مسارات
عديدة شهدناها في المراحل العديدة، كان من المفترض حسب المخطط الإسرائيلي أن تأخذ
مداها، وأن تحقق غاياتها، سيما بعد أن بذلت فيها جهودا مضنية، وأغدقت عليها أموالا
طائلة، وصارت جزءا أساسيا من خطابها الإعلامي ومن برنامجها السياسي والأيديولوجي،
ودعامة إدعاءاتها بالتفوق والانتصار.. هذه المسارات وصلت إلى نهايتها، مكللة
بالفشل والإخفاق.. والأهم والأخطر أنها فتحت المجال لنشوء مسارات أخرى جديدة على
النقيض تماما من رغبتها، وضد مصلحتها، بما يمكننا القول أن المرحلة السابقة أقفلت،
وانتهت وابتدأت مرحلة جديدة مختلفة..
سنبدا
من مسار تهويد القدس.. فمنذ احتلالها عام 1967، وسلطات الاحتلال لم تتوقف عن
محاولاتها تهويد المدينة المقدسة، عبر آليات عديد، منها: إخراج سكانها الفلسطينيين،
ودفعهم للرحيل، وسحب هوياتهم بحجج قانونية، والتضييق عليهم بشتى الطرق وبأقسى
الأساليب، بما في ذلك هدم بيوتهم، وترجيح كفة التوازن الديمغرافي في المدينة لصالح
اليهود، ودعم الجماعات الاستيطانية ودفعهم إلى الأحياء العربية، وصولا إلى التقسيم
الزماني والمكاني للأقصى (كما فعلت في الحرم الإبراهيمي).. صحيح أن هذا المخطط لم
يتوقف كليا، لكن يقظة المقدسيين حالت دون استكماله، وأحبطت أجزاء منه؛ فقد تمكنوا
بالمقاومة الشعبية من إحباط مشروع البوابات الإلكترونية، ثم ثبتوا ملكيتهم لباب
العامود كفضاء فلسطيني عام، وفرضوا على الشرطة إزالة الحواجز، ثم أوقفوا مخطط طرد
سكان الشيخ جراح، ومنعوا مسيرة الأعلام الاستيطانية التي كان مخططا لها الصدام مع
المصلين وسقوط ضحايا تمهيدا لفرض التقسيم الزمكاني للحرم القدسي.. كل هذا توقف
بهبة شعبية استطاعت نقل هذه المعركة إلى كل فلسطين، ومن ثم إلى العالم. وجعلت
إسرائيل تدرك أنّ أي مساس بالمقدسات سيؤدي إلى تفجير الوضع برمته.
هبة
القدس أثرت مباشرة على الداخل المحتل (1948) حيث انتفضت كافة مدن وبلدات الداخل
معلنة وبشكل مفاجئ انتهاء مسار أسرلة فلسطينيي الداخل.. حيث كانت إسرائيل تعمل
بخطى حثيثة ومدروسة وعلى مدار 73 سنة على أسرلة وتهويد فلسطينيي الداخل، وعبرنة
لسانهم، وتطويع وعيهم، وسحق هويتهم الوطنية، وتفتيت وحدتهم، وسلخهم عن شعبهم
ومحيطهم العربي، وإغراقهم بالمشاكل والجريمة والمخدرات.. كل هذا تغير بيوم وليلة،
فخرجت الجماهير العربية موحدة بالعلم الفلسطيني وبالشعارات الوطنية.. وهذا هو
التحول الأخطر والأهم في مسار الأحداث المتصاعدة.. وسنركز على هذا الموضوع في
مقالات قادمة.
التطور
الآخر والخطير، هو دخول صواريخ المقاومة على الخط، ما أدى إلى شن حرب عدوانية
شديدة العنف على قطاع غزة، وهي الحرب الرابعة خلال عقد ونصف، في كل مرة تقول
إسرائيل أنها ستنهي المقاومة، وتركّع غزة، عبر تسويات وتفاهمات على قضايا مطلبية
وحياتية بما يضمن الهدوء والأمن لها.. أتت هذه الجولة الدامية لتؤكد أن غزة عصية
على التركيع، وأن استسلامها غير وارد، وأن المقاومة ما زالت قوية وقادرة على ضرب
عمق إسرائيل، وأن إسرائيل ستظل مهددة في أمنها .. وأن أية تفاهمات ستكون هذه المرة
بشروط سياسية مرتبطة بالقدس وبالضفة الغربية.. هذه الحرب جعلت المستوى السياسي
والعسكري الإسرائيلي يفكر في جدواها، وخسائرها الفادحة على إسرائيل اقتصاديا
وعسكريا وسياسيا، واستحالة تركيع غزة، أو فرض كل الشروط الإسرائيلية عليها..
هبة
القدس، والعدوان على غزة، وانتفاضة الداخل المحتل انتقلت كلها مباشرة إلى الضفة
الغربية، حيث خرجت مسيرات شعبية حاشدة وغاضبة في كافة بلدات وقرى ومخيمات الضفة،
في مراكز المدن ونقاط التماس وعلى الحواجز، بشكل ينذر ويؤسس لاندلاع انتفاضة شعبية
شاملة.. وهذا يعني أن مسار تدجين الضفة الغربية، والهدوء الذي كانت تنعم به، بمخطط
إسرائيلي متساوق مع نشوء نخب اقتصادية وأمنية وقيادات سياسية متكيفة مع الاحتلال،
وغير متضررة منه.. هذا المسار وصل نهايته، بنشوء جيل جديد أخذ يعبر عن نفسه
بحراكات شبابية وأطر وهياكل متعددة، في الوقت ذاته بدأت فئات واسعة من داخل فتح،
ومن داخل الفصائل الوطنية تعبر عن رفضها لمسار التهادن والخضوع والتكيف مع
الاحتلال.. وبدأ مارد القوى الوطنية يتململ منذرا بتفجير الأوضاع وتصويب المسار من
جديد.
وكما
هي الحال في كل مرة، تفرض فلسطين نفسها على الشارع العربي، وتهلمه، وتقوده، فبعد
أقل من أسبوع من تفجر الأحداث بدأ الشارع العربي بالتحرك، فخرجت مسيرات شعبية
حاشدة في اليمن والأردن والمغرب ولبنان ومصر، بلغت ذروتها في مسيرات العودة على
الحدود الفلسطينية من الجانبين الأردني واللبناني.. وهذا الحراك الشعبي العربي
أحرج دول التطبيع، وألجم مشروعها، وسيوقف مسار التطبيع لبقية الدول العربية التي
كانت تفكر بالتطبيع.. وسينهي صفقة القرن.
المهم
أن ما كانت تنعم به إسرائيل من هدوء وأمن قد انتهى، وكبرياؤها جُرح بشكل مهين، وقوتها
الردعية تآكلت، واعتقادها أنها متفوقة بالمطلق، وقادرة على كل شيء ثبت أنها مجرد
أوهام نرجسية،.. وعليها أن تستوعب معطيات المرحلة الجديدة، وأن ترضخ لها..
الآن،
وحتى يكون حديثنا واقعيا يتوجب الاعتراف بأن هذه المسارات لم تُغلق بشكل نهائي..
هذا مرهون بأدائنا في المرحلة القادمة.. قد تتمكن إسرائيل من إحيائها من جديد..
وقد نتمكن نحن من إغلاقها والبناء فوق أنقاضها مسارات وطنية ثورية جديدة.. وهذا
يحتاج إعادة تعريف المشروع الوطني الفلسطيني، وإعادة صياغة الخطاب الإعلامي، والخط
السياسي، وإحداث تغيير جذري في بنية وتفكير القيادة ومؤسساتها، وإعادة تعريف دور
السلطة الوطنية، بما يجعلها حلقة ضمن مسار وطني متنامي ومتراكم، وليست مرحلة
نهائية متكيفة مع الاحتلال، ومعيقة للنضال..
وإلى
أن تتبلور ملامح هذا التغيير، وتنضج أفكار وبرامج المسارات الجديدة، ثمة أمور أخرى
ضرورية ومهمة، وهي شرط أساسي لنجاح هذا التحول، وإلا صارت قفزة في الظلام، وتأسيس
للفوضى والعبثية وتدمير كل شيء.. يتوجب أولا الترفع عن التنافس الحزبي والحسابات
الفئوية الضيقة، وتعزيز الوحدة الوطنية.. وإنهاء الانقسام فورا، وإدماج حماس
والجهاد الإسلامي في النظام السياسي الفلسطيني، أي في المجلس الوطني والمجلس
المركزي وسائر مؤسسات المنظمة والسلطة، وتشكيل حكومة انتقالية هدفها الأساس
الإعداد لانتخابات شاملة.. وأي حرف للبوصلة عن هذه الأهداف سيخرب كل شيء.
فتح،
ما زالت قادرة على استعادة دورها القيادي والريادي.. عليها، وعلى سائر الفصائل
والأحزاب عقد مؤتمراتها العامة، وإنتاج قيادات جديدة، وخطاب سياسي جديد يتلاءم مع
المرحلة الجديدة، ويستوعب جيل الشبان، وكل المتغيرات والمستجدات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق