حتى
آخر لحظة قبيل الإعلان عن تأجيل الانتخابات، كنت أتأمل حدوثها، وأراهن على ذلك،
وأن القيادة لن تعجز عن إيجاد حل خلاق لمعضلة مشاركة القدس، وأنه في أسوأ الأحوال،
إذا تعذر بالفعل عقد الانتخابات، فإن قرار تأجيلها سيكون قرارا جماعيا، إن لم يكن
بالإجماع، فعلى الأقل بالأغلبية، وبمشاركة جميع ممثلي القوائم الانتخابية، وقادة
فصائل العمل الوطني.. كما جاء قرار الخروج من بيروت صيف 1982، حين أصر القائد ياسر
عرفات على إشراك جميع القوى والفصائل بالقرار، وكان آخر من وقع عليه..
أتى
قرار التأجيل مخيبا للآمال، فهو في جوهره الصيغة المخففة لقرار التأجيل لأمد غير
معلوم، أو الإلغاء في حقيقة الأمر.. فالسبب في التأجيل عدم موافقة إسرائيل على
مشاركة القدس تصويتا وترشيحا.. وهذا السبب لن يتغير في المدى المنظور، وليس هناك
في الأفق ما يدل على إمكانية تعديل إسرائيل لقرارها.. خاصة بعد اعتراف أمريكا
بالقدس، ونقل سفارتها إليها، ولا أظن بإمكانية تنازل إسرائيل عن هذا المكسب
السياسي، إلا في حال ممارسة أمريكا وأوروبا والمجتمع الدولي ضغوطا على إسرائيل
لحثها على الموافقة، وهذا لم يحدث ولا حتى بالحد الأدنى، ولا حتى ببيان خجول..
بتأجيل
الانتخابات (أو إلغائها) نكون قد فوتنا العديد من الفرص التاريخية، التي سيصعب
تعويضها في المدى القريب..
كان
من المتوقع ظهور مجلس تشريعي نشط واستثنائي، بسبب العدد الكبير من القوائم
الانتخابية التي قد تعبر نسبة الحسم، والتي تشكل كامل الطيف السياسي الفلسطيني، وأكثرها
يريد الإصلاح والتغيير، والحد من تغول السلطة التنفيذية، ووضع حد للتجاوزات والفساد..
وحتى
القوائم الصغيرة، والتي ستعجز عن عبور نسبة الحسم، كان من المتوقع أن تشكل
مشاركتها في الانتخابات بداية لاستكمال بناها التنظيمية، وتنشيط دورها السياسي
والاجتماعي الداخلي، حتى من خارج المجلس التشريعي، وبذلك تنشط الحياة السياسية
والحزبية وفي هذا تقوية للمجتمع الفلسطيني.
وكانت
فرصة لعشرات القوائم الانتخابية التي طرحت شعارات محاربة الفساد، دون أن تبين مظاهر
وتجليات الفساد بدقة، أو تسمي أسماء الفاسدين، وتحدد بوضوح ممارساتهم الفاسدة.. أو
القوائم التي طرحت شعارات الإصلاح الاقتصادي دون خطة واضحة وعملية وواقعية.. أو
تلك التي طرحت شعارات كبيرة في المقاومة والتصعيد والاشتباك مع العدو، والقدس، ووقف
التنسيق الأمني، ولكن دون برامج عملية وواقعية، واكتفت بشعارات دوغمائية ودعائية
وشعبوية.. فرصة لنا لنكشفها على حقيقتها، وفرصة لها أن تختبر جدية وفاعلية تلك
الشعارات على أرض الواقع، وفي هذا إنضاج لتجربتها في المعارضة..
كان
من المؤمّل أن تهيء انتخابات التشريعي الفرصة لتغيير الطبقة الحاكمة، أو لتحسين أدائها
كأضعف الإيمان، وأن تُستكمل بانتخابات الرئاسة والمجلس الوطني.. وبالتالي إيجاد
فرصة حقيقية لإصلاح وتنشيط وتفعيل منظمة التحرير الفلسطينية، وإعادة الاعتبار
لدورها السياسي، ومكانتها التمثيلية والسياسية.. وهذه الانتخابات صارت أبعد، إن لم
نقل صارت متعذرة..
كانت
الانتخابات ستمنح مشروعية وطنية وشعبية وقانونية لمؤسسات وأطر وقيادة السلطة
الوطنية، وستجدد من بناها، وهياكلها، وتقربها أكثر من الناس، وأن تمتص النقمة
الشعبية (على السلطة، وعلى فتح، وعلى حماس، وعلى الفصائل الوطنية)، وأن تحول هذه
النقمة إلى مشاركة وتأييد جماهيري.
هذه
النقمة، والاحتقان كان الشعب يريد التعبير عنها، وتغييرها للأحسن بأسلوب حضاري
سلمي هادئ، عبر صناديق الانتخابات، اليوم، لا أحد يمكن أن يتنبأ بكيفية التعبير عن
الاستياء الشعبي، ولا أين سيصل..
كان من الممكن للانتخابات أن تقصّر الطريق باتجاه
إنهاء الانقسام، واستعادة غزة، والبدء بمصالحة وطنية حقيقية على أرضية سياسية
مشتركة.. وهذا الآن صار أبعد وأصعب، بل إن عدم إجراء الانتخابات سيمكّن حماس من
المضي قُدما في مشروعها في الاستفراد بحكم القطاع..
كانت
الانتخابات ستوفر فرصة لجيل كامل من الشبان بأن يشعروا بوجودهم، وأهميتهم، وأن
يشاركوا في الحياة السياسية، وأن يختاروا ممثليهم، وأن يطرحوا قضاياهم، وأن نعودهم
على الممارسة الديمقراطية، وأن نعرفهم على صندوق الانتخابات.. الآن لا أحد يعرف
متى ستتاح مثل هذه الفرصة للشبان، وكم جيل آخر سيأتي ويعيش محروما من أبسط حقوقه
المدنية..
كان
ممكنا أن نجعل من قضية مشاركة القدس في الانتخابات ميدانا للاشتباك السياسي
والدبلوماسي والجماهيري مع الاحتلال، وأن نعري كذبة إسرائيل بإدعائها الديمقراطية،
ونكشف صورتها أمام العالم، وهي تحارب صندوق الانتخابات بالجنود المدججين بالسلاح..
كانت
فرصة حقيقية لفتح أن تحقق فوزا كبيرا، لو أنها أدارت الأزمة بذكاء ومرونة وإرادة
وطنية.. وكانت فرصة لحماس أن تستعيد بعضا من شعبيتها التي فقدتها في غزة، بعد
تجربة مريرة وقاسية في الحكم.. وأن تصبح جزءا فاعلا وأصيلا من النظام السياسي
الفلسطيني بشراكة حقيقية، دون نوايا مبيتة للإجهاز على خصومها، وإقصائهم، وأن
تبرهن للشعب أنها حركة فلسطينية قبل أن تكون إخوانية..
وكانت
فرصة لقوى اليسار أن تلتئم معا ضمن إئتلاف وحدوي يعيدها إلى الشارع، ويعيد لها
دورها الوطني ومكانتها السياسية.. لكن قوى اليسار، كما قوى اليمين والوسط فوتت
الفرصة، وغلبت حساباتها الحزبية على مصلحة الوطن..
كان
الرهان على الانتخابات بأن تُحدث تغييرا وطنيا وسياسيا يمكّننا من التخلص من بعض النخب
الاقتصادية والأمنية التي تتحكم بالبلاد.. ولكن على ما يبدو أن تلك النخب هي التي كسبت
الجولة، وحافظت على مكتساباتها ومراكزها، وتمكنت هذه المرة من الإفلات والنجاة
بنفسها..
صحيح
أننا تمسكنا بالقدس، وبحقنا بها، وبحقها في المشاركة الكاملة في أية نتخابات.. وأتمنى
أن يكون فعلا هذا هو السبب الحقيقي في التأجيل.. وأرجو أن نكرس الفترة القادمة لإيجاد
حل خلاق لهذه القضية، وأن نجري الانتخابات في أقرب فرصة، قبل فوات الأوان..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق