منذ سبيعنيات وثمانينيات القرن الماضي دأبت مجلات
وصحف الإخوان المسلمين (الدعوة في مصر، والمجتمع في الكويت، والسبيل في الأردن،
وغيرها)، على التحريض ضد الثورة الفلسطينية، وضد منظمة التحرير، واصفةً إياها
بالمتخاذلة والانهزامية والمستسلمة.. إضافة لمئات المشايخ الذين اعتلوا المنابر في
عموم العالم الإسلامي، محرضين على المنظمة وفصائلها الوطنية، متهميها بالعمالة
والعلمانية والكفر، وبيع فلسطين والتفريط بها.. ولم يتوقف هذا التحريض حتى في ذروة
العمل الفدائي، وفي أوقات الحروب والحصار..
وكان الخطاب الإخواني آنذاك يرتكز على رفض وتخوين
نهج التسوية، والمفاوضات، وإدانة كامب ديفيد، ورفض التحالف مع السوفييت، أو
الاعتراف بالكيان الصهيوني، أو التقارب مع الأمريكان.. علماً أن هذا الموقف كان
يتقاطع مع موقف القوى اليسارية، وتيار عريض من داخل فتح، ولكن مع اختلاف كبير في
المنطلقات والمعايير، واللغة، والأسلوب.. إذ كان الإخوان يعتبرون تلك من المحرمات،
وكل من يوافق عليها خائن وكافر ومفرط..
وقد سارت حماس منذ انطلاقتها على نفس النهج
الإخواني البراغماتي، بلغة أيديولوجية حادة، ونهج متشدد، وخطاب متشنج، مع عدم الاعتراف
بشرعية تمثيل المنظمة للشعب الفلسطيني.. بل ورفض كل خطها السياسي، وبرنامجها
الكفاحي، خاصة المقاومة الشعبية السلمية، والعمل الدبلوماسي..
وعندما أُقيمت السلطة الوطنية، لم تُبقِ حماس أي
وصفٍ سلبي ضد المنظمة إلا واستخدمته، وظلت رافضة لخطها السياسي، وعملت كل ما
بوسعها لإفشال التسوية، من خلال العمليات التفجيرية التي أسقطت حزب العمل، وجاءت
بالليكود، والتي كانت تأتي بتوافق تام مع كل خطوة سياسية تقرب الطرفين من الحل..
والغريب أن هذه العمليات توقفت تماما منذ صعود وتسيّد اليمين الإسرائيلي..
وكان الخطاب الحمساوي آنذاك يقوم على فكرة المقاومة
العسكرية فقط، ورفض خيار التسوية، وتحريم المفاوضات، والمطالبة بتحرير كل فلسطين،
ورفض أي لقاء مع العدو.. مع تجنب استخدام مصطلحات حق العودة، تقرير المصير، الحل
النهائي.. أو تضمين خطابها موضوع القدس، الحدود، المستوطنات، الحقوق المائية.. وعلى
الصعيد الداخلي مواصلة اتهام السلطة بالفساد الإداري، والقمع، والإستبداد، والتفرد
بالحكم، وإقصاء الآخرين..
هذا الخطاب الأيديولوجي/السياسي، المترافق مع حملات
إعلامية متوالية منذ السبعينات، هو الذي أبعد قطاعات واسعة من الشعب الفلسطيني عن
منظمة التحرير، وهو الذي شوّه صورتها وحرض الرأي العام ضدها.. كما ساهم في نفس
الوقت في استقطاب فئات متزايدة من الجماهير لصالح الإخوان وحماس؛ بل إن صعود حماس
وتنامي شعبيتها ارتكز على هذا الخطاب تحديدا..
هل كان هذا الخطاب عقائدي، أم سياسي؟ بمعنى هل كان
خطابا صادقا ومبدئيا؟ أم كان مجرد بروبوغاندا مضللة؟
بعد تسلم الإخوان الحكم في مصر، كان أول ما فعلوه
إعادة العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل، والتأكيد على استمرار الاعتراف بكامب
ديفيد!!
بعد قيام السلطة مباشرة، أُجريت انتخابات عامة
(رئاسية وتشريعية)، وقد رفضت حماس المشاركة فيها، وحرمت على عناصرها التصويت، أو
الترشح.. ولكن بعد انسحاب إسرائيل من غزة، وما نشأ حينها من معطيات سياسية، دعت
السلطة لإجراء انتخابات عامة، وحينها سارعت حماس للقبول بالمشاركة فيها، بل إن
"الزهار" قال بأن "أي عملية تأجيل للانتخابات إنما هي وصفة مضمونة
لحرب أهلية"؛ أي أن حماس كانت على استعداد لشن حرب أهلية ضد السلطة إذا ما
أجلت الانتخابات! الانتخابات التي كانت محرمة قبل عشر سنوات! حتى أن موقف حماس
الرسمي كان موافقا على استثناء القدس من الانتخابات!
فازت حماس في الانتخابات بقوة شعار رفعته حينئذ في
وجه الجمهور: "أمريكا وإسرائيل ضد حماس، فهل أنت ضد حماس؟"، ثم تبين
لاحقا، باعتراف أمير قطر، أن أمريكا طلبت من قطر إقناع حماس دخول الانتخابات!!
ثم شكلت حماس حكومة بمفردها، واستأثرت بأهم المناصب
في السلطة، ثم وظفت الآلاف من أنصارها بشكل غير قانوني.. وعلى صعيد القمع
والاستبداد، تفوقت على السلطة بمراحل.. حيث قمعت المظاهرات بالسلاح الحي وبالهراوات،
وصفّت كل معارضيها، وكل من يهدد حكمها، حتى وصل بها الأمر قصف المساجد وهدم
البيوت، كما مارست في سجونها التعذيب، والتنكيل، وقد قُتل في سجونها عدد كبير من
المعتقلين، آخرهم وليد الدهيني ( سجن رفح، حزيران 2018).
أما على الصعيد السياسي، فبالإمكان رصد أهم
التحولات في خطاب حماس، بدءا من العام 2005:
أولى تلك التحولات قبولها الدخول في السلطة، تحت
مظلة أوسلو؛ أوسلو التي قالت فيها أكثر مما قال "مالك" في الخمر!!
ثم قامت بالانقلاب، واستفردت بحكم غزة، تحت ذريعة
محاربة التيار الدحلاني "الفاسد"، و"المعادي لحماس".. وفيما
بعد تحالفت مع دحلان نفسه، ونست كل ما قالته عنه!!
عندما كانت حماس في المعارضة كانت تطلق الصواريخ، وطالما سخرت
من وصف "أبو مازن" لها بأنها صواريخ عبثية.. وعندما صارت حماس هي
السلطة، منعت إطلاق الصواريخ، حتى أنها قتلت عناصر من الجهاد لهذا السبب، وقد وصف
الزهار مطلقي الصواريخ بالخونة، الذين يريدون توريط غزة وحكومتها بالحرب!!
وبعد
شعارها تحرير كامل فلسطين، ووضع كل من يقبل بأقل من ذلك في دائرة التخوين، قبلت حماس
بدولة فلسطينية على حدود ال67، وفق قرارات الشرعية الدولية (التي كانت لا تعترف
بها).. كما بدأت حماس بإظهار مرونة بشأن التفاوض مع إسرائيل، فبعد أن كانت محرمة
شرعا، صارت مباحة، بل ومطلب شعبي، (تصريحات مشعل، وأبو مرزوق، والشهوان قبل أيام).
وبعد
أن خونت المنظمة لتخليها عن الكفاح المسلح، طالبت حماس بهدنة طويلة الأمد (عشرات
السنين).. وبشأن الاعتراف بإسرائيل، أخذت الحركة تطرح خطابا أقل تشددا من السابق،
يتضمن تلميحات إيجابية مثل الإقرار بوجود إسرائيل كأمر واقع، والإعلان عن قبول
الحركة للاحتكام لرأي الشارع من خلال استفتاء وطني، والموافقة على نتائجه حتى لو
كانت تتضمن الاعتراف بإسرائيل، ولكنها أبقت على رفضها الصريح والقانوني للاعتراف
(تصريحات لمشعل). كما تحدث عدد من قياديي حماس عن المصالحة مع الغرب (بالذات
أمريكا)، ووقف العداوات المسلحة مع إسرائيل، بل وحتى التلميح إلى نوع من التسوية
السياسية مع إسرائيل (وثيقة أحمد يوسف، والقبول بدولة مؤقتة).
ولم
تتوقف تنازلات حماس عن هذا الحد، بل أصبح كل هدفها ميناء ومطار ومعبر.. وهذه كانت
مجرد تفاصيل هامشية في أوسلو!
مع تأكيدنا على أن
التغيير لا يعني دائما التراجع أو التنازل، بل هو ذكاء في إدارة الصراع، وقدرة على
التكيف مع المتغيرات، ودلالة على النضوج السياسي؛ لكن تغيرات حماس ظلت مرتبطة
بهدفها الأساسي (إسقاط منظمة التحرير ووراثتها)، وبمدى قبول المجتمع الدولي لحماس،
وجديته في تقديم عروض سياسية تثبت حكمها في القطاع، حتى لو كان ذلك جزءاً من صفقة
القرن، بكل مساوئها!!
حقاً؛ المتشدد مفاوض
بائس..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق