بعرض
ضوئي مبهر، ونافورة راقصة تتمايل بمياهها المتدفقة وألوانها الجذابة على سيمفونيات
عالمية، وموسيقى شرقية، وألعاب نارية أضاءت سماء المدينة، استقبلت بلدية رام الله
أبناءها المغتربين، مع انطلاق فعاليّات مهرجان "وين عّ رام الله"..
رغم
جمالية العرض؛ إلا أنه لم يسلم من الانتقادات اللاذعة.. ولا أتحدث هنا عن انتقادات
فنية؛ بل عن انتقادات حادة وجهت للبلدية ترفض "النافورة"، والعروض
البصرية، والمهرجانات الفنية من حيث المبدأ؛ أي أنها ترفض فكرة الاحتفالات بحد
ذاتها..
بعض
الانتقادات، خاصة التي تنطلق من اعتبارات دينية أو اجتماعية تعتبر هذه المهرجانات
"تحدٍ لأهل فلسطين في دينهم وقيمهم"، بل وتصفها بِ"الجرائم
السياسية" بحق قضية فلسطين من قبل السلطة الفلسطينية، خاصة وأنها
"مختلطة"، وتستضيف فرق أجنبية "لا تراعي التقاليد الإسلامية، وتقدم
فنا ماجنا بهدف تفسيخ المجتمع وهدم الأخلاق"!!
وأيضا
هناك أصوات "يسارية" و"علمانية" تنتقد هذه المهرجانات، وتقول
أنها "تضرب بعرض الحائط تضحيات شعبنا، ودماء شهدائنا"، خاصة أنها تتزامن
مع أحداث مهمة، مثل الهجمة الإسرائيلية على الخان الأحمر، واستمرار الحصار على غزة!!
ولكن الموضوع لا يتوقف عند انتقاد
"النافورة"، أو المهرجانات، ربما تكون هذه مجرد واجهة تخفي ما وراءها، فقد دأبت أصوات عديدة، من
تيارات فكرية وسياسية متباينة على انتقاد رام الله نفسها، وجعلها مقترنة بحالة
التراجع السياسي وضعف دور القوى الوطنية، بل وجعلها مسؤولة عن حالة الانحطاط
العام، وتراجع دور النخب والجماهير.. وحجتهم في ذلك التركيبة الاقتصادية للمجتمع
الفلسطيني (الذي مركزه رام الله)، ودور الحكومة والبنوك في إغراق الموظفين
بالقروض، ودور النخب الاقتصادية المتحالفة مع السلطة، التي جعلت اقتصاد المدينة قائما
على تجارة العقارات وتقديم الخدمات، وهو اقتصاد هش، سيكبر مثل فقاعة، ثم سينفجر
(على حد تعبيرهم).. وتنتقد أيضا دور الأجهزة الأمنية في قمع الجماهير، والتنسيق
الأمني، ودور المنظمات الدولية، والفساد والبطالة والغلاء.. وجعل رام الله مسؤولة
عن كل ذلك..
الصحفي الفرنسي "بانجمين بارت"، قدم صورة
مثيرة وصادمة لرام الله. وقد وصفها بأنها "أقل مجونا من تل أبيب، وأقل بهرجة من
بيروت، لكنها أكثر إثارة للدهشة من الاثنتين، وهي اليوم الفقاعة الجديدة في الشرق الأوسط".
ومن اللافت للنظر أن ما يجمع الانتقادات التي تدين
المدينة وتشيطنها تنطلق من فكرة سياسية حزبية، تسعى لتصوير المدينة كما لو أنها نتاج
أوسلو، وأنها ظهرت فجأة غداة توقيع الاتفاق، مدينة بناها الموقعون على المعاهدة
وتقاسموا خيراتها، بل نهبوها بلا رأفة، مدينة بلا تاريخ، ولا ذكريات، ولا ماضي،
مدينة أنجبتها معاهدة سياسية بائسة، وهذه المدينة "الفقاعة" ستزول من
ذاكرة الناس بمجرد إلغاء المعاهدة! (غسان زقطان).
فكثير ممن هاجموا رام الله بشدة، فعلوا ذلك لدوافع
سياسية، لأن رام الله مركز السلطة الوطنية، بالتالي فإن تشويه رام الله هو تشويه للسلطة
نفسها، أي أن المسألة تصفية حسابات سياسية، ولكن بطريقة مواربة (أغلب هؤلاء من
القوى المحسوبة على اليسار). وآخرون انتقدوها لأنها مركز النشاطات الثقافية في
فلسطين عموما، وبالتالي فإن كل من يختلف مع الثقافة الشعبية الفلسطينية (وغالبا
لأسباب أيديولوجية، وتحديدا من بعض قوى الإسلام السياسي) هؤلاء يهاجمون رام الله، وهدفهم
الثقافة الوطنية (المدنية، العلمانية، الليبرالية، التعددية، الشعبية، وهي سمات
رام الله) التي تتعارض مع رؤاهم الأيديولوجية والسلفية..
إجمالا، هذه الانتقادات المبنية على فكرة شيطنة المدينة وإدانتها
وتخوينها وتكفيرها وتجريدها من تاريخها، إنما هي محاولات بائسة لتبرير وتسويق الفهم
الضيق واليائس لهوية المكان، والفهم السطحي لبروز وتطور المدن، الذي يستخف بأبسط
مبادئ سيسيولوجبا المجتمعات وديناميات التطور المجتمعي.
رام الله، مثل أي مدينة صاعدة، تسعى أن تكون مدينة كوزموبوليتانية (أي
مدينة معولمة) على غرار باريس ونيويورك (مع فارق الحجم والإمكانيات طبعا)، بحيث
تكون منفتحة على كل الوطن أولا، وعلى العالم ثانيا، ليس لأنها أطلقت على
ميادينها وشوارعها أسماء الشهداء والمناضلين والمبدعين ومن ساهموا في الكفاح الوطني
والإنساني؛ بل لأنها انحازت للجمال، واختارت
أن تكون مدينة عصرية، متنوعة، متسامحة، تذوب فيها الفوارق الطبقية والاجتماعية..
وقد نجحت رام الله إلى حد كبير في التخلي عن النزعات المناطقية التي
تتسم بها مدن أخرى، فلا فرق فيها بين من هم من أصول فلاحية، أو سكانها الأصليين،
أو بين سكانها القدامى والقادمون إليها من أجل الدراسة أو البحث عن فرص.. ولأنها
تأسست أصلا على يد عائلة مسيحية، ورغم أن المسيحيين فيها اليوم يشكلون أقلية، إلا
أنها مدينة التعايش الأجمل في فلسطين، بل في المنطقة بأسرها، حتى أبناء الحركات
الإسلامية فيها أكثر مرونة واعتدالا من أقرانهم في مناطق أخرى..
ورام الله لم تلغِ الفوارق
الطائفية وحسب؛ بل وصهرت جميع التناقضات السياسية والأيديولوجية في بوتقة الوسطية
والاعتدال، حيث تجد فيها الأفكار اليسارية واليمينية، التقدمية والرجعية، الأنماط
الليبرالية والمحافظة، الإسلاميون والعلمانيون، المحجبات وغير المحجبات.. دون أن
يطغى أحد على الآخر.
ورام الله (مثل سائر المدن والبلدات والقرى
الفلسطينية) مدينة مقاومة، حيث شهدت شوارعها أعنف المواجهات ضد الاحتلال، وظلت
مركز الثقل الجماهيري في فعاليات الانتفاضة، وما زالت شوارعها تشهد أضخم المظاهرات
الشعبية التي تحتج على السلطة نفسها، وهي أيضا محور الحياة الثقافية، حيث يقيم
أغلب المثقفون والأدباء الفلسطينيين، وحيث تنظَّم الأمسيات الثقافية والفعاليات
الفنية والمهرجانات الدولية وعروض السينما والرقص والموسيقى والمسرح، وهي تضم أيضا
النخب السياسية والاقتصادية، وعوالمهم الخاصة بهم.. بما يوحي أنها مدينة خارجة من
أثر الاحتلال، وتعيش تجربتها الخاصة، كما لو أنها منطقة رمادية؛ فهي غير محتلة
مباشرة، وليست حرة فعليا، بل محاصرة بالحواجز والمستوطنات، ولكنها تعج بالحياة.
هذه
المهرجانات التي تقيمها رام الله ترسخ من خلالها مفهوم الشراكة والصداقة والانفتاح
على الآفاق الإنسانية، وتعزز التبادل الثقافي، وتكسر كل حاجزٍ يقف ضد الروح الإبداعية..
وهذه المهرجانات تبرز أيضا الفن والفلكلور الفلسطيني، وتقدم صورة حضارية مشرقة عن
الشعب الفلسطيني، وتؤكد للعالم أنه شعب حي، محب للحياة، والفن والفرح، بوسعه أن
يقدم أشياء كثيرة جميلة غير الشهداء والتضحيات..
من حق هذه المدينة، بل ومن
حق الشعب الفلسطيني كله أن يفرح..
ومن واجبنا أن نقول: شكرا
لبلدية رام الله..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق