ما الذي يجعل شابا أمامه
عمر بأكمله، ومن المفترض أن يتطلع إلى المستقبل، أن يأتي من آخر الدنيا إلى بلد لا
يعرف فيه أحدا، ويختار سوقا شعبيا ليفجر نفسه فيه، ويقتل أكبر عدد ممكن الناس!؟
ما الذي يجعل الجموع
الغفيرة من الناس تخرج للتظاهر وهي في قمة الغضب للتنديد بكتاب لم تقرأه، أو ضد
فيلم لم تشاهده؟!
كيف يقبل الطبيب، أو
المهندس، أو العالم المختص الاستماع لرجل الدين (في خطبة الجمعة، أو عظة الأحد)
وهو يفتي بأشياء لا علم له بها، وتتناقض مع العلم والمنطق.. ومع ذلك يأخذها على
محمل الجد، وربما يتبناها!؟
كيف تسيطر السلطة على
الجماهير؟ وكيف تتحكم بها، وتوجهها، وتقمع الأصوات المعارضة؟
لماذا يتقرب السيسي من
الأزهر؟ ولماذا يبقي الرئيس عباس على الهباش؟ ولماذا تتحالف السلطات السياسية مع
المؤسسة الدينية، وتقرب منها المشايخ والوعاظ والقساوسة؟
لماذا يتقبل المؤمن ما
يقوله رجل الدين، حتى لو تناقض مع رغباته، وقناعاته، وكان ضد فطرته، ولو دفعه
للموت، أو لمعاداة الآخرين؟
كيف يسيطر المرجع الشيعي
على الملايين؟ ولماذا ينتظر أهل السنة كلمة المفتي؟ وكيف يهيمن زعيم الطائفة على
أتباعه، ويدفعهم كالقطيع؟
الإجابة على ما سبق تكمن
في إدراك الخيط الناظم بينها، والذي يمكن تلخيصه بكلمتين: الإذعان الديني..
بداية، على كل مؤمن إتباع تعليمات
دينه، والإيمان بما جاء فيه، والعمل بمقتضياته، وإقامة الشعائر حسب الأصول.. هذا
لا خلاف عليه.. ولكن، لدينا إشكالين؛ الأول: دخول رجال الدين على الخط، وإدعائهم
تمثيل الدين، والوصاية على المؤمنين، واحتكارهم تفسير وتأويل النصوص.. الثاني:
إتباع المؤمنين رجل الدين، وتصديقهم لكل ما يقول، واعتباره جزءا من الدين نفسه، أي
الخلط بين الدين ورجل الدين وبالتالي تقديسه، وتقديس أقواله لدرجة إلغاء عقولهم..
في الإشكالية الأولى، تبرز
قضية فهم الدين وتشريعاته ونصوصه بصورة مثالية، لا تاريخية، وغير مقترنة بالتحولات
الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي أحاطت به عبر العصور المتلاحقة، أي فهم
الدين بطريقة جامدة غير مرنة، فاقدة لكل ميكانزيمات التطور، فيؤخذ الدين بصورته
الأولى التي تشكلت قبل مئات السنين، وإغفال كافة المؤثرات الخارجية التي طورته
وغيرته وأعادت تشكيله مرات عديدة، وبهذا الفهم السلفي الماضوي، يصبح نموذج الدين
"الأصلي" هو النموذج الوحيد المعتمد، وبذلك ينفصل عن الواقع الراهن،
المختلف بكل تفصيلاته عن البيئة التي ظهر فيها الدين أول مرة، فيتوقف به الزمن عند
ذلك العصر، وتتوقف تدخلات وتأثيرات الواقع، ويستغرق في ذلك الماضي البعيد، ويصبح
أسيرا له، ضمن قطيعة شبه كاملة مع الحاضر.
في سياق متصل، كتب
"جواد غلوم"، في موقع "إيلاف": "من أكثر القضايا تعقيدا
في الفكر الإسلامي والتي كرست التخلّف ومنعت اللحاق بميادين التحضر مسألة استبعاد
العقل، والخضوع لما هو منقول من التراث الديني، والخوف من مخالفته، أو حتى تعديله،
أو تصحيح مساره كي يوائم العصر الذي نعيش فيه، وهذا ما نسميه "الإذعان للنقل"،
أي إتباع النص دون استخدام العقل.. فما زال الكثيرون يؤمنون بأنه لا يوجد شيء فوق
النصّ، وأنّ للنص قدسيته، ولا اجتهاد ولا رأي مع وجود النص، ما أدى إلى مصادرة
العقل وتعطيله، مادام النصّ المقدس حاضرا.. وكأنّ النص ليس وليد العقل الذي أنجبه".
في الإشكالية الثانية، قادت
عملية تمثيل الدين، والوصاية عليه، واحتكار فهمه، واحتكار تفسير نصوصه إلى إعطاء رجال
الدين مكانة قدسية، مكّنتهم من التأثير على قلوب المؤمنين، والهيمنة على عقولهم،
ومن ثم إلغائها، ليصبحوا مجرد رعية، تخضع لراعيها.. فصارت فتاواهم ملزمة، وآرائهم
الخاصة حكما قاطعا، واجتهادهم واجب الإتباع.. وهذا ما يسمى بالإذعان الديني..
والإذعان الديني الذي ينحو
نحو التعصب عادة، يقود تلقائيا إلى الإذعان السياسي، أي السمع والطاعة.. خاصة وأن
السلطة السياسية والمؤسسة الدينية في حالة تحالف (خفي أو ظاهر).. ومن هنا أمكن
للسلطة الهيمنة على الشعب، وإبقائه خانعا.. فذهنية الإذعان تتيح للسلطة ممارسة
الاستبداد والفساد.
ولتجنب التعميم، لا بد من التأكيد
على أن كثيرا من علماء الدين غير متعصبين، ويحملون أفكارا تنويرية وتقدمية، ويحثون
على التفكير الحر، وغير خاضعين للسلطة.. وكثير من المؤمنين متحررين من سطوة رجال
الدين، وبالتالي متحررين من قمع السلطة، على الأقل بتفكيرهم الحر ومواقفهم
المعارضة.
كما أن الحركات الإسلامية وجماعات
الإسلام السياسي التي تتخذ موقفا رافضا ضد من يسمونهم "وعاظ السلاطين" (لأنهم
مكشوفين للناس)، لا يعني موقفها الرافض هذا أنها لا تسهم بتكريس "الإذعان الديني"..
بل هي ضالعة فيه، ولكن بطريقة أخرى، مثل الإرهاب الفكري، أو الطلب من أتباعها الانقياد
وراء قياداتها، وإتباع تعليماتها، والإيمان بأيديولوجياتها بوصفها الإسلام نفسه..
ومثلما تستخدم السلطتين
(السياسية والدينية) الدين بطريقة تقود إلى الإذعان والخضوع، أي بالسمع والطاعة وبإلغاء
العقل، يتوجب تحرير العقل من هيمنة رجل الدين أولا، للتحرر تاليا من سطوة السلطة، بالاعتراض
والثورة.. بمعنى أن تحرير العقل شرط لنجاح الثورة وإمكانية التغيير.
المسألة ليست في التمرد
على السلطة، أو الثورة عليها؛ فقد تكون السلطة أكثر تقدما في الوعي والفكر من
الجماهير، المسألة في تحرير العقل من ذهنية الخضوع والإذعان والتسليم..
وليست في رفض المؤسسة
الدينية، ورفض رجال الدين؛ بل في بناء تصور جديد للإسلام، منفتح، وحر، وخلاق، يسمح
بالاجتهاد، والتجديد، والفنون، والإبداع، وحرية التفكير، والاختلاف.. لبدء انطلاقة
عظيمة وحضارية، بدلا من التصور المتشدد للإسلام، بصورته الماضوية والسلفية الجامدة،
التي قادت للتراجع والنكوص..
المسألة باختصار، هي امتلاك الجماهير حريتها الحقيقية، والثورة على الاستبداد والفساد، وامتلاك الإنسان حريته الكاملة في النقد والتفكير..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق