من
بين أقوى المسلسلات الرمضانية، مسلسسل «نسل الأغراب»، تأليف وإخراج محمد سامي،
ينتمي إلى الدراما الصعيدية التقليدية، قصة مشوقة تجسد الصراعات القبلية والأحقاد
الشخصية وعقلية الثأر والانتقام، والكبرياء المتورم.. في المجتمعات الذكورية
التقليدية.
يبدأ
المسلسل بمشهد خروج "عساف" من السجن، بعد أن أمضى فيه عشرين سنة، على إثر
معركة راح ضحيتها أكثر من نصف عائلة الغريب، يحاول عساف استعادة توازن القوى من
جديد، بينه وبين عدوه اللدود غفران، الذي أصبح هو مركز القوة في البلد، بل وتزوج من حبيبته وطليقته وربى نجله.
يؤدي دور "عساف" النجم أحمد السقا، بينما
يظهر النجم أمير كرارة في دور غريمه "غفران"، وهما أبناء عمومة، وكلاهما
يجسد شخصية الشرير الباحث عن الانتقام، والمتخم بالعصابية الذكورية، و"الإيجو"
المتضخمة، وهما يتصارعان على امرأة فائقة الجمال، تدعى "جليلة" تؤدي
دورها الفنانة مي عمر.
المفارقة
المثيرة أن كل من عساف وغفران يبدوان للوهلة الأولى شخصيتان شريرتان بالمطلق، يسعى
كل منهما فقط للانتقام وسحق الآخر، ولكن، بالنظر إليهما من زاوية أخرى سنجد أن كليهما
عاشق ولهان، وحبيب مخلص من الدرجة الأولى..
وهنا
تظهر براعة المؤلف في إبراز جوانب مختلفة داخل الشخص الواحد، بل وتكمن أهمية القصة
وقيمتها أيضا في إبراز أوجه متعددة ومتباينة لشخصية الصعيدي، وليس حصرها في قالب
نمطي واحد، فمقابل الأشرار والعنيفين نجد الطيبين والمسالمين، ومقابل من يتعدى على
القانون ويفرض قوانينه الخاصة سنجد من يمثل القانون والدولة والنظام (الفنان دياب
بدور علي الغريب، قائد الشرطة)، وفي مقابل عقلية الثأر والقتل والخراب، نجد دوما
من يدعو للسلم والتسامح والإقبال على الحياة.. وهذه الصورة الحقيقة للمجتمع
الصعيدي، بوصفه مجتمعا طبيعيا، وحيويا، تعدديا، يضم كافة الأنماط الإنسانية شأنه شأن
أي مجتمع آخر.
لكن القيمة
الأهم للمسلسل، من وجهة نظري، إبراز العقلية الذكورية، وهي بالطبع موجودة عند
الجنسين على حد سواء، ولكن بصورة تنقد وتنتقد هذه العقلية، بشكل غير مباشر، ودون
مواعظ وجمل مستهلكة.. إلى جانب إظهار صور متعددة للمرأة، وليس حصرها بصورة الكائن
المقهور والذليل والتابع.. على عكس مسلسل باب الحارة، الذي أبرز المظالم التي كانت
تتعرض لها المرأة، والنظرة السلبية التي كانت تحيط بها، كما لو أنها هي الفضيلة بحد
ذاتها، دون أي محاولة من المؤلف في إظهار أي نقيض لهذه الحالة السلبية، أو إظهار مشاهد
إهانة المرأة وظلمها بحيث تبدو مستهجنة ومُدانة؛ فتركز دور المرأة في صورة
خادمة يبدأ عملها الشاق مع أول خيوط الشمس ولا ينتهي إلا بعد أن ينام آخر الذكور
في البيت، وما حياتها إلا تنقل بين سلطة الأب والأخ والزوج دون أن تحظى بأية فرصة
لتعيش ذاتها،كما لو أن المخرج أراد تصوير هذا الوضع باعتباره النموذج الصحيح الذي تلخصه
عبارة "حاضر إبن عمي"، وكأنه يريد أن يقول لنا: هذه شخصية المرأة التي يتوجب
على نساء اليوم أن تحذو حذوها!
في
"نسل الأغراب" لدينا "جليلة" شخصية قوية مستقلة، ذات كبرياء
غير عادي، تفرض حضورها على الرجال، مع أن هذا متوقع طالما أنها سليلة الحسب والنسب،
ومتربية في القصور، ولديها الخدم، والنفوذ والمال والبنين.. لكن "جليلة"
ليست فقط بنت العز، المهابة، القوية، فهي من جانب تجسد دور المرأة الفاتنة التي
يتصارع عليها أقوى الرجال، وهذا يمنحها المزيد من الثقة بالنفس، والكبرياء والغرور،
لكنه يعذبها في الوقت ذاته، فهي تخشى على نفسها، وعلى أولادها، وعلى بلدتها من
تبعات هذا الصراع العنيف.. من ناحية ثانية فهي تؤدي شخصية تمثل خروجا عن القاعدة
المعروفة بأن قلب المرأة لا يتسع لرجلين، بحسب طبيعتها العقلية والفسيولوجية. وحالة
جليلة هنا هي الاستثناء، حيث ترتبط عاطفيًا بشخص عساف، وترتبط عقلانيا بشخص غفران،
على نفس القوة ونفس القدر من الحب والاحتياج.. وهذا لم يكن ممكنا لولا شخصيتها القوية
التي فرضت احترامها على محيطها العائلي.. ففي مثل هذه الحالة عادة تُتهم المرأة
بشرفها، وتلقى أشد العقوبات من المجتمع.
لكن
المؤلف لم يكتف بهذه الشخصية القوية، فلدينا "فاطمة"، التي تؤدي دورها الفنانة
ريم سامي، وهي فتاة فقيرة، يتيمة، دون أي سند عائلي، وتعمل خادمة، لكنها ذات شخصية
قوية، ولا تهاب أحدا، ولا تقبل بالخطأ حتى من سيدها، وترفض الذل حتى حين يتعرض أقوى
شبان البلد نفوذا..
ولدينا
الفنانة القديرة فردوس عبد الحميد بدور الحاجة نجاة، شخصية مهابة وحكيمة ووقورة..
وأيضا الفنانة سلوى عثمان بدور أم العمدة، شخصية قوية ممزوجة باللين والطيبة.. ونجلاء
بدر بدور الراقصة الغجرية دهب..
هذه
الأدوار المختلفة والمتباينة للمرأة تذكرنا بالأدوار المختلفة للمرأة في مرحلة ما
قبل الإسلام "الجاهلية"، أو هكذا صُور لنا؛ حيث كانت في العموم بلا
شخصية مستقلة، تابعة وملحقة بالرجل، ومن ضمن ممتلكاته.. لكننا في الوقت ذاته نجد
خديجة بنت خويلد، وهند بنت عتبة، والخنساء، والبسوس، وفيلة الأنمارية، وخالدة بنت
عبد مناف، وصحر بنت النعمان، وخولة بنت الأزور.. وهؤلاء كن سيدات، مكرمات، مهابات،
يُحسب لهن ألف حساب..
وهنا
يأتي السؤال: هل بوسع المرأة أن تفرض حضورها، وتعيش حياتها باستقلالية، وأن تحقق
ذاتها، حتى لو كانت تعيش في مجتمع ذكوري، يسحق المرأة، ويهينها؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق