مع عودتي للوطن، مع
الأفواج الأولى للعائدين كان يفترض بي أن التحق بأحد الأجهزة الأمنية.. لكني فضلت
الانتظار سنة وأكثر لألتحق بوزارة مدنية.. ليس تشكيكا بالأجهزة الأمنية، ولا
اتهاما لها، بل لعلمي أن وظيفتها وطبيعة مهامها قد تقتضي العنف، ولأني أرفض مساءلة
أي فلسطيني مهما كانت شدة معارضته، ومهما كان توجهه السياسي أو الفكري.. مع يقيني
بأن معظم منتسبي الأجهزة الأمنية وطنيون ومخلصون، ومنهم الأسير والشهيد، والحريص
على خدمة شعبه.. وطالما تفاخرنا بروحهم الثورية التي ظهرت مرارا وتكرارا، من هبة
النفق 1996،
مرورا بانتفاضة الأقصى وانتهاء بالمواجهة الشجاعة للأمن الوطني في جنين قبل أيام
معدودات، والتي أسفرت عن ارتقاء ثلاثة شهداء، ومقتل ضابط إسرائيلي.
ولكن، منذ إصلاحات
"دايتون" والتي تضمنت إحالة كافة كوادر الأمن من المحاربين القدامى
للتقاعد، واستبدالهم بعناصر شابة، وتدريبهم على عقيدة عسكرية مختلفة.. بدأت الأمور
تختلف (وبالمناسبة بدأ دايتون في 2005،
وطرح خطته بعد سنة، على حكومة اسماعيل هنية الذي كان حينها رئيسا للوزراء، وأعطى
موافقته عليها، وهذه معلومة صادمة للبعض)..
بعد الانقسام، بدأت
السلطتان (في الضفة والقطاع) تتحولان إلى نظم بوليسية، وصارت السلطة من وجهة
نظرهما امتيازات ومكاسب، تتغذى على الانقسام.. وبدأت الأجهزة الأمنية تتغول على
القانون، وعلى الشعب.. وصارت تمارس القمع بكل وحشية، ولم تعد الطبقتان السياسيتان
تطيقان أي رأي مخالف..
في الضفة الغربية كانت آخر
جريمة نفذتها الأجهزة الأمنية اغتيال نزار بنات، وسبقها مقتل ووفاة عدد من
الموقوفين، أولهم يوسف البابا في سجن نابلس، بالإضافة إلى الشيخ مجد البرغوثي (42 عاما)،
(تقول السلطة أنه توفي وفاة طبيعية)، وفادي حمادنة (28
عاما) الذي عُثر عليه مشنوقا داخل زنزانته في سجن جنيد، وأحمد حلاوة (50
عاما) الذي قتل في نفس السجن، ومحمد الحاج، وجميل شقورة، وهيثم عمرو وغيرهم، بالإضافة
لتعرض العديد منهم لتعذيب قاسي ومهين، واستدعاء أي ناشط على خلفية رأيه السياسي،
عدا عن القمع الوحشي والمعيب لعدة تظاهرات جماهيرية جرت في مدن الضفة..
في غزة، كانت آخر جريمة
نفذتها الأجهزة الأمنية قتل عصام السعافين (39
عاما) أثناء اعتقاله، ونتيجة تعرضه لتعذيب شديد.. وسبقه مقتل وليد أبو ضلفة (45
عاماً)، وعادل صالح رزق (52
عاما) داخل أحد مراكز التوقيف في غزة، كما توفي المعتقل عاطف درباس في سجن أنصار
المركزي بغزة، وأيضا أشرف عيد، وجميل عساف، وبلال ناصر، وحجازي العمر.. بالإضافة
لاعتقال نحو تسعين ناشطا وتعذيب معظمهم، منهم تامر السلطان، سامر النمس، أمين
عابد، محمد أبو صافي الذي فقد بصره من جراء الضرب المبرح.. وفي مجال قمع المظاهرات
والاحتجاجات قتلت شرطة حماس 65
مواطنا في الفترة ما بين (2007~2017)..
بالإضافة لقمعها الشديد لحراك "بدنا نعيش" الشبابي.
في مقال قادم، سأتناول
بالتفصيل انتهاكات حقوق الإنسان في الضفة وغزة، بالأسماء والتواريخ، استنادا إلى
تقارير المنظمات الحقوقية المستقلة.
سنظل نرفض مبدأ الاستدعاء على
خلفية سياسية، ونرفض الاعتقال السياسي مهما كانت مبرراته، وندين بشدة عمليات
التعذيب والإذلال في كل زمان ومكان، في غزة والضفة. كما نرفض استغلال دماء هؤلاء
الضحايا لأغراض المناكفات الحزبية وتصفية الحسابات، والكيل بمكيالين، وإشاعة أجواء
الكراهية لتعميق الانقسام.. مع التأكيد على أن ارتكاب جريمة في مكان لا يبرر
ارتكاب جريمة مشابهة في مكان آخر..
ورغم الجانب المأساوي ولمفجع لمقتل
نزار بنات، إلا أنها من جهة أخرى تشكل فرصة ثمينة لنجعل منها الجريمة الأخيرة، ولوقف
تسلط الأجهزة الأمنية على الناس في غزة والضفة. وفرصة لاحترام وتطبيق القانون.. ولنتفق
على مبادئ وطنية وإنسانية تحترم حياة الإنسان الفلسطيني، وتصون كرامته، ولوقف
الاعتقالات السياسية، وإغلاق الزنازين، ومنع المداهمات الليلية بكافة أشكالها، لنصوب
أنظارنا صوب الاحتلال، ولنركز جهودنا في مقاومته، بدلا من هذا الاستنزاف الداخلي
الغبي.. لدينا معارك أهم في الشيخ جراح وسلوان وبيتا، وبيت دجن وكفر قدوم، وفي كل
الوطن.. ولسنا بحاجة لخوض معارك داخلية الكل فيها خاسر.
ليس هذا الوطن الذي حلمنا
به، وليست هذه الدولة التي نناضل لقيامها، وليس هذا النظام السياسي الذي نقبل
العيش في ظله.. كل من انتمى للثورة (من كافة الفصائل)، ومن قاتل بالكلاشن، أو
بالحجر والمقلاع، ومن سفحوا حيواتهم على مذابح السجون، وأهاليهم الذين تقاسموا
معهم العذاب، ومن ارتقى شهيدا، ومن ودعه من أهله ومحبيه، والتلاميذ الذين حفظوا
القصائد والأناشيد الوطنية، ورسموا خارطة البلاد على دفاترهم وفي مخيلاتهم، ومن
تشرد في المخيمات، ومن عاش الغربة في المنافي، وذاق الذل في المطارات على أمل
العودة.. كل أولئك تخيلوا فلسطين بأبهى صورها، حتى الواقعيين والمتشائمين منهم لم
تأتِ في أسوأ كوابيسهم صورة مشابهة لما نراه الآن..
الوطن الذي نريده، والدولة
التي ننشدها تتطلب منا جميعا التدرب طويلا على تفهم فكرة الحرية بمعناها الحقيقي،
أي أن تقبلها لغيرك كما تقبلها لنفسك، وأن نعي تماما فكرة المواطَنة، والحقوق
المدنية، وحقوق الإنسان، وقيم الديمقراطية، والتداول السلمي للسلطة، وسيادة
القانون، ونبذ العشائرية والطائفية والمناطقية، وأن نتدرب على قبول الآخر مهما
اختلفنا معه، وأن نقاتل من أجل حقه في التعبير، كما نريده لأنفسنا، وأن نؤمن حقا
بالتعددية السياسية والفكرية، وأن نتشرب القيم المدنية العصرية، وأن نتخلص من
الكراهية والتعصب، والرغبات الدفينة للانتقام.. وأن نرفض الظلم كليا، فلا ندينه في
منطقة، ونقبله في منطقة أخرى! وأن نعرف كيف نثمن قيمة الحياة، وكيف نحترم المرأة،
والأطفال، والبيئة.. وتلك شروط النصر وعدة المعركة، بل هي شروط الإنسانية.. وبدونها
سنقيم نسخة مشوهة عن الأنظمة العربية الشمولية، وبدونها نحن غير جديرين بدولة،
والأفضل أن نظل في حالة مواجهة مع الاحتلال..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق