بداية، لا أحد يجادل في حق
كل إنسان في اختيار مهنته، أو تغييرها، أو ممارسة أي هواية يحبها، أو التوقف عنها..
تلك أبسط حقوق الإنسان.. وهذا يحدث كل يوم، وبشكل طبيعي، ولا يثير اهتمام أحد. ففي
كافة مجالات الحياة ستجد أناسا ملتصقين بمهنهم وهواياتهم حتى الممات، وآخرين اختاروا
وقتا معينا للتوقف والاعتزال..
فمثلا يختار لاعب كرة قدم
وقتا للاعتزال، قد يكون وهو في ذروة عطائه، حتى يظل بطلا في ذاكرة محبيه، وقد
يؤجله حتى الرمق الأخير من شبابه.. وقد يتقاعد الإعلامي، أو المدير التنفيذي، أو
الأديب، أو القاضي، أو السياسي.. لكن لا أحد من هؤلاء يقول أنه كان مذنبا في اختيار
مهنته؛ فالمهندس لا يقول اعتزلت الهندسة لأن المهندسين يغشون، والمحامي لا يقول اعتزلت
المحاماة لأنها مهنة فاسدة تدافع عن الأشرار والمجرمين، ولا الملاكم يقول اعتزلت الملاكمة
لأنها رياضة عنيفة.. لا أحد منهم يقرن اعتزاله بالتوبة.
حتى في مجال الفنون قد يعتزل
النحات، أو الرسام، أو الملحن، أو المخرج، أو المصمم، أو المصور.. لكنهم يعتزلون
بصمت وهدوء.. فالاعتزال ظاهرة طبيعية لا تثير ضجة ولا صخبا إعلاميا إلا في مجالي الغناء
والتمثيل.. والسبب أنها مهن ذات طابع شعبي، وجمهورها كبير، ومن كافة الشرائح
والطبقات الاجتماعية، وصاحبها يظل في مركز الضوء، وحديث الإعلام، ويكتسب شهرة واسعة..
والسبب الثاني (وهو مرتبط بالسبب الأول): تركيز رجال الدين عليها، وإصدار فتاوى
بتحريمها..
في سنوات الحرب الباردة
بين مصر والسعودية، كانت مصر تقدم الأدب، والفن، والفكر، والسينما، والمسرح، والغناء..
وتمثل نموذجا ومركزا للثقافة المدنية العصرية والمنفتحة.. بينما كانت السعودية لا
تقدم سوى الدعاة ورجال الدين، وظلت مساهماتها في مجالات الفنون والآداب محدودة، وذات
طابع محافظ، ومقتصرة على الرجال.
هذا الوضع أعطى مصر
الأفضلية في سياق صراع البلدين السياسي والأيديولوجي، وعلى قيادة المنطقة، والتأثير
فيها.. لذا سعت المؤسسة الدينية السعودية لكسب السباق، باستخدام آليات عدة، منها
مثلا استقبال الملاحَقين من الإخوان المسلمين، وتمكينهم، وإعادة تصديرهم بعد شحنهم
بالفكر الوهابي. وأيضا اختراق النموذج المصري، والعمل على تفريغه من مضامينه
الفنية والإنسانية، وتشويهه.. فكان الدعاة وخطباء الجمعة لا يتوقفون عن ذم الفنانين
والأدباء، ووصمهم بالفسق والفجور.. إلى جانب محاولات استقطاب الفنانين (والتركيز
على الفنانات)، والاستقطاب المقصود هو حثهم على اعتزال الفن، وإعلان التوبة، وتقديم
إغراءات مادية سخية لكل من يقبل بذلك..
لذا شهدنا في العقود
الثلاثة الأخيرة (وهي فترة تراجع دور مصر السياسي والثقافي) موجة من ظاهرة اعتزال
الفنانات.. اليوم، يمكن القول أن هذه الظاهرة توقفت أو كادت، وصارت نادرة جدا،
بسبب تحول السعودية إلى العهد الجديد، والانفتاح، وتوقفها عن ممارسة تصدير الفكر
الوهابي.. وبالتالي اختفى الممولون.
مرة ثانية، نعود للتأكيد
على حق أي فنان بالاعتزال وتغيير نمط حياته بحرية، وتبني ما يؤمن به من أفكار
ومعتقدات.. لكن المشكلة في التركيز والمبالغة على الجانب الشكلاني والظاهري
للتدين، أي إطلاق اللحية أو ارتداء الحجاب، وكأنهما العلامة الفارقة للدخول في
الدين! علما بأن الدين أوسع وأشمل من ذلك بكثير. والمشكلة الثانية التي واكبت
ظاهرة اعتزال الفن، هو تحول الفنان/ة إلى داعية.. هكذا، بين ليلة وضحاها يغدو داعية،
وفقيها، وعالما بالدين، ومفتيا، وواعظا..وتفتح الإذاعات والفضائيات أبوابها لهم،
ليصبحوا إعلاميين، يقدمون البرامج الدينية..
هؤلاء تعودوا على الأضواء
والشهرة، ولا يريدون أن يصيروا نسيا منسيا، كما أنهم بحاجة إلى مصدر رزق جديد،
فوجدوا ضالتهم في البرامج الدينية والإفتاء وإثارة الجدل.. ليظلوا في مركز
الاهتمام، أو لاكتساب المزيد من الشهرة.
يقول بعضهم أن ما كان
يمارسه من غناء وتمثيل حرام، ويغضب الله.. علماً أن الغناء والموسيقى والفنون ازدهرت
في الفترة الذهبية للحضارة الإسلامية، أي عندما انتقل مركز الخلافة إلى الحواضر
المدنية (الشام ومصر والعراق والأندلس)، فبرز الفنانون والموسيقيون والشعراء وكانوا
مقربين من مجلس الخليفة. أما فتاوى التحريم فقد ظهرت في زمن المد الوهابي الصحراوي.
والغريب أن هؤلاء مستعدون
للعيش بالأموال التي جنوها من فنّهم! فلم نسمع عن فنان معتزل تبرع بأمواله للفقراء
والأعمال الخيرية.. (ربما حدثت حالات محدودة ونادرة).
طبعا، من حق الفنان
المعتزل أن يعبر عن آرائه "الجديدة"، ولكن، إلى أي مدى ممكن أن نأخذ
آرائه على محمل الجد؟ خاصة إذا عرفنا أن أغلبية الفنانين لم يحصلوا على درجات
علمية متقدمة (في شتى المجالات)، وربما اقتصر تعليمهم الجامعي (إن وجد) على دراسة
تخصصهم الفني، أو كانوا أناسا عاديين بثقافة شعبية بسيطة ومحدودة، لكنهم موهوبين
فنيا. وفي الواقع قلة قليلة جدا منهم من يمكن وصفه بالمثقف الحقيقي، أو من لديه
وجهة نظر فلسفية ووجودية ومعرفية يُعتد بها.. هذا لا يقلل من شأنهم، فيكفي أن يكون
الفنان محبوبا ومتميزا ومبدعا في فنه..
المشكلة فينا، نحن
الجمهور، نريد من الفنان، أو الرياضي، أو من أي شخصية مشهورة أن يكون نسخة منا،
يشبهنا في كل شيء، في تفكيرنا، وسلوكنا، ويحمل نفس وجهة نظرنا.. فإذا أظهر أي
اختلاف، أو تبنى رأياً مختلفا.. نجلده، ونشن عليه حربا ضروسا.. وغالبا ما نريده
متدينا وواعظا.. فنفرح باعتزاله، ونسمي ما قام به "توبة"، حتى يؤكد على
قناعاتنا "الدينية" التقليدية، ويثبت لنا أنها صحيحة، ويرجّح كفتنا ضد
من نعتبرهم ضالين ومضلين..
فمثلا، قبل فترة، فرح
الكثيرون بتصريحات الرياضي الشهير "أبو تريكة" التي ندد بها بالمثلية
الجنسية.. بينما غضبوا من تصريحات اللاعب الأشهر "محمد صلاح"، حين قال "لا
أشرب الخمور لأني لا أحبها، ولا تستهويني.."، ولم يقل لأنها محرمة.. فهم يريدونه
واعظا سلفيا.. وليس مجرد إنسان ناجح، وربما أزعجهم أن يقدم نموذجا مختلفا للمتدين،
فهو لا يفتي، ولا يعتبر نفسه واعظا، ويمثل نموذج التدين الشعبي البسيط والمنفتح، يساعد
الشباب والفقراء ويتبرع للمشاريع الخيرية دون ضجة ولا دعاية، وفوق هذا حقق نجومية
عالمية.
لا أقدم هنا عظةً، ولا
إفتاء.. لكني أؤمن بأن الموسيقى أرقى حِــس إنساني، وهي اللغة المشتركة التي يفهمها
كل شعوب الأرض.. والصوت العذب أجمل هبة من الخالق.. منحها للبعض ليتمتع بها
الجميع..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق