لا يملك أي إنسان إمكانية اختيار
اسمه، ربما يستطيع ذلك فيما بعد، فيختار لقبا أو اسما حركيا، وفي حالات نادرة
يستبدل اسمه في سجل الأحوال المدنية..
تقول فيروز في أغنيتها العذبة:
"أسامينا شو تعبو أهالينا تلاقوها"؛ فعندما تُرزق العائلة بمولود جديد قد
تحتار في تسميته، وربما تمضي أياما قبل أن تقرر.. لكن البعض حسم أمره قبل شهور أو
سنوات من مجيء طفله الأول، فقد اختار له اسما، وربما اختاره له الآخرون.. وعادة ما
يختار اسم أحد والديه، أو عزيزاً عليه رغب بتكريمه، وأحيانا يترافق الاسم مع سطوع
نجم زعيم (صدام، عبد الناصر..)، أو اسما دينيا للتبرك (محمد من أكثر الأسماء
شيوعا).. وخلافا لكلام فيروز؛ بعض الأهالي لا يتعبون في اختيار الاسم، فيختارون
أسماء ثقيلة وصعبة وغير محببة، وكأنّ الأسماء تشترى بالمال! كان العرب قديما يختارون
أسماء مرعبة لمواليدهم (حرب، ذئب..) لتخويف الأعداء، وأسماء قبيحة إذا اعتقدوا
أنهم سيقعون في الأسر (كليب، حنظلة..)..
في السودان مثلا يسمون المولود اسما
عجيبا (دوكة مثلا) لتجنيبه الحسد ولتضليل الأرواح الشريرة، حتى لا تنال منه، وفي المعتقد
الشعبي أنَّ الرضيع إذا كثرت أمراضه يتوجب تغيير اسمه، وإذا أكثرت الأم من إنجاب
البنات يسمون الأخيرة "كفاية" حتى يأتي الصبي من بعدها.
وفي الموروث الثقافي: "الاسم
ينزل على صاحبه من السماء"، و"لكلٍ من اسمه نصيب".. لكن هذا
الاعتقاد يخيب أحيانا؛ فنرى شخصا مفتول العضلات، عريض المنكبين اسمه وائل، أو سمير،
والعكس أحيانا، وهناك من يحملون اسم عادل، أمين، صادق، شريف.. وهم أبعد ما يكون عن
العدالة والصدق والشرف..
الأسماء العربية غالبا ما تكون
مشتقة من فعل، ولها معنى.. في اللغة الإنجليزية وربما في العديد من اللغات
الأجنبية الأسماء غالبا لا معنى لها..
ومع أن فيروز تقول: "الأسامي كلام..
شو خص الكلام.. عينينا هني أسامينا".. بيد أنه في ذهننا يرتبط الاسم بالشخص
وبصفاته أيضا، وعندما نُعجب بشخص ما نُعجب باسمه، فإذا التقينا بآخر له نفس الاسم،
ولكن بصفات مختلفة نرتبك، ونقول: "خسارة فيك الاسم"، وكأنّ للاسم قوة
كامنة ترتبط بشخصية الإنسان؛ ولكن حين نسمع اسمنا نصغي إليه باهتمام، نسمع فيه همسا
خفيا، نداء غريبا، نشتمُّ عبقا عطريا لذكرى بعيدة.. وكأنّ للاسم ذاتاً غير مرئية، مستقلة
وراء الصوت.
اسمك، حتى لو لم تحبه، ستعتاد
عليه، وسيصبح رفيقك الدائم، وعنوانك، وهويتك.. بعض الرهبان البوذيين ومن شدة إيمانهم
بأهمية الاسم، يمضون الليل الطويل وهم يرددون اسمهم، حتى تتكشف لهم حجب الغيب وتستيقظ
ذواتهم البصيرة العليمة.
الاسم قرين الشخص الأبدي، ونادرا
ما يرغب الإنسان بتغييره، حتى لو صار اسمه أبو محمد، أبو علي.. أو الشيخ أو
الدكتور.. سيظل في داخله حنينا لسماع اسمه الأصلي المجرد.. الإنسان فاني، لكن اسمه
يتخلد، خاصة إذا اقترن بقصة، أو بإنجاز كبير..
في القرى اعتاد الأهالي على منح
لقب لكل شخص، بعضها مضحك، ومهما حاول هذا الشخص التحرر من لقبه سيفشل، وقد يصبح
اسما للعشيرة بعد أجيال، لذا تجد أسماء العائلات غريبة أحيانا، قد يكون اسم حيوان،
أو حرفة، أو نتاج موقف محرج..
كان الأمريكان البيض ينزعون عن
"العبيد" أسماءهم الأصلية لنزعهم عن وطنهم الأم، وتغيير ثقافتهم
وتكوينهم النفسي، وفي فيلم "الجذور" يتحمل "كونتا كنتي" أشد
العذاب محاولا الإبقاء على اسمه، رافضا اسمه الجديد، والغريب "طوبي"..
وفي إطار العقاب النفسي والتحقير
تسعى إدارات السجون القمعية إلى استبدال اسم السجين برقم، حتى يفقد إحساسه بذاته،
ويفقد إنسانيته بالتدريج.. إسرائيل تمارس الجريمة نفسها؛ الشهداء الذين تحتجز
جثامينهم (وهي الكيان الوحيد في العالم الذي يمارس هذه الفعلة الشنيعة) تنزع عنهم أسماءهم،
وتحولهم إلى مجرد أرقام.
في بدايات الثورة الفلسطينية كان
بعض الفدائيين يختارون أسماء حركية تحمل شحنة من الاعتزاز والاعتداد (أبو الخناجر،
أبو الفداء..)، وفي فترة النضال الحزبي/ السري والتي امتدت حتى نهاية الثمانينيات
كان أغلب المناضلين يحملون أسماء حركية، وكثيرا ما اقترنت تلك الأسماء بحكايات
ومواقف لا تخلو من الطرافة، أو المأساة، كما كان لها فضل كبير في نجاتهم من
الاغتيال أو الاعتقال.. الشاعر غسان زقطان اضطر لمغادرة سورية باسم مستعار بعد أن
عرف أنه مطلوب للأمن، وفي المطار كان لدى أجهزة الأمن معلومة بأنه سيغادر في ذلك
اليوم، وأثناء وقوفه في "طابور" الانتظار في طريقه إلى الطائرة نودي
عليه بالسماعة باسمه للتوجه إلى مكتب الأمن، وكاد في لحظة انسجام تلقائي مع اسمه
الأصلي أن يلبي النداء، ولولا تماسك أعصابه لظفر به الأمن آنذاك، وبالتالي كان سيمضي
شطرا من حياته مغيبا في السجون، وبالتأكيد كنا سنخسر شاعرا كبيرا لولا تلك الحيلة..
وهنالك قائمة طويلة لمناضلين
نعرفهم بأسمائهم الحركية فقط، أشهرهم ياسر عرفات (محمد القدوة)، صخر حبش (يحيى عبد
السلام)، عباس زكي (شريف مشعل)، ياسر عبد ربه (أديب)..
في
الوسط الفني يختار الفنانون اسما سهلا ومحببا، وهنالك مفاجآت بين الأسماء الحقيقية
وأسماء الشهرة: أم كلثوم اسمها (فاطمة إبراهيم)، عبد الحليم حافظ (عبد الحليم
شبانة)، فيروز (نهاد حداد)، وديع الصافي (وديع فرنسيس)، وردة الجزائرية (وردة
فتوكي)، وليد توفيق (وليد توتنجي)، صباح (جانيت فغالي)، يسرا (سيفين نسيم)، عمر
الشريف (ميشال شلهوب)، ناديا لطفي (بولا شفيق)..
في
الأدب، لكل مبدع دوافعه الخاصة لتغيير اسمه، قد يكون للتمويه الأمني بداية، ثم
يكتسب دلالات مختلفة، مثل مغادرة الجغرافيا، والتحرر من المرجعيات الطائفية،
والافتخار القبلي، ومن إرث الماضي، والإعلان عن ولادة جديدة مكتفية بنَسَبٍ شخصي،
قِوامه تحقيق الذات بعصامية..
المفكر
السوري أدونيس هو (علي سعيد)، الشاعر الأردني أمجد ناصر (يحيى النعيمي)، زكريا
محمد (داوود الزاوي)، مي زيادة (ماري).. بعض الشعراء
القدامى قد لا نعرف أسماءهم الحقيقية، كالفرزدق والأخطل والشنفري والمتنبي وديك
الجن وتأبط شرا وأبي نواس، وقد عرفناهم بألقابهم التي اكتسبوها لصفاتهم الشخصية؛ فالفرزدق
هو الرغيف النيئ، والأخطل هو كبير الأذن، وتأبط شرا هو الذي قتل غولا وعاد متأبطا
رأسه، والشنفري صاحب الشفاه الغليظة، والمتنبي لأنه ادعى النبوة.
بعد أن يحمل الشخص اسمين قد يعيش متعبا ومرتبكا، ينوء بحمولة السؤال المحير: هل أتعايش مع اسمي الجديد، الذي عرفني به الناس؟ وبه قدمت نفسي لهم، وبنيت حياتي وذكرياتي؟ أم أتمسك باسمي الأصلي الذي منحته إياي العائلة؟ وما زال يحتفظ بذكريات الطفولة، وبه أتعرف على ذاتي الحقيقية! وبأي اسم سأتواصل مع عالمي الداخلي!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق