ها هي المغرب تلتحق بركب الدول المطبعة مع إسرائيل، مقابل
اعتراف أمريكي بسيادتها على الصحراء الغربية، وكانت السودان قد سبقتها في مسلسل
التطبيع، مقابل وعد أمريكي برفع اسمها من قائمة الدول الراعية للإرهاب، ومن قبلها الإمارات مقابل الموافقة على بيعها طائرات F35، والبحرين (دون مقابل)!
وبذلك تزداد قائمة
الدول الموقعة على معاهدات سلام مع إسرائيل (مصر 1978، والأردن 1994). وبالإضافة لذلك،
هنالك بلدان عربية أخرى تقيم علاقات سرية أو شبه علنية مع إسرائيل تتضمن تعاونا في
مجالات عديدة، فمثلا في سبتمبر 1994 اتفقت تونس وإسرائيل
على فتح مكتبين للتمثيل التجاري في كل منهما، تبعتها جيبوتي لتوقع على تطبيع
العلاقات في ديسمبر 1994. وفي العام التالي في نوفمبر 1995 افتتحت قطر مكتب
تمثيل في غزة، ومكتب تمثيل إسرائيلي في الدوحة، ومنذ ذلك الحين والعلاقات بينهما
قائمة ومزدهرة، بما يشمل زيارات رسمية وزيارات لوفود رياضية وثقافية وسياحية
وغيرها. وفي أكتوبر 1999 أعلنت موريتانيا عن إقامة علاقات دبلوماسية بينها وبين
إسرائيل.
لم يقتصر الأمر عند توقيع اتفاقيات رسمية، فقد صرنا نسمع كل يوم عن انفتاح
وتعاون غير عادي مع دولة الاحتلال، بما في ذلك شراء نادي "بيتار القدس"،
وهو نادي يهودي يميني متطرف، شعاره "الموت للعرب"، وأيضا عقد صفقات
تجارية لاستيراد منتجات من الجولان والمستوطنات، عدى عن مظاهر احتفالية غير مفهومة
بهذا السلام الوهمي، مثل تصوير أطفال عرب يرفعون الأعلام الإسرائيلية، أو التصوير
مع فنانين إسرائيليين، أو استضافة مستوطنين في البيوت، وبث أغاني مبتذلة تتغنى
بدولة إسرائيل، ونشر "تغريدات" تتبنى المصطلحات الصهيونية الأكثر تطرفا،
في حرب على الرموز الوطنية والتاريخية الفلسطينية.. يُضاف إلى ذلك ما يقوم به
نشطاء على وسائل التواصل الاجتماعي من نشر مقاطع تذم الفلسطينيين، وتمدح إسرائيل..
على مدى
العقود الماضية كان التطبيع مع إسرائيل من تحت الطاولة، وخجول، اليوم، صار علنيا،
ودون أي مشاعر بالحرج، وصار التهافت على التطبيع دليل حكمة ونضوج سياسي! وبطريقة
دونية ومهينة ومجانية!
هل الأمر مجرد تذلل وابتذال غير مسبوق، أم تعبير عن مهانة، أم هي دونية المهزوم وغطرسة الوضيع!!
هل نحتاج لأطباء نفسيين لفهم هذه الظاهرة الغريبة؟
هل قررت الدول العربية حل مشاكلها الخاصة على حساب القضية الفلسطينية؟
هل خوف الحكام العرب من شعوبهم دفعهم للارتماء في أحضان أمريكا وإسرائيل؟
هل دول الخليج مقتنعة فعلا بأن إيران هي عدوها الحقيقي؟ وأن إسرائيل
ستحميهم منها؟
هل جوقة المطبلين مقتنعة فعلا بأن تلك المعاهدات ستجلب الازدهار والسلام
والتنمية للمنطقة؟
أظن أن الأمر أكثر من ذلك، وأعمق.. الموضوع ليس مجرد تطبيع، إنه قرار رسمي
بتصفية القضية الفلسطينية، والتخلص من الفلسطينيين، ومن قضيتهم
"المزعجة"، وتنصيب إسرائيل دولة مهيمنة ومتفوقة تتسيد كل الإقليم..
تعالوا
نستعرض تاريخنا الحديث لنضع الأحداث في سياقها المتصل، والهادف إلى تصفية القضية،
بدءا من مراسلات مكماهون، ثم اجتماع فيصل مع وايزمان في باريس (1919)، وتعهده بتوثيق
التعاون مع الحركة الصهيونية وفتح باب الهجرة أمام اليهود، واعترافه بوعد بلفور،
ووثيقة الملك عبد العزيز المؤيدة لقيام دولة يهودية.
ثم تدخّل
الملوك والرؤساء العرب في ثورة ال36، لإجهاضها، وترك الفلسطينيين لوحدهم في مواجهة
بريطانيا، والموافقة الضمنية على تدفق المهاجرين اليهود إلى فلسطين..
وبعد صدور
قرار التقسيم، لم تبذل الدول العربية أي جهد حقيقي لمواجهة المخطط الاستعماري
الصهيوني، بل عمدت إلى نزع السلاح من الفلسطينيين، ورفضت تسليم عبد القادر الحسيني
الأسلحة التي طلبها، ولما أتت النكبة شاركت بجيوش هزيلة، بأسلحة بدائية، ساهمت في
إشاعة أجواء الخوف لحث الفلسطينيين على ترك بيوتهم، مع وعد بعودة قريبة، وكان الهدف
تثبيت خطوط التقسيم.
وفوق ذلك،
قامت بعض الأنظمة بتهجير اليهود من بلدانها (المغرب والعراق واليمن ومصر)، ففي حين
هاجر إلى فلسطين في ظل الانتداب البريطاني أقل من نصف مليون يهودي، تم تهجير 687
ألف يهودي في الأعوام الثلاثة الأولى من قيام إسرائيل، نصفهم من البلدان العربية!
وبعد النكبة
سهّلت الحكومات العربية تشريد الفلسطينيين وخلقت مشاكل لا حصر لها للاجئين. وحتى
تضيع القضية، ويذوب الفلسطينيين في المحيط، وللحيلولة دون قيام كيان سياسي فلسطيني
تم ضم الضفة الغربية وقطاع غزة لكل من الأردن ومصر، ومنع قيام أي تنظيم سياسي
للفلسطينيين، وتم وأد التجربة الكيانية الأولى المتمثلة بحكومة عموم فلسطين.
وفي حينه فُرضت
الإقامة الجبرية في القاهرة على الحاج أمين الحسيني ورفاقه حتى لا يستطيعوا القيام
بأي دور، فلم تكن ممانعة قيام كيان فلسطيني مقتصرة على إسرائيل، بل شملت ممانعة
الأنظمة العربية، بهدف تغييب الشعب الفلسطيني وطمس قضيته، أو على الأقل التحرر من
أبعادها وتداعياتها. وظل هذا الوضع قائماً حتى انطلاقة الثورة
الفلسطينية وإنشاء منظمة التحرير الفلسطينية في أواسط الستينات.
بعدها، بدأ
فصل جديد من التآمر الرسمي العربي، تمثل في التصفية الجسدية عبر مذابح عديدة، ومحاولات
احتواء وتدجين الثورة، والهيمنة عليها، ومصادرة القرار الوطني المستقل، وافتعال
معارك جانبية، وجر الفلسطينيين إليها.
وأثناء حصار
بيروت 1982، تُرك الفلسطينيين لوحدهم، دون أي دعم، ولو حتى إعلامي، الأمر الذي سيتكرر
اثناء حصار المقاطعة (2002). وبعد مغادرة الفدائيين بيروت والتفرق في سبع دول،
وأثناء مرور سفينتهم قبالة إحدى المدن العربية طلبوا التوقف للتزود بالماء
والطعام، فرفض حاكم المدينة طلبهم.. ودولة أخرى اشترطت عليهم التخلي عن أسلحتهم
مقابل استقبال الرئيس لهم، في إشارة ضمنية إلى هزيمتهم.
ثم يواصل
النظام الرسمي العربي تآمره على الفلسطينيين: دعم الانشقاق (1983)، والذي سيتكرر
مرة ثانية بصيغة مختلفة (2007) بدعم سوري قطري إيراني.. طرد القيادة من عدة عواصم
عربية، وتقييد حركتها، حرب المخيمات، ومحاولات إنهاء المنظمة سياسيا، وتكريس واقع
سياسي جديد يكون فيه الفلسطينيين خارج الحسابات.
اليوم، تأتي
الحلقة الأوضح في مسلسل التآمر (التطبيع)..
واهم من ظن
أن فلسطين كانت همّاً للأنظمة العربية، فلم تكن سوى قضية للمزايدة، وورقة ضغط
ومساومة في العلاقات العربية البينية، وعلاقاتها الدولية، واستخدامها لقمع شعوبها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق