منذ انطلاقتها، رفعت الثورة الفلسطينية
شعار "التناقض الرئيسي مع الاحتلال"، وحددت العدو المركزي وحصرته ب"الصهيونية"،
وأعلنت أن هدفها "التحرير والعودة وبناء الدولة"، وعرّفت المرحلة بأنها
"مرحلة تحرر وطني"، وبالتالي يتوجب تغييب وتجميد كل التناقضات الثانوية
لصالح التناقض الأهم..
وكما نعلم؛ لم يتحقق الهدف، ولم نحرز
انتصارنا.. بل تراجعنا، وانحرفنا عن المسار، وازداد واقعنا تعقيدا وبؤسا.. في حين
يواصل العدو إنجازاته، وما زال يقمعنا بكل وحشية، ويهيمن على تفاصيل حياتنا، ويعدّ
علينا أنفاسنا..
بالطبع، قطاعات واسعة من شعبنا ما زالت
مصممة على الهدف، وماضية في كفاحها، لا يضرها من خذلها؛ لكن واقع الحال يؤكد دوما
على تفوق العدو (عسكريا، وأمنيا، واقتصاديا، وسياسيا، وتقنيا..) وبشكل لا يقارَن..
الأمر الذي يكبّل ويقيّد أي فعل مقاوم، ويحد من الخيارات الممكنة.. هذا متوقع،
وينسجم مع معطيات الصراع وموازين القوى والمعادلات السياسية القائمة (وهي معادلات
ظالمة بالطبع)، وهذه مشكلة كبيرة، لكن حلها ممكن، يتطلب اجتراح وتطوير أدوات
ووسائل مواجهة جديدة، واعتماد خط سياسي مقاوم، وخطاب إعلامي واقعي وذكي.. المشكلة
الأخطر تتمثل في تقمص روح الهزيمة أو الإحباط، والاعتقاد بأن المقاومة عبثية، وأن
الحكمة في الرضوخ والتسليم والتكيف..
وعلى مدى سنوات الاحتلال ظل الفلسطينيون
(شعبا ونخبا وقيادة) يتبعون مسارين متوازيين (المقاومة والتكيف).. لكن سنوات
الاحتلال الطويلة (وهي سنوات مقاومة في نفس الوقت) لا بد وأن ينجم عنها أعراضا
جانبية سلبية، أخطرها البحث عن عدو بديل، وتغليب التناقضات الداخلية الهامشية على
التناقض المركزي.. وذلك بهدف التعويض المعنوي عن الإحساس بالهزيمة والخذلان.. وهذا
كله وهم، وخداع للذات..
وبطبيعة الحال؛ هذه ليست مشكلة الفلسطينيين
وحدهم؛ بل هي مشكلة كل الشعوب العربية..
الفلسطيني يتعرض للقهر والإذلال بشكل
يومي، يُمتهن على الحواجز، على المعابر، مُعرض للاعتقال في أي لحظة، يظل هدفا
للقناصة، غير آمن حتى في بيته، تُصادر أرضه، أو يُمنع من الوصول إليها، يُهدم
منزله، ومن ثم يدفع تكاليف الهدم! هذا الواقع المرير والصعب يعايشه الفلسطيني كل
يوم، فإذا لم يكن معه شخصيا، أو مع قريبين منه، فهو يراه مع غيره، ويراكمه في عقله
الباطن، ما يولد لديه الشعور بالمرارة، والغضب الذي يضطر لكبته، مع إحساس بالعجز..
الشبان المفعمون بالروح الثورية، بعد أن
أدركوا عدم جدوى الكفاح المسلح، أو عدم قدرتهم على ممارسته، راحوا يبحثون عن معارك
أسهل.. ومن يئس من قدرته على مقاومة الاحتلال (القوة التي تقمعه بشكل مباشر)، اختلق
له عقله الباطن أعداء آخرين أقل بطشا، وأضعف، أعداء يمكنه هزيمتهم، أو على الأقل
مقارعتهم.. وهؤلاء قد يكونون جيرانه، أو الفصيل المنافس له، أو الحزب السياسي
المختلف معه، أو من يظنهم عراقيل أمام الوصول إلى عدوه الحقيقي (الجواسيس)..
البعض الآخر اختلق معارك بديلة، غالبا في
المجال الاجتماعي والديني (لباس المرأة، وتبرجها، سيداو، قانون حماية الأسرة،
منظمات ال NGOs، الشركات الاحتكارية..)، دون التقليل من أهمية هذه القضايا، لكن
التفرغ لها لا يعني سوى التهرب من المعركة الحقيقية.
البعض قد تُصادر أرضه من قبل سلطات
الاحتلال، فيكتفي بالحزن أو الاعتراض لدى المحاكم.. لكنه قد يخوض معركة دموية
بالرشاشات، يروح ضحيتها العشرات إذا اختلف مع جاره على متر مربع من الأرض! وإذا قَتل
الاحتلال عزيزا علينا نودعه بجنازة مهيبة، ونعلق صورته على الجدران، ونعلن عنه
شهيدا، ونطالب بالانتقام له.. لكن إذا أصيب أحد بحجرٍ من جاره، أو قُتل شخص في
مشاجرة، أو إذا وقع أي خلاف اجتماعي تظهر البنادق والكلاشنات، وتُسال الدماء،
وتتصاعد دعوات الثأر والانتقام، وتظهر "البطولات" فجأة!!
في البلدان العربية يتعرض المواطن العربي للقهر
والقمع، يجوع، يُسجن، يضربه الشرطي في الشارع، تُهدر كرامته من قِبل رئيسه في
العمل، تُنتهك حقوقه المدنية بكل بساطة، لا يجد فرصة عمل، وقد لا يجد بيتا يأويه،
فيضطر للسكن في المقابر والعشوائيات وأكواخ الصفيح.. يرى بعينيه الفساد، والرشاوى،
ويسمع من حكومته الكذب والتدليس، ويعرف أن المحاكم فاسدة، وغير عادلة، ويعرف أن
النائب الذي سينتخبه فاسد ولص وطائفي، وقبل ذلك يعرف أن الانتخابات مزورة.. يعلم
في قرارة نفسه أن كل مشاكله وأزماته وهزائمه سببها الأنظمة الفاسدة، وبالتحديد رأس
النظام، والتحالف الطبقي الحاكم، يعرفهم بأسمائهم، ويعرف أن مشكلته الحقيقية هي الدكتاتورية
والاستبداد، وغياب العدالة الاجتماعية، وقمع الحريات، وانتهاك حقوق الإنسان..
ومع ذلك، بدلا من خوضه معركته ضد الظلم
والطغيان والفساد والقمع والسلطة الحاكمة، يخوض معارك جانبية تافهة.. وبدلا من
مطالبته بحقوقه المدنية يطالب بأشياء ثانوية لتكون بديلا وتعويضا عن عجزه.. وبدلا
من مواجهة الحاضر، يغوص في التاريخ.. يفعل ذلك بوعي وبدون وعي.. أي منقادا إلى الساحات
التي تجره إليها نفس النخب الفاسدة التي تسببت بمأساته، أو أحد أدواتها، ومن ينوب
عنها..
بمعنى آخر، تدرك السلطات الحاكمة أن المجتمع
محتقن بالغضب، وساخط، وعلى وشك الانفجار.. فتقوم بتنفيس هذا الاحتقان، وامتصاص غضب
الشارع، عبر افتعال قضايا هامشية، لتصبح فجأة هي القضية الرئيسية.. فيصبح الفساد مختزلا
بزي ممثلة غير محتشمة، أو بفستان مثير لعارضة أزياء.. ويصبح النادي الرياضي
الفلاني هو العدو الذي يجب أن نصب جام غضبنا عليه.. وتصبح قضية الأمة رسوما
كاريكاتيرية، أو كتاب، أو رواية، أو فيلم سينمائي..
وهنا يأتي إعلام السلطة ليقدم خدماته،
إعلاميون وكتّاب شعبويين يركبون الموجة، وأحيانا رأس السلطة يدخل على الخط..
بالمختصر، منذ زمن بعيد، ونحن نخوض معارك
هامشية، ونحارب طواحين الهواء، ونحرز انتصارات دونكيشوتية، نختار أعداء وهميين..
وإذا أضفنا الكبت الجنسي إلى القمع السلطوي، نعرف لماذا نحن مجتمعات مأزومة، ومقهورة،
ونفهم لماذا تظهر ردات الفعل الغاضبة جدا على أمور تافهة، ونفهم ظاهرة إطلاق
الرصاص في الهواء في كل مناسبة.. وندرك كم نحن بعيدين عن الانتصار الحقيقي..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق