من المفارقات الغريبة في
الساحة الفلسطينية، ما نشهده منذ سنوات من تحالف غير معلن بين العشائرية والقوى
الحزبية، ووجه الغرابة أن الحزبية بحد ذاتها، نوع من النشاط السياسي الاجتماعي
المتقدم، الذي ظهر في مرحلة ما بعد الحداثة، أي بعد أفول الإقطاع، باعتبار الحزب
مكون سياسي وتنظيم غير إرثي، والانتماء إليه يكون طوعيا، وعن وعي وإرادة حرة، على
عكس الانتماء للقبيلة، وبهذا المفهوم فإن العمل الحزبي مرحلة متطورة، تأتي على
نقيض العشائرية، ومفككة لها..
فالأحزاب اليسارية مثلا، تحمل
فكرا تقدميا تنويريا سيما في المجالين الاجتماعي والفكري، بآفاق أممية عابرة
للقوميات. والأحزاب الوطنية تحمل فكرا تحرريا، وبرنامجا سياسيا يقوم على وحدة
الشعب، متجاوزا القبيلة وكافة التشكيلات الإرثية لصالح الهوية الوطنية الجامعة. أما
الأحزاب الإسلامية فرسالتها عالمية، فوق القبيلة وحتى فوق الوطن، وهي في الأساس
يُفترض أنها تنبذ القبلية باعتبارها من إرث الجاهلية.
ومع كل ما سبق، لم يخلُ
العمل الحزبي والنقابي الفلسطيني من أثر العشائرية، لكن هذا الأثر كان إما
إيجابيا، حين شكلت العشيرة حاضنة للعمل الثوري، أو هامشيا، أو متواريا.. اليوم، تغولت
العشيرة على المجتمع، وعلى السلطة، وعلى الأحزاب، وصارت العشائر أهم وأقوى جهة
مقررة في المجتمع الفلسطيني.
هذا التداخل والاختراق
المتبادل بين العشائرية والأحزاب السياسية جعل التمييز بينها صعبا، وأحيانا متعذرا،
وربما أبرز مثال على ذلك تحالف العشائر مع حزب التحرير في مدينة الخليل، مع
التأكيد على أن مثل هذا التجاذب والتقارب (بين العشيرة والحزب) مارسته أيضاً حركتا
"فتح" و"حماس" بل وحتى بعض الأحزاب اليسارية، خاصة في مواسم الانتخابات
وفي سياق الصراعات الداخلية. الأمر الذي دعم العشائرية وقوّى نفوذها على حساب الفكرة
الوطنية الجامعة، ما أدى إلى إضعاف المشروع الوطني الفلسطيني الذي يعاني أصلاً
ضعفاً وترهلاً، فضلا عن إعاقته وكبحه عمليات التحديث والتطور المجتمعي والحضاري.
وبتتبع ورصد أمثلة على تلك
التحالفات، سنجد أمرين، الأول: الأثر السلبي للفكر العشائري على المجتمع. والثاني:
التناقض المفضوح لتلك القوى الحزبية مع ما تدعيه من برامج ومبادئ (يسارية، ووطنية،
وإسلامية)..
في الأمر الأول نجد ترسيخ
القضاء العشائري (وتأييده دينيا، أو السكوت عنه)، مع أنه قضاء متخلف وغير عادل، فهو
لا يعتمد على قوانين مكتوبة وموثقة، ويخضع للأمزجة، ويتأثر ببلاغة الخطابة وقوة
عشيرة المتخاصمين، ويلجأ للعقوبات الجماعية.
في الأمر الثاني شهدنا في
السنوات الأخيرة مظاهر عديدة لتحالف العشائر مع الأحزاب، جاءت على شكل حراكات
جماهيرية بعضها كان كبيرا، وبعضها محدودا.. تبين من خلالها مَن يحكمُ البلد فعليا.
فقد استطاعت العشائر إسقاط
قانون الضمان الاجتماعي، لأنه يتعارض مع مصالح بعض رموز العشائر الذين هم أصلاً من
طبقة التجار والرأسماليين. وكانت تلك المرة الأولى في التاريخ التي يخرج فيها العمّال
والموظفون في مظاهرات حاشدة ضد مصالحهم، ولصالح أسيادهم الرأسماليين.. وهكذا ربح
القطاع الخاص، وخسر العمّال، فقد تم تضليلهم بخطاب شعبوي ديماغوجي.
وفي سياق متصل، ما زالت
العشائر تصر على إسقاط "قانون حماية الأسرة"، وقد وجهت بعض العشائر
تحذيرا شديد اللهجة إلى السلطة الوطنية تطالبها بالتراجع عنه، كما حذرت قضاة
المحاكم الشرعية من مغبة إتباع هذا القانون، كما دعت إلى حل كافة المؤسسات
النسوية، مهددةً أصحاب العقارات الذين يؤجرونها، واعتبارهم شركاء في الجريمة.
وحذّر البيان أيضاً وسائل الإعلام من تغطية أنشطة هذه المنظمات!
الحجة أن القانون يتعارض
مع الدين وأخلاقيات المجتمع ويؤدي إلى تفكك الأسرة! غير أن السبب الحقيقي هو خشيتهم
من فقدان سيطرة السلطة الذكورية على النساء، وخشيتهم من تغيير موازين القوى في
مجتمع أبوي ذكوري ربما يكسر الأنماط الاجتماعية والتراتبيات السائدة في المجتمع،
ذلك لأن القانون يدعو إلى المساواة بين الجنسين، وتمكين المرأة وتحسين مكانتها
داخل المجتمع، وهذا من وجهة نظرهم سيحول المرأة إلى طرف مستقل، وسيعلي من صوتها وقوة
حضورها ومشاركتها في القضايا السياسية والاجتماعية. فالموضوع لم يقتصر على إسقاط
القانون، بل صار إسقاط كافة المنظمات النسوية.
الغريب أن بيان "فتح"
في الخليل في هذا الموضوع جاء مشابها إلى حد كبير مع بيان العشائر!
وفي حراك "وقف تميم
الداري"، كان الهدف المعلن منع تجديد عقد إيجار الكنيسة الروسية. وفي
الحقيقة هي ورقة ضغط ضد السلطة، وقد خبا هذا الحراك (أو كاد) بعد صفقة تقضي بمنح
جامعة البولوتكنيك امتياز تأسيس كلية الطب، باعتبار أن الجامعة مركز ثقل لكل من
حزب التحرير وعشيرة التميمي.. ومن اللافت أن عقد تأجير الكنيسة أُبرم سنة 1871 في
عهد السطان العثماني عبد الحميد، وهو من يعتبره حزب التحرير خليفة المسلمين!
ربما كان حزب التحرير أبرز
حزب يشتغل على القبلية، ومعروف عنه أنه يعادي السلطة الوطنية مبدئيا، ويصفها
بالخائنة، ويقف ضد كل مظاهر الحداثة ويعتبرها رذيلة وفسوق (حتى لو كانت سباق
ماراثون للطلبة).. ولا يعتبر القضية الوطنية والتحرر من الاحتلال من اهتماماته..
لذا يخوض الحزب بكل قوته في هذه الحراكات لأنها المعركة الوحيدة التي يستطيع من
خلالها إبراز صوته والعمل مع الجماهير، لتحقيق هدفه المعلن (إحياء الخلافة)،
وتركيزه الأساس منصبا على معاداة السلطة، وإعاقة أي تقدم مجتمعي مخالف لمفاهيمه
الخاصة. وهذا الحزب الذي يعتبر نفسه أمميا، وعابرا للقوميات، ولا يعترف بوحدة
الشعب، ولا بالوطن، ويرى نفسه أكبر من كل ذلك، تراه من أجل تحقيق أهدافه قصيرة
المدى صار أصغر من القبيلة. والسؤال لماذا أغلب الحراكات الاجتماعية خرجت من
الخليل (وهي مركز ثقل الحزب)؟ هل في ذلك تمهيد ذهني لنوع من الانفصال؟ هل حقاً لكل
محافظة خصوصية ثقافية مختلفة؟! ألم نعد شعبا واحدا؟!
بحسب عشرات الشواهد من
التاريخ فإن العشائر جاهزة للتعاون مع الطرف الأقوى بصرف النظر عن هويته، وقد أصبح
الوضع مواتياً لها لتوسيع نفوذها داخل المجتمع، وهي تملك في يديها أوراق قوة
عديدة. وإذا لم يتم إحياء المشروع الوطني، وتفعيل قوى المجتمع المدني، والأحزاب
السياسية، فقد يتحقق المخطط الإسرائيلي الذي تحدث عنه "مردخاي كيدار"، وهو
تأسيس إمارة عشائرية في كل محافظة، تكون بديلا عن المنظمة، وبديلا عن السلطة، أي
بديلا عن وحدة الشعب الفلسطيني. وهذا بالضبط مقتل القضية الفلسطينية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق