لو
تأملنا حوارا جرى بين سايكس وبيكو، أو بين روتشيلد وبلفور، أو ما كان يدور في
أذهان الساسة الأوروبيين وهم يخططون لتقسيم المنطقة العربية، وإقامة إسرائيل، سنجد
أن الأسئلة التي طرحوها على أنفسهم، والمبنية على تخوفاتهم من إمكانية فشل هذا
المشروع: كيف سنقيم هذا الكيان في قلب العالم العربي والإسلامي؟ كيف سنواجه غضب
ورفض الملايين؟ كيف ستصمد إسرائيل أمام هذه التحديات؟؟ في الغالب وضعوا بدائل
ومقترحات عديدة، لكن اعتمادهم الأكبر والرئيس لم يكن مبنيا على نجاعة ودقة
مخططاتهم، ولا على قوتهم العسكرية، ولا على ذكاء اليهود.. كان مبنيا وبكل بساطة
على غباء الخصم.. وهذا ما كان..
صحيح
أن تواطؤ الأنظمة العربية لعب دورا حاسما في قيام إسرائيل، كما ظهر في رسائل
وتعهدات الملوك الأربعة، وتفاهماتهم مع بريطانيا، وفي تسهيل تهجير مئات الآلاف من
اليهود العرب إلى فلسطين، وفي ضعف تجهيزات الجيوش العربية التي شاركت في حرب ال48..
ولكن، لنترك موضوع الخيانة، ولنركز على الإخفاقات والأخطاء الكارثية، وبالمناسبة
الزعماء الذين اقترفوا تلك الأخطاء وطنيون مخلصون، لكن الطريق إلى جهنم معبدة
بالنوايا الحسنة..
بداية،
لنتذكر أن إسرائيل عشية قيامها كانت (باستثناء الدعم الدولي) دولة ضعيفة ويمكن
هزيمتها: عدد سكانها 650 ألف يهودي، أي أقل من عدد سكان مدينة متوسطة، ولم يكن
لديها آنذاك تلك القوة التي نعرفها الآن (جيش، جهاز أمني، اقتصاد، تكنولوجيا، سلاح
نووي..)..
في
المقابل، كان الوطن العربي (وما زال) يمتلك كل عناصر القوة (موارد بشرية، جيوش،
موارد طبيعية، ممرات ومضائق دولية، ثروات زراعية ومائية، علاقات دولية، مصالح
حيوية تهم كل الدول الكبرى..) ولكن، كل تلك العناصر غُيبت من المعركة، التي لم تقم
أصلا.. لأن إرادة التحرير غير متوفرة.
بعد
قيام إسرائيل، وحتى هزيمة 67، وبينما إسرائيل ماضية في تطوير قدراتها، وتعزيز
قوتها، كان البلدان العربية غارقة في مشاكلها الداخلية وصراعاتها البينية: حرب
بين المغرب والجزائر على الحدود، حرب سعودية مصرية في اليمن، حرب إعلامية بين دمشق
والقاهرة، وبين القاهرة وعمّان، خلافات بين مصر والعراق بشأن الكويت، صراع بين
المغرب وتونس بشأن الاعتراف بموريتانيا، انقلابات في سورية والعراق، ومشاريع
انقلابات في الأردن بدعم من دول الجوار، انفراط الوحدة بين الأردن والعراق، وبين
مصر وسورية..
قبيل
النكسة، أعلن عبد الناصر إغلاق مضائق تيران، ومنع إسرائيل من استخدام خليج العقبة..
ما يعني إعلان الحرب على إسرائيل، وبالتالي من المفترض أن مصر جاهزة للحرب.. كان
الزعيم يثق بقائد جيشه "عبد الحكيم عامر" وعندما سأله عن جاهزية
واستعداده، أجابه بأنه في كامل الجهوزية وعلى أهبة الاستعداد.. فتبين العكس، وهكذا
وقعت الهزيمة، وخسرنا مصر، وصار علينا أن ننتظر سنوات طويلة حتى تستعيد قوتها من
جديد..
بعد
نصر أكتوبر، صارت مصر البلد المهم الذي تعلق عليه الآمال، لبناء موقف سياسي عربي
موحد لمواجهة إسرائيل.. لكن السادات كانت له رؤية مختلفة، فانتهى به الأمر بكامب
ديفيد، وبالتالي خرجت مصر من الصف العربي، وخسرنا قوتها من جديد، وبانهيار عامود
الخيمة، بدأت سلسلة الانهيارات التالية..
كان
يمكن لسورية أن تشكل الحائط الذي تستند إلى الثورة الفلسطينية، لكن "الأسد"
كان له رؤية مختلفة؛ كان يريد الهيمنة على منظمة التحرير، وفرض نفوذه على لبنان، فانحاز
إلى جانب الانعزاليين ضد القوى الوطنية الفلسطينية واللبنانية، فانتهى الأمر إلى
مزيد من الغرق في الحرب الأهلية، وإطالة أمدها..
وفي
نهاية السبعينيات كانت الوحدة السورية العراقية على وشك التحقق، وهذا تحول نوعي
سيشكل قوة عربية رافعة، لكن "صدام" كان له رؤية مختلفة، إذ أجهض المشروع،
وانتهى الأمر بحملة إعدامات لخيرة كوادر ومفكري العراق..
في
تلك الفترة برزت أقوى دولتين في الشرق الأوسط (إيران الإسلامية، والعراق).. وهذا أكبر
تهديد لإسرائيل.. لكن تلك القوتين استنزفتا بحرب مجنونة، انتهت بهزيمة إيران.. فكان
لزاما على أمريكا هزيمة العراق.. وهكذا وقع صدام في الفخ مرة ثانية، واجتاح الكويت،
لينتهي الأمر بهزيمة منكرة.. كان يظن أن الحرب مع أمريكا والعالم كالحرب مع إيران!
وطالما
الحديث عن العراق، من المفيد أن نعرف أن صدام أنفق في عقد الثمانينيات مائة مليار
دولار على الحرب والتسلح.. فتخيلوا لو أنفق على هذا المبلغ على التطوير الزراعي
والتكنولوجي.. ماذا يمكن أن يحدث؟ ومع ذلك، قوة العراق العسكرية والسياسية تآمر
عليها الأهل والجيران، بدلا من الاستفادة منها.. وهكذا راح الجيش، والسلاح، والبلد
بأكمله..
تعلمون
مدى قوة النفط، والغاز، والمضائق البحرية التي تنعم بها دول الخليج، وتعلمون أين،
وكيف تُنفق عائدات هذه الثروة، وكيف، ولماذا لا نستفيد من كل تلك القوة.. بوسع تلك
الثروات أن تنقل دول الخليج، ومعها الوطن العربي إلى مصاف الدول الأولى في العالم،
تقنيا، وصناعيا، وعلميا، ومستوى معيشة.. لكننا نفضل الصفوف الخلفية!
في
العام 1990، أي قبل انهيار الاتحاد السوفييتي، كانت الاستثمارات الخليجية في أمريكا
قرابة 600 مليار دولار.. لو استثمر نصف هذا المبلغ في الاتحاد السوفييتي لأخذت
الحرب الباردة اتجاهات مختلفة جذريا..
يمتلك
السودان ثروات وإمكانيات بإمكانها جعله الدولة الأقوى والأغنى في المنطقة، ومع ذلك
نصف البلاد لم تعرف الكهرباء حتى الآن، ورغم مرور النيل من شماله إلى جنوبه، يعاني
البلد من عطش شديد.. وبعد الفرصة الذهبية التي وفرها "سوار الذهب"
بالانتقال إلى الديمقراطية، والتخلص من الفساد.. جاء البشير وأعاد البلاد قرونا إلى
الخلف، وبحجة تطبيق الشريعة انقسم السودان نصفين، وخسرناه كله..
تمتلك
ليبيا ثروات غازية ومقدرات وإمكانيات تؤهلها لقيادة المنطقة.. لكن القذافي اختار
معاركه الدونكيشوتية، فانتهى الأمر بحرب أهلية أكلت الأخضر واليابس.. وفي الحقيقة
هذا الحال ينطبق على معظم الدول العربية.. حتى دون وحدة.
منذ
نهاية السبعينيات هاجر مئات الألوف من الشبان العرب (لا أتحدث عن هجرة الأدمغة)
ذهبوا إلى أفغانستان، والبوسنة، والشيشان، ومالي، وإلى سيناء والعراق وسورية.. ذهبوا
إلى كل مكان ما عدى فلسطين.. حيدتهم قيادات الإسلام السياسي عن المعركة الأهم،
ووجهت كل تلك الطاقات الثورية إلى أبعد مكان عن معركة فلسطين.. بحجة أن حدود
فلسطين مغلقة، ولكن لا نعرف كيف فُتحت حدود تلك الدول؟!
هذه
مجرد أمثلة، غيض من فيض، وأسباب تلك الإخفاقات التفرد بالقرار، والاستبداد،
والفساد، وتغييب العقل.. وغيرها..
ولأزيدكم
من الشعر بيتا، سنعرف في مقالة قادمة كيف صارت شركة تايوانية (في بلد غير معترف به)
أهم من جميع الدول العربية!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق