يبدأ الصيف فلكيا في النصف الشمالي للأرض في 21 حزيران؛ وفي
الثقافة الشعبية الفلسطينية يسمى حزيران "إقلاش"؛ نسبة إلى القالوش، وهو
أداة تستخدم في الحصاد تشبه المنجل. ما يعني أن حزيران موسم الحصاد. وهو من
المواسم الفلسطينية الهامة؛ ففيه يكون موعد حصاد القمح والحبوب، وأيضا المشمش، وهو
شهر معتدل الحرارة يصفه المثل الشعبي: "شهر البسط والكيف، أوله ربيع وآخره
صيف".
وفي كتابها "فلسطين، الفصول الأربعة"، تصف الباحثة ناديا
البطمة، أشهر الصيف، وتبدأ من حزيران، حيث يقوم الفلاحون رجالاً ونساءً بحصاد
الزرع بالمناجل والقواليش، بينما تقوم النساء بتغمير الزرع؛ أي تجميع المحصود على
شكل أكوام، ثم وضعه على القوادم (أداة خشبية تثبت على ظهر الدابة بعد ربط الزرع
عليها)، ويقوم الرجال بشد وربط الزرع على القوادم وتحميله على الدواب ونقله إلى
البيدر، أما عملية دراس الزرع فتتم بواسطة الدواب، بعدها تجمع في كومة واحدة ويقوم
الرجال بعملية التذرية؛ أي فصل التبن عن الحبوب باستخدام المذراة والاستفادة من
الريح لطرد التبن بعيداً عن الحبوب، وبعدها تبدأ عملية الغربلة بواسطة (الغربال)،
وبذلك تكون الحبوب جاهزة للتعبئة في أكياس لنقلها لمكان التخزين، بعد أن يكون
المزارع قد أخرج صاع الخليل، وهي زكاة المحصول ومقدارها 10%، وهي وحدة كيل وتقدر
بحوالي 2.5 رطل.
ومن الجميل والمدهش أن الأهالي يتعاونون جميعا في الحصيدة، ضمن نظام اجتماعي
يسمى "العونة"، وفي أثنائها،
يبدأ الفلاحون بالغناء وترديد الأهازيج، لتعينهم على تأدية أعمالهم الشاقة، سواء عند الحصاد، أو عند
قطف وعصر الزيتون، أو عند حمل الأحمال الثقيلة، ليروحوا عن أنفسهم ويشغلوها عن
التفكير بالتعب، ولشحذ الهمم والنشاط في النفوس، والتعبير عما يجول في عقولهم
وقلوبهم من حب وفرح.
ومن الأمثال الشعبية في الحصيدة: "الحصاد قدد له والجداد جدد له". "أحصد عَ بدري قبل
ما تيجي الشوبة". (الشوبة هي فترة رياح الخماسين الجافة).
ثم يأتي تموز بحرّهِ ولهيبه وأيامه الطويله، وفي تموز -
كما هو الحال في الشتاء - تبدأ مربعينيات الصيف في العاشر منه وتنتهي في 19 آب،
وتتبعها خمسينيات الصيف، حيث في مربعنية الصيف تكون درجة الحرارة عالية، فهي أشد
الأوقات حراً، كما هي مربعنية الشتاء تكون أشد الأوقات برودة.
ومن الأمثال الشعبية التي تصف أشهر الصيف وتعبر عنها:
"تموز شهر العنب والتين". "في تموز بتغلي المية في الكوز". و"بساط
الصيف واسع"، حيث ينام الأهالي فوق السطوح إتقاءً للحر، ومن الأنشطة الزراعية
خلال هذا الموسم، في بداية تموز يقوم الفلاح بتغطية قطوف العنب بأكياس ورقية
لحمايتها من الندى الذي يسبب تشقق العنب وبالتالي تعفنه السريع، وتغطيتها أيضا لحمايتها
من الحشرات والطيور، وهو أيضا موسم قطف وبيع الخوخ والبرقوق والدراق والتفاح
والأجاص والتين.
ومن المظاهر الطبيعية في صيف فلسطين، ظاهرة "الندى"،
وهو عبارة عن قطرات المياه المتكاثفة عند سطح الأرض نتيجة لانخفاض درجة الحرارة
السطحية للأرض في الليل. يتكون الندى في الصباح الباكر وأواخر الليل حينما تكون
الرياح غربية محملة بالرطوبة.
ويضفي الندى على الجو اللطف في الصيف، ويؤثر على عقد
الثمار الصيفية، إذ أن المزارعين يستبشرون بالندى لزيادة المحصول، وبخاصة محاصيل
المقاثي، وإذا كانت كمية الندى كبيرة يسمى: "ندى غراق"، أما إذا لم يوجد
الندى فتسمى "اسموم"، وعادة فإن الندى يساعد على جني المحصول وبخاصة
حصاد القمح والشعير وثمار الخضروات والفواكه. حيث يقول المثل الشعبي: "تين
مشطب عَ الندى"، ويؤثر الندى على عقد الزيتون: "يا ربي ندى وسموم عند
عقدك يا زيتون"، وكذلك يساعد الندى على زراعة أشتال الخضروات ونقلها كالبندورة
والتبغ والقرنبيط، حيث تتعرض الأشتال للذبول بشكل عام فإن الندى مفيد في رأي الفلاح،
لأنه يحسن الجو ويزيد من انتاج المزروعات.
وموسم العنب والتين من أجمل المواسم الفلسطينية، فهو
فسحة للأطفال ليلعبوا ويمارسوا هواياتهم المفضلة في صيد العصافير بواسطة الفخ أو
المغيطة (النقافة)، ويلهون ويلعبون ألعابا جماعية عدة مع من يجاورونهم في
(التعزيب)؛ إنه مخيم كشفي ثقافي أهلي ومحلي. وفيه ينطلق الشباب إلى الكروم لعلهم
يصادفون الفتيات، وقد عبّر أدبنا الشعبي بكل صدق عن أحاسيس الشباب في هذا الموسم: "سقا
الله أيام العنب والتين يوم
الحلوة تصير تلاقيني..".
وتزداد درجات الحرارة في آب؛ لذا يقال "آب
اللهاب"، ومن الأمثال حول شهر آب: "إن مرَّ آب وما ذريت عدك بالهوا
انغريت"، بمعنى أن أي تأخير في تذرية القمح حتى نهاية آب يسبب خسارة في
المحصول. وهناك تخوف من الرياح الخماسينية الشرقية القوية في أيلول
والتشارين". وأيضا: "بعشرين آب اقطف العنب ولا تهاب"، "آب
طباخ أو صباغ العنب والتين"، أي ينضج الثمار بحرارته.
وفي فصل الصيف يأكل الفلاح مما يزرع؛ فهناك المقاثي
(الفقوس والخيار) والأرض البعلية المنتجة للبطيخ والشمام وأشهرها منطقة جنين التي تشتهر
بحلاوة وجودة البطيخ. وهناك الخضر الصيفية التي تُطبخ كالمحاشي وورق العنب والكوسا
والباذنجان "البتيري" والقرع الأخضر واليقطين وكذلك المخشي، والبندورة
والبامية والملوخية.
وفي الصيف، اعتاد الفلسطينيون تنظيم مهرجانات متنوعة للاحتفال
بأنواع معينة من الثمار، يتم تنظيمها ضمن قالب فلكلوري يسعى للحفاظ على التراث
الشعبي، وتقوم كل قرية بتنظيم مهرجان حسب ما تشتهر به من خيرات الأرض، وفي موسم
إنتاجها، على سبيل المثال مهرجان التين في تل، والعنب في حلحول، والمشمش في جفنا،
والخس في أرطاس.. ويقومون خلالها بعرض منتجاتهم للناس.
وتهدف هذه المهرجانات إلى المحافظة على هذه الأصناف وحمايتها، وإبراز أهميتها، والتعبير عن
اعتزازهم بها، ولفت الأنظار إليها، وكذلك جذب انتباه وسائل الإعلام المحلية والعربية، وبالتالي الترويج السياحي لتلك القرى.
في الصيف تمور فلسطين بالحركة، حيث يعود المغتربون
لوطنهم، ليتمتعوا بالهواء الطلق والمناخ المعتدل، والطبيعة الساحرة، وحيث تجود
الأرض بخيراتها الطيبة وفاكهتها المميزة.. أجواء الصيف في فلسطين.. سمر وغناء،
وحياة بسيطة مرحة. فهو موسم الأفراح والأعراس الشعبية، والمناسبات السعيدة، خاصة بعد
بيع المحاصيل وتوفير الأمن الغذائي وسد الحاجات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق