بدأت
ثورة ال36 هادرة واعدة، ثم بدأت تخبو، وتنكفئ، حتى تحولت إلى اقتتال داخلي، فقد
دبت الخلافات بين العائلات، وبدأت حملات التشويه والتخوين والاغتيالات، ثم صارت
نزاعا بين الأحزاب التي كانت امتدادا لتلك العائلات، وسرعان ما تطورت إلى قتال بين
فصائل مسلحة.
كما
بدأت الانتفاضة الأولى كموجة نضالية شعبية واسعة، شملت كل الأرض المحتلة، وانخرطت
فيها كافة شرائح الشعب وفئاته، وقدمت نموذجا فريدا في الإبداع الكفاحي والمقاومة
الشعبية، بتضحيات غالية، ودامت على هذا الحال قرابة السنتين، ثم بدأت تخبو،
وتتراجع، وتنحرف بوصلتها عن هدفها المركزي المتمثل بالتخلص من الاحتلال إلى أهداف
فرعية، حتى طغت عليها الخلافات العشائرية، التي كانت تختفي تحت يافطة الفصائل
والأحزاب، وبحجة تصفية الجواسيس والمتعاونين، حتى صارت جل فعاليتها متركزة على
الأهداف الثانوية خاصة في المجال الاجتماعي، ومحاولات كل فصيل فرض أجنداته وبرامجه
على الجماهير.. ثم تحولت إلى حالة من الفوضى الأمنية، والتصفيات، والاغتيالات.
كما
بدأت الانتفاضة الثانية قوية، جماهيرية، سلمية، بمعنويات عالية، وبشعارات سياسية
ناضجة، لكنها سرعان ما تحولت إلى الأسلوب العسكري بعمليات فدائية ضد أهداف منتقاة
بعناية نفذتها كتائب شهداء الأقصى، وظلت كذلك قرابة العام، ثم تغيرت الأدوات
والأساليب، وطغت عليها العمليات التفجيرية داخل الخط الأخضر، وفقدت طابعها
الجماهيري، واستمرت الأخطاء حتى فقدنا أصدقاءنا وحلفاءنا في الساحة الدولية،
وتمكنت إسرائيل بماكينتها الإعلامية من إلصاق تهمة الإرهاب بها، ومن ثم بأي عمل
مقاوم، الأمر الذي جعلنا نقدم تضحيات هائلة دون مقابل، بل بخسائر سياسية فادحة، ثم
تحولت إلى حالة من فوضى السلاح والانفلات الأمني، إلى أن انتهت بالانقسام.
إزاء
هذه الإخفاقات ممكن توجيه الاتهامات لأي جهة، وتحميلها كامل المسؤولية: للقيادة،
للفصائل بشكل عام، أو لفصيل معين، أو للشعب، وثقافته ونهجه.. هذا ليس مهما، على
الأقل الآن، وهنا، بل إني هنا أنادي بنبذ نهج تحميل المسؤولية وإلقاء اللوم على
جهة واحدة، أو إرجاع الظاهرة لسبب واحد.. فدوما الظواهر الاجتماعية تكون معقدة
ومتشابكة، بحيث تتداخل فيها الأسباب مع النتائج، ويكون لها أكثر من سبب، وأكثر من
عامل..
ما
يعنيني هنا تحديدا موضوع الانحراف عن الهدف الأساسي، وتجاهل العدو المركزي،
والتفرغ للمعارك الداخلية، واختلاق أهداف فرعية، وهذا ما لاحظناه في الأمثلة الثلاث
التي قدمناها، حيث كان الرابط المشترك بينها، هو الحيد عن الخط الرئيس بحملات
التشكيك والتخوين.. وهذا الخطأ الذي ما زلنا نقترفه صبح مساء..
في
الكفاح الشعبي، وحسب النظريات الثورية؛ لأية ثورة هدف رئيسي، وأدوات نضالية تختلف
بحسب طبيعة المرحلة، لكن المناضلين عادة بعد فترة قصيرة من النضال، وعندما يعجزون
عن تحقيق النصر الذي يريدونه بشدة، وبسرعة، يبدؤون البحث عن أهداف أسهل، ومعارك
فيها الخسائر أقل، أو منعدمة، عن عدو أضعف، يمكن هزيمته.. وهذا ما يسمى بالمهابط
الثورية؛ لأنها
تهبط بالنضال وتجره إلى مواقع لا تفيد إلا العدو، ولأنها تدمر النسيج المجتمعي، حيث يبدأ الثوار بالتركيز على تحقيق
إنجازات على الصعيد الاجتماعي والأيديولوجي، لتعوض عجزهم عن تحقيق النصر الحقيقي؛ مثل
فرض السيطرة على مناطق وأحياء معينة، وفرض مسلكيات معينة على الناس، وفرض قوانينهم
الخاصة.. أما العدو الأسهل فهو ما يسمونه الجواسيس؛ يبدؤون بالأشخاص المتعاونين مع
العدو، ويصفّونهم بطريقة تبث الرعب في قلوب الآخرين، ثم ينتقلون تلقائيا إلى أي
جهة لا تتوافق مع رؤاهم، أو يختلفون معها سياسيا أو أيديولوجيا فيتهمونها بالخيانة..
وهكذا
تسري عدوى التخوين إلى المستوى الجماهيري، فتصبح الأولوية للتصفيات الثأرية،
وتطهير الجبهة الداخلية..
لا أقلل هنا من خطورة الجواسيس، ولكن
معالجة هذا الملف لا تكون بالاتهامات والتصفيات الداخلية، التي كثيرا ما أودت
بحياة أبرياء. ولا أقلل من أهمية انتقاد السلطة على أخطائها الكثيرة..
وهذا
ما يحدث منذ سنوات طويلة، حيث في كل مرة نستعيد فيها البوصلة الوطنية ونحدد
الاتجاه الصحيح بالمواجهة ضد الاحتلال ومستوطنيه، يتم إعادة حرف البوصلة باتجاه
الصراع الداخلي والتشرذم والفتنة وتبادل الاتهامات والشتائم وإدعاء البطولة
والمزايدات.
حتى
في أكثر اللحظات سخونة، عندما تشتد المظاهرات، أو عندما تحدث مواجهات مع الجيش
والمستوطنين، وفي المسيرات الشعبية.. بدلا من الهتاف ضد الاحتلال، يتم دفع البعض لرفع صور
معينة وهتافات معينة لصالح طرف وشتم طرف آخر لتفجير الصراع الداخلي .
الصديق
"محمد تلباني" من غزة، أورد الأمثلة التالية لتوضيح هذه الظاهرة:
عندما
يقع اشتباك مسلح، أو مواجهات في القدس، أو اعتداءات على مواطنين، أو يسقط شهيد.. يبدأ
فورا النبش في التناقضات الداخلية، مثلا: أنظروا ماذا يبث تلفزيون فلسطين الآن،
حتى لو كان مراسلوه قد أمضوا ساعات من التغطية للحدث في المناطق الخطرة! أين
الوزراء، وحملة الVIP والسفراء وأبناء القيادات؟
ثم
يبدأ رواد الفيسبوك باستخراج تصريحات وصور قديمة لقادة يختلفون معهم، وقد يختلقون
ويزورون تصريحات، وقص ولصق، وتحريف المعنى واقتطاع أجزاء، وفبركة صور بهدف اقتناص
الفرصة للتشويه..
وكلما
اعتقلت إسرائيل مناضلا تبدأ مهاجمة الأجهزة الأمنية واتهامها بالخيانة، ودوماً
أسطوانة التنسيق الأمني جاهزة، وكأنَّ التنظيمات غير مخترقة، والمطاردون لا يقعون
في أخطاء أمنية، وأن إسرائيل لم تعد تعرف شيئا عنا، ولا تستطيع اعتقال أحد دون
مساعدة السلطة! رغم أن السلطة لا تسيطر إلا على 30% من الأرض، ويمكن لأي شخص
ممارسة أي نشاط والتخفي والاختباء في ال 70% من الأرض المتبقية .
ومع
أن التنسيق الأمني توقف ستة شهور كاملة العام الماضي لم يتعرض أي جندي احتلالي لطلقة
مسدس.. كما فتحت إسرائيل الحواجز والمعابر ودخل مئات الآلاف إلى الأسواق والشواطئ داخل
الخط الأخضر ولم يسجل أي فعل مقاوم
.
ولا
نريد الخوض بموضوع غزة، وفرض الهدوء، ومنع العمل المسلح بأشكاله من هناك، وتنسيق
دخول الأموال القطرية بمعرفة الموساد.. هناك كل شيء مقبول، وللضرورة أحكام!!
ختاما،
حملات التخوين والاتهامات، وتضليل الرأي العام، وتقديم التناقض الداخلي على الصراع
الأساسي، والمناكفات الحزبية، كل ذلك حرف للبوصلة الوطنية، وهو حرف متعمد ومتكرر
ويخدم الاحتلال فقط، وإن ظن أصحابه أنه يحقق لهم مكسب حزبي مؤقت، وينال من خصومهم إلا
أنه يسرع من انهيار المنظومة الأخلاقية والوطنية لصالح مشاريع غير وطنية.
تخيلوا لو رصينا الصفوف، وركزنا كل طاقاتنا وغضبنا باتجاه العدو فقط..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق