على خلفية الفاجعة الإنسانية التي ألمت بأهلنا في السلط، قام الملك عبد الله بإقالة كل من مدير المستشفى، ووزير الصحة.. وعلى إثر ذلك، فرح غالبية الشعب الأردني بهذه الخطوة، واعتبرها خطوة شجاعة، وحكيمة، إذْ حمّلت على الفور المسؤولية لمن أخطأ، أو قصّر في عمله.. مقابل من رأى أنها مجرد تصرف ذكي، في إدارة الأزمة، لامتصاص نقمة الشارع..
على
أية حال، تلك حالة خاصة، وهي شأن أردني داخلي، والأردنيون أحق بالتقييم وإصدار
الحكم.. وليس لنا إلا أن نتمنى الأفضل للأردن الشقيق، وأن نترحم على أرواح من
فقدناهم.. وعلينا، وعلى شعوب المنطقة التعلم من تلك التجربة القاسية، وأخذ العبر..
بشكل
عام، كلما حدثت مشكلة، أو وقعت فاجعة فإن أول ما نطالب به هو استقالة الوزير
المعني، أو استقالة الحكومة (إذا كنا أكثر جرأة)، ونادرا جدا ما نطالب باستقالة
رئيس الدولة، أو ملكها.. فهذا يتطلب ثورة شعبية عارمة..
نطالب
باستقالة الوزير المسؤول، أو تقديمه للمحاكمة أحيانا.. ولكن لا نفكر بآليات لإصلاح
الخلل جذريا..
إذا
ارتكب شخص ما جريمة، نطالب بسجنه أو إعدامه.. ولا نطالب بفهم السياقات المجتمعية
والاقتصادية التي قادت إلى ارتكاب الجريمة.. وكأنَّ إعدام المجرم يحل المشكلة.. في
الحقيقة نفعل ذلك لإشفاء غليلنا، وإسكات غضبنا، أو لأخذ الثأر، وللانتقام من
المجرم.. لا نفكر حقيقة بمنظومة العدالة، ولا بتبعات الجريمة على المجتمع،
والعلاقة الجدلية بينهما، ولا بكيفية معالجة أسس الجريمة، ودوافعها، وروافدها.. كل
ما يهمنا إزاحة المجرم من المشهد..
إذا
انهار سور مدرسة، وتوفي في الحادث طالب أو أكثر، سنطالب فورا بإقالة وزير
التربية.. ولكننا قبل ذلك، ومن بعده لا نفكر بعشرات المشاكل الإدارية والتربوية في
مدارسنا، وما له علاقة بالمناهج، وبأساليب التدريس، وبمستوى التعليم، ولا بحال
المعلم، وبعدم وجود مختبرات ومكتبات وملاعب رياضية وقاعات للموسيقى والفن في
أغلبية المدارس.. ننتبه فقط لما هو ظاهر، لما هو صاخب، وما هو سطحي..
في
حالتنا الفلسطينية، وبسبب تأخر توفير اللقاحات، وضعف قدرات المستشفيات على توفير
أجهزة تنفس، ولأسباب أخرى يطالب الكثيرين بإقالة وزيرة الصحة، أو حتى إقالة
الحكومة.. ولكننا لا نعلم إذا تغيرت الحكومة، أو أتى وزير آخر كيف سيحل المشكلة؟
ومن أين سيأتي باللقاحات؟ وكيف ومن أي مصدر سيؤمن تعويضات مالية للمتعطلين عن
العمل؟ وكيف سيقنع الناس أو يجبرهم على إتباع القواعد الصحية؟
باعتقادي
أن المدخل الصحيح لحل تلك المشكلة، وكافة المشكلات الأخرى، هو التوجه إلى جذور
المشكلة، لا إلى رأسها الظاهر.. أي بناء نظام مؤسسي حداثي، والتخلي كليا عن مبدأ
الرجل الواحد، والرئيس الحكيم، والقائد العادل.. العدل، والنظام، والتطور، والبناء
لا يقوم إلا من خلال العمل المؤسسي.. هو وحده القادر على ذلك.. القائد (سواء كان
ملك، أو رئيس دولة، أو رئيس حكومة، أو وزير..) مهما كان عادلا ونزيها وحكيما إذا
لم تكن من ورائه مؤسسة تنظم العمل وتضمن العدل، وتخطط، وتنفذ، وتقوّم سرعان ما
سيتحول إلى فرد مستبد..
ليس
مطلوبا من الرئيس ولا من رئيس الوزراء ولا من الوزير تفقد كل مرافق الدولة: كل
مدرسة، وكل مستشفى، وكل مكتب عمل، وكل مصنع، وكل ورشة، وكل شارع، وكل مركز أمني،
وكل محل تجاري.. هذا مستحيل.. قد يفعل ذلك بشكل انتقائي وعشوائي بين فترة وأخرى،
لكن ذلك ليس كافيا، ولا يمنع وقوع كارثة، ولا يحل مشكلة حقيقية..
لذلك
في الدول الحديثة توجد مؤسسات وقوانين ومرجعيات ونظم عمل، ونظم إدارة جودة.. وهناك
تراتب وظيفي، وهيكليات، وكل شخص له صلاحيات، وعليه مهام، ومسؤوليات.. ضمن نظام شامل
يسمى نظام إدارة الجودة (له تسميات وتخصصات عديدة)، يستطيع هذا النظام تلافي الخطأ
قبل وقوعه، وتتبع مسار العملية الإدارية والإنتاجية من أولها لآخرها، بما يضمن
تحديد نقاط الضعف، والنقاط الحرجة، واكتشاف الخطأ وقت حدوثه، وحل المشكلة تلقائيا،
أو تلافي الضرر، أو تقليل أخطاره، ومن ثم إعادة التقييم، وتصويب المسار، ووضع
الحلول والمقترحات.. كل هذا ضمن خطط وبرامج ومسارات عمل أعدها خبراء ومختصون، ويتم
متابعتها وفق آليات محددة، وهي مكتوبة، وموثقة، ومعلنة.. فإذا ما تغير الوزير سيجد
من أتى بعده كل شيء واضح، ويظل النظام وفق نفس الآليات، لا يضره من غاب، ولا يهمه
اسم من حضر..
في
هذه الحالة، وعندما تشمل نظم الإدارة الجيدة كافة مؤسسات الدولة ومرافقها، نعرف من
أخطأ، ومن قصّر، ومن أهمل، ومن سولت له نفسه بالفساد.. ونعرف من أخلص، ومن أبدع..
فعندما يموت مريض في مستشفى سنعرف إذا كان من الإهمال، أو لسبب آخر، وسنعرف بالضبط
من يتحمل المسؤولية.. ولن نحتاج إلى فزعات عرب، ولا حملات فيسبوك تحريضية..
ومن
البديهي أن يكون ذلك مطبقا على رأس الدولة، وحكومتها، وبرلمانها، وقضائها،
وشرطتها، ومؤسساتها، وأذرعها.. حينها ستجده تلقائيا في الشارع، وفي الحديقة، وفي
روضات الأطفال، وفي الباصات، والمطاعم، وورشات البناشر..
ما
يحدث على أرض الواقع: إذا أتى وزير جديد، أول ما يقوم به تغيير طقم الكنابايات،
والسيارة، وتغيير الطاقم الإداري المحيط به، وإزاحة كل من لا يعرفهم مسبقا، ومن لا
يثق فيهم، واستبدالهم بطاقم إداري جديد (من عظام الرقبة)، وربما يغير في الإدارات،
يستبدل، ويزيل، ويستحدث، ويستصدر قرارات جديدة، وسياسات جديدة.. وكأنَّ من كان
قبله لم يكن موجودا.. وغالبا القرارات والسياسات مرتجلة، دون استشارة خبراء
ومختصين، فهؤلاء (إن وجدوا) سيكونون أداة طيعة بيد الوزير الجديد، فليس من شيمنا
الاعتراض، أو إبداء الرأي الصحيح إذا كان سيتعارض مع النهج الجديد..
إذا
أردنا التغيير، فليكن تغييرا شاملا.. ولنبدأ بتغيير العقلية القبلية، ومبدأ الولاء
للشخص، وفكرة الفزعات، والهبات العاطفية، والارتجال، واستعراض الرجل الواحد،
ولنتخلى عن فكرة انتظار المخلّص والمنقذ، وتعليق الآمال عليه، والاعتقاد بأن شخصا
ما بيده الحلول السحرية.. لنبدأ ببناء الإنسان، والمؤسسة والنظام..
وبالمناسبة
كل أنظمة الإدارة الجيدة لا تتطلب ميزانيات ضخمة، ولا موافقات من الرباعية
الدولية، ولا مشاريع من الدول المانحة.. نستطيع بنائها بكل جدارة لو امتلكنا
الإرادة والوعي فقط..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق