها أحست باضطرابي وخجلي، تعانقنا
بحرارة.. ثم بكينا بصمت..
بعد تخرجنا بسنة تقريبا،
اتفقنا أنا، ومحمد، وسعيد، وأشرف، وروحي على العمل في مشروع استثماري صغير،
تداولنا مقترحات عديدة، حتى استقر رأينا على مشروع مزرعة صغيرة تضم بيتا بلاستيكيا،
وبقرة حلوب، وخلايا نحل، لم يكن لأيٍ منا خبرة في هذا المجال، في أقل من سنة كانت
مبيعاتنا لا تغطي أقساط البنك الشهرية، فبعنا كل ما لدينا بخسارة فادحة، وعدنا إلى
الصفر..
كانت أحلامنا كبيرة، تعاهدنا
على الأخوّة الأبدية، وألا يفترق أحدنا عن الآخر، ولكن مع مرور الزمن، وتقلب
الأحداث لم يصن أي منا ذلك العهد، ذاب كطبق "آيس كريم" في ظهيرة قائظة، ولكن
شيئين ظلا يوحدانا: الخوف من المستقبل، وضبابية المشهد الحالي.. وربما أضيف
"الفيسبوك"، فقد كانت منشوراتنا ساحة معارك محتدمة، نتبادل من خلالها
الشتائم والاتهامات، وأحيانا التهاني والتبريكات.. على الأقل كنت أتابع أخبارهم
ومصائرهم..
لطالما توهمت أن الكون بأسره
خُلق من أجلي، وكل ما فيه مسخّر لي، ومن حقي أن آخذه بكل بساطة، كان ذلك أيام
الجامعة، وكنتُ حينذاك مستبشرا بقادم الأيام.. اليوم، أرى كل ما في العالم ضدي، وأنَّ
مؤامرة كبرى تحاك لقهري، كل الشعارات التي كنا نرددها في المظاهرات، وأدبيات
الثورة، وأغاني العاصفة.. بعد أن كانت تشحنني بالطاقة، وتمدني بالقوة، صارت عبئا
عليّ، تعمّق حيرتي.. نشرة أخبار واحدة كافية لهدم ذلك السد المنيع الذي طالما نمت
خلفه مطمئنا.. أبي غارق في همومه، توقفتُ عن البحث عن وظيفة بعد أن هدر أبي آخر
دماء وجهه، ولم يبقَ مسؤول في السلطة ممن كانوا رفاقه في النضال إلا وتحدث معه..
أنجزت ديوانا شعريا، قيل لي أنه مجرد نثر وخواطر، لم أتمكن من طباعته، وتوقفتُ عن
الكتابة، وصرت أدخن بشراهة..
ما بين دوار المنارة وقصر
الحمراء كان مئات المتظاهرين الغاضبين يملئون هذا المقطع من شارع الإرسال، رافعين
يافطات تندد بزيارة وزير الخارجية الأمريكي لرام الله، فيما يصطف قبالتهم تماما
عشرات الجنود المدججين بالهراوات وقنابل الغاز، مشكلين درعا بشريا لمنع المتظاهرين
من اجتياز الحاجز الفاصل بين الجماهير والمقاطعة.. كنا نهتف ضد السلطة، وضد الحل
السلمي، والتنسيق الأمني، ثم تشابكت الهتافات وتداخلت الشعارات على نحو مجنون
وغريب.. وما أوصل مشهد الجنون إلى ذروته أني لمحت أبي في الصف الأمامي من الجنود،
يحمل درعا من البلاستيك المقوى.. فيما كنت أنا وسهام ملثمين، ما جعلني أطمئن بأنه
لن يميزنا، ولكن هل سيكون نصيبنا من الضرب على يديه؟ كان سؤالا مرعبا..
حين بدأت الاشتباكات
بالأيدي والهراوات والشتائم كانت عينيّ متركزة على أبي.. شاهدته وهو ينسحب بهدوء..
فأمسكتُ يدَ سهام، وغادرنا المكان على الفور..
عند أول شارع نابلس من
الجهة الشمالية، رحتُ أذرع الساحة الفسيحة التابعة ل"كازية الهدى" جيئة
وذهابا، أنتظر قدوم سعيد، ولما تأخر تناولت كوب "أمريكانو" من كافتيريا
ملحقة بالكازية .. وما أن وصل حتى ألقى عليّ خبرا جعلني أخرّ صريعا: روحي استشهد..
قالها ثم صمت، كمن يفجر قنبلة، وتركني في صدمتي، لم أسأله، كيف؟ ومتى؟ فقد كنت
أعرف أنه في الآونة الأخيرة قد تغير، صار سريع الغضب، متكتم، وذات ليلة سمعت بكاءه
الصامت، كنت متيقنا أنه على وشك القيام بفعل مجنون، فقد كان يجري اتصالات مع شخص
لا أعرفه، وكان يختفي لأيام.. استغربَ سعيد من صمتي، فبادر للقول: محاولة طعن جندي
إسرائيلي على حاجز الجلمة..
-
الله يرحمه، لا شك أنه بطل..
سكت سعيد لبرهة، وكنت أرى
في تعابير وجهه أن في فمه كلام كثير، لكن الظرف لا يسمح، ومع ذلك لم يستطع الصبر، فقال:
يوم أمس ملأت استمارة هجرة إلى كندا.. يا صديقي هذه البلد لم تعد...
قاطعته على الفور: لا داعي
أن تعيد علي أسطوانة تبريراتك للهجرة.. الله يسهّل عليك..
أجابني بعصبية: ترفض العمل
في إسرائيل، ولا بدك تهاجر، تؤمن بالحل السلمي وبتعرف إنه بعيد ومستحيل، بل مجرد
وهم، تدافع عن السلطة، وأنت عارف إنها فاسدة، متمسك بفتح، وفي داخلك تعرف أنها لم
تعد حركة فدائية، وبتراهن على مستقبل غامض، ومش مبين شكله، تنظّر للمقاومة
الشعبية، وطول نهارك في الانشراح، وتركت حبيبتك سهام في عز المواجهات.. يا صديقي
أنت كتلة تناقضات..
ارتبكت من هجمة سعيد
المباغتة، لم أعرف هل أستوعب كلماته القاسية، وأنا أعرف أنَّ فيما يقوله جانب كبير
من الحقيقة، أم أرد عليه الهجوم.. قررت أن أرد، وأن أصارحه بحقيقته، فهو يشتم
منظمات "الأن جي أوز" ويتهمها بالعمالة، وقد حاول مرارا العمل فيها،
ويمنّي نفسه بدولاراتها السخية.. كما أنه انتخب عمه في انتخابات البلدية بدلا من
انتخاب قائمة الحزب، بحجة أنه "كبير العيلة".. يا صديقي أنت لا تقل عني
تيها وحيرة..
مضت سنوات على تخرجي، وما
زلت أشغل نفسي بأعمال تافهة، لا تروق لي، وبالكاد تغطّي مصروف سجائري، انطفأت جذوة
الثورة التي أشعلها كتاب "فلسطيني بلا هوية"، كان هذا الكتاب الوحيد
الذي قرأته طيلة حياتي، صار انتمائي لفتح باهتا، ولا معنى له، بل صار وجودي في
الحياة نفسها أقل من عادي، وبالكاد أرى نفسي..
في تلك الليلة الكئيبة،
اتصلت بي سهام، بعد انقطاع دام شهرين، وقالت بصوت متحشرج: سأتزوج.. أهلي أنهوا كل
الترتيبات.. لم تسعفني أي كلمات في الرد، فقطعت صمتي قائلة بصوت مخنوق: ومع أنك
حيوان، سأظل أحبك..
في تلك الساعة المبكرة من
صبيحة الخميس، لم يكن في المقهى سواي، أحضرَ لي أبو شادي فنجان القهوة، تناولته
بهدوء، ثم قلت له بصوت مرتبك: أبو شادي، هل تشغّلني في المقهى؟ سأكتفي بالحد
الأدنى للأجور..
ابتسم لي بحنو، ثم رمقني
بنظرة إشفاق.. ولم يقل شيئا.. غادرتُ المقهى دون أن أنبس بحرف، كانت تلك آخر مرة
ارتاد مقهى الانشراح، حتى أنني نسيت أن أدفع الحساب..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق