تتمتع السلطة الوطنية بسمعة مقترنة بالفساد، ولا أشك لحظة بأن هذه السمعة تمت صناعتها بعناية على يد أعدائها وخصومها السياسيين، وتنطوي على قدر كبير من المبالغة والتهويل، والتضليل.. أو على الأقل بقراءات مغلوطة وغير موضوعية.. ومع ذلك، لا يمكن إنكار وجود فساد بمستويات متعددة في السلطة..
لست هنا بصدد الدفاع عن سمعة السلطة، أو تبرئتها؛ بل بهدف إيجاد آليات فعّالة
وناجعة لمكافحة أي فساد نشأ فيها، أو قد ينشأ مستقبلا..
تدعو اللافتات التي تنشرها هيئات مكافحة الفساد (الحكومية أو الأهلية) إلى
ضرورة التبليغ عن أي شخص فاسد، مع ضمان توفير الأمان للشخص المبلّغ.. وهي دعوة
جيدة في ظاهرها، لكنها تتطلب شروطا صعبة، وهي توافر أدلة دامغة (وهذا حقها)..
الأمر الذي جعلها مجرد دعوة "مثالية" وغير واقعية؛ فقد يرى أي شخص منا
ظاهرة فساد، وهو متأكد منها، لكنه لا يملك سوى ملاحظاته واستنتاجاته (قد تكون
صائبة، وقد تكون خاطئة)، لذا غالبا ما يحجم الناس عن التبليغ، ولكنهم يثرثرون
ويتحدثون باستفاضة عنها في جلساتهم الخاصة.
كما أنّ هيئات مكافحة الفساد لا تعنى بما يتعلق بسوء الإدارة أو التقصير،
بقدر ما هي معنية بكشف حالات واضحة ومحددة، غالبا ما تتعلق بالمال، أو ممارسات غير
أخلاقية، ومثل هذه الحالات لم تعد متاحة، وإذا وجدت بالكاد تُرى..
صندوق الشكاوى الذي تجده في كثير من المؤسسات، أو دائرة الشكاوى التي
استحدثتها الحكومة، وفرضتها في كل وزارة، هي أيضا شكل من التحايل على المشكلة، فلا
أحد يعرف ماذا توجد في تلك الصناديق، وماذا يحدث في الشكاوى، وآليات متابعتها..
رغم صحة هذه الإجراء وضرورة الاستمرار فيه، إلا أنه غير كاف، ولا يشكل رادعا
حقيقيا لدرء الفساد؛ كما أن أغلبية الشكاوى عبارة عن مطالب وملاحظات شخصية، وخاصة.
الزيارات المباغتة، والجولات التفتيشية التي تنظمها لجان الرقابة غالبا ما
تركز على الورق، وعلى بعض الشكليات، ومن النادر جدا أن تتجه إلى صلب المشكلة، أو
تواجه رئيس المؤسسة، أو الوزير..
الصحافي لا يحظى بأية حماية أو دعم، ليطرح مشكلة فساد تتعلق بكبار الشخصيات
والمتنفذين..
التقارير السنوية التي تقدمها الوزارات والهيئات الحكومية لا تتضمن إلا
المنجزات، والاحتياجات، مع سرد مثالي للأداء.. ومن غير المتوقع أن تعترف بأي
تقصير، أو خلل، أو سوء إدارة، أو أن بعض القرارات التي اتخذتها كانت غبية، أو
متهورة، أو خاطئة.. وطبعا من المستحيل أن تعترف بوجود فساد..
قبل سنوات قليلة منحت الحكومة الصلاحية لأي وزير إحالة عدد معين من موظفيه
إلى التقاعد المبكر، دون إبداء الأسباب.. الأمر الذي جعل بعض الوزراء يتعسفون في
ممارسة صلاحياتهم، وإقصاء أي موظف غير راضين عنه (بغض النظر عن الأسباب)، وهذا بحد
ذاته قمع وإرهاب كاف لمنع أي موظف من إبداء أي ملاحظة، أو الاعتراض، فما بالك
بالتبليغ عن فساد!! وبالمناسبة، الفساد ليس ماليا بالضرورة، وهذا أسهل أنواع الفساد..
الفساد الأخطر هو الفساد الإداري، هو القرارات المزاجية، هو عدم الأخذ بآراء
المختصين وذوي الخبرة، هو الاستفراد بالقرار، ووضع الشخص المناسب في المكان غير
المناسب.. ومثل هذه الأخطاء قد تجدها في أي وزارة، ولكن من يعترض؟ ومن يجرؤ على
الكلام؟ فرئيس المؤسسة بيده صلاحية النقل، والنفي، والإحالة على التقاعد..
رئيس الحكومة ليس بوسعه الاطلاع على كل التفاصيل، ولا يستطيع مهما كان كفؤا
ونزيها ومثابرا التأكد من كل شاردة وواردة، والتقارير التي تصله عن حسن الأداء مثالية..
ما الحل؟
في الثمانينيات، أثناء زيارة صدام حسين لإحدى المنشآت خطرت في باله فكرة
تخصيص لوحة يكتب عليها العاملون في المنشأة، ويعبرون عن آرائهم في أدائها ومنجزاتها
ومطالبها. وأطلق عليها "الجدار الحر"، وسرعان ما انتشرت "الجدران
الحرة" في كل مدرسة وكلية ومصنع ودائرة حكومية.. لكنها فاضت بالشعارات
والقصائد وعبارات المديح والثناء على أداء المؤسسة ورئيسها، في ظل القائد المفدى..
وهكذا تم تزييف وعي وإرادة الجمهور..
المقترح باختصار هو اعتماد التغذية الراجعة (feedback)، أو تقييم الأداء، أي الأخذ
بآراء وملاحظات المستخدمين والموظفين ومتلقي الخدمة.. وذلك بتخصيص استمارات دورية،
يقوم بتعبئتها كل من له علاقة، تضمن السرية والشفافية.. بحيث يعبّر كل شخص عن رأيه
بصراحة، ودون خوف..
في الأردن الشقيق، إذا ركبت سيارة "أوبر" تجد السائق مهذبا
ومتعاونا، والسيارة نظيفة، ومريحة، والرحلة آمنة، وتصل بأقصر الطرق وأيسرها.. وإذا
ركبت "تاكسي" فقد تواجه (في حالات معينة ومحدودة) سائقا نزقا، يسمعك
محاضرات في الأخلاق، وعن علاقة لبس النساء بانقطاع المطر، أو يجبرك على سماع أغاني
هابطة بصوت مرتفع، وقد يتحايل عليك بالأجرة.. الفرق بين الحالتين هو نظام
"التقييم" التي تتبعه سيارات "أوبر"، وهو نظام يمنح الراكب
إمكانية التقييم، لذلك يكون السائق حريصا جدا على سمعته وتقييمه..
وبالمثل، أخذت المطاعم والفنادق والشركات تتبع نظام التقييم؛ لأنه بات أفضل
وسيلة "موثوقة" للدعاية، فهي لا تُكسِب الزبائن وحسب، بل وتضمن حسن
الأداء، وتطويره، ومعالجة الأخطاء، بناء على ملاحظات المقيّمين.
إذا عُمّم نظام التقييم على الهيئات الحكومية (والأهلية) سيكون أكفأ وأرخص آلية
لمكافحة الفساد؛ فهو أولاً سينزع من الوزير ومن رئيس الهيئة سلاح التفرد
والاستبداد، وسيجعل من جميع العاملين شركاء حقيقيين في اتخاذ القرارات وتحمل
المسؤولية، وسيمكّن كل موظف وكل مختص وذو خبرة من إبداء ملاحظاته لتصحيح أي خطأ،
ولمنع التجاوزات، وضمان جودة الأداء.
وهذا النظام لا يقتصر على الموظفين، بل يشمل متلقي الخدمة؛ فمثلا وزارة
الزراعة تأخذ بتقييمات المزارعين ومربي الدواجن والماشية والشركات الزراعية..
وزارة النقل تأخذ بتقييمات السائقين وشركات الباصات، في المدارس والكليات يقيّم
الطلبة أساتذتهم، ويقيّم الأساتذة مدراءهم.. وفي الوزارات يقيم الموظفون أداء
مدرائهم، والمدراء يقيمون الوزير، والوزير يأخذ بتقييمات الجميع.. وهكذا.
لنجاح الفكرة يجب أن تؤخذ التقييمات من مختلف مصادرها على محمل الجد،
وبشفافية، وأن يتم تفريغها وتحليلها بمنهج علمي إحصائي، ونشر ما يتوجب نشره على
الملأ..
بهذه الآلية سيعرف كل مسؤول وصاحب قرار أنه ليس مطلق الصلاحية، وستحد من
قدرته على التفرد، والارتجال.. وسيكون كل مواطن شريك فاعل في مكافحة الفساد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق