صناعة الأعداء، واستخدام العقيدة
الدينية أمران مألوفان تاريخيا، يستخدمان في التحريض على العدو، وتجنيد
المقاتلين ورفع معنوياتهم، وتحصين الجبهة الداخلية، لضمان موافقة المجتمع على
الحرب. وإليكم أمثلة:
تنتشر في أمريكا عشرات الجماعات
الدينية المتعصبة، التي يقيم أتباعها في تجمعات معزولة، يمارسون طقوسهم ومعتقداتهم
الغيبية، والتي غالبا ما تدور حول فكرة الخلاص، ونقاء الجماعة.. وبالرغم من سذاجة
وسطحية أفكارهم، إلا أن رابطا قويا يجمعهم، ويجعلهم ينصتون بخشوع لزعيمهم،
ويمتثلون لأوامره، حتى لو كانت قتل أنفسهم.. يتمثل ذلك الرابط في تخويفهم من عدو
خارجي، يتربص بهم (الحكومة مثلا)، وأن العالم الخارجي شرير، وآثم، وعليهم اعتزاله،
أو شن الحرب عليه.
مثال آخر: ظلت الإدارة الأمريكية طوال
الحرب الباردة تمارس عربدتها على العالم؛ تحتل البلدان، وتشن الحروب، وتدعم
الأنظمة الفاسدة، وتحارب كل قوى التغيير والثورات الشعبية، وتصرف أغلب موازنتها
على الجيش والتجارب النووية وسباق التسلح، وصولا إلى حرب النجوم.. كل ذلك تحت شعار
محاربة الخطر الشيوعي، وأن الاتحاد السوفييتي يريد القضاء على الحلم الأمريكي وعلى
قيم الحرية.. علما أن الاتحاد السوفييتي كان غارقا في أزماته الداخلية، وعاجزا عن
حماية أقرب حلفائه..
بعد انهيار الاتحاد السوفييتي
واصلت أمريكا سياساتها العدوانية نفسها، وبالتضليل ذاته، ولكن بتغيير الشعار، وخلق
عدو جديد، هو الإرهاب الإسلامي..
أما إسرائيل، والتي تعاني ومنذ
نشأتها أزمة وجودية خطيرة، بسبب دورها الوظيفي، وتركيبتها الداخلية، واعتمادها على
الخارج، ولأنها خليط من تكوينات إثنية وطائفية غير متآلفة، وبسبب تناقضاتها
الداخلية.. لذا دأب الإعلام الإسرائيلي وبشكل حثيث على تكريس إحساس الإسرائيليين بالخطر
الخارجي الدائم، أي صناعة الرعب، وهذا الأمر جعل "المجتمع الإسرائيلي"
يتوحد داخليا، ويتحد لمواجهة ما يحيط به من أخطار.. وجعله منساقا بشكل أعمى للخطاب
الرسمي التحريضي، الذي يشيطن الأعداء، وينزع عنهم صفتهم الإنسانية، وجعله يؤجل
إخراج تناقضاته الداخلية، ويكبح تفاعلاته الطبيعية (التي تحدث في كل المجتمعات
الإنسانية)، لأن هذه التناقضات قد تُحدِث تصدعات خطيرة في بنية المجتمع، وقد تسمح
بنشوء تيارات جماهيرية عريضة مناوئة لسياسات الدولة العدوانية..
وفي العقدين الماضيين انصب تركيز
الإعلام الإسرائيلي على خلق أعداء جدد لإسرائيل، أشد خطرا من الفلسطينيين، ومن
العرب.. هو الخطر الإيراني، وامتلاك إيران سلاحا نوويا.. وهدفها في ذلك إضافة
للأهداف السابقة، صرف أنظار العالم عن ممارسات إسرائيل العدوانية والتوسعية،
بالتركيز على إيران، وأن الخطر الحقيقي على المنطقة هم الشيعة، وتحويل الصراع
العربي الصهيوني إلى صراع سني شيعي.. ولا شك أنها نجحت في ذلك إلى حد بعيد، حتى أن
دول الخليج المهرولة باتجاه التطبيع تتذرع بالخطر الشيعي والعدو الإيراني.
أما الأنظمة المستبدة، فلكي تغطي على فسادها، وهزائمها، وعن
عجزها عن تقديم الخدمات الأساسية للمجتمع، ولكي تستمر في السيطرة على الشعب
ومقدراته، ولتقمع أي قوة معارضة.. فإنها تلجأ أيضا إلى خلق أعداء تخوف الجماهير
منهم، وتتذرع بهم.. أعداء خارجيون تحاربهم بالشعارات والخطابات الشعبوية، وأعداء
داخليون تلصق بهم كل التهم (منشقون، وخونة، وطابور خامس، أعداء الثورة والوطن..).
مثال أخير: دأب خطاب الإسلام
السياسي على تصوير كل حرب تُشَن ضد أي بلد إسلامي، أو أي اعتداء تتعرض له طائفة من
المسلمين على أنه هجوم على الإسلام نفسه، ومنهم من يربط ذلك بالحروب الصليبية، أو
بمؤامرة كونية تستهدف استئصال الإسلام من جذوره.. وفي المقابل يسعى الإعلام الغربي
على إظهار المسلمين بصورة المعتدي، وربط سلوكهم بالإرهاب والتخلف. واعتدنا (نحن
المقهورون في كل أرض) على الانحياز لرواية المستضعفين، وتكذيب كل ما يقوله الغرب
(الكافر). فأين هي الحقيقة؟ وهل كل ما يقوله الإعلام الغربي كذب وافتراء؟ وهل
علينا أن نسلّم بالرواية الأخرى لمجرد أن الضحايا مسلمين؟
لا شك أن البلاد الإسلامية تعرضت
لاعتداءات وحروب كثيرة، واحتلت أراضيها، ونهبت خيراتها، وقُتل الملايين من
أبنائها، سواء في التاريخ القديم، أم المعاصر.. لكن الحروب تحدث منذ فجر التاريخ،
وفي كل مكان، والمسلمون ليسوا استثناء عن هذه القاعدة، فكل الأديان والطوائف
والدول حاربت بعضها، والهدف الحقيقي من الحروب هو الاقتصاد، والسيطرة على الأرض
والموارد، أو في سياق الصراعات السياسية، والتنافس بين الدول الاستعمارية، أو اقتتال
على السلطة ومناطق النفوذ، تحت شعارات الحرب المقدسة. وهذا يعني أن الشعارات التي
ترفعها كل الدول التي اعتدت على أراضي المسلمين (وفي مقدمتها أمريكا) مثل "محاربة
الإرهاب" و"الدفاع عن حقوق الإنسان"، و"نشر الديمقراطية"
هي شعارات مخادعة ومضللة، تروّجها الآلة الإعلامية الغربية للتغطية على أطماع
وجرائم الإمبريالية بحق شعوب العالم الثالث، فلو كانت صادقة في ادعائها لما تواطأت
مع إسرائيل.
وهذا يعني في المقابل أن مقولة
"الحرب على الإسلام"، هي في حقيقة الأمر شعار غير دقيق، ومضلل أيضا،
ويُراد منه تسويق مفاهيم أيديولوجية وسياسية معينة تخدم أهداف حركات الإسلام
السياسي.
مع التأكيد على وجود عداء للإسلام،
ربما لدى بعض رجال الدين المتزمتين، أو زعماء الطوائف، أو لدى اليمين المتطرف، والمسيحية
المتصهينة، والطامحين للسلطة، أو لدى أناس عاديين تم تضليلهم.. لكن الحكومات
والدول وصناع القرار لديهم أهداف أخرى، والإسلام كعقيدة لا يهمهم في شيء، سوى في
إمكانية استخدامه والتحالف معه، أو محاربته، وفي الحالتين الهدف سياسي.
وإلا كيف نفهم مساعدة أوروبا وتأييد
أمريكا الواضح لبعض الجماعات الإسلامية وتسليحها وتمويلها وإيصال بعضها للحكم في
أكثر من مثال، وهي جماعات تعرّف عن نفسها بأنها إسلامية، وتعلن نيتها تطبيق
الشريعة!
لنتذكر أن آلاف المسلمين قُتلوا على
أيدي الجماعات الجهادية نفسها، وملايين المسلمين شُردوا وهدمت بيوتهم بسبب القتال
الطائفي بين جماعات متأسلمة، وأن جميع المساجد والحسينيات تم تفجيرها على أيدي
متطرفين مسلمين، وجميع المجازر التي حدثت في دور العبادة تمت على أيدي جهاديين،
باستثناء مجزرتي الحرم الإبراهيمي ومسجد نيوزلندا.
خطاب الإسلام السياسي التقليدي يبالغ في موضوع العداء
للإسلام لأغراض أيديولوجية: تحصين المنظومة الفقهية والرواية الدينية والمؤسسة
الدينية، ومنع أي نقد أو تشكيك فيها، وقطع الطريق على أي محاولة إصلاح أو تجديد أو
تطوير للخطاب الإسلامي، فكل من ينتقد أو يحمل وجهة نظر مخالفة لما هو سائد يصبح
متهما بالعداء للإسلام، أو بالتواطؤ مع أعدائه..
جزاك الله خيرا على كل هذه المعلومات
ردحذفو الحمد لله على نعمة الإسلام الذي يأمرنا بالتعايش و السلم .