بتثاقل،
وصعوبة شديدة أفقتُ من نومي، أشعر بصداع شديد، كانت قواي خائرة، والألم يضرب أنحاء
جسدي بلا رحمة، ودون توقف.. ناديت على أهل البيت واحدا واحدا، لم يجبني أحد.. صرخت
بأعلى صوتي دون مجيب.. كان الظلام دامسا والغرفة شديدة البرودة.. قلت من المؤكد أن
الوقت في منتصف الليل، تحسست بيدي زر الكهرباء حتى عثرت عليه، ضغطت عليه لأضيء
الغرفة، لم يتغير شيء، قلت ربما الكهرباء مقطوعة.. فتحتُ عيني على اتساعهما لم أرَ
شيئا..
جررت
نفسي بكل الآلام التي أحملها، وأنا أرتجف من البرد.. أتلمس الأشياء من حولي حتى لا
أتعثر بشيء، كنت أحفظ مكونات غرفتي جيدا، مكان السرير، النافذة، الباب، موضع
الثلاجة.. ومع ذلك تعثرت بعشرات الأشياء، وكسرت بعضها، ووقعت عدة مرات.. هل أنا في
غرفتي؟ هل هذا منزلي؟ لا شيء يشبه ما أعرفه!! فزعت بشدة، وتملكتني الحيرة.. بيتي
هو إطاري المرجعي الذي من خلاله أحدد الأشياء، هو بوصلتي.. فإذا فقدتها لن أجد
شيئا، سأضيع حتما.. كنت أسمع ضربات قلبي تخفق بشدة واضطراب.. أين أنا؟ ما هذه
الفوضى؟ يا ناس، يا عالم.. صرت أصرخ مثل مجنون..
اهتديت
إلى الباب بعد محاولات عديدة، واصلت المسير في شارع معتم تماما، لكني كنت أسمع
أصوات الناس، ومواء القطط، وأصوات غريبة متداخلة.. إلى أن ارتطمت برجل، على الفور
أمسكت به، وقلت له معتذرا: لم أقصد أن أصطدم بك، لكن كما ترى العتمة شديدة.. سمعت
ضحكته المكتومة، ثم ربت على كتفي ومضى دون أن يتكلم.. واصلت المشي، وارتطمت برجل
آخر وتكرر المشهد نفسه.. ارتطمت بعشرات المشاة، وكلهم يفعلون الشي ذاته.. إلى أن
ارتطمت بجسدٍ طري، فأدركت أنها امرأة.. اعتذرت متلعثما: صدقيني لم أقصد التحرش بكِ،
لكني لا أرى شيئا.. قالت حسنا، إلى أين أنت ذاهب؟ شعرت ببعض الارتياح، فهذا أول
صوت بشري أسمعه منذ أن أفقت على هذا العالم الغريب، قلت أريد أقرب طبيب عيون..
أجابت على الفور: لن تجد أي طبيب عيون في هذه المدينة، لكن توجد عيادة على بعد
مئتي خطوة.. قلت حسنا، ولكن في أي اتجاه؟ أجابت: تمشي مائة وخمسون خطوة بنفس
اتجاهك الحالي، ثم تنعطف إلى اليمين في زقاق ضيق، إلى أن تجد العيادة أمامك
مباشرة.. شكرتها ممتنا، ومضيت على الفور، واصلت المسير ببطء ومشقة إلى أن تعثرت
بباب العيادة.. سألت من كان على الباب: أين طبيب العيون؟ ضحك بسخرية، ثم قال بصوت
حاسم: لا يوجد سوى الطبيب العام، وهو في أول غرفة على اليسار..
قرعت
الباب بخوف وقلق، سمعت صوتا غليظا يقول تقدم ثلاث خطوات، انصعت للأمر، ووقفت مثل
طفل مؤدب: دكتور أنا لا أرى شيئا، وأشعر بإنهاك وصداع شديد، وأخشى أنني فقدت
بصري.. تلمس الطبيب عيني بأصابعه الخشنة، وضغط عليهما بشدة وأخذ يفركهما كما لو
أنه يفرك حبة لوز.. ثم تلمس بقية وجهي، وأنحاء متفرقة من جسدي، ثم قال عيناك
سليمتان، ثم ناولني علبة دواء، وقال: هذه حبوب بانادول، ستخفف صداعك.. أجبته بكل
استغراب ممكن: بانادول؟! أقول لك أني لا أرى شيئا، وتعطيني بانادول؟ هل أنت طبيب؟
أم مسلّك مجاري؟ صرخ بغضب: هل تشكك بشهادتي وقدراتي؟ أنا أبرع طبيب في المدينة..
هيا أخرج، واترك مجالا لعشرات المرضى الذين ينتظرون دورهم..
خرجت
منصاعا، وقلت في نفسي لأجرب البانادول، على الأقل أخفف من صداعي.. ثم واصلت
المسير، وأنا أرتجف من البرد، وتذكرت إني جائع جدا.. فمنذ أن أفقت لم أتناول
شيئا.. ولكن أين أعثر على طعام وسط هذا الظلام الدامس؟ بعد مسير طويل وشاق، شممتُ
رائحة شواء، تتبعت الرائحة مثل كلب أثر.. حتى وصلت ما ظنته مطعما صغيرا، سألت
الرجل الواقف بالقرب من مركز الرائحة: ماذا لديك من الطعام؟ أجاب بثقة واستعراض:
شاورما لذيذة.. قلت حسنا أعطيني لفتين وأضف إليهما ما توفر لديك من مخللات
وسلطات.. بعد دقائق ناولني اللفتين، فتذكرت أني لا أحمل نقودا.. ماذا أفعل؟ وفي
خطوة يائسة، مددت يدي إلى جيبي، فوجدت ورقة مثنية، لا أعرف إن كانت عملة ورقية، أم
فاتورة، أم تذكرة سينما، أم مجرد ورقة.. المهم ناولته إياها بتردد وقلق، على أمل
أن تكون نقدا، دس البائع الورقة في جيبه دون أن ينبس بحرف، شكرته ومضيت مسرعا قبل
أن يكتشف حقيقة الورقة.. على بعد خطوات، جلست على حافة الرصيف، وبدأت أتناول طعامي
بشراهة، مستمتعا بالدفء الذي دب في أوصالي..
شيئا
فشيئا بدأت استوعب الواقع المحيط بي، رغم شدة غرابته؛ الظلام دامس بشكل لا يصدق،
الجو شديد البرودة، الناس تمشي ببطء شديد، وأغلبهم يمشي مادا ذراعية إلى الأمام
كما لو أنهم قبائل زومبي، الكلاب منتشرة في كل مكان، تسمع نباحها، لكنها لا تهاجم
أحدا..
سمعت
دبيب خطوات ثقيلة، انتظرت حتى صار الماشي قبالتي، سألته بفضول: يا أخ، لو سمحت كم
الساعة الآن؟ وقف دون أن يجيب؟ قلت أقصد في أي يوم نحن؟ قال بصوت مضطرب: ماذا
تقصد؟ أجبته بهدوء: أقصد هل الوقت صباحا أم ليلا؟ قال ببساطة لا أعرف.. قلت له
ممتعضا: على كل حال شكرا لك، ونهارك سعيد.. أجاب الصوت باستغراب: نهارك سعيد؟ لم
أسمع هذه الكلمة منذ زمن بعيد.. ثم مضى حتى اختفت أصوات خطواته، تاركا إياي في
حيرة أشد..
مر
عشرات المشاة من أمامي، أوقفت معظمهم، وأعدت عليهم طرح نفس الأسئلة، وكنت أتلقى
نفس الإجابات الغريبة.. هل أنا مجنون؟ وهؤلاء العقلاء يدارون جنوني؟ أم هل أنا العاقل
الوحيد في هذه المدينة المجنونة؟ هل فقدت بصري وعقلي في آن معاً؟ يا لها من نهاية
مرعبة وبائسة.. تملكني الرعب، وبدأت أرتجف بردا وخوفا وحيرة.. حاولت جاهدا أن
التقط أنفاسي، وأن استجمع بعض قواي، قلت في نفسي لاختبر قدراتي العقلية: ثلاثة في
اثنين يساوي ستة، خمسة في ثمانية يساوي أربعين، الملح يتكون من كلور وصوديوم،
الشمس تطلع من الشرق، والبحار تغطي ثلاثة أرباع الكوكب، والأسد ملك الغابة، الماء
يتبخر بالحرارة، وأديسون مكتشف الكهرباء.. إذا عقلي سليم، فهذه المعلومات لا
يعرفها أي مجنون، ربما أنني فقدت بصري فقط، وتلك نهاية مرعبة ومأساوية، شعرت بحزن
شديد، وصرت أتمنى لو أني مت فعلا، وصرت أبكي مثل طفل صغير فقدَ أمه وسط سوق مزدحم
في مدينة ضخمة. مضت ساعات، وأنا مكاني لا أبرحه، فلا أعرف أين أروح، ولا ماذا
أفعل.. وفي صوت يائس مرتعد: سألت أحد المارة: يا أخي، أرجوك أفهمني، ماذا يحدث من
حولي؟ متى سيطلع النهار؟ أرجوك خذني إلى أي مكان يعيد لي صوابي..
وقف
الشاب لبرهة، اقترب مني، وتلمس وجهي وأنا مستسلم كليا، ولكني كنت قد وصلت قمة
الاستغراب والذعر.. قال بصوت هادئ: قد يكون لدي إجابات على بعض أسئلتك.. ولأول مرة
شعرت ببعض الارتياح.. وتبددت مخاوفي فجأة، قلت بصوت متهدج ومتعلثم: أرجوك، أتوسل
إليك: فقط قل لي ما هذا الظلام الحالك؟ ولماذا كل شيء يبدو غريبا ولا عقلانيا؟! أمسك
بيدي، وجرني نحوه، وقال اتبعني.. مشيت معه مثل سخلة منقادة كليا.. مشينا ساعات، في
دروب غريبة، وشوارع لم أكن أعلم بوجودها، فأدركت إنني في مدينة لا أعرفها، وفي
عالم لم اختبره من قبل، وأخيرا خرج الشاب عن صمته: أعطني وعدا ألا تخبر أحدا عن
مكان الرجل الذي ستقابله، وألا تكشف هويته أبدا.. قلت مستغربا: أكشف ماذا؟ أنا أصلا
لا أعرف نفسي، ولا أعرف في أي زمن أعيش، ولا في أي مكان أتواجد فيه الآن.. قال:
حسنا.. ثم سكت.
دخلنا
غرفة رطبة، يلفها الظلام، توقعت من صدى الصوت أنها واسعة، ثم أجلسني المضيف على
مقعد خشبي متهالك، ثم قال: هذا جدي، ولديه من الإجابات ما يبدد حيرتك، ويفهمك كل
شيء..
اقتربت
من الجد، تصافحنا، تحسس وجهي وجسدي، ثم فعلتُ نفس الشيء، وجهه نحيف، لحيته طويلة
جدا، رجعت إلى مقعدي، بدأ يتكلم، كان صوته واثقا وهادئا.. اسمع يا بني: قبل ثلاثين
سنة تقريبا، حدثت سلسلة تفجيرات نووية، مات من جرائها أغلب الناس، ثم غطت سحابة
سوداء كل الأرض حتى حجبت الشمس كليا، ومنذ ذلك الوقت دخلنا في حقبة شديدة الظلمة،
حتى أن من نجا من الموت، إما فقد بصره، أو لم يعد يرى شيئا بسبب شدة العتمة..
قبل
أن يسترسل في الحديث، أدركت إنني كنت طوال السنوات الثلاثين السابقة في غيبوبة
تامة، وأنا الآن من الناجين.. ويا ليتني لم أفق، وصرت نسيا منسيا.. ولكني وجدت
تفسيرا لكل التصرفات الغريبة التي رأيتها، فالطبيب تحسس وجهي بأصابعه، ولم يفحصني
بالمناظير والأجهزة الطبية، وصاحب المطعم لم يميز الورقة إن كانت نقدا أم تذكرة
سينما، والناس لم يميزوا النهار من الليل لأنهم جميعا عميانا..
واصل
الجد العجوز حديثه: كل منطقة انعزلت عن بقية العالم، لم يعد وجود للسيارات
والقطارات والطائرات.. وصار التنقل من مدينة لأخرى مهمة شبه مستحيلة.. منطقتنا،
وهي شاسعة جدا، وتضم أغلب الناجين يحكمها ملك ظالم مستبد.. لا نعرف إن كان أعمى، أو
يدعي ذلك.. لكن المؤكد أن كل الناس عميانا.. وهو مرتاح لهذا الوضع.. لن يعارضه أحد،
يفعل ما يحلو له، كل موارد الأرض بقبضته، ونحن نعيش تحت رحمته..
كنت
أستمع بكل ذهول وانبهار، أدركت أنها نهاية العالم، وأن البشرية خسرت حضارتها، كما
كنت أشاهد أفلام نهاية العالم، كنت أحب هذا النمط من الأفلام الخيالية، لكني لم أتوقع
أبدا، حتى في أسوأ كوابيسي أن أكون جزءا منها، وأحد أبطالها.. ولم أتوقع أبدا أن
النهاية كانت وشيكة إلى هذا الحد..
بنفس
الصوت الهادئ يواصل العجوز حديثه: منع الملك أي محاولة لاستعادة الحضارة، أو أي
شكل منها، واستعان بحاشية اختارها بعناية، جمع كل القساوسة والمشايخ والأحبار
والسحرة والمداوون بالأعشاب، وأمرهم إقناع الناس أن الكهرباء والتكنولوجيا هي سبب
نهاية العالم، وسبب الكارثة التي أحلت بنا، وأن العلماء هم المجرمون الذين جلبوا للأرض
للدمار، وللإنسان الشقاء والعذاب.. ومن بعدها، أصدر فرمانا يجرّم أي محاولة لاستعادة
الكهرباء، أو حتى إشعال أي نار، بل أن أي شخص يثبت أنه يرى (مثل الأولين الأشرار)
يُعدم على الفور.. كما منع الرقص والموسيقى والشعر..
وبينما
أواصل استماعي بكل دهشة، تغير صوت العجوز فجأة، وقال: ولكن ليس هذا كل شيء.. إليك
المفاجأة.. ما لا يعرفه الناس أنهم في الحقيقة ليسوا عميانا.. هم فقط لا يرون بسبب
شدة الظلام، ولكن لو أشعلت نارا سترى أن حدقات عيونهم ستتسع على الفور، وسيشاهدون
كل ما يحيطون بها.. وذلك أعظم أسرار الدولة، التي تحاول بشتى السبل إخفاءه عن
الناس..
ثم
سكت العجوز الحكيم لبرهة، وسط ذهولي ودهشتي، وقال لي اقترب قليلا.. ثم أخرج من
جيبه قداحة، وأشعلها، لمحت على الفور وجه العجوز، والشاب الجالس بجانبه، وبعض
الكتب المصفوفة خلفه على رف خشبي قديم، ولشدة فرحتي صرخت بانفعال وحبور: أنا أرى..
أنا أرى.. قالا لي بصوت غاضب: أخفض صوتك ايها المجنون، هل تريد أن يعدموك؟!
ساد
الصمت هنيهة، ثم قال الحكيم: ولكن يجب أن تعرف أنه ليست كل نار تضيء ما حولها.. فقط
تلك النيران التي تشعلها صفحات الكتب.. لذلك صادرت حاشية الملك وجنده كل ما
استطاعوا جمعه من كتب وصحف وجرائد قديمة.. وفوق ذلك نصبوا كاميرات حرارية تعمل بالإشعة
تحت الحمراء تلتقط إي إشارة لأي نار مشتعلة، فيتحركون على الفور، ويعتقلون مشلعها،
ويجرونه إلى المقصلة.. لذلك إحذر كل الحذر..
إذا
أردت أن تعيد عصر النور، وأن تشاهد زرقة السماء المثيرة من جديد، عليك أن تجد مخزن
الكتب الخاصة بمكتبة البلدية، ستجد آلاف المكدسة التي لم تصلها يد النظام، وحين
تجدها ضع في كل بيت كتابا، وفي كل شارع، وكل ميدان عام، ثم ابدأ بإشعالها..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق