(1~2)
بعد كل هذه السنين الطويلة من عمر "فتح" تبرز
الأسئلة الكبرى: ماذا حققت الحركة؟ وأين أخفقت، ولماذا؟ وهل تلاشت فعلاً (كما نسمع
كل عام، منذ 1982)؟ ولم يعد منها قائما سوى "ذكريات بطولة" في
طريقها للنسيان؟ وإرث حفنة من القادة التاريخيين صاروا مجرد "بوسترات"،
ربما لا يلتفت إليها أحد؟ هل فتح اليوم، هي نفسها فتح الانطلاقة؟ وأسئلة أخرى
كثيرة لا يخلو بعضها من المكر.
إذا عدنا بالزمن إلى مرحلة ما قبيل الانطلاقة، سنجد أنّ
ما كان معداً للفلسطيني، هو أن يكون الهندي الأحمر، وأن تُطْوى قضيته للأبد.. في ذلك الزمن الصعب والكئيب، كانت فلسطين تمر ُّفي واحدة من أسوأ
لحظاتها التاريخية؛ كانت أجواء النكبة والهزيمة تهيمن على الناس، وتدفعهم لليأس،
كان حُلم أغلب الشباب السَّفر للكويت للحصول على فرصة عمل، أو الهجرة إلى فنزويلا
وأمريكا، فيما كان النشطاء يفنون شبابهم في خلافات الأحزاب القومية واليسارية
والإسلامية. في المخيمات كان جُلَّ همّهم توفير "مرحاض"، وانتظار مندوب
الوكالة للحصول على "بكجة"، و"سلّة المؤن"، في بعض مخيمات
لبنان كان شرطي الدرك ينكّل بالعائلة بأكملها، ويجلد الأم أمام أبنائها دون أن
يكون بمقدورهم عمل شيء، سوى النحيب.
ببساطة، كان الواقع ينـزُّ بؤساً، والمستقبل معتم ومجهول، لكن الانطلاقة
ستخلق واقعا جديدا ومختلفا؛ فمنذ أن أعلنت فتح عن الرصاصة الأولى حتى غطت غيمتها
سماء فلسطين، بعد أن أنهكها الظمأ والـمحْـل، في سنواتها العجاف، ثم من بعدها
انهمر المطر.. في هذا المنعطف المفصلي تحديدا ستصوّب فتح مسار حركة التاريخ،
باتجاه الزمن الفلسطيني الجديد؛ حيث جاءت
انطلاقة فتح كالصاعقة التي أضاءت ليل فلسطين، في أشد ساعاتها حلكة، ففي آخر ليلة مظلمة من العام 1964، توجهت ست مجموعات فدائية مسلحة
إلى عمق الأرض المحتلة، ولديها تعليمات من القيادة بتفجير سد عيلبون، قاد إحدى
المجموعات الشهيد حسين الدلكي، وقد ساعدته شقيقته الأخت المناضلة حمامة الدلكي،
التي حملت على رأسها متفجرات تزن 25 كغم، لمسافة تزيد عن الميلين، ولولا حمامة
وأخيها ورفاقه لما كان هناك انطلاقة وتفجير للنفق. كانت اللجنة المركزية تتابع من الكويت ودمشق، فيما كان أبو عمّار،
وأبو جهاد يتابعان عن قرب وبشكل مباشر، وكانت كلمة السر "انتظروا ضوء
القمر".. لإذاعة بيان العاصفة الأول.
وبالفعل، في تلك الليلة
الفارقة لمع برقٌ في سماء فلسطين، ولاح ضوء القمر، الذي أضاءه دم "أحمد
موسى"، أول شهيد للثورة الفلسطينية، حيث استشهد في طريق عودته، بعد أن زرع
العبوة الناسفة أسفل السد، وزرع معها الأمل في قلوب الفلسطينيين والعرب.
بعد الانطلاقة، تحول الفلسطيني من مجرد لاجئ إلى فدائي،
بعد أن تسلح بالأمل والكلاشنكوف، وصارت له ثورة، وبات بمقدوره أن يصمد، وأن يواجه،
بل وأن يسقط كل مخططات التصفية.
اشتبكت فتح مع العدو في كل مكان؛ هاجمته من البحر والبر، وواجهته على
الحدود، وفي القرى والمخيمات، وفي عواصم عالمية، وفي قلب تل أبيب، وعلى مدخل مفاعل
ديمونا.. بالكلاشن، والحجر، والمولوتوف، وأخيرا بشتلة زيتون.
أدركت فتح منذ البداية أن الهوية السياسية للشعب
الفلسطيني هي حجر الزاوية في معادلة الصراع، وأن إثبات حضورها هو ضمان بقاء القضية
حاضرة في الضمير العالمي، وفي النظام السياسي الدولي.. إبراز هذه الهوية كان إنجاز
فتح الأهم، لكن فتح لم تكتف بذلك؛ إذ جعلت من الثورة المسلحة الوجه الثاني للهوية
الوطنية، وبهذا التماهي صارت فتح (ومن خلال م.ت.ف) هي الإطار الجامع لتناقضات
الشعب الفلسطيني برمتها من ناحية، ورأس الرمح الموجه مباشرة إلى قلب المشروع
الصهيوني من ناحية ثانية.
لم تكن فتح حزبا بالمعنى التنظيمي؛ بل كانت "جبهة
وطنية"، تضم كل ألوان الطيف السياسي والفكري للشعب الفلسطيني، وهذا أحد أسرار
قوتها التي ميزتها عن بقية الفصائل، حيث تجد فيها اليساري، واليميني، الإسلامي
والعلماني، البرجوازي والكادح، المفكر والطوبرجي.. بل أن أي فلسطيني يرى انعكاس
صورته فيها دون الحاجة لملئ استمارة عضوية..
ليس لدى فتح ثوابت مقدسة؛ فقد غيرت خطها السياسي أكثر من
مرة، وهذا سر آخر لقوتها، ففي عالم متغير، ومنطقة تتوالد فيها الأحداث بسرعة
فائقة، وفي ظل نظام دولي يسحق كل من لا يفهمه، لم يكن لدى فتح من خيار سوى
البراغماتية والواقعية السياسية.
وليس لدى فتح أيديولوجية معينة، ولا منهج فكري متزمت،
ولا تُلزم أعضاءها بأي خط سوى فلسطين: بوصلة، وهدف، ومعيار.. وهذا سر جماهيريتها.
لم تسلِّم أوراقها لأي دولة في العالم، وقدمت خيرة شهدائها للحفاظ على القرار
الوطني المستقل، ولم تدخل لعبة المحاور الإقليمية، وهذا ما جعلها الحركة التاريخية
للشعب الفلسطيني، التي حمت القضية من مخاطر الاحتواء والوصاية والتبعية.
ليس لدى فتح أجندات خارجية، ولا مشاريع عابرة للقارات.
لها هدف واحد ووحيد هو تحرير فلسطين، وعدو مركزي لا تُغلّب عليه أي تناقض آخر هو
الاحتلال. لا تؤمن بالعنف إلا إذا كان في سياق برنامج سياسي مقاوم. لذلك لم تقامر
بمصير الجماهير، ولم تدخلهم في مغامرات عسكرية مجنونة.
وبالرغم أن البعض يصنفها على اليمين؛ إلا أنها لا تساوم
على الديمقراطية والمساواة وبناء المجتمع التقدمي القائم على الحرية والعدالة
الاجتماعية، المنفتح على الإنسانية. والبعض ربطها بالبرجوازية، بيد أنها ضمت
الفئات الأكثر فقرا وكدحا، أكثر من أي حزب عمّالي.. وهذا ما جعلها حامية المشروع
الوطني.
وبالرغم أنها الحركة الوطنية للشعب الفلسطيني، إلا أنها
ظلت حريصة على عمقها العربي والإسلامي وامتدادها الأممي. ولأنها المشروع المقاوم
ضد الصهيونية والعنصرية والاحتلال والظلم بكل أشكاله، ستجد كل أحرار العالم
وشرفائه مناصرين لها، ومؤيدين لكفاحها الوطني والإنساني.
فتح هي التي فجرت الثورة، وأطلقت الكفاح المسلح، وهي
التي نظمت وقادت انتفاضتين، وهي اليوم في خضم المقاومة الشعبية، وهي التي خاضت
مغامرة "أوسلو" بكل ما فيها من نواقص ومثالب، وكوارث، وهي التي مهدت
لقيام السلطة الوطنية، بكل ما عليها من ملاحظات وسلبيات، وقادتها في مرحلة بالغة
الدقة والصعوبة شهدت الانهيار العربي وتفرد الإمبريالية العالمية بالمشهد السياسي
الكوني، ورغم ذلك وضعت فلسطين على أعتاب الدولة، وبدأت تنتزع اعتراف العالم بها
دولة بعد أخرى.
(2~2)
فتح صاحبة القوة الجماهيرية الأكبر، والمؤسف أن قيادتها لا تحسن
تحريك قوتها الجماهيرية. ومع أن خطابها السياسي تطور ونضج حتى نال قبول العالم؛ إلا أن بعض
متحدثيها الرسميين، مصرّين على حشرها في الزاوية الحزبية الضيقة.
ومع أن فتح قدمت من الشهداء والجرحى والأسرى ما يكفي لملئ دليل هاتف
من الحجم الكبير؛ إلا أن بعض المحسوبين عليها يقزمونها عند طموحاتهم الشخصية
الصغيرة. ومع أنها تمثل أنبل ظاهرة عربية (كما وصفها عبد الناصر)؛ إلا أن بعض
الحثالات والطحالب نمت على جنباتها، وشوهتها. ومع أنها وحّدت الشعب الفلسطيني
واستوعبت تناقضاته؛ إلا أن البعض يسعى لشقِّها واختطافها لحسابه.
كما ألهمت فتح الجماهير، وحرضتهم على الثورة، فإنها أربكتهم حين وقفت
في منتصف الطريق، ونحَّت السلاح جانبا، قبل إنجاز مهمتها الوطنية، وهي التحرر
والاستقلال. ومع أنها أرست الدعائم الموضوعية للدولة الفلسطينية، وتحملت تبعات
وأكلاف بناء السلطة الوطنية، إلا أن مثالب السلطة ومساوئ الحُكُم كانت تنعكس عليها
سلباً، دون أن تستفيد منها إعلاميا وتنظيميا، أو في الانتخابات.
فتح نفسها، ليست صنماً، لنعبده، ولا هدفا بحد ذاته.. هي
وسيلة للتحرير.. وما زالت الظروف الموضوعية التي استدعت انطلاقتها قائمة؛ فإنها
ستظل ضرورة وطنية.
أبناء الحركة هم أكثر من ينتقدها، وهم أشد قسوة عليها من غيرهم حين
يجلدوها، ولكنهم أمام الآخرين، يدافعون عنها باستماتة؛ حيث تبرز "قبيلة
فتح". خلافات فتح الداخلية، عادة ما تكون علانية وعلى الملأ، وبالمناسبة،
ليست كلها صحية بالضرورة، هنالك صراعات شخصية لا علاقة لها بالوطن.
فتح اليوم لا تشبه فتح الأمس؛ وزمن الفدائيين يختلف عن زمن أوسلو، وفتح
في زمن أبو عمّار ليست كما هي في زمن أبو مازن.. وهذا صحيح؛ ففتح اليوم تعاني من
الترهل، وغياب القيادة الجماعية، وشخصنة القضايا الوطنية، وضبابية الرؤية السياسية
الشاملة، وضعف البرامج الكفاحية، وقد فقدت الكثير من رصيدها النضالي، وباتت تقتات
على أمجادها، دون أن تجدد هياكلها وقادتها وأن تطور آليات عملها..
لم يعد لفتح ذات البريق؛ همتها النضالية تخبو، وقدراتها التنظيمية
تتآكل، وهياكلها تتكلس، وقد أخذت تفقد خياراتها تباعا، وتفقد رصيدها الجماهيري..
وإذا لم تتنبه قيادات وكوادر الحركة لتلك الحقائق، فليس مستبعدا أن تتحول فتح إلى
مجرد ذكرى وتاريخ نضالي، في تاريخ الشعب الفلسطيني الطويل والحافل..
في عهد السلطة الوطنية تعمقت أزمة
فتح، وتكشف ضعفها.. أخطاء كثيرة مارستها فتح، وارتكبتها السلطة، ليس بالضرورة أنها
مرتبطة بشخص الرئيس، أو أن الرئيس يتحمل مسؤوليتها وحده.. لكن الرئيس أخطأ بتفرده
في اتخاذ القرارات، وإقصائه لخصومه ومعارضيه.. وبعض مواقفه كانت غير مقبولة، أو
على الأقل غير مفهومة بالنسبة لعامة الشعب..
على المسار السياسي، تعمقت أزمة فتح
بسبب انسداد الأفق السياسي، وفشل خيار المفاوضات، والتي كان من أسباب فشلها: تعنّت
إسرائيل، وانحياز أمريكا الكامل إلى جانبها، وممارسات المعارضة على جانبي الصراع:
أي عمليات حماس التفجيرية من جهة، واليمين الإسرائيلي الرافض لخيار السلام من جهة
ثانية..
ثم جاء الانقسام وأضعف الموقف
الفلسطيني كله، وجعل القضية تتراجع إلى منزلة غير مسبوقة في تاريخ الصراع..
على الصعيد الإستراتيجي كان الخطأ
الأهم الذي ارتكبته القيادة تهميش حركة فتح أولا، وتحويلها إلى ما يشبه الحزب
الحاكم، الذي يضيق بمعارضيه، وتهميش منظمة التحرير ثانيا، حتى أصبحت كأنها تابع
للسلطة.. ثم تحويل دور هذه السلطة من كونها مرحلة نضالية (مؤقتة)، اقتضتها الظروف،
كان يجب أن تظل في صيغة اشتباك ومقارعة للاحتلال، إلى حالة دائمة، ودور أمني،
مهمتها حماية صيغة أوسلو..
على الصعيد الداخلي، أخفقت فتح في
تقديم أنموذج محترم لقيادة وإدارة السلطة، رغم كل ما أنجزته، حيث أن الصورة العامة
لأداء السلطة لم ترقَ إلى المستوى المأمول، وقد شابها الكثير من السلبيات،
والفساد.
في السنوات العشرة الأخيرة، ازدادت
الأوضاع سوءاً؛ تراجعت مظاهر الديمقراطية، وهبط سقف الحريات كثيرا، حريات التعبير،
حريات الصحافة، قمع المظاهرات الشعبية، اعتقالات على خلفيات سياسية، وأخذت السلطة
تنحو منحى الأنظمة العسكرية، بعقلية أمنية تقليدية. حتى الإعلام الرسمي بات أشبه
بإعلام البعث..
على الصعيد الاقتصادي، تتصرف الحكومة
كأنها وكيل للبرجوازية والكومبرادور، وقد برز تحالف طبقي من كبار رؤوس الأموال،
يمسك بزمام الاقتصاد، ويتحكم في كل مساراته، وهو تحالف لا يسعَ للتصادم مع الاحتلال..
بل إنه تكيف مع الاقتصاد الإسرائيلي ولم يفلح بالتحرر منه.. وهذه الصيغة تقتضي غض
الطرف عن بعض رموز الفساد.
على هامش هذه الطبقة نشأت طبقة
"وسطى" قوامها كبار الموظفين، وكبار الضباط، وكبار موظفي المنظمات غير
الحكومية، وكبار التجار.. وهذه الطبقة مستكينة إلى استقرار الأوضاع النسبي (أمنيا
واقتصاديا)، وفي قلبها طبقة أصغر قوامها الموظفين والمهنيين والنخب المثقفة..
وهاتين الطبقتين تمارسان النضال الوطني بأشكال متفاوتة، باهتة، وليس إلى الحد الذي
يؤدي إلى تغيير المشهد السياسي.
تبقَّ لدينا الطبقات المسحوقة
والشعبية، وهي التي ما زالت تخوض النضال الوطني وتقدم التضحيات والشهداء..
هذا كله نتج عن، وتسبب في تراجع
الدور الكفاحي للفصائل الوطنية، وفي مقدمتها فتح، وتعميق عزلتها عن بعدها
الجماهيري..
وبالرغم من أخطائها، لا أوافق أبدا
على تخوين القيادة، ولا على توصيف السلطة بأنها وكيلة للاحتلال.. فهذه توصيفات
أيديولوجية، نابعة من خلافات حزبية، ومن أحكام مسبقة، متأثرة بعقلية المؤامرة، ولا
يمكن الاعتماد عليها في بناء تحليل علمي موضوعي لفهم المشهد الفلسطيني واستشراف
آفاقه المستقبلية..
باختصار، مشكلة فتح أنها لم تعمل على
مراجعة تجربتها، ولم تطور أداءها بما يتناسب مع المتغيرات السياسية والاجتماعية
الحاصلة، ولا على تطوير أوضاعها وتجديد هياكلها، وضخ الدماء الشابة في أطرها، وفي
حقل الأفكار والسياسات والعلاقات الداخلية، ما أدى إلى تقادمها وتكلسها..
ومع ذلك، لا يجب أن ننسى أنّ السلطة الوطنية أتت نتاج مرحلة
طويلة من الكفاح والتضحيات، وهي منجز وطني مهم في مسيرة التحرير والعودة.. قبل
توقيع أوسلو قال أبو مازن: "قد تكون السلطة البداية الحقيقية للتحرر من
الاحتلال وإقامة الدولة، أو أن تؤدي إلى تأبيد الاحتلال.. وهذا يعتمد بدرجة كبيرة على
أدائنا". وللأسف يبدو أن أداءنا وكأنه يعمل على تأبيد الاحتلال..
من مقدمة كتابي: "فتح من كَسبِ التاريخ، حتى خسارة
الانتخابات".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق